قحطان فؤاد الخطيب
16/10/2006, 06:46 PM
قصة قصيرة
كان جل ما تتوق له الحاجة المسنة (أم غائب) ، وقد دلفت في عقدها الثامن هو أن تلملم دنانيرها المبعثرة هنا وهناك قبل ولوجها العالم الآخر ، دون اعطاء مبرر ما . لذلك شرعت تقلم أظافر منزلها ، بأن باعت محتويات ما تسمى
(بغرفة الضيوف) كاملة ، كما باعت ما زاد عن حاجتها في مطبخ الفناء الشرقي( ) ، اضافة الى بيع غرفة نومها الأثرية ، وما تبقى من الكراسي المكسورة والآثاث العتيق ، فيما منحت ابنتها الصغرى فقط عقد اللؤلؤ القديم والذي اشتراه لها المرحوم (أبو غائب) قبل عشرات السنين . وأصدرت (الأوامر) بتحديد زيارات أبنائها السبعة وبناتها الأربع اضافة الى أولادهم الذين لاحصر لهم الى أضيق الحدود ، في حين كلفت صهرها الأصغر القيام بضبط امورها المالية وايداع ما يتجمع لديها من نقدٍ في حسابه المصرفي ، ذمة عليه ولقاء وصولات ، رغم أنها امية لاتقرأ ولا تكتب ، وبعلم الكل .
وبلغت حصيلة كل مبيعاتها مع فرق الأسعار آنذاك( ) (778) ديناراً لاغير . وهذا المبلغ ، بالنسبة لها ، فوق مستوى تفكيرها وتوقعها مقارنة بمؤخر صداقها (5) دنانير فقط . وما هذا وما سيتراكم فيما بعد من مبالغ ليس الا كل ما تركه المرحوم ، زوجها ، أبو غائب .
ولم يبق لها من حطام الدنيا سوى الجدران الأربعة لدارها ، ذي الثمانية والأربعين متراً مربعا مساحة . وقد اختمرت في ذهنها فكرة بيع الدار أيضاً واستحصال فترة ستة أشهر بعد البيع لأخلائه ، علها ، حسب زعمها ، تنتقل الى جوار ربها في بحر هذه الفترة ، وبهذا لا يبقى لها اية تعلقات فوق هذه البسيطة ، ويكون الانتقال الى جوار خالقها بصمت لايثير غبار القسام الشرعي والحصص والارث والخ .... !
ولم يجد أبناؤها وبناتها بداً من اطاعة امهم ، وهي في هذا الخريف من العمر الحرج . فاستنفروا كل طاقاتهم لبيع (العقار) . وانطلق كل منهم في اتجاهه يبغي كسب ود امه ، عسى ان يفوز ولو بدريهمات يحل بها مشاكله . واخيراً بيع الدار ، من دون اشراك أحد من أفراد الأسرة باستثناء الحاجة المسنة (أم غائب) فقط والمالك الجديد ، الجار الملاصق داره بدارها . وبعد مقابلات واجراءات اصولية قانونية انتقلت ملكية الدار الى المالك الجديد الذي سلمها ، بحضور افراد اسرتها، سبعة آلآف ديناراً نقداً . بيد أن السيدة المسنة أومأت الى صهرها الأصغر ، زوج ابنتها الصغرى ، هيفاء ، بتسلم المبلغ دون ابنائها أو بناتها . وتطلع الأبناء اليها منشدهين وقد صعقهم سلوك امهم الهرمة وكأن عيونهم تتساءل .... لماذا وقع الاختيار على زوج هيفاء دون سواه ؟
-هاك يا حسن النقود وضعها مع بقية نقودي الموجودة لديك في حسابك بالمصرف .
-نعم يا عمتي .
وهنا سأل الابن الأكبر وقد بدأ يساوره الشك بأن امه خرفة ....
-وماذا ستفعلين بكل هذه النقود ، يا اماه ؟
-اذا وافتني المنية تقاسموها بينكم بالعدل والا ....
-ولماذا لانتقاسمها الآن وانت بين ظهرانينا ؟
اجابته ، كمن قرصها تحصيل حاصل تجارب السنين وشرعت تصرخ :
-افترض أن عمري طويل ، هل ستنفق علي الدراهم انت واخوانك وانتم تئنون من الجوع ؟
-بالتأكيد ، يا اماه . فنحن سبعة اخوة واربع اخوات .
