قحطان فؤاد الخطيب
16/10/2006, 07:00 PM
الوجـه الآخر لناديـة
مع اللحضات الأخيرة لوداع آخر خيط من نهار الأربعاء ، الرابع من أيلول عام 2002 ، المفعمٍ بضجيج مولدة كهرباء جارهِ ، والمطعم بنكهة حرارة أواخر أيام الصيف التي ، على ما يبدو ، طاب لها الاسترسال في البقاء ، تسللت عتمة لا تفتقر إلا إلى الشموع لتكتمل إنارة المكان ..... وسط هذا الجو الفريد، دلفت إلى شرفة مكتب
الترجمة وتدريس اللغات الأوربية ، كهلة في خريف عمرها ، تصحبها شابة خيل للأستاذ المحاضر بأنها ابنتها او
زوجة ابنها او جارتها . وللتو ، توقع آن يكون غرض زيارتهما له هو ترجمة مستمسكاتهما الرسمية . بيد آن حدسه
اخطأ هذه المرة .
رحب بهما حسب الأصول ورجا تلميذه الموهوب جداً ، محمد السليفاني ، آن يضيفهما، لكنهما اعتذرتا شاكرتين . وفجأة رن جرس الهاتف الذي يبعد بضعة أمتار عن الشرفة . فاعتذر منهما كي يرد عليه ، فيما اكمل الحوار معهما فني الكهرباء، آبو علاء ، الذي تزامن وجوده معهما وقتذاك . وبعد دقائق معدودة عاد إليهما، فإذا بالسيدة وقد اندمجت في حوارٍ شيق معمق مع آبى علاء ، كأنهما أصحاب منذ أعوام ، إلا أن عيني الشابة أوحتا له وكأن لسان حالهما يقول :
- "لقد أطلت الغياب ، يا أستاذ!"
أحس بأن ثمة خيطاً روحياً دقيقاً شده إليها فجأة ، مما جعله تواقاً لاماطة اللثام عن كنهه . وعرف من ملامح وجهها بأنها شابة ، ثلاثينية العمر ، طافحة بالأنوثة المتقدة والحيوية المتدفقة ، والغارقة بالآمال والطموحات . وربما كانت تنحدر من أسرة مرموقة . كان اللون العسلي الداكن يطغى على عينيها المؤطرتين بكحل أحسن اختياره واللتين شع منهما وميض خافت لحزن دفين يكاد لا يفارقها . وكان يبدو أنها أمضت وقتاً ليس بالقصير في العناية بمكياج وجهها رغم أنه نضر ومعبر . على أن شعرها الذهبي الأملس انساب بدلع على كتفيها الرقيقين ، فيما زين الاسم (نادية) بالحروف الإنكليزية المجسمة عنقها البرونزي ، إذ كان يبدو أنه مصنوعٌ من الذهب الخالص ، عيار (21) ، أو هكذا خيل له . لقد وفر عليه هذا الاسم كثيراً من العناء ، كما اختزل الكثير من الأسئلة والوقت إذ بادرها قائلاً :
- "آهلا ، ست نادية ."
فوجئت بهذه التحية ثم قالت :
- "لابد أنك تعرفني ؟"
- "وأخالك تحبذين اللغة الإنكليزية، أليس كذلك؟ "
- "كيف عرفت ؟"
- "احزري ."
وهنا قطعت السيدة حوارها مع فني الكهرباء ومضت تقول :
- "لابد وأن الموظف الذي دلنا عليك أعطاك فكرة عنها !"
- "ومن يكون هذا الموظف ؟"
- "انه مسؤول دائرة البريد في حينا والمكنى بالسيد (م¬) ."
أجابها قائلاً :
- "كلا ، يا سيدتي . فاسم نادية يزين عنقها . وبما أنه مثبت باللغة الأجنبية . إذن لابد وأنها ميالة لتلك اللغة ."
