المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : 2. المسافرة الحسناء



قحطان فؤاد الخطيب
16/10/2006, 06:52 PM
المسافرة الحسناء

عجبت كثيراً ، وأنا أصغي لتلميذي المتميز ، أسعد لقوة ذاكرته (الألكترونية) التي اختزنت في بحر ثوانٍ عابرة صورة ذهنية لمراهقة حسناء التقى بها بمحطة القطار الكبرى في بغداد وهي تدلف في العربة السياحية الثالثة للقطار المسائي الأول النازل لمدينة الموصل . كما عجبت أكثر من عينيه (الكاميراويتين) اللتين سجلتا واحتوتا كل دقائق المشهد تفصيلياً في أقل من ثوان .
ويبدو أن المسافرة الحسناء دارت عنقه بقوة مما حداه الى محاولة مد الجسور عبر قنوات مختلفة للفوز ولو بسماع كلمة واحدة من فمها المطرزة شفتاه بلون ميتاليكي جذاب . وكأن كل شيء فيها ، دون أستثناء ، يثير الفضول : عيناها الزرقاوان ، شفتاها الرقيقتان ، وشعرها المتفحم سواداً اصطف ، بدلال ، على كتفيها الطريين ، بخصلتين عنقوديتين ، عاكستين انوثة صارخة لبنت السبعة عشر ربيعاً ، والتي لم تلون بشرتها البضة شمس بغداد الذهبية . ويبدو أنه اختلس النظرات أثناء ابتسامتها الساحرة لتوديع مرافقاتها الثلاث حيث رأى ، كما وصف وهو مندمج ، أسنانها العاجية متراصفة بشكل هندسي فريد ، خصوصاً الأمامية منها ، والتي كانت توحي وكأنها نجمة ساطعة هبطت لتوها من هوليود . لقد كانت تفوح منها العطور الباريسية النادرة ، في حين تماشى قميصها الأسود الرقراق ، ذو الخطوط العمودية مع أحدث صرعات الأزياء الآوربية آنذاك . أما تنورتها الناصعة البياض ، فقد اعتلاها حزام عريض لماع يتوسطه طوق يحمل شكل القلب . على ان حذاءها ، ذا الكعب العالي زاد من طولها الشامخ .
وتحرك القطار ببطئ ، وكان مقعدها يقابل مقعده على بعد كريسيين يفصلان بينهما . ثم ازدادت سرعة القطار . الا انه (تخشب) في مقعده ، ضارباً اخماساً بأسداس ومتخبطاً في افكاره . لقد كانت الصبية تلحظه ، وتوحي وكأنها تعرفه. وتصورت بأن تخشبه شبيه بـ (فلاش باك)( ) ووصل القطار محطة الكاظمية حيث توقف هناك بضع ثوان . ولم يتحرك خلالها أسعد لكنها تجاهلته برهة ، ربما لكي تتأكد من كونه فعلاً في عملية (فلاش باك) أو أنه مجرد ذهول صبياني لامعنى له . واجتاز القطار محطة التاجي ثم محطة المشاهدة عندها أطل الـ (تي تي)( ) ليضع نهاية لذلك (التخشب) إذ سأله عن تذكرته بيد أن أسعد أضطرب للأنقطاع المباغت لسلسلة أفكاره ! وعبثاً حاول ايجادها لكنه أخيراً رآها مرمية على الأرض . وأنتهى المشهد بسلام ، لكن شروده بدأ يتجدد ، وكأن لسان حاله يقول " اريد أن اكلمها مهما تكن العواقب . " وتريث من جديد ، وراح يضع اللمسات الأخيرة على سيناريو درامي مثير ابتكره خلال دقائق معدودة ، عله يثمر بنتيجة ما تشفي غليله . ومضى يتمتم مع نفسه .... " لما لا اعطي الطفل الذي معها قطعة حلوى ليبدأ بعدها الحوار حتماً ؟ ! . "