-ولكن الزمن تغير ، يا ولدي . فالعمل بالمضمون أضمن .
ثم سألت البنت البكر ، بدون حياء ....
-وأين ستعيشين بعد انقضاء فترة الستة شهور ؟ ألا تشعرين بجنون تقلبات الأسعار بين ثانية وثانية ؟
-لا عليك ، فالزمن كفيل بحل كبرى المشكلات و ....
ودارت عقارب الساعة بسرعة ، كما دار دولاب الحياة بسرعة ، أيضاً ، بحيث طويت صفحة الستة أشهر وكأنها ست ساعات . وجاء المالك الجديد ومظلة القانون تحميه وهو يقول للسيدة المسنة :
-أراك غير ملتزمة بإخلاء الدار لحد الآن .
-ولمــــــاذا ؟
-لأن الفترة القانونية للأخلاء انتهت .
قالت وكأن لسان حالها يقول (( إرحم عزيز قوم ذلْ )) ... ولكن ، لا أحد يريدني . نعم انني غريبة .
-انها ليست مشكلتي بل مشكلتك . لقد قبضت الثمن سلفاً ووقعت العقد رسمياً .
قالت بإنفعال مشوبٌ بدموع ساخنة :
-خذ دراهمك وأعد لي داري .
-يا حاجة ... القانون قانون ، والأفضل لك ترك الدار فوراً والانتقال الى دار أحد أبنائك أو بناتك على الأقل .
صرخت ثانية بوجهه وقد مزقتها اللوعة :
-قلت لك ، انهم لا يريدونني ، لايريدونني ، لأنني غريبة في وسطهم .
وبعد محاولات يائسة توصل المالك الى أنه لاجدوى من محاورتها لكبر سنها وحالة الاكتئاب المزمن التي انتابتها . فما كان منه الا المضي الى أقرب دار له هو دار ابنها البكر والانفعال قد ارتسم على محياه . وبالصدفة لاقاه الأبن الأصغر الذي استوعب كل دقائق الموضوع بخصوص اخلاء امه دارها المباع . وقد سأله المالك الجديد فيما اذا كان بالأمكان حل الاشكال وباستضافة امهم ولو لفترة قصيرة لحين شرائها داراً بديلاً . فما كان منه الا ان تفوه بكلمات تكون النتانة منها براء حين قال :
-ولا واحدة من زوجاتنا توافق على استضافتها ولا حتى أي من أزواج شقيقاتنا يوافق على استضافتها أيضاً . فاين الحل؟
-أتسألني أين الحل وهي أمكم ؟ ألم تسمع القول المأثور ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) ؟
-نعم أفهم ذلك جيداً . ولكن دعني أتساءل : لماذا باعت الدار ؟ وماذا فعلت بنقودها ؟ ولماذا ائتمنت صهرها ولم تئتمن أبناءها ؟
وهنا خرجت أحدى زوجات الأبناء وقد رقد طفل صغير على كتفها حيث قالت وكأنها سمعت كل الحوار :
-لم لا تشترون لأمكم داراً بنقودها ؟
رد الأبن وقد استهجن هذا الطرح من زوجة أخيه :
-انها لا تستطيع شراء غرفة بكل ما جمعته من أموال . لمن نشتري الدار والموت قاب قوسين او ادنى منها ؟ لدي فكرة ايجابية تحل الإشكال ثم أردف يقول : لماذا لا نناقش مع أمي مسألة نقلها مباشرة الى دار رعاية المسنين . فهناك تريح وتستريح ، حيث نستطيع زيارتها كلما سنحت لنا الفرصة بذلك ؟
وما هي الا دقائق حتى كانا أمام دارها . لقد كانت ترتعش من شدة الألم والشيخوخة وخيبة الأمل بأولادها ، ثم رفعت يديها للسماء شاكية حالها البائس وطالبة بالحرف الواحد ( الأنتقام ) من ناكري الجميل . لقد أكدت للمالك الجديد عدم رضاها المطلق على اولادها وبناتها العاقين ، محيلة أمر حسابهم لله . وأخيراً صرخت للمرة الثالثة بصوت هستيري دراماتيكي بوجه المالك الجديد وقد نفذ صبرها :
-ماذا تنتظر ؟ ألم تسمع فلذة كبدي يقدم وصفته السحرية لحل المشكلة بايصالي لدار رعاية المسنين ؟ أجل ماذا تنتظر ؟ خذني أيها المالك المسكين الى هناك . فبغير هذا لاتحصل على الدار . فأنا غريبة هنا ، وضيفة ثقيلة على الآخرين . ستقوم الساعة . نعم ستقوم القيامة . هيا ... خذني الى هناك . هاك ، تفضل ، هذه مفاتيح الدار . خذهم . مبروك عليك. لم يبق لي في الدار سوى الذكريات . وداعاً يا داري العزيز . أرجوك اوصلني بأية وسيلة الى دار رعاية المسنين . فهناك القلوب أرحم . و ....