أجابته السيدة قائلة :
- "أحسنت ، وهي كذلك ." ثم أردفت تقول :
- "إن السيد ، (م) أشاد بك كثيراً جداً ، ناهيك عن إشادته بإمكانياتك التدريسية الهائلة . ولهذا وجدتنا في مكتبك كي نبرم الاتفاق معك على عملية التدريس بكل تفاصيلها . وبدءاً أقول إنني أمها . وقد كرست كل حياتي، خصوصاً بعد وفاة والدها لأجلها، ولأجل شقيقتها المتزوجة والمقيمة في (...........) ، إضافة إلى ابني الوحيد (......................) ."
شرع يسألها أسئلة عامة ، إلا أن أمها كانت تجيب بدلا عنها ، مما دفعه الفضول إلى الاستفسار منها قائلاً :
- "هل سأدرسك أم سأدرسها ؟"
عاجلته بالإجابة قائلة :
- "لقد أحرجني تلعثمها في أجابتك ، مما حداني إلى حسم الموضوع ، والإجابة بدلاً عنها ."
سألها :
- "بما أنكما متفقتان على تدريسي نادية مادة اللغة الإنكليزية ، أليس الأجدر أن أطلب منها تقديم نفسها بنفسها وباللغة الأجنبية ذاتها ؟ آذن، دعيها تعبر كما تشاء كي أعرف من أين أنطلق في تدريسها ."
أرخت نادية العنان لأفكارها كي تتدفق بحذر أنثوي لبق، وقد تورد وجهها الناصع البياض، وهي ترفع بشكل لاشعوري يدها اليمنى المثقلة بثلاثة أساور من العيار الثقيل ذهبا، ومحبس فخم تلألأ مستقرا في إصبعها الوسطى، لتزيح شعرات تدلت بجاذبية على وجهها الفواح، وهي تتحدث بلغة العم سام:
- "إنني ........ ولدت بتاريخ ........ في مدينة ........ واحمل درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية ........ بجامعة ........ "
قاطعها قائلاً :
- "أتمزحين يا نادية ؟ أنت زميلتنا. ماذا سأضيف لك ؟ بإمكانك تطوير مهاراتك اللغوية الحالية بالاستعانة بالكتب والقواميس والأقراص الليزرية والحاسبة ."
استجمعت الأم أفكارها ومضت تقول:
-"قم أنت مقام ما ذكرت ، يا أستاذ . وليكن الغد اليوم الأول للشروع بتنفيذ المهمة."
X X X X X X
تسارعت عقارب الساعة بشكل غير مألوف، فإذا بشمس الخميس تسطع، والأستاذ مشدوه بالعينة الأنثوية الملفتة للنظر، وعلامات الاستفهام ما برحت تتراقص في مخيلته، وأخماسه تضرب بأسداسه، وكأن نادية، بسحنتها الدافئة، وطولها المعتدل، ومشيتها الأنيقة، بقوامها الممشوق، شاخصة أمام عينيه. لقد كان يبدو وكأنه انقلب، بقدرة قادر، من مدرس إلى أديب يقتنص المفردات البلاغية المعبرة، ويهيم في بحر من الخيال بقارب ضاع مجدافاه. كان يسأل نفسه ثم سرعان ما يجيب:
-"اسمها الثلاثي هو (................). إذن فهي، بلاشك، مسلمة. لكن صورة القديس ............ المثبتة على ساعتها التراثية الواسعة، التي طوقت معصمها، حلت اللغز بسرعة، وأضفت جوا بانوراميا أخاذا عنها أماط اللثام لاسيما عن أناملها التي شع منها لون خمري بهيج ، فيما استقر في بنصرها محبس ذهبي تعلوه الفصوص الثمينة.
دنا موعد المحاضرة، وتطلع المحاضر إلى الساعة الجدارية ، فإذا بها تمام التاسعة والنصف صباحا. ولفرط دهشته فاح عطر باريسي مركـز، أعقبه وقع أقدام تناغمت مع نوتة موسيقية شجية. وإذا به أمام أنثى متكاملة.
