قحطان فؤاد الخطيب
16/10/2006, 06:58 PM
كريمة ... في استراحة 10 دقائق
علق جارنا الشاب سالم ، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه البشوش قائلاً :
- " هكذا تكون القصص والا فلا ........... انني مدمنٌ على كل ما يكتبه القاص " . ولم يكن من جاره ،
السيد عبدالرحمن ، المُكنى ( بأبي ياسر ) الا أن يضيف قائلاً :
-" نعم ، وانا أقول كذلك . لأن قصصه مستلة من الواقع ، حيكت بإسلوب بارع ، وطرزت بألوان بلاغية قوس قزحية مثيرة " .
لقد التقى الاثنان عند نقطة واحدة وهي الاشادة بمهارة الكاتب الأدبية ، وخصوبة خياله ، وشفافية ذهنه ، وبراعته في رسم شخصياته ، وتلقائيته في الحوار ، اضافة الى تفننه في التحكم بوحدة المكان والزمان لمجريات أحداث قصصه لدرجة تخاله مهندساً معمارياً ، يحسب ألف حساب قبل أن يمسك الورقة والقلم . ثم أردف سالم يقول :
- " دعوني أنقل لكم مشهداً ضمني الى الكاتب عندما جمعتني به الصدف ، إذ حاورته وكأنني ناقد أدبي لايرحم حيث قلت : " عندما لفظت المطابع قصصك ، دفعني الفضول لكي أسألك : ترى ........... لماذا اطنبت في استعمال أسماء محددة مثل : نبيلة ، كريمة ، حياة دون سواهن ؟ " .
ضحك الكاتب وقد رفع يده اليمنى لاشعورياً ، حيث بانت أصابعه الاربعة وغياب ابهامه المستأصل في عملية جراحية أثناء حادث مروري قبل عامين ثم قال :
- " ان الأسماء تلك ذُكرت مصادفةً ، بالرغم من أن عقلي الباطن مشبع بعناصر لا حصر لها من الأفكار عنهن . ولولا تعطل يدي عن الكتابة لكنت رأيت قصصهن تتصدرن الصحف والمجلات العربية ، لأن كل واحدة منهن تمثل لنا كلاً فسيحاً مترامي الأطراف . ونكهة كل قصة منهن تختلف عن سواها . أما اذا أطرن جميعهن في حبكة قصصية واحدة ، عند ذلك سيحتار الناقد الأدبي من أين يبدا ، لأنهن يمثلن نسيجاً حياتياً متشابكاً ، طاعناً في التجذر والتفرع ، رغم أعمارهن الصغيرة . هاك ما يعتمل في ذهني عن احداهن . كريمة ، مثلاً ، شابة باريسية الوجه ، زرقاء العينين كزرقة البحر المتوسط ، شعرها صنوبري أخاذ ، ابتسامتها بريئة ومثيرة . وكلامها موزون ومقفى وكأنه محكومٌ بعلم العروض الصارم . اذا تكلمت باللغة الفرنسية ، خلتها أديبة من السوربون ، بشهادة أستاذها الفرنسي الأب ( ........... ) . واذا تحدثت معك ، سحرتك لكنتها المغربية الدافئة . اذا نظرت اليها ، أجابتك عيناها الزرقاوان ( نعم . ماذا تريد ؟ ) . واذا تجولت معها في صحن الليسي( ) لخرجت بنتيجة وهي أنك أمام صحفية متمرسة في اقتناص الأفكار والكلمات . أما اذا تناولت معها الشاي في ( الكافتيريا ) أعطتك خلاصة عن ما جاء في الصحف والاذاعات الفرنسية والآوربية . هذه صورة ذهنية مبسطة التقطتها عيناي قبل ولوج الصفوف لألقي المحاضرات فيها ، إذ لم ينتظم جدول الدروس بعد . وكان معي استاذ التنشيط الثقافي ( السيد جفال ) يعطيني فكرة ........... مجرد فكرة عن الليسي وطالبات وطلاب الليسي .