-أماه ... أماه ...
-ابتعد أيها العاق . انك منبوذ وجبان . دعني انفذ ما يدور في رأسك ورؤوس اخوتك . الى دار رعاية المسنين أيها المالك. الى هناك .
وأخيراً اسدل الستار على المشهد المأساوي بأن رضخ المالك الجديد الى طلب أيصالها بسيارته العتيقة لدار رعاية المسنين . ولحسن الحظ استقبلت كما توقعت أو كما شاء القدر أن يرسم السيناريو كذلك ، نعم استقبلت بالأحضان والابتسامات وكأنها عروس في يوم زفافها . لقد نسيت أو تناست المشهد التراجيدي السابق لأن طبيب الدار هرع نحوها متحسساً معاناتها ومخففاً عنها ، إذ أوصى بجناح يتناسب مع عمرها . لقد احست بأن هذا الطبيب لا يقل عطفاً عن صهرها الأصغر ، كما أحست بأن فترة تعارفهما وكأنها أشهر وليست بضع دقائق . إذ التمست منه أن يستدعي صهرها الصغير حسن بصورة رسمية كي يجلب معه كامل دراهمها حسب الوصولات الموجودة في حوزتها . ولبى الصهر النداء إلا أنه بدأ يتملص ويناور ويتخاذل في رد الأمانة الى اصحابها . الا انها كانت له بالمرصاد ، إذ اعتبرته جزءاً من الشلة العاقة . وبعد محاولات يائسة اقحمت ادارة الدار بموضوع النقود ملوحة بنقل الموضوع الى القضاء . عندها انصاع بعد تلكؤ وتردد الى جلب كامل المبلغ وتسليمه بيدها أمام ادارة الدار وفي غضون دقائق معدودة حيث قال :
-وماذا ستفعلين بهذه الآلاف ؟
أجابته بعصبية شديدة :
-وما دخلك بالأمر ؟
وحيث انها لاتقرأ ولا تكتب ، ولأن آثار الصدمة لا زالت شاخصة فيها ، فقد التمست من الطبيب المؤتمن الذي احست بوشائج قوية تربطهما أحدهما بالآخر ، التمست منه أن يحسب المبلغ وأن يحرر لها وصية رسمية بحضور الآخرين جاء فيها ما يلي : (((انني الموقعة أدناه ، ..... ، اتنازل عن تحويشة عمري بما يساوي 7778 ديناراً لادارة هذا الدار الذي سأقضي فيه آخر فصل من حياتي ، لما لمست فيه من حرارة الاستقبال الذي فاق استقبال الأبناءوالبنات، ولما احسست به من دفء الكلمات التي ارجعتني عقوداً الى الوراء وأشعرتني بأنه لازال في الدنيا ناس أخيار . كما اوصي أيضاً باعطاء جسدي الهزيل الى الكلية الطبية ، اذا رضيت به ، علها تكتشف سر طول حياتي رغم منغصات الحياة المفزعة ورغم تخلي أولادي وبناتي عني . كما اعلن أمام الله وامامكم براءتي من كل أولادي وبناتي . )))
لقد اندمج كل الموظفين والعمال والعاملات معها ، لروحها المرحة ، وحديثها الشيق ، بغض النظر عن فداحة معاناتها وكبر سنها . بيد انها كانت كثيرة الشرود والتساؤل ولعلها معذورة فعلاً لذلك :
-ما معنى امتلاكي أحد عشر مخلوقاً ولا أحد منهم يتفهمني ؟ لماذا هذا التغير في البناء الانساني ؟
ولم تمضِ سوى سويعات حتى فارقت الحياة ودنانيرها لم تدخل بعد قاصة الدار ودموعها لم تجف بعد . ونفذت بنود وصيتها تسلسلياً ، بأن سجل كامل المبلغ ايراداً لخزينة الدولة حسب ما جاء في الوصية ، فيما نقلت جثتها فوراً الى الطبابة العدلية ، ومن هناك الى ثلاجات الكلية الطبية بعد أن استحصلت الموافقات على القيام بذلك .