حيته، فرد عليها بأحسن منها. ثم أخذت مكانها. وهكذا بدا الحوار:
-"اسمك الثلاثي واللقب."
-".................................................. ..."
لفت نظره لقبها، وتأكد بأنها مسيحية. ثم أردف يقول:
" أي متكلم لا يجيد اللغة لا بممارستها. و ............................................."
قاطعته، مستأذنة:
"اجل . ذلك صحيح، يا أستاذ ."
"إذن ، لنبدأ المحاضرة. حدثيني عن نفسك ، هواياتك ، طموحاتك، شهاداتك ، نشاطاتك ، ممارستك . تحدثي عن كل شي بانسيابية وبدون تكلف. ودعيني أصحح أخطاءك اللغوية، ومن خلاله يتعمق الحوار ."
تحدثت عن كل شي، وهو يصحح حينا ويضيف لها أحيانا . كان يدون، على غير عادته ، أفكارها ، ويستنبط الأسئلة كأنه في جلسة تحليل نفسي. ويبدو آن الأسلوب التربوي الصارم نوعا ما راق للطالبة الطموحة، بحيث راحت تجزل العطاء في البوح عن مكوناتها بلا تحفظ ، يحدوها الأمل في إتقان التعبير. وقد بادلها المشاعر بصدق ، فأنشدت إليه وكأن عقدة لسانها قد حُلت ، وكأن عقلها الباطن قد وجد الفرصة كي يبوح بما يعتمل في أعماقه طارحاً خزينه المتراكم من التساؤلات على طاولة الدراسة .
انتهت المحاضرة الأولى وتأبطت أوراقها وتأملت واجبها البيتي وانصرفت مباشرة إلى عملها ، كطباعة كومبيوتر في مكتب ........... .
لقد كانت الابتسامة العريضة مرتسمة على محياها ، وبريق عينيها يبعث الإشارة على أن كل شيء سار على ما يرام في بحر تسعين دقيقة . وهكذا توالت المحاضرات بانتظام . وسجل الكورس غيابين فقط بعذر : الأول حين داهمها مرض الأنفلونزا ، والثاني حين اضطرت لقضاء أمور منزلية ملحة . كانت الخطوط البيانية للمحاضر تسجل استقراراً في مواظبتها وسلوكها . وكانت مثالية في استجابتها لواجباتها البيتية . لقد أثبتت أنوثتها الرقيقة وطموحها اللامحدود عبر ساعات الدراسة المحدودة .
وعبر ساعات الكورس المتواصلة، تجسد الوجه الآخر لنادية، في كونها تكره القيود، وتحب الحرية، وتتوق إلى الانعتاق. ومن سياق إجاباتها توصل المحاضر إلى أنها كانت تحب الحفلات والاختلاط، وتعشق الديبلوماسية والأتيكيت . كما كانت تقدس العمل بحيث كان لسان حالها يردد :
-"يجب على كل الفتيات العمل حتى ولو امتلكن كنوز الدنيا. فسر نضرتهن يكمن في عملهن."
ولعل أطرف ما ميزها بالبراءة والعفوية عدم خلو حقيبتها من الحلوى وقطع الشكولاته، التي كانت تقدمها للأطفال متى ما تواجدوا مع ذويهم في المكتب.
كانت لا تجيد سوى الابتسامة لغة للتعبير، بحبال صوتية ناعمة لا تخدش طبلة الأذن، فيما وظفت عينيها للإجابات التي لا تتطلب طويل وقت.
