المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كرمة علي الساقية التي صارت نهرا



كاظم فنجان الحمامي
13/09/2010, 01:19 AM
كرمة علي
الساقية التي صارت نهرا


كاظم فنجان الحمامي

يعد نهر (كرمة علي) اليوم من أكبر أنهار البصرة بعد شط العرب, بل انه صار أعمق منه بكثير, وربما صارت مياهه أعمق من مياه ميناء البصرة النفطي الواقع في خور الخفقة, واغلب الظن أن معظم سكان شمال البصرة لا يعلمون أن هذا النهر العظيم كان قبل أقل من قرنين من الزمان مجرد ساقية صغيرة متعرجة ضيقة, يتقافز الأطفال بين جنباتها, ويعبرها الناس مشيا على الأقدام من دون عناء, ومن دون حاجة إلى أي قنطرة من تلك القناطر الريفية المصنوعة من جذوع النخيل, لكنها أبت إلا أن تتمدد وتتسع لتصبح نهرا عظيما متميزا بأعماقه السحيقة, وتياراته الجارفة, ومتباهيا بكثرة جسوره وتنوعها, حتى ازدانت ضفافه مع الأيام بجسوره الخشبية القديمة المصنوعة من خشب الساج, وأخرى عائمة, وثالثة ورابعة خرسانية عملاقة, وصارت ضفافه مركزا للعلوم والفنون والآداب بعد أن اختارته رئاسة جامعة البصرة مستقرا لها ولأقسامها التخصصية ورياضها الإبداعية, وصار حوضه محطة لأكبر الأكاديميات البحرية في عموم الخليج, وملاذا لأكبر توربينات توليد الطاقة الكهربائية.
http://www14.0zz0.com/2010/09/12/21/403130544.jpg (http://www.0zz0.com)
كانت أكتافه مأوى لمدرج أول المطارات الدولية في البصرة, ثم صارت مقترباته ملاذا لأحدث مدارج مطاراتها المعاصرة, وأصبحت منعطفاته حاضنة وارفة الظلال لأقدم وأروع فنادقها ومسابحها ومنتجعاتها ونواديها وجزرها.

من كان يصدق أن الساقية التي أمر بحفرها الشيخ علي السعدون عام 1830, وحملت اسمه, ستصبح نهرا عظيما يستحوذ على حصة الأسد من مياه الفرات, ومن كان يتخيل أن هذا النهر سيتمرد في خصاله النهرية والهيدروليكية والتصريفية ليتآمر على نقطة اقتران دجلة بالفرات في القرنة, فيستبدلها بملتقيات جديدة عند أقدام جزيرة المحمودية (السندباد), ويربط مصيره بمجرى شط البصرة ليختزل المسافة إلى البحر عن طريق خور الزبير, ويتمرد مرة أخرى ليحاذي مجرى المصب العام, ويجاور نهر (العِزْ), ويلتف حول قرية (حرير), القرية التي ينتسب إليها الأديب البصري الكبير (ذو البلاغتين أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري), صاحب المقامات, التي بلغ بها أعلى المقامات, وكان أمام عصره في الأدب والنظم والشعر.
http://www3.0zz0.com/2010/09/12/21/482293472.jpg (http://www.0zz0.com)
(الكرمة) في لهجة جنوب العراق هي الساقية, أو الترعة, أو الجدول الصغير, وشاءت الصدف أن أتلقى رسالة الكترونية من أخي الكبير الكابتن والشيخ فهمي بن حمود السعدون يحدثني فيها عن تاريخ هذه الساقية (الكرمة), التي حفرها جده السادس (علي بن ثامر بن سعدون الكبير), اثناء حصار الزبير عام 1830, ومؤازرته لأمير قبائل المنتفك حينذاك (الشيخ عيسى بن محمد السعدون), وهو ابن شقيق الشيخ علي بن ثامر, فبادر الشيخ علي السعدون بشق ترعة من جنوب غرب هور الحمار إلى شط العرب, لترتوي منها خيول جحافل المنتفك المشاركة في حصار مدينة الزبير, الذي دام لأكثر من ستة أشهر, وشاءت الأقدار أن يُقتل الشيخ علي وأبن أخيه (هزاع بن فارس) في ذلك الحصار, وما أن استسلمت المدينة المحاصرة لحشود المنتفك, حتى اقتحموا قصور المدينة, وقتلوا صبرا ستة من شيوخ عائلة الزهير.
والشيخ علي بن ثامر من طليعة أمراء قبيلة المنتفك وفحول شعرائها, وله عدة قصائد, نذكر منها قصيدته النبطية, التي قالها عام 1813 في رثاء شقيقه الشيخ عبد المحسن بن ثامر, الذي قُتل في معركة (غليوين) على مشارف بغداد, ويقول فيها:
ركضنا عليهم ركضة هاشمية
وراحت تناحي بالعوالي صدورها
غدا ذاك مذبوح والآخر مخلا
وهذاك حقّ للحدا مع نسورها
وليناهم وطابت بهم نفس لابتي
ليا عاد أبو برغش حماها وسورها
لمن خاب ذاك اليوم منّا ومنهم
رايات سودٍ تنتشر في نشورها
لفتنا ربيعة وابن جشعم ولامها
معا عسكر الدولة وجملة حضورها
ومعهم عقيل والقبايل جميعها
واللي بقلبة حسفةٍ جا يدورها
http://www14.0zz0.com/2010/09/12/21/924332688.jpg (http://www.0zz0.com)
ومن نافلة القول نذكر أن الشيخ علي بن ثامر السعدون هو جد رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد المحسن بن فهد بن علي بن ثامر السعدون, الذي أطلقت الحكومات اللاحقة اسمه على أكبر شوارع العاصمة بغداد (شارع السعدون), وزينته بنصب تذكاري لهذا الرجل الوطني الصادق, وكان رحمه الله من مواليد الناصرية عام 1889, ومن المناوئين للاحتلال البريطاني للعراق, وشارك في المقاومة المسلحة ضد قوات الجنرال (مود), وتقلد أربع وزارات, لكنه وصل إلى نهاية النفق السياسي المسدود, ورفض أن يخون شعبه وعقيدته, فقرر أن يكون رمزا لأول سياسي عراقي أدرك عمق التناقض في التوفيق بين قوة الاحتلال وإرادة الاستقلال, فكانت حياته ثمنا لإدراكه هذه الحقيقة المرة.
http://www10.0zz0.com/2010/09/12/21/821067063.jpg (http://www.0zz0.com)