ودنا الليل ، فإذا بزحف الأحد عشر (صنماً) نحو دار رعاية المسنين يحملون بين ثناياهم أنصاف الحلول لأمهم البائسة العجوز : ( لقد عثروا على غرفة للإيجار لأمهم المسنة في دار أحد الدفانين ! ) لقد تحدثوا بكل صفاقة مع الخفير عن (مشروعهم) الذي لم يفهم منه شيئاً . وقد منعهم من دخول الدار لعدم معرفته بالنزلاء الجدد بعد ، ولأن الليل ليس وقت زيارات بل وقت راحة النزلاء . لقد كانوا كالذباب في طنينهم ، وكالأقزام في تفاهتهم وضحالتهم . وما هي سوى لحظات حتى رن جرس الهاتف صدفة حيث كانت مسؤولة الدار الخافرة تتكلم مع الموظف الخفير بصدد مسألة قطع التيار الكهربائي المفاجئ ، وفيما اذا اصلح الخلل أم لا . الا أنه أجاب بنعم . وحاول ضرب عصفورين بحجر واحد حين قال :
-في القاعة الآن أحد عشر زائراً ، يرومون التحدث مع النزيلة (أم غائب) . لقد منعتهم من الدخول و ....
قاطعه أحد الأبناء وأخذ منه السماعة شاكياً وقائلاً :
-هل يجوز لموظف الاستعلامات كهذا أن يمنعنا من زيارة امنا ؟ أين العدل وأين الأنصاف ؟
-لا ، ولكن ليس في هذا الوقت المتأخر بالذات .
لقد اجابت بحسن نية وعدم إلمام بتفاصيل الموضوع .
-اذن اسمحي لنا بالدخول .
وهنا أخذ الخفير السماعة وعيناه تشعان غضباً . لقد أخذ التعليمات الكاملة من سيدته معتذراً لها عن الاحراج الذي أوقعها فيه . ثم استفسر منهم عن الأسم الثلاثي لها وتاريخ دخولها الدار . بعدها فتح درجاً أخرج منه سجلاً كبيراً ثم أخذ يقلب الصفحات ، الا انه رغم تدقيقه لم يجد الأسم . ثم عاد يقلب الأوراق ثانية وثالثة ، الا أنه لم يجد ذلك الأسم . سألهم:
-هل يجوز أن اسمها مع الوفيات ؟
زمجر الكل في وجهه مرة واحدة كأنهم يريدون افتراسه قائلين له :
-فأل الله ولا فألك . انها دخلت الدار اليوم والحبر لما يجف بعد .
وفعلاً فتح سجل الوفيات ، حيث وجد اسمها هناك وبجواره ملاحظة طويلة مربوطة بدبوس كبير . جاء فيها :
((( في الساعة ... من يوم ... توفيت السيدة المسنة ... وارسلت جثتها الى الطبابة العدلية ثم الى الكلية الطبية بناءاً على وصيتها المثبتة أعلاه . و ... )))
وساد وجوم قاتل أثناء تصفحهم الوصية الموشحة بختم ابهامها الأيسر . لقد ذهلوا وصفعوا بقوة بمضمون الوصية المتوجة بعدم رضاها عنهم في الدنيا والآخرة . وانصرفوا مذهولين ، واحداً تلو الآخر ، والصمت والوجوم والندم يلفهم.
لقد خسروا أمهم بجرة قلم ونتيجة تصرف دنيوي زائل طائش .
وخسروا رضاها ونقودها ووجودها حيث جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن !
بل ... خسروا الدنيا والآخرة على حد سواء .
كان جل ما تتوق له الحاجة المسنة (أم غائب) ، وقد دلفت في عقدها الثامن هو أن تلملم دنانيرها المبعثرة هنا وهناك قبل ولوجها العالم الآخر ، دون اعطاء مبرر ما . لذلك شرعت تقلم أظافر منزلها ، بأن باعت محتويات ما تسمى
(بغرفة الضيوف) كاملة ، كما باعت ما زاد عن حاجتها في مطبخ الفناء الشرقي( ) ، اضافة الى بيع غرفة نومها الأثرية ، وما تبقى من الكراسي المكسورة والآثاث العتيق ، فيما منحت ابنتها الصغرى فقط عقد اللؤلؤ القديم والذي اشتراه لها المرحوم (أبو غائب) قبل عشرات السنين . وأصدرت (الأوامر) بتحديد زيارات أبنائها السبعة وبناتها الأربع اضافة الى أولادهم الذين لاحصر لهم الى أضيق الحدود ، في حين كلفت صهرها الأصغر القيام بضبط امورها المالية وايداع ما يتجمع لديها من نقدٍ في حسابه المصرفي ، ذمة عليه ولقاء وصولات ، رغم أنها امية لاتقرأ ولا تكتب ، وبعلم الكل .
وبلغت حصيلة كل مبيعاتها مع فرق الأسعار آنذاك( ) (778) ديناراً لاغير . وهذا المبلغ ، بالنسبة لها ، فوق مستوى تفكيرها وتوقعها مقارنة بمؤخر صداقها (5) دنانير فقط . وما هذا وما سيتراكم فيما بعد من مبالغ ليس الا كل ما تركه المرحوم ، زوجها ، أبو غائب .
ولم يبق لها من حطام الدنيا سوى الجدران الأربعة لدارها ، ذي الثمانية والأربعين متراً مربعا مساحة . وقد اختمرت في ذهنها فكرة بيع الدار أيضاً واستحصال فترة ستة أشهر بعد البيع لأخلائه ، علها ، حسب زعمها ، تنتقل الى جوار ربها في بحر هذه الفترة ، وبهذا لا يبقى لها اية تعلقات فوق هذه البسيطة ، ويكون الانتقال الى جوار خالقها بصمت لايثير غبار القسام الشرعي والحصص والارث والخ .... !
ولم يجد أبناؤها وبناتها بداً من اطاعة امهم ، وهي في هذا الخريف من العمر الحرج . فاستنفروا كل طاقاتهم لبيع (العقار) . وانطلق كل منهم في اتجاهه يبغي كسب ود امه ، عسى ان يفوز ولو بدريهمات يحل بها مشاكله . واخيراً بيع الدار ، من دون اشراك أحد من أفراد الأسرة باستثناء الحاجة المسنة (أم غائب) فقط والمالك الجديد ، الجار الملاصق داره بدارها . وبعد مقابلات واجراءات اصولية قانونية انتقلت ملكية الدار الى المالك الجديد الذي سلمها ، بحضور افراد اسرتها، سبعة آلآف ديناراً نقداً . بيد أن السيدة المسنة أومأت الى صهرها الأصغر ، زوج ابنتها الصغرى ، هيفاء ، بتسلم المبلغ دون ابنائها أو بناتها . وتطلع الأبناء اليها منشدهين وقد صعقهم سلوك امهم الهرمة وكأن عيونهم تتساءل .... لماذا وقع الاختيار على زوج هيفاء دون سواه ؟
-هاك يا حسن النقود وضعها مع بقية نقودي الموجودة لديك في حسابك بالمصرف .
-نعم يا عمتي .
وهنا سأل الابن الأكبر وقد بدأ يساوره الشك بأن امه خرفة ....
-وماذا ستفعلين بكل هذه النقود ، يا اماه ؟
-اذا وافتني المنية تقاسموها بينكم بالعدل والا ....
-ولماذا لانتقاسمها الآن وانت بين ظهرانينا ؟
اجابته ، كمن قرصها تحصيل حاصل تجارب السنين وشرعت تصرخ :
-افترض أن عمري طويل ، هل ستنفق علي الدراهم انت واخوانك وانتم تئنون من الجوع ؟
-بالتأكيد ، يا اماه . فنحن سبعة اخوة واربع اخوات .
