المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاص المصري محمد فؤاد منصور



مسلك ميمون
29/09/2010, 03:56 AM
قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقـاص المصــري د محمد فؤاد منصور

http://www.syrianstory.com/images/images3/m.manssore.JPG

د. محمد فؤاد منصور

يقول القاص عن نفسه :

''إذا أردت التعريف بنفسي في عجالة ، أقول إنني احد أبناء الثورة المصرية التي غيرت التاريخ المصري الحديث بعهد جديد يبشر بمجتمع الكفاية والعدل ، لذلك تفتحت عيناي على منجزات الثورة ، فآمنت بها وتبنيت قضاياها ، أحببت القراءة منذ الصغر وجذبني بشكل خاص فن الحكي والقصة ، فصرت قارئاً نهماً لكل ما ينتجه كبار هذا الفن ، أسعدني الحظ أن أحضر ندوات كثيرة لهم فاقتربت أكثر من أفكارهم ، وجمعتني صداقة بالكاتب الكبير ثروت أباظة في ستينات القرن الماضي ، واستخلصت من أيدي الزمن رسالة من رسائله إليّ وصورة شخصية له عليها توقيعه أهداني إياها فصارت أعز مقتنياتي ، كان أول من ناداني بالأستاذ وأنا دون الثامنة عشر فكان ذلك مبعث زهو لي ..
دراسة الطب عطلتني كثيراً فقد كنت أدرسه بالانجليزية التي لم أدرسها بشكل منتظم أصلاً وكنت دارساً للفرنسية كلغة ثانية فكان لابد أن أهجر كارهاً كل ما يعطل بناء مستقبلي أو يؤثر على تحصيلي لدروسي ، وانخرطت في حياة عملية طويلة سافرت خلالها لأكثر من بلد ساهمت في إبعادي عن عشقي الأول أكثر ، وحين تهيأ لي الوقت والظروف وتفتح العالم الافتراضي السحري ليضمني بين أحضانه عاد الحنين والعشق القديم يهزني من الداخل لأصل من انقطع ، أشارك بقصصي في كثير من مواقع العالم الافتراضي ..
أعتبر نفسي من جيل قديم يرى القصة كما كان يراها أساتذتنا الأوائل ، حكاية تحمل رسالة وتقدم هدفاً يرتقي بمدارك الناس ويعطيهم خبرة حياة أو مواعظ تنفعهم ، هو جيل المطولات والسرد لتحقيق الإمتاع للقارئ من خلال إثارة فضوله لمشاركة أبطال القصة همومهم .
القصة القصيرة جداً ، مازلت أراها كياناً هلامياً غير محدد المعالم ، ومختلف عليه في الغالب ، فهي تعتمد على التكثيف بحيث لا يكون هناك لفظ زائد أو مكرر أو لا ضرورة له ، مع لغة شاعرية تعتمد على انتقاء اللفظ المعبر ، ثم نهاية صاعقة أو مدهشة للقارئ بحيث تهزه هزاً إن أمكن ، وفضلاً عن كل ذلك فهي عمل إبداعي يشترك فيه الكاتب والقارئ ، ومن هنا تكون للقصة الواحدة أكثر من قراءة بحسب ثقافة وطبيعة تكوين كل شخص يقرأها، ولابد أن تحمل روح الحكي لكي يكون لها جواز مرور إلى عالم القصة الذي ستحمل اسمه .. هذه تقريباً في ظني مقومات القصة القصيرة جداً .. وهي قد تبدو سهلة للوهلة الأولى لكنها في الحقيقة بحر عميق الأغوار وليست " كلمتين والسلام" فما أكثر النكات و القفشات التي قدمها أصحابها كقصة قصيرة جداً بينما هي ليست أكثر من نكتة مضحكة تحمل مفارقة النكتة لا دهشة ومفاجأة القصة ..
هذا الفن الجديد مايزال محل شد وجذب بين فقهاء القصة، فأنت إن ضمنت شاعرية اللغة ، قصرت في القص، وإن التزمت القص ضيعت التكثيف ، وإن تحريت التكثيف فارقتك الدهشة وهكذا ، وقليلة هي النصوص التي تنجح في ضم كل هذه العناصر معاً و ما نراه من قصص قصيرة جداً ليست سوى محاولات لفتح آفاق جديدة لنقول أشياء كثيرة لقارئ متعجل يحدثك وعينه على الساعة وربما يكون قد بدأ في التثاؤب.
لذلك أعتبر أن ما أقوم به في هذا المجال ليس أكثر من محاولات تجريبية للولوج إلى عالم القص القصير جداً البالغ التكثيف، وربما الومضة التي تعتمد الإشارة السريعة لفكرة ما دون سردها ومصمصتها والتلذذ بأصلها وفصلها ..
لكم التحية ..

د. محمد فؤاد منصور



*

1- تغييـــــر

جمع الزّعيم كبار مستشاريه، قال إنّه قد وصلته مطالبات الناس بالتّغيير وإنّه لا ينبغي أن يبقى في الحكم إلى الأبد ولهذا يفكر في تغيير الدستور ليتيح تداول السّلطة.
قال الوزير الأول..ولكن المائة مليون مواطن ليس بينهم من هو في حكمتك وحنكتك وقدرتك على إدارة شئون البلاد،فكيف تترك البلاد لمصير مجهول.؟
هزّ الزعيم رأسه وقال : إنّها ضريبة الديمقراطية ،وعلينا أن ندفعها كاملة ..ستكون الرئاسة في الدستور الجديد لفترتين فقط، على أن تكون كلّ فترة ثلاثين عاماً.

'' تغيير '' ق ق ج ذات تيمة سياسية. تحاول تسليط الضوء على السلطة و القائمين عليها في بلد عدد سكانه مائة مليون ، يطالبون بالتّغيير و تداول السّلطة. يحسّ الحاكم برغبة الشّعب . لهذا فكر في تغيير الدستور. و لكن الوزير الأول الذي ألف حكم الحاكم ، و تمتع في آلائه و تعمه لم يرحب بالفكرة . خشية أن تزول أيّام النّعيم و