وما أن إنتظم الجدول حتى اصطفت جموع الطلاب والطالبات في كراديس بصحن الثانوية ، أشبه ما يكون بالمنظر العسكري منه الى المدني . لقد كان الجو رهبانياً ، وقوراً وشديد الانضباط حيث اطبق الصمت بالرغم من تواجد مئات الدارسين والأساتذة والمراقبين والعمال . وما هي الا دقائق معدودة حتى انصرفت المجاميع بهدوءٍٍ تام نحو صفوفها . وربما كان لتواجد المراقب العام ( سي )( ) ابراهيم أثرٌ في اضفاء الهدوء على المجاميع ، لاسيما وأن جميع الدارسين
يخشون سطوته .
وبعد دقائق من دخول الطلبة والطالبات قاعة الصف دخل المدير بصحبتي وقدمني اليهم كمدرس عربي موفد . وبعد مراسيم التقديم ابتدأت المحاضرة . رُحتُ اسأل لفيفاً منهم أسئلة بسيطة كي أكتشف رصيدهم في اللغة . وقد دُهِشتُ لركاكة أجوبتهم . وبعد حوار مطول أضطررت للتحدث باللغة العربية واستنتجت بأنهم يتقنون اللغة الفرنسية - بنيناً وبناتاً ، إذ هم يقرأون جريدة اللوموند واللافيغارو الفرنسية دون عناء أو رجوع الى إستعمال القاموس ، كما أنهم معتادون على سماع الإذاعات الناطقة باللغة الفرنسية . لقد أدركت آنذاك بأنها مسألة وقت لكي يتحسن الطالب في اللغة الإنكليزية وليست مسألة عدم استيعاب أو عدم ذكاء .
مضت أيام وتعددت المحاضرات فإذا بطالبات ثلاث : كريمة ، حياة ، ونبيلة تلمعن خلال سنوات الايفاد الأربع ، أقول : " ثلاث فقط رغم أحتواء الثانوية على ما يربو من ألف طالباً وطالبة في العام الدراسي الواحد . وهناك ..........."
قاطعني سالم ، يقول القاص ، وقد أحس برتابة وصفي قائلاً :
- " لماذا لا تدخل في الموضوع مباشرة وتميط اللثام عن سر اعجابك بهن ؟ "
- " طيب ، عفواً ، سأقتصر في حديثي عن واحدة منهن فقط وأقصد بها كريمة ، في حين سأترك تسليط الضوء على حياة ونبيلة فوق صفحات الصحف والمجلات العربية التي ستنطق أعمدتها بكلام كثير حينما سأميط اللثام عن دفتر مذكراتي لعام 1975 والأعوام التالية له . بدءاً أقول : ما أن كنت أتطلع في كريمة حتى شع منها الشموخ الراسخ ، والأنوثة المتقدة ، والكبرياء الذي يُسكر شعراء الغزل وكُتاب السير . وقد تسأل لماذا ؟ أجل ، تسألني لماذا ؟ تُرى ما عساي أجيب وكريمة ، بنت الستة عشر ربيعاً فقط ، المثقفة ، الموهوبة ، المرهفة الحس والسريعة الألتقاط ...........
كريمة ........... التي ما تكاد تنطرح عليها أي سؤال حتى تعزز اجابتها بالاستشهادات وبالأقوال المأثورة . وكانت الأيام تمضي كما كانت تمضي استراحات عشر دقائق ، وهي تستجدي احراجها بأي سؤال تصعب اجابته وعن أي موضوع كان كأننا في لعبة الحروف المتقاطعة . لقد كانت تضع في طريقي شتى الأغراءات وهي تقول أمام أصحابها تحت قبة الفصل الدراسي أثناء احدى الاستراحات ، حيث يبقى الطلبة على غير المألوف في قاعة الصف دون مبارحته منغمسين في الطروحات الفلسفية المنمقة رافعين شعار ( يقول الفلاسفة : سلني ، أقل لك من أنت . السؤال أهم من الجواب ) " . وهنا التفت نحوها قائلاً : " أراكِ تتوقين كي أسألك سؤالاً . "
" نعم . بشرط أن يكون السؤال مُعَجِـِزاً ونتبارى كلنا في الاجابة عليه . "
وهنا دخل على الخط تلميذ فضولي ، كان مشدوداً الى الحوار حيث قال : " اذا يسمح لي سِيدي بطرح الأسئلة
عليها . انني سأفحمها ".