-ولكن الزمن تغير ، يا ولدي . فالعمل بالمضمون أضمن .
ثم سألت البنت البكر ، بدون حياء ....
-وأين ستعيشين بعد انقضاء فترة الستة شهور ؟ ألا تشعرين بجنون تقلبات الأسعار بين ثانية وثانية ؟
-لا عليك ، فالزمن كفيل بحل كبرى المشكلات و ....
ودارت عقارب الساعة بسرعة ، كما دار دولاب الحياة بسرعة ، أيضاً ، بحيث طويت صفحة الستة أشهر وكأنها ست ساعات . وجاء المالك الجديد ومظلة القانون تحميه وهو يقول للسيدة المسنة :
-أراك غير ملتزمة بإخلاء الدار لحد الآن .
-ولمــــــاذا ؟
-لأن الفترة القانونية للأخلاء انتهت .
قالت وكأن لسان حالها يقول (( إرحم عزيز قوم ذلْ )) ... ولكن ، لا أحد يريدني . نعم انني غريبة .
-انها ليست مشكلتي بل مشكلتك . لقد قبضت الثمن سلفاً ووقعت العقد رسمياً .
قالت بإنفعال مشوبٌ بدموع ساخنة :
-خذ دراهمك وأعد لي داري .
-يا حاجة ... القانون قانون ، والأفضل لك ترك الدار فوراً والانتقال الى دار أحد أبنائك أو بناتك على الأقل .
صرخت ثانية بوجهه وقد مزقتها اللوعة :
-قلت لك ، انهم لا يريدونني ، لايريدونني ، لأنني غريبة في وسطهم .
وبعد محاولات يائسة توصل المالك الى أنه لاجدوى من محاورتها لكبر سنها وحالة الاكتئاب المزمن التي انتابتها . فما كان منه الا المضي الى أقرب دار له هو دار ابنها البكر والانفعال قد ارتسم على محياه . وبالصدفة لاقاه الأبن الأصغر الذي استوعب كل دقائق الموضوع بخصوص اخلاء امه دارها المباع . وقد سأله المالك الجديد فيما اذا كان بالأمكان حل الاشكال وباستضافة امهم ولو لفترة قصيرة لحين شرائها داراً بديلاً . فما كان منه الا ان تفوه بكلمات تكون النتانة منها براء حين قال :
-ولا واحدة من زوجاتنا توافق على استضافتها ولا حتى أي من أزواج شقيقاتنا يوافق على استضافتها أيضاً . فاين الحل؟
-أتسألني أين الحل وهي أمكم ؟ ألم تسمع القول المأثور ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) ؟
-نعم أفهم ذلك جيداً . ولكن دعني أتساءل : لماذا باعت الدار ؟ وماذا فعلت بنقودها ؟ ولماذا ائتمنت صهرها ولم تئتمن أبناءها ؟
وهنا خرجت أحدى زوجات الأبناء وقد رقد طفل صغير على كتفها حيث قالت وكأنها سمعت كل الحوار :
-لم لا تشترون لأمكم داراً بنقودها ؟
رد الأبن وقد استهجن هذا الطرح من زوجة أخيه :
-انها لا تستطيع شراء غرفة بكل ما جمعته من أموال . لمن نشتري الدار والموت قاب قوسين او ادنى منها ؟ لدي فكرة ايجابية تحل الإشكال ثم أردف يقول : لماذا لا نناقش مع أمي مسألة نقلها مباشرة الى دار رعاية المسنين . فهناك تريح وتستريح ، حيث نستطيع زيارتها كلما سنحت لنا الفرصة بذلك ؟
وما هي الا دقائق حتى كانا أمام دارها . لقد كانت ترتعش من شدة الألم والشيخوخة وخيبة الأمل بأولادها ، ثم رفعت يديها للسماء شاكية حالها البائس وطالبة بالحرف الواحد ( الأنتقام ) من ناكري الجميل . لقد أكدت للمالك الجديد عدم رضاها المطلق على اولادها وبناتها العاقين ، محيلة أمر حسابهم لله . وأخيراً صرخت للمرة الثالثة بصوت هستيري دراماتيكي بوجه المالك الجديد وقد نفذ صبرها :
-ماذا تنتظر ؟ ألم تسمع فلذة كبدي يقدم وصفته السحرية لحل المشكلة بايصالي لدار رعاية المسنين ؟ أجل ماذا تنتظر ؟ خذني أيها المالك المسكين الى هناك . فبغير هذا لاتحصل على الدار . فأنا غريبة هنا ، وضيفة ثقيلة على الآخرين . ستقوم الساعة . نعم ستقوم القيامة . هيا ... خذني الى هناك . هاك ، تفضل ، هذه مفاتيح الدار . خذهم . مبروك عليك. لم يبق لي في الدار سوى الذكريات . وداعاً يا داري العزيز . أرجوك اوصلني بأية وسيلة الى دار رعاية المسنين . فهناك القلوب أرحم . و ....