غادرنا عبد المحسن السعدون وترك لنا سجلا وطنيا مشرفا, ورحل قبله جده الشيخ علي السعدون فترك لنا نهرا زاخرا بالعطايا والخيرات, وشريانا متدفقا بالخصب والجمال والثراء والأمل.

علي الكرية
13/09/2010, 03:17 AM
بارك الله فيك أستاذي الفاضل.
أنا زرت العراق،
وكذالك البصرة وجلست كثير على ضفاف،هذا النهر.(كرمة علي).
ولكن ما عرفت هذه الحقيقة التارخية إلااليوم والأن.
فشكرا جزيلا لك أخي وأستاذي العزيز كاظم فنجان الحمامي.

كاظم فنجان الحمامي
14/09/2010, 12:15 AM
شكرا لك يا عزيزي علي الكرية
على هذه المتابعة الحثيثة
وكل عام وأنت والعائلة الكريمة بألف ألف خير


كاظم الحمامي

أريج عبد الله
14/09/2010, 05:14 PM
هذا هو العراق العظيم لاينضّب من أهلهِ الطيبين ,كلُّ شيئ في العراق
ينطق بقدرةٍ من الله, ويتوارث!! الوطنيون يتوارثون الوطنية, والأنهار تختصر الزمن
والنخيل شامخ لاينحني, والأرض كلها معادن نفيسة وموطن لأربعين نبي.
وقلمك الذهبي سيدي الفاضل يرفدنا بأجمل المواضيع.
دمتَ زاهياً بكتاباتك الجميلة
أختك أريج العراق

أحمد المدهون
15/09/2010, 08:02 PM
الأستاذ كاظم الحمامي
هكذا العراق دوماً، ينبض بالحياة، ولا يموت.
معلومات أقرأها للمرة الأولى، وأرى أن هناك قصوراً شديداً في حق العراق وأهله


رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد المحسن بن فهد بن علي بن ثامر السعدون, الذي أطلقت الحكومات اللاحقة اسمه على أكبر شوارع العاصمة بغداد (شارع السعدون), وزينته بنصب تذكاري لهذا الرجل الوطني الصادق, وكان رحمه الله من مواليد الناصرية عام 1889, ومن المناوئين للاحتلال البريطاني للعراق, وشارك في المقاومة المسلحة ضد قوات الجنرال (مود), وتقلد أربع وزارات, لكنه وصل إلى نهاية النفق السياسي المسدود, ورفض أن يخون شعبه وعقيدته, فقرر أن يكون رمزا لأول سياسي عراقي أدرك عمق التناقض في التوفيق بين قوة الاحتلال وإرادة الاستقلال, فكانت حياته ثمنا لإدراكه هذه الحقيقة المرة.

الله يكثر من أمثاله، في خدمة العراق نظيفاً من الدخلاء والمأجورين.

تحياتي