- " تفضل يا بوزغاي . تفضل . "
- " يا كريمة ، كيف تمكنت من شدنا اليك ونحن في استراحة فيما يوجد من هم اكبر منك سناً وأكثر منك تجربة ؟ "
ابتسمت كريمة وكأنها تقول هذا سؤال شخصي وليس أكاديمي . - " سيديا . لو كانت القيادة بيد كبار السن
فقط ، لتنحى كل المسؤولين في العالم لمن هم أكبر سناً . إنني ، زميلاتي وزملائي ، وبلا أدنى غرور ، احس بنزعة قيادية تشتعل في أعماقي . تصور ، يا أستاذنا حتى أن أبي طرح علي نفس السؤال . وها أنني اسألك ، يا أستاذي
الفاضل ، بسؤال ربما يكون جواباً لسؤال زميلي .
- هل قرأت أغلب مؤلفات روسو بالأصل الفرنسي ؟
- كلا . ولا حتى بالانكليزية .
- وهل قرأت كتب سارتر ، اونيسكو وعن مسرح اللامعقول ؟
- قرأت ما تيسر عندما كنت طالباً .
- وهل ........... ؟
- قاطعتها قائلاً : " انت التي طلبت منا أن نسألك ولم نطلب منك أن تسألينا . اذن عليك اجابة زميلك قبل أن تنتهي الاستراحة . "
- " انني منذ كنت في مرحلة ( بريمير )( ) و ( دوزيام )( ) و ........... سرقت الأضواء من زميلاتي وزملائي . وكنت الأولى في كل مسابقة كما كنت المتفوقة في كل المواد الدراسية قاطبة . انني متأثرة بـ ( ماري كوري )( ) من حيث اندماجها مع الكتب والمطالعة . "
كانت كريمة تواقة ليس لتعلم اللغة الإنكليزية فحسب بل لتعلم اللغة الألمانية والأسبانية وحتى التركية . لقد كانت تناولني بعد نهاية كل حصة دراسية أمام زملائها صفحتين فولسكاب مشبعة بما يعن لها من أفكار وخواطر مدونة باللغة الإنكليزية . وكانت تستأذنني فحص نصوصها لغوياً . وكنت أشجعها على إقحام زملائها وزميلاتها في مناقشة مضمون طروحاتها وتطلعاتها واحلامها وحتى خصوصياتها بغية شدهم الى الكتابة والتفكير باللغة الإنكليزية . واستمرت على هذا المنوال تكتب اللواعج والأدبيات والعواطف . لقد كانت فتاة نموذجية تواقة للكمال من حيث المادة العلمية المدرسية والمادة الثقافية العامة . وكنت أتوسم فيها مستقبلاً باهراً أقل ما تكون فيه سفيرة للجزائر في احدى عواصم الدنيا . ورغم أنها في المرحلة النهائية من دراستها الثانوية إلا أنها وكما اتضح من كتاباتها اليومية بأنها سائرة في الخط المستقيم نحو الهدف . وكنت الح في السؤال عليها قائلاً :
-متى اتيحت لك الفرصة هضم فكر روسو وأونسكو ومسرح اللامعقول وباللغة الفرنسية وانت بهذا الربيع الصغير من العمر ؟ لابد أن يكون وراءك سرٌ غامض ! "
وهنا اندفع أحد الطلبة متكلماً بلغة عربية هجينة وغريبة ممزوجة بلكنة صحراوية مطعمة بالفرنسية قائلاً :