-أماه ... أماه ...
-ابتعد أيها العاق . انك منبوذ وجبان . دعني انفذ ما يدور في رأسك ورؤوس اخوتك . الى دار رعاية المسنين أيها المالك. الى هناك .
وأخيراً اسدل الستار على المشهد المأساوي بأن رضخ المالك الجديد الى طلب أيصالها بسيارته العتيقة لدار رعاية المسنين . ولحسن الحظ استقبلت كما توقعت أو كما شاء القدر أن يرسم السيناريو كذلك ، نعم استقبلت بالأحضان والابتسامات وكأنها عروس في يوم زفافها . لقد نسيت أو تناست المشهد التراجيدي السابق لأن طبيب الدار هرع نحوها متحسساً معاناتها ومخففاً عنها ، إذ أوصى بجناح يتناسب مع عمرها . لقد احست بأن هذا الطبيب لا يقل عطفاً عن صهرها الأصغر ، كما أحست بأن فترة تعارفهما وكأنها أشهر وليست بضع دقائق . إذ التمست منه أن يستدعي صهرها الصغير حسن بصورة رسمية كي يجلب معه كامل دراهمها حسب الوصولات الموجودة في حوزتها . ولبى الصهر النداء إلا أنه بدأ يتملص ويناور ويتخاذل في رد الأمانة الى اصحابها . الا انها كانت له بالمرصاد ، إذ اعتبرته جزءاً من الشلة العاقة . وبعد محاولات يائسة اقحمت ادارة الدار بموضوع النقود ملوحة بنقل الموضوع الى القضاء . عندها انصاع بعد تلكؤ وتردد الى جلب كامل المبلغ وتسليمه بيدها أمام ادارة الدار وفي غضون دقائق معدودة حيث قال :
-وماذا ستفعلين بهذه الآلاف ؟
أجابته بعصبية شديدة :
-وما دخلك بالأمر ؟
وحيث انها لاتقرأ ولا تكتب ، ولأن آثار الصدمة لا زالت شاخصة فيها ، فقد التمست من الطبيب المؤتمن الذي احست بوشائج قوية تربطهما أحدهما بالآخر ، التمست منه أن يحسب المبلغ وأن يحرر لها وصية رسمية بحضور الآخرين جاء فيها ما يلي : (((انني الموقعة أدناه ، ..... ، اتنازل عن تحويشة عمري بما يساوي 7778 ديناراً لادارة هذا الدار الذي سأقضي فيه آخر فصل من حياتي ، لما لمست فيه من حرارة الاستقبال الذي فاق استقبال الأبناءوالبنات، ولما احسست به من دفء الكلمات التي ارجعتني عقوداً الى الوراء وأشعرتني بأنه لازال في الدنيا ناس أخيار . كما اوصي أيضاً باعطاء جسدي الهزيل الى الكلية الطبية ، اذا رضيت به ، علها تكتشف سر طول حياتي رغم منغصات الحياة المفزعة ورغم تخلي أولادي وبناتي عني . كما اعلن أمام الله وامامكم براءتي من كل أولادي وبناتي . )))
لقد اندمج كل الموظفين والعمال والعاملات معها ، لروحها المرحة ، وحديثها الشيق ، بغض النظر عن فداحة معاناتها وكبر سنها . بيد انها كانت كثيرة الشرود والتساؤل ولعلها معذورة فعلاً لذلك :
-ما معنى امتلاكي أحد عشر مخلوقاً ولا أحد منهم يتفهمني ؟ لماذا هذا التغير في البناء الانساني ؟
ولم تمضِ سوى سويعات حتى فارقت الحياة ودنانيرها لم تدخل بعد قاصة الدار ودموعها لم تجف بعد . ونفذت بنود وصيتها تسلسلياً ، بأن سجل كامل المبلغ ايراداً لخزينة الدولة حسب ما جاء في الوصية ، فيما نقلت جثتها فوراً الى الطبابة العدلية ، ومن هناك الى ثلاجات الكلية الطبية بعد أن استحصلت الموافقات على القيام بذلك .
