قحطان فؤاد الخطيب
16/10/2006, 07:54 PM
الحمير الجامحــة
ما أن لاحت تباشير الغسق حتى أصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين . وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير ، كعادتهم ، يتقاطرون الواحد تلو الآخر : هذا بدشداشة أكل عليها الدهر وشرب ، وذاك بسترة مقطعة الأزرار ، غير آبه بحرارة تموز ، وثالث ما أنفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......
أجساد متعبة ، يكسو رؤوسها شعر ناصع البياض . وترتسم على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً ولسان حالها أوشك أن يقول ..... نحن في خريف العمر ، ولكن ..... !
كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد ، بيد انهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا. أو هكذا أوحت طروحاتهم الصبيانية ، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في احلام يقظة. او قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول !
لقد جمعت بينهم خيوط عديدة ، لعل أبرزها : إحالتهم على المعاش ، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد ، وشغفهم اللامحدود بلعبة الدومينو بمدخولات جد بائسة وضيقة . فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية ، إضافة الى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم ، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه ، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و............................
لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش : (خمس استكانات شاي سنكين) . وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم. وقد تحسبني من رواد المقهى مثلهم ، المدمنين ، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى ، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء .
وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون أخر ، لدرجة تخالهم وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !
لقد اجتمعت فيهم المهن كافة : فهذا معلم ، وذاك محام ، وثالث مهندس وعامل . فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا . بيد ان قاسما مشتركاً اعظماً جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!
ويبدو انهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً . وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي وهي تصدح في أذني والتي طالما رددها أبي قائلا :
- " يا ولدي . أنت في العاشرة من العمر. أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير. اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك. أصغ الى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب !"
لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي ، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني ، يحدوني الأمل في أقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون طروحاتهم ، الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف ، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام . وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير .
لقد كان شهراً تموزياً مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم ، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين :
-" يا حسن . تعال وسجل لنا. وثمن شايك مدفوع عنك سلفا. "
أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي . واندمجوا في لعبتهم الروتينية . وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً ، السيد (ع) يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ ، لم يلفت نظر أحد سواي. فقد انصب جام تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه ، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ الى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم .
" المسألة جد سهلة . " قال الراوي الخبيث . " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً . ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر . رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين
متتاليين . بعدها ، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الآوربيين هذه الوصفة السحرية . وبقدرة قادر أضحوا صبياناً . أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة . "
أستهوت السيد (ع) هذه الوصفة من رجل ، كما يبدو ، مجرب . وشده الرقم (مئات) والكلمة (آوربيين) . وسال لعابه . وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب ، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهري الأفواه ، مشدوهين . لقد أراد أكبرهم سناً أستيضاح الأمر من الخبيث ، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه .
وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة . وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة ، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه . وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي . وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بضمنهم سادسهم ، مسجل الألعاب . وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت . لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم الى صباهم ، تصور ......... !
ومضوا يضربون أخماساً بأسداس . " إذا تكللت المحاولة بالنجاح ، " يقول (م) " سوف أتزوج ! . " ويسخر منه (ل) قائلاً : " قبل أيام ودعت عقدك السابع . فمن يا ترى ، سعيدة الحظ ترضى بك ؟! "
أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب اليها الآن ، وأهديها رقية ، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة . " صاح آخر وهو يمضغ الجملة . " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة ، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً . سأطبق التعليمات بحذافيرها . عمتم مساءاً "
أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي ، يحدوهم الأمل برجوع الشباب اليهم ، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم .
لقد حاولوا المضي ، على غير عادتهم ، للعودة الى بيوتهم مبكراً ، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم ، حالمين وهم في مطبخ الدار يتحركون بحركات مشوبة بالأنفعال والترقب ، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأواني لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية متقيدين بأدق تفاصيلها ، وهم يقرأون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم . أختلطت عليهم الأمور وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع . الآن هم حقاً تائهون .
في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها . وتمادى في أطرائها معززاً أياها بالأرقام والأحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !
وكاد الفضول يدفعهم لأستيضاح المزيد . إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك . وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ، وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن الى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .
في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر ، يحدق شمالاً ويميناً ، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث الى أن التأمت المجموعة بإستثناء الخبيث .
وهنا ألمح أحدهم ثانية الى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف . فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء . ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسؤول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس) ، فهو طريح الفراش ، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة . ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم ! "
فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً : " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على اتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "
أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . أنني أعاني الآن من مغص شديد . نحن حمير جامحة ليس إلا . ذخيرتنا خلبية . وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام عوائلنا وأنفسنا . "
بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً : " كيف صدقناه ومضغنا قشور
الرقي ؟ واحسرتاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... الى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والأنفعال والألم .
" أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم ، الحادي عشر من تموز 1965 ، مهما كانت
الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! ."
ما أن لاحت تباشير الغسق حتى أصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين . وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير ، كعادتهم ، يتقاطرون الواحد تلو الآخر : هذا بدشداشة أكل عليها الدهر وشرب ، وذاك بسترة مقطعة الأزرار ، غير آبه بحرارة تموز ، وثالث ما أنفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......
أجساد متعبة ، يكسو رؤوسها شعر ناصع البياض . وترتسم على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً ولسان حالها أوشك أن يقول ..... نحن في خريف العمر ، ولكن ..... !
كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد ، بيد انهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا. أو هكذا أوحت طروحاتهم الصبيانية ، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في احلام يقظة. او قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول !
لقد جمعت بينهم خيوط عديدة ، لعل أبرزها : إحالتهم على المعاش ، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد ، وشغفهم اللامحدود بلعبة الدومينو بمدخولات جد بائسة وضيقة . فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية ، إضافة الى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم ، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه ، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و............................
لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش : (خمس استكانات شاي سنكين) . وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم. وقد تحسبني من رواد المقهى مثلهم ، المدمنين ، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى ، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء .
وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون أخر ، لدرجة تخالهم وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !
لقد اجتمعت فيهم المهن كافة : فهذا معلم ، وذاك محام ، وثالث مهندس وعامل . فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا . بيد ان قاسما مشتركاً اعظماً جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!
ويبدو انهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً . وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي وهي تصدح في أذني والتي طالما رددها أبي قائلا :
- " يا ولدي . أنت في العاشرة من العمر. أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير. اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك. أصغ الى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب !"
لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي ، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني ، يحدوني الأمل في أقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون طروحاتهم ، الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف ، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام . وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير .
لقد كان شهراً تموزياً مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم ، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين :
-" يا حسن . تعال وسجل لنا. وثمن شايك مدفوع عنك سلفا. "
أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي . واندمجوا في لعبتهم الروتينية . وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً ، السيد (ع) يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ ، لم يلفت نظر أحد سواي. فقد انصب جام تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه ، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ الى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم .
" المسألة جد سهلة . " قال الراوي الخبيث . " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً . ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر . رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين
متتاليين . بعدها ، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الآوربيين هذه الوصفة السحرية . وبقدرة قادر أضحوا صبياناً . أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة . "
أستهوت السيد (ع) هذه الوصفة من رجل ، كما يبدو ، مجرب . وشده الرقم (مئات) والكلمة (آوربيين) . وسال لعابه . وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب ، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهري الأفواه ، مشدوهين . لقد أراد أكبرهم سناً أستيضاح الأمر من الخبيث ، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه .
وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة . وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة ، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه . وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي . وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بضمنهم سادسهم ، مسجل الألعاب . وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت . لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم الى صباهم ، تصور ......... !
ومضوا يضربون أخماساً بأسداس . " إذا تكللت المحاولة بالنجاح ، " يقول (م) " سوف أتزوج ! . " ويسخر منه (ل) قائلاً : " قبل أيام ودعت عقدك السابع . فمن يا ترى ، سعيدة الحظ ترضى بك ؟! "
أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب اليها الآن ، وأهديها رقية ، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة . " صاح آخر وهو يمضغ الجملة . " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة ، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً . سأطبق التعليمات بحذافيرها . عمتم مساءاً "
أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي ، يحدوهم الأمل برجوع الشباب اليهم ، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم .
لقد حاولوا المضي ، على غير عادتهم ، للعودة الى بيوتهم مبكراً ، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم ، حالمين وهم في مطبخ الدار يتحركون بحركات مشوبة بالأنفعال والترقب ، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأواني لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية متقيدين بأدق تفاصيلها ، وهم يقرأون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم . أختلطت عليهم الأمور وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع . الآن هم حقاً تائهون .
في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها . وتمادى في أطرائها معززاً أياها بالأرقام والأحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !
وكاد الفضول يدفعهم لأستيضاح المزيد . إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك . وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ، وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن الى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .
في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر ، يحدق شمالاً ويميناً ، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث الى أن التأمت المجموعة بإستثناء الخبيث .
وهنا ألمح أحدهم ثانية الى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف . فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء . ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسؤول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس) ، فهو طريح الفراش ، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة . ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم ! "
فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً : " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على اتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "
أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . أنني أعاني الآن من مغص شديد . نحن حمير جامحة ليس إلا . ذخيرتنا خلبية . وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام عوائلنا وأنفسنا . "
بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً : " كيف صدقناه ومضغنا قشور
الرقي ؟ واحسرتاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... الى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والأنفعال والألم .
" أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم ، الحادي عشر من تموز 1965 ، مهما كانت
الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! ."