وشاءت الصدف بعد مرور بضع ساعات أن بكى الطفل والركاب نيام إلا هو . وعجزت الأم والفتاة الحسناء من اسكاته . إلا أن أسعد اندفع بصرعة الصاروخ يعطي الطفل علبة (بيبسي كولا) وقطعة حلوى . وبمعجزة سكت الطفل في الحال . واحتارت الأم كيف تشكر هذا المسافر فيما لم تكترث الصبية بما فعله . وجن جنونه لكنه سرعان ما تراجع قائلاً لنفسه : " ما دمت مستمراً بعمل السيناريو ، فلم الانفعال ؟ ان (الأكشن)( ) لم يبدأ بعد . وبهذه الكلمات عزى أسعد نفسه وشرع يمضغ مراجعته للسيناريو مرة اخرى . "
كان هذا المسافر طالباً مخضرماً في جامعة الموصل ، كلية الآداب ، فرع اللغة الإنكليزية في الصف الأول آنذاك( ) . كان فتى موهوباً ومنظماً في كل شيء . لقد كان دقيقاً في مشيته ، ارتداء ملابسه ، طريقة محادثته ، تعامله مع الآخرين ، نعم كان دقيقاً حتى في أتفه الأمور ، كما كان زاهداً متعبداً متعاوناً إلا أنه كان فضولياً يهوى جمع المعلومات دون التفاعل معها . كان كالصحفي الناشئ يراقب بعين ويسجل بالعين الأخرى ، لقد كان حريصاً أن لايفوته مشهد ما أو تضيع عليه كلمة . وتساءل مع نفسه قائلاً : " ترى ماذا أبغي من مهمتي هذه الليلة ؟ سبحان الله . ماذا لو انفجرت الشابة الحسناء في هذه الساعة المتأخرة من الليل معاتبة بكلمات جارحة ؟ " ثم عاد وهدأ نفسه من جديد قائلاً : " لا .... لايمكن. انها حسناء وانثى مثالية . حاشاها من الزلل . انها حواء مشبعة حتى الثمالة بالرقة والنعومة والجاذبية . لا ....
لايمكن أن يخطئ حدسي . " وقطع عليه هذه الأفكار الرومانسية الدافئة بكاءٌ ثان نشاز للطفل ، حيث أفاق معظم المسافرين مذعورين صارخين : " ما هذا ؟ الا نستطيع النوم ؟ أين امه ؟ "
فلم يكن لأسعد بد غير اسعاف الطفل مرة اخرى بقطعة حلوى لماعة الغلاف وبيده مفاتيح سيارته مخشخشاً للطفل كي يلزم الصمت . وفعلاً صمت الطفل مما أزال احراج الأم التي استأنست بطيبته ، وخانها التعبير عن شكره لكنها اندفعت بلكنتها الريفية تقول : " انني لم اعد اطيقه . لقد جبت كل مستشفيات بغداد أملاً في العثور على علاج له فلم أفلح. انه مريض .... مريض .... وميؤوس من شفائه . تصور حتى بكاءه نشازٌ بسبب اضطرابات في قصباته الهوائية . "
" وتظاهرت ، " يقول أسعد " بأنني كنت اتعاطف معها في مصابها ، إلا أنني في الحقيقة كنت تواقاً للفوز ولو بكلمة واحدة من الآنسة (البرنسيسة)( ) . لكنني عدت القهقرى . إذ لم تكترث لي ولا لحديث الأم التي كانت بجوارها . نعم ، عدت لمقعدي . وما هي سوى لحظات من جلوسي حتى فاجأتني الأم وهي تستأذنني عن امكانية رقود الطفل على الكرسي الشاغر بجواري . وعلى الفور رحبت بها بشكل مبالغ فيه منتظراً (نزول الرحمة) بعد ذلك ! وجاءت الأم ومعها فراش الصغير ولوازمه ، فيما بقيت الحسناء غير آبهة بما يجري . ودفعني الفضول ، وقد توطدت العلاقة بيننا تدريجياً أن أسأل الأم : " هل أنتم من مدينة الموصل ؟ وهل سيكون أحد في انتظاركم في المحطة ؟ "
أجابت : " يا حسرة ، انني أرملة ، وهذا ابني الوحيد بعد نرمين ابنتي الجالسة هناك . نعم اننا من ضواحي الموصل . "