لقد أضحت شغوفة برفد ذاكرتها الطفولية البريئة بكل المفردات الإنكليزية المثيرة التي لم تسمع بها عندما كانت على مقاعد الدراسة، كما كانت تواقة في اقتناص التعبيرات الشبابية المعاصرة وتدوينها. لقد كانت أشبه بالأيقونة في سكونها إذ كانت تسمع اكثر مما تتكلم مؤمنة بالقول المأثور:
-" إذا كان الكلام من فضة ، فالسكوت من ذهب. "
مع اللحضات الأخيرة لوداع آخر خيط من نهار الأربعاء ، الرابع من أيلول عام 2002 ، المفعمٍ بضجيج مولدة كهرباء جارهِ ، والمطعم بنكهة حرارة أواخر أيام الصيف التي ، على ما يبدو ، طاب لها الاسترسال في البقاء ، تسللت عتمة لا تفتقر إلا إلى الشموع لتكتمل إنارة المكان ..... وسط هذا الجو الفريد، دلفت إلى شرفة مكتب
الترجمة وتدريس اللغات الأوربية ، كهلة في خريف عمرها ، تصحبها شابة خيل للأستاذ المحاضر بأنها ابنتها او
زوجة ابنها او جارتها . وللتو ، توقع آن يكون غرض زيارتهما له هو ترجمة مستمسكاتهما الرسمية . بيد آن حدسه
اخطأ هذه المرة .
رحب بهما حسب الأصول ورجا تلميذه الموهوب جداً ، محمد السليفاني ، آن يضيفهما، لكنهما اعتذرتا شاكرتين . وفجأة رن جرس الهاتف الذي يبعد بضعة أمتار عن الشرفة . فاعتذر منهما كي يرد عليه ، فيما اكمل الحوار معهما فني الكهرباء، آبو علاء ، الذي تزامن وجوده معهما وقتذاك . وبعد دقائق معدودة عاد إليهما، فإذا بالسيدة وقد اندمجت في حوارٍ شيق معمق مع آبى علاء ، كأنهما أصحاب منذ أعوام ، إلا أن عيني الشابة أوحتا له وكأن لسان حالهما يقول :
- "لقد أطلت الغياب ، يا أستاذ!"
أحس بأن ثمة خيطاً روحياً دقيقاً شده إليها فجأة ، مما جعله تواقاً لاماطة اللثام عن كنهه . وعرف من ملامح وجهها بأنها شابة ، ثلاثينية العمر ، طافحة بالأنوثة المتقدة والحيوية المتدفقة ، والغارقة بالآمال والطموحات . وربما كانت تنحدر من أسرة مرموقة . كان اللون العسلي الداكن يطغى على عينيها المؤطرتين بكحل أحسن اختياره واللتين شع منهما وميض خافت لحزن دفين يكاد لا يفارقها . وكان يبدو أنها أمضت وقتاً ليس بالقصير في العناية بمكياج وجهها رغم أنه نضر ومعبر . على أن شعرها الذهبي الأملس انساب بدلع على كتفيها الرقيقين ، فيما زين الاسم (نادية) بالحروف الإنكليزية المجسمة عنقها البرونزي ، إذ كان يبدو أنه مصنوعٌ من الذهب الخالص ، عيار (21) ، أو هكذا خيل له . لقد وفر عليه هذا الاسم كثيراً من العناء ، كما اختزل الكثير من الأسئلة والوقت إذ بادرها قائلاً :
- "آهلا ، ست نادية ."
فوجئت بهذه التحية ثم قالت :
- "لابد أنك تعرفني ؟"
- "وأخالك تحبذين اللغة الإنكليزية، أليس كذلك؟ "
- "كيف عرفت ؟"
- "احزري ."
وهنا قطعت السيدة حوارها مع فني الكهرباء ومضت تقول :
- "لابد وأن الموظف الذي دلنا عليك أعطاك فكرة عنها !"
- "ومن يكون هذا الموظف ؟"
- "انه مسؤول دائرة البريد في حينا والمكنى بالسيد (م¬) ."
أجابها قائلاً :
- "كلا ، يا سيدتي . فاسم نادية يزين عنقها . وبما أنه مثبت باللغة الأجنبية . إذن لابد وأنها ميالة لتلك اللغة ."