ودنا الليل ، فإذا بزحف الأحد عشر (صنماً) نحو دار رعاية المسنين يحملون بين ثناياهم أنصاف الحلول لأمهم البائسة العجوز : ( لقد عثروا على غرفة للإيجار لأمهم المسنة في دار أحد الدفانين ! ) لقد تحدثوا بكل صفاقة مع الخفير عن (مشروعهم) الذي لم يفهم منه شيئاً . وقد منعهم من دخول الدار لعدم معرفته بالنزلاء الجدد بعد ، ولأن الليل ليس وقت زيارات بل وقت راحة النزلاء . لقد كانوا كالذباب في طنينهم ، وكالأقزام في تفاهتهم وضحالتهم . وما هي سوى لحظات حتى رن جرس الهاتف صدفة حيث كانت مسؤولة الدار الخافرة تتكلم مع الموظف الخفير بصدد مسألة قطع التيار الكهربائي المفاجئ ، وفيما اذا اصلح الخلل أم لا . الا أنه أجاب بنعم . وحاول ضرب عصفورين بحجر واحد حين قال :
-في القاعة الآن أحد عشر زائراً ، يرومون التحدث مع النزيلة (أم غائب) . لقد منعتهم من الدخول و ....
قاطعه أحد الأبناء وأخذ منه السماعة شاكياً وقائلاً :
-هل يجوز لموظف الاستعلامات كهذا أن يمنعنا من زيارة امنا ؟ أين العدل وأين الأنصاف ؟
-لا ، ولكن ليس في هذا الوقت المتأخر بالذات .
لقد اجابت بحسن نية وعدم إلمام بتفاصيل الموضوع .
-اذن اسمحي لنا بالدخول .
وهنا أخذ الخفير السماعة وعيناه تشعان غضباً . لقد أخذ التعليمات الكاملة من سيدته معتذراً لها عن الاحراج الذي أوقعها فيه . ثم استفسر منهم عن الأسم الثلاثي لها وتاريخ دخولها الدار . بعدها فتح درجاً أخرج منه سجلاً كبيراً ثم أخذ يقلب الصفحات ، الا انه رغم تدقيقه لم يجد الأسم . ثم عاد يقلب الأوراق ثانية وثالثة ، الا أنه لم يجد ذلك الأسم . سألهم:
-هل يجوز أن اسمها مع الوفيات ؟
زمجر الكل في وجهه مرة واحدة كأنهم يريدون افتراسه قائلين له :
-فأل الله ولا فألك . انها دخلت الدار اليوم والحبر لما يجف بعد .
وفعلاً فتح سجل الوفيات ، حيث وجد اسمها هناك وبجواره ملاحظة طويلة مربوطة بدبوس كبير . جاء فيها :
((( في الساعة ... من يوم ... توفيت السيدة المسنة ... وارسلت جثتها الى الطبابة العدلية ثم الى الكلية الطبية بناءاً على وصيتها المثبتة أعلاه . و ... )))
وساد وجوم قاتل أثناء تصفحهم الوصية الموشحة بختم ابهامها الأيسر . لقد ذهلوا وصفعوا بقوة بمضمون الوصية المتوجة بعدم رضاها عنهم في الدنيا والآخرة . وانصرفوا مذهولين ، واحداً تلو الآخر ، والصمت والوجوم والندم يلفهم.
لقد خسروا أمهم بجرة قلم ونتيجة تصرف دنيوي زائل طائش .
وخسروا رضاها ونقودها ووجودها حيث جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن !
بل ... خسروا الدنيا والآخرة على حد سواء .