ثم مضى أسعد يقول : " .... ولفني حزن كبير ، وشعرت بأن الدنيا أضيق مما نتصور . وقلت لنفسي لأكن هذه المرة غير فضولي . ان المأساة التي تعاني منها هذه المسافرة الأرملة تهتز لها الجبال . لكن قلبي كان مستمراً بالخفقان وتواقاً للحديث مع الرقيقة ، نيرمين . " ثم اضافت الأم " تصور أننا صرفنا كل ما بحوزتنا من أموال لعلاج الطفل ولكن دون جدوى . فلمن نشكو أمرنا ؟ " ويبدو أنها تصورتني وكأنني طبيب سايكولوجي أو من بيده مفاتيح حل المجاهيل والطلاسم . لكن أسعد ، لشدة تأثره على حالها المزري حاول التخفيف عنها ومواساتها مرة اخرى بأن أتاح لها المجال كي تتحدث والمسافرون نيام . فاسترسلا بالحديث حتى أوقفهما دخول القطار في محطة لم يشاهداها سابقاً ، حيث الأنوار الذهبية المشعة والأرصفة النظيفة الفسيحة ، إلا أن دهشتهما سرعان ما زالت عندما قرأ اللوحة الأستدلالية (بيجي) .
" لقد كنت مستمعاً أكثر مني متكلماً . وتجذر حوارنا ، وطغت عليه مسحة الحزن المشوب بالحذر . " هذا ما كان يقوله التلميذ المخضرم ، أسعد وهو يسحب نفساً عميقاً ، ثم أضاف يقول : " لقد استلطفتني ، كما يبدو ، فإذا بها تبوح لي ببعض همومها في حين كنت الحظ فيها ملامح الصوفية والرقة والنبرة الملائكية . ومن سياق كلامها عرفت من أي ريف موصلي جاءت . لكنني لم اجرؤ قط التحدث عن ابنتها التي ابتسمت لي من بعيد لسبب كنت اجهله ، وكأن لسان حالها يريد أن يقول : شكراً على موقفك . " لقد أدرك معها بأن اعظم سلاح تقاوم به الحسناء هو الأبتسامة العفوية البريئة .
وما أن لاحظ أن خيوط الفجر موشكة على الطلوع حتى أحس بالكياسة بحيث استأذنها للرقود الى النوم رغم استعدادها الكامل للتنفيس عن اعماقها . لقد وعدها بمساعدتها في انزال امتعتها في المحطة وايصالها ، إن شاءت ، في سيارته الى حيث تسكن ، بعد أن اخذ ربطة المفاتيح من طفلها النائم . وكانت تتلعثم أثناء شكره على جهوده غير المتوقعة. إلا أن خياله سرح في تفسير ابتسامة نرمين له متسائلاً فيما إذا ستعطيه الدفع الجديد للأستبسال بالفوز ببضع كلمات منها . إلا أنه لم يتجرأ على فعل أي شيء . وفوض أمره الى الله ومضى الى الاسترخاء ثم الرقود الى النوم .
وأخيراً دنا القطار من محطة الموصل ، ونهض فجأة يساوره أملان :
-إزداء المعروف لأهله بمساعدتهم في انزال حقائبهم وأمتعتهم ثم ايصالهم بسيارته ، كما وعد الأم ، الى حيث سكناهم .
-احتمال فتح الحوار مع نيرمين التي اوشكت أن تفقده صوابه عندما لم ترد على تحيته "صباح الخير" .
ولكونه أنضج من أن يتشنج في مواقف انسانية نبيلة كهذه ، انطلق في الشارع ليوصلهم الى دارهم أثناء ذلك الصباح الباكر ، وفي أعماقه شكوى مرة لم يستطع كبتها بل باح بها معاتباً امها وهم على بعد امتار من الدار .
- " نيرمين لم ترد على تحيتي الصباحية . أيجوز هذا ؟ "
-نيرمين ، أيها الكريم معذورة . فهي صماء بكماء منذ ولادتها ولحد الآن .