أجابته السيدة قائلة :
- "أحسنت ، وهي كذلك ." ثم أردفت تقول :
- "إن السيد ، (م) أشاد بك كثيراً جداً ، ناهيك عن إشادته بإمكانياتك التدريسية الهائلة . ولهذا وجدتنا في مكتبك كي نبرم الاتفاق معك على عملية التدريس بكل تفاصيلها . وبدءاً أقول إنني أمها . وقد كرست كل حياتي، خصوصاً بعد وفاة والدها لأجلها، ولأجل شقيقتها المتزوجة والمقيمة في (...........) ، إضافة إلى ابني الوحيد (......................) ."
شرع يسألها أسئلة عامة ، إلا أن أمها كانت تجيب بدلا عنها ، مما دفعه الفضول إلى الاستفسار منها قائلاً :
- "هل سأدرسك أم سأدرسها ؟"
عاجلته بالإجابة قائلة :
- "لقد أحرجني تلعثمها في أجابتك ، مما حداني إلى حسم الموضوع ، والإجابة بدلاً عنها ."
سألها :
- "بما أنكما متفقتان على تدريسي نادية مادة اللغة الإنكليزية ، أليس الأجدر أن أطلب منها تقديم نفسها بنفسها وباللغة الأجنبية ذاتها ؟ آذن، دعيها تعبر كما تشاء كي أعرف من أين أنطلق في تدريسها ."
أرخت نادية العنان لأفكارها كي تتدفق بحذر أنثوي لبق، وقد تورد وجهها الناصع البياض، وهي ترفع بشكل لاشعوري يدها اليمنى المثقلة بثلاثة أساور من العيار الثقيل ذهبا، ومحبس فخم تلألأ مستقرا في إصبعها الوسطى، لتزيح شعرات تدلت بجاذبية على وجهها الفواح، وهي تتحدث بلغة العم سام:
- "إنني ........ ولدت بتاريخ ........ في مدينة ........ واحمل درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية ........ بجامعة ........ "
قاطعها قائلاً :
- "أتمزحين يا نادية ؟ أنت زميلتنا. ماذا سأضيف لك ؟ بإمكانك تطوير مهاراتك اللغوية الحالية بالاستعانة بالكتب والقواميس والأقراص الليزرية والحاسبة ."
استجمعت الأم أفكارها ومضت تقول:
-"قم أنت مقام ما ذكرت ، يا أستاذ . وليكن الغد اليوم الأول للشروع بتنفيذ المهمة."
X X X X X X
تسارعت عقارب الساعة بشكل غير مألوف، فإذا بشمس الخميس تسطع، والأستاذ مشدوه بالعينة الأنثوية الملفتة للنظر، وعلامات الاستفهام ما برحت تتراقص في مخيلته، وأخماسه تضرب بأسداسه، وكأن نادية، بسحنتها الدافئة، وطولها المعتدل، ومشيتها الأنيقة، بقوامها الممشوق، شاخصة أمام عينيه. لقد كان يبدو وكأنه انقلب، بقدرة قادر، من مدرس إلى أديب يقتنص المفردات البلاغية المعبرة، ويهيم في بحر من الخيال بقارب ضاع مجدافاه. كان يسأل نفسه ثم سرعان ما يجيب:
-"اسمها الثلاثي هو (................). إذن فهي، بلاشك، مسلمة. لكن صورة القديس ............ المثبتة على ساعتها التراثية الواسعة، التي طوقت معصمها، حلت اللغز بسرعة، وأضفت جوا بانوراميا أخاذا عنها أماط اللثام لاسيما عن أناملها التي شع منها لون خمري بهيج ، فيما استقر في بنصرها محبس ذهبي تعلوه الفصوص الثمينة.
دنا موعد المحاضرة، وتطلع المحاضر إلى الساعة الجدارية ، فإذا بها تمام التاسعة والنصف صباحا. ولفرط دهشته فاح عطر باريسي مركـز، أعقبه وقع أقدام تناغمت مع نوتة موسيقية شجية. وإذا به أمام أنثى متكاملة.