- " نحن نقرأ ونكتب باللغة الفرنسية في المرحلة الإبتدائية وما بعدها . وحتى في الدار لاتغيب عنا ممارسة اللغة الفرنسية . هذا ناهيك عن تواجدنا في المقاهي وأماكن اللقاء الأخرى . أن فكر روسو أو فكر غيره من الفلاسفة والأدباء لايعدو أن يكون مثبتاً في مجموعة من الكتب المطروقة ليس غير . ألا تتصور ، سِيدي ، بأنك بالغت في تقييم زميلتنا ؟ "
- " اذا كان الموضوع بهذه البساطة ، فقل لي لمن قرأت أنت ؟ "
- قرأت لمعظم الفلاسفة المشهورين في العالم . ويحتوي دارنا على أمهات الكتب المعاصرة والقديمة . وأن
زميلي ، على سبيل المثال ، بوترعة ، يملك مكتبة في قرية الشريعة أكبر من مكتبة الليسي . وهو يقرأ كل ما يقع بين
يديه . ومع هذا لم تُسلّط عليه الأضواء مثل ......................................... "
قاطعته وقلت : " أنا فعلاً بالغت في تقييم كريمة . وكنت أحس بأن الجزائر لم تُنجب سوى جميلة بو حيرد
وكريمة . ولكن والحق يقال ، يجب اعادة النظر في التقييم مستقبلاً . وعذري قصر الفترة الزمنية التي أمضيتها معكم ، أيها المثقفون الصغار الكبار ! . إلا أن كريمة ، بإعتقادي ، تمثل الفتاة النموذج بما احتوته كتاباتها التي لاحصر لها ، والتي من خلالها مدت الجسور بين ذهنينا رغم فارق السن . واليكم سطوراً من أحدث كتابات زميلتكم التي ضبطتها لغوياً ولم أجد خطأً لغوياً واحداً قط ، بل وجدت الرصانة متجسدة بصفحاتها الأربع الكبيرة . "
احمر وجه كريمة وكأن لسان حالها يقول ( لماذا تحرجني ) أمام وزميلاتي وزملائي أيها الأستاذ ؟
تبسه
3 أفريل 1977 رقم الخاطرة (63)
انني أفكر باللغة العربية ، وأكتب لك باللغة الإنكليزية ، وأدوات عدتي باللغة الفرنسية . انها لوحة لغوية زيتية مثيرة ، وأثرٌ أرجوا أن يكون متماسكاً ومسبوكاً رصفته أنامل أتعبها السهر وآرقها الطموح . أن القلم ، لعمري ، بات سميري ، والورق أضحى رفيقي وأليفي ، وضوء القمر شمسي ونهاري .
اختلط علي الوقت ، فلم أعد أعرف يومي من غدي ولا نهاري من ليلي ولا صيفي من شتائي . قلبت صفحات غدي فلم تستهوني كلمة (صحفية) ولا (أديبة) ولا (طبيبة) ولا (محامية) . لا أريد سياجاً شائكاً لحياتي . ولا أريد حدوداً مصطنعة كحدود الأقطار العربية . لا أحب روتينية الحياة ورتابتها ، بل أفضل سمو الفكر وطهارته ونقائه وخلوده . أحب ........... أحب بيع الجعة وسجادة الصلاة لمن يشتريهما . "
- " هذه بعض أفكار زميلتكم كريمة باللغة الانكليزية . ألا تستحق النشر والاعجاب ؟ أستأذنكم ، أبنائي الطلبة والطالبات ، العودة الى محاضرتنا . فاستراحتنا لهذا اليوم قد شارفت على الإنتهاء . "
وما كان من سالم الا أن استدار نحو أبي ياسر وقد سرح الاثنان في عالم من التفكير العميق .
- " هذه بعض مواصفات كريمة ، ياسادة ، يا كرام . ولو كان معي دفتر مذكراتي لقرأته من الغلاف الى الغلاف لتبرروا لماذا أنا جدُ معجب بهذه الأديبة الشابة الحسناء ......................................... كريمة . "
علق جارنا الشاب سالم ، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه البشوش قائلاً :
- " هكذا تكون القصص والا فلا ........... انني مدمنٌ على كل ما يكتبه القاص " . ولم يكن من جاره ،
السيد عبدالرحمن ، المُكنى ( بأبي ياسر ) الا أن يضيف قائلاً :
-" نعم ، وانا أقول كذلك . لأن قصصه مستلة من الواقع ، حيكت بإسلوب بارع ، وطرزت بألوان بلاغية قوس قزحية مثيرة " .
لقد التقى الاثنان عند نقطة واحدة وهي الاشادة بمهارة الكاتب الأدبية ، وخصوبة خياله ، وشفافية ذهنه ، وبراعته في رسم شخصياته ، وتلقائيته في الحوار ، اضافة الى تفننه في التحكم بوحدة المكان والزمان لمجريات أحداث قصصه لدرجة تخاله مهندساً معمارياً ، يحسب ألف حساب قبل أن يمسك الورقة والقلم . ثم أردف سالم يقول :
- " دعوني أنقل لكم مشهداً ضمني الى الكاتب عندما جمعتني به الصدف ، إذ حاورته وكأنني ناقد أدبي لايرحم حيث قلت : " عندما لفظت المطابع قصصك ، دفعني الفضول لكي أسألك : ترى ........... لماذا اطنبت في استعمال أسماء محددة مثل : نبيلة ، كريمة ، حياة دون سواهن ؟ " .
ضحك الكاتب وقد رفع يده اليمنى لاشعورياً ، حيث بانت أصابعه الاربعة وغياب ابهامه المستأصل في عملية جراحية أثناء حادث مروري قبل عامين ثم قال :
- " ان الأسماء تلك ذُكرت مصادفةً ، بالرغم من أن عقلي الباطن مشبع بعناصر لا حصر لها من الأفكار عنهن . ولولا تعطل يدي عن الكتابة لكنت رأيت قصصهن تتصدرن الصحف والمجلات العربية ، لأن كل واحدة منهن تمثل لنا كلاً فسيحاً مترامي الأطراف . ونكهة كل قصة منهن تختلف عن سواها . أما اذا أطرن جميعهن في حبكة قصصية واحدة ، عند ذلك سيحتار الناقد الأدبي من أين يبدا ، لأنهن يمثلن نسيجاً حياتياً متشابكاً ، طاعناً في التجذر والتفرع ، رغم أعمارهن الصغيرة . هاك ما يعتمل في ذهني عن احداهن . كريمة ، مثلاً ، شابة باريسية الوجه ، زرقاء العينين كزرقة البحر المتوسط ، شعرها صنوبري أخاذ ، ابتسامتها بريئة ومثيرة . وكلامها موزون ومقفى وكأنه محكومٌ بعلم العروض الصارم . اذا تكلمت باللغة الفرنسية ، خلتها أديبة من السوربون ، بشهادة أستاذها الفرنسي الأب ( ........... ) . واذا تحدثت معك ، سحرتك لكنتها المغربية الدافئة . اذا نظرت اليها ، أجابتك عيناها الزرقاوان ( نعم . ماذا تريد ؟ ) . واذا تجولت معها في صحن الليسي( ) لخرجت بنتيجة وهي أنك أمام صحفية متمرسة في اقتناص الأفكار والكلمات . أما اذا تناولت معها الشاي في ( الكافتيريا ) أعطتك خلاصة عن ما جاء في الصحف والاذاعات الفرنسية والآوربية . هذه صورة ذهنية مبسطة التقطتها عيناي قبل ولوج الصفوف لألقي المحاضرات فيها ، إذ لم ينتظم جدول الدروس بعد . وكان معي استاذ التنشيط الثقافي ( السيد جفال ) يعطيني فكرة ........... مجرد فكرة عن الليسي وطالبات وطلاب الليسي .
وما أن إنتظم الجدول حتى اصطفت جموع الطلاب والطالبات في كراديس بصحن الثانوية ، أشبه ما يكون بالمنظر العسكري منه الى المدني . لقد كان الجو رهبانياً ، وقوراً وشديد الانضباط حيث اطبق الصمت بالرغم من تواجد مئات الدارسين والأساتذة والمراقبين والعمال . وما هي الا دقائق معدودة حتى انصرفت المجاميع بهدوءٍٍ تام نحو صفوفها . وربما كان لتواجد المراقب العام ( سي )( ) ابراهيم أثرٌ في اضفاء الهدوء على المجاميع ، لاسيما وأن جميع الدارسين
يخشون سطوته .
وبعد دقائق من دخول الطلبة والطالبات قاعة الصف دخل المدير بصحبتي وقدمني اليهم كمدرس عربي موفد . وبعد مراسيم التقديم ابتدأت المحاضرة . رُحتُ اسأل لفيفاً منهم أسئلة بسيطة كي أكتشف رصيدهم في اللغة . وقد دُهِشتُ لركاكة أجوبتهم . وبعد حوار مطول أضطررت للتحدث باللغة العربية واستنتجت بأنهم يتقنون اللغة الفرنسية - بنيناً وبناتاً ، إذ هم يقرأون جريدة اللوموند واللافيغارو الفرنسية دون عناء أو رجوع الى إستعمال القاموس ، كما أنهم معتادون على سماع الإذاعات الناطقة باللغة الفرنسية . لقد أدركت آنذاك بأنها مسألة وقت لكي يتحسن الطالب في اللغة الإنكليزية وليست مسألة عدم استيعاب أو عدم ذكاء .
مضت أيام وتعددت المحاضرات فإذا بطالبات ثلاث : كريمة ، حياة ، ونبيلة تلمعن خلال سنوات الايفاد الأربع ، أقول : " ثلاث فقط رغم أحتواء الثانوية على ما يربو من ألف طالباً وطالبة في العام الدراسي الواحد . وهناك ..........."
قاطعني سالم ، يقول القاص ، وقد أحس برتابة وصفي قائلاً :
- " لماذا لا تدخل في الموضوع مباشرة وتميط اللثام عن سر اعجابك بهن ؟ "
- " طيب ، عفواً ، سأقتصر في حديثي عن واحدة منهن فقط وأقصد بها كريمة ، في حين سأترك تسليط الضوء على حياة ونبيلة فوق صفحات الصحف والمجلات العربية التي ستنطق أعمدتها بكلام كثير حينما سأميط اللثام عن دفتر مذكراتي لعام 1975 والأعوام التالية له . بدءاً أقول : ما أن كنت أتطلع في كريمة حتى شع منها الشموخ الراسخ ، والأنوثة المتقدة ، والكبرياء الذي يُسكر شعراء الغزل وكُتاب السير . وقد تسأل لماذا ؟ أجل ، تسألني لماذا ؟ تُرى ما عساي أجيب وكريمة ، بنت الستة عشر ربيعاً فقط ، المثقفة ، الموهوبة ، المرهفة الحس والسريعة الألتقاط ...........
كريمة ........... التي ما تكاد تنطرح عليها أي سؤال حتى تعزز اجابتها بالاستشهادات وبالأقوال المأثورة . وكانت الأيام تمضي كما كانت تمضي استراحات عشر دقائق ، وهي تستجدي احراجها بأي سؤال تصعب اجابته وعن أي موضوع كان كأننا في لعبة الحروف المتقاطعة . لقد كانت تضع في طريقي شتى الأغراءات وهي تقول أمام أصحابها تحت قبة الفصل الدراسي أثناء احدى الاستراحات ، حيث يبقى الطلبة على غير المألوف في قاعة الصف دون مبارحته منغمسين في الطروحات الفلسفية المنمقة رافعين شعار ( يقول الفلاسفة : سلني ، أقل لك من أنت . السؤال أهم من الجواب ) " . وهنا التفت نحوها قائلاً : " أراكِ تتوقين كي أسألك سؤالاً . "
" نعم . بشرط أن يكون السؤال مُعَجِـِزاً ونتبارى كلنا في الاجابة عليه . "
وهنا دخل على الخط تلميذ فضولي ، كان مشدوداً الى الحوار حيث قال : " اذا يسمح لي سِيدي بطرح الأسئلة
عليها . انني سأفحمها ".
- " تفضل يا بوزغاي . تفضل . "
- " يا كريمة ، كيف تمكنت من شدنا اليك ونحن في استراحة فيما يوجد من هم اكبر منك سناً وأكثر منك تجربة ؟ "
ابتسمت كريمة وكأنها تقول هذا سؤال شخصي وليس أكاديمي . - " سيديا . لو كانت القيادة بيد كبار السن
فقط ، لتنحى كل المسؤولين في العالم لمن هم أكبر سناً . إنني ، زميلاتي وزملائي ، وبلا أدنى غرور ، احس بنزعة قيادية تشتعل في أعماقي . تصور ، يا أستاذنا حتى أن أبي طرح علي نفس السؤال . وها أنني اسألك ، يا أستاذي
الفاضل ، بسؤال ربما يكون جواباً لسؤال زميلي .
- هل قرأت أغلب مؤلفات روسو بالأصل الفرنسي ؟
- كلا . ولا حتى بالانكليزية .
- وهل قرأت كتب سارتر ، اونيسكو وعن مسرح اللامعقول ؟
- قرأت ما تيسر عندما كنت طالباً .
- وهل ........... ؟
- قاطعتها قائلاً : " انت التي طلبت منا أن نسألك ولم نطلب منك أن تسألينا . اذن عليك اجابة زميلك قبل أن تنتهي الاستراحة . "
- " انني منذ كنت في مرحلة ( بريمير )( ) و ( دوزيام )( ) و ........... سرقت الأضواء من زميلاتي وزملائي . وكنت الأولى في كل مسابقة كما كنت المتفوقة في كل المواد الدراسية قاطبة . انني متأثرة بـ ( ماري كوري )( ) من حيث اندماجها مع الكتب والمطالعة . "
كانت كريمة تواقة ليس لتعلم اللغة الإنكليزية فحسب بل لتعلم اللغة الألمانية والأسبانية وحتى التركية . لقد كانت تناولني بعد نهاية كل حصة دراسية أمام زملائها صفحتين فولسكاب مشبعة بما يعن لها من أفكار وخواطر مدونة باللغة الإنكليزية . وكانت تستأذنني فحص نصوصها لغوياً . وكنت أشجعها على إقحام زملائها وزميلاتها في مناقشة مضمون طروحاتها وتطلعاتها واحلامها وحتى خصوصياتها بغية شدهم الى الكتابة والتفكير باللغة الإنكليزية . واستمرت على هذا المنوال تكتب اللواعج والأدبيات والعواطف . لقد كانت فتاة نموذجية تواقة للكمال من حيث المادة العلمية المدرسية والمادة الثقافية العامة . وكنت أتوسم فيها مستقبلاً باهراً أقل ما تكون فيه سفيرة للجزائر في احدى عواصم الدنيا . ورغم أنها في المرحلة النهائية من دراستها الثانوية إلا أنها وكما اتضح من كتاباتها اليومية بأنها سائرة في الخط المستقيم نحو الهدف . وكنت الح في السؤال عليها قائلاً :
-متى اتيحت لك الفرصة هضم فكر روسو وأونسكو ومسرح اللامعقول وباللغة الفرنسية وانت بهذا الربيع الصغير من العمر ؟ لابد أن يكون وراءك سرٌ غامض ! "
وهنا اندفع أحد الطلبة متكلماً بلغة عربية هجينة وغريبة ممزوجة بلكنة صحراوية مطعمة بالفرنسية قائلاً :
- " نحن نقرأ ونكتب باللغة الفرنسية في المرحلة الإبتدائية وما بعدها . وحتى في الدار لاتغيب عنا ممارسة اللغة الفرنسية . هذا ناهيك عن تواجدنا في المقاهي وأماكن اللقاء الأخرى . أن فكر روسو أو فكر غيره من الفلاسفة والأدباء لايعدو أن يكون مثبتاً في مجموعة من الكتب المطروقة ليس غير . ألا تتصور ، سِيدي ، بأنك بالغت في تقييم زميلتنا ؟ "
- " اذا كان الموضوع بهذه البساطة ، فقل لي لمن قرأت أنت ؟ "
- قرأت لمعظم الفلاسفة المشهورين في العالم . ويحتوي دارنا على أمهات الكتب المعاصرة والقديمة . وأن
زميلي ، على سبيل المثال ، بوترعة ، يملك مكتبة في قرية الشريعة أكبر من مكتبة الليسي . وهو يقرأ كل ما يقع بين
يديه . ومع هذا لم تُسلّط عليه الأضواء مثل ......................................... "
قاطعته وقلت : " أنا فعلاً بالغت في تقييم كريمة . وكنت أحس بأن الجزائر لم تُنجب سوى جميلة بو حيرد
وكريمة . ولكن والحق يقال ، يجب اعادة النظر في التقييم مستقبلاً . وعذري قصر الفترة الزمنية التي أمضيتها معكم ، أيها المثقفون الصغار الكبار ! . إلا أن كريمة ، بإعتقادي ، تمثل الفتاة النموذج بما احتوته كتاباتها التي لاحصر لها ، والتي من خلالها مدت الجسور بين ذهنينا رغم فارق السن . واليكم سطوراً من أحدث كتابات زميلتكم التي ضبطتها لغوياً ولم أجد خطأً لغوياً واحداً قط ، بل وجدت الرصانة متجسدة بصفحاتها الأربع الكبيرة . "
احمر وجه كريمة وكأن لسان حالها يقول ( لماذا تحرجني ) أمام وزميلاتي وزملائي أيها الأستاذ ؟
تبسه
3 أفريل 1977 رقم الخاطرة (63)
انني أفكر باللغة العربية ، وأكتب لك باللغة الإنكليزية ، وأدوات عدتي باللغة الفرنسية . انها لوحة لغوية زيتية مثيرة ، وأثرٌ أرجوا أن يكون متماسكاً ومسبوكاً رصفته أنامل أتعبها السهر وآرقها الطموح . أن القلم ، لعمري ، بات سميري ، والورق أضحى رفيقي وأليفي ، وضوء القمر شمسي ونهاري .
اختلط علي الوقت ، فلم أعد أعرف يومي من غدي ولا نهاري من ليلي ولا صيفي من شتائي . قلبت صفحات غدي فلم تستهوني كلمة (صحفية) ولا (أديبة) ولا (طبيبة) ولا (محامية) . لا أريد سياجاً شائكاً لحياتي . ولا أريد حدوداً مصطنعة كحدود الأقطار العربية . لا أحب روتينية الحياة ورتابتها ، بل أفضل سمو الفكر وطهارته ونقائه وخلوده . أحب ........... أحب بيع الجعة وسجادة الصلاة لمن يشتريهما . "
- " هذه بعض أفكار زميلتكم كريمة باللغة الانكليزية . ألا تستحق النشر والاعجاب ؟ أستأذنكم ، أبنائي الطلبة والطالبات ، العودة الى محاضرتنا . فاستراحتنا لهذا اليوم قد شارفت على الإنتهاء . "
وما كان من سالم الا أن استدار نحو أبي ياسر وقد سرح الاثنان في عالم من التفكير العميق .
- " هذه بعض مواصفات كريمة ، ياسادة ، يا كرام . ولو كان معي دفتر مذكراتي لقرأته من الغلاف الى الغلاف لتبرروا لماذا أنا جدُ معجب بهذه الأديبة الشابة الحسناء ......................................... كريمة . "