حيته، فرد عليها بأحسن منها. ثم أخذت مكانها. وهكذا بدا الحوار:
-"اسمك الثلاثي واللقب."
-".................................................. ..."
لفت نظره لقبها، وتأكد بأنها مسيحية. ثم أردف يقول:
" أي متكلم لا يجيد اللغة لا بممارستها. و ............................................."
قاطعته، مستأذنة:
"اجل . ذلك صحيح، يا أستاذ ."
"إذن ، لنبدأ المحاضرة. حدثيني عن نفسك ، هواياتك ، طموحاتك، شهاداتك ، نشاطاتك ، ممارستك . تحدثي عن كل شي بانسيابية وبدون تكلف. ودعيني أصحح أخطاءك اللغوية، ومن خلاله يتعمق الحوار ."
تحدثت عن كل شي، وهو يصحح حينا ويضيف لها أحيانا . كان يدون، على غير عادته ، أفكارها ، ويستنبط الأسئلة كأنه في جلسة تحليل نفسي. ويبدو آن الأسلوب التربوي الصارم نوعا ما راق للطالبة الطموحة، بحيث راحت تجزل العطاء في البوح عن مكوناتها بلا تحفظ ، يحدوها الأمل في إتقان التعبير. وقد بادلها المشاعر بصدق ، فأنشدت إليه وكأن عقدة لسانها قد حُلت ، وكأن عقلها الباطن قد وجد الفرصة كي يبوح بما يعتمل في أعماقه طارحاً خزينه المتراكم من التساؤلات على طاولة الدراسة .
انتهت المحاضرة الأولى وتأبطت أوراقها وتأملت واجبها البيتي وانصرفت مباشرة إلى عملها ، كطباعة كومبيوتر في مكتب ........... .
لقد كانت الابتسامة العريضة مرتسمة على محياها ، وبريق عينيها يبعث الإشارة على أن كل شيء سار على ما يرام في بحر تسعين دقيقة . وهكذا توالت المحاضرات بانتظام . وسجل الكورس غيابين فقط بعذر : الأول حين داهمها مرض الأنفلونزا ، والثاني حين اضطرت لقضاء أمور منزلية ملحة . كانت الخطوط البيانية للمحاضر تسجل استقراراً في مواظبتها وسلوكها . وكانت مثالية في استجابتها لواجباتها البيتية . لقد أثبتت أنوثتها الرقيقة وطموحها اللامحدود عبر ساعات الدراسة المحدودة .
وعبر ساعات الكورس المتواصلة، تجسد الوجه الآخر لنادية، في كونها تكره القيود، وتحب الحرية، وتتوق إلى الانعتاق. ومن سياق إجاباتها توصل المحاضر إلى أنها كانت تحب الحفلات والاختلاط، وتعشق الديبلوماسية والأتيكيت . كما كانت تقدس العمل بحيث كان لسان حالها يردد :
-"يجب على كل الفتيات العمل حتى ولو امتلكن كنوز الدنيا. فسر نضرتهن يكمن في عملهن."
ولعل أطرف ما ميزها بالبراءة والعفوية عدم خلو حقيبتها من الحلوى وقطع الشكولاته، التي كانت تقدمها للأطفال متى ما تواجدوا مع ذويهم في المكتب.
كانت لا تجيد سوى الابتسامة لغة للتعبير، بحبال صوتية ناعمة لا تخدش طبلة الأذن، فيما وظفت عينيها للإجابات التي لا تتطلب طويل وقت.
لقد أضحت شغوفة برفد ذاكرتها الطفولية البريئة بكل المفردات الإنكليزية المثيرة التي لم تسمع بها عندما كانت على مقاعد الدراسة، كما كانت تواقة في اقتناص التعبيرات الشبابية المعاصرة وتدوينها. لقد كانت أشبه بالأيقونة في سكونها إذ كانت تسمع اكثر مما تتكلم مؤمنة بالقول المأثور:
-" إذا كان الكلام من فضة ، فالسكوت من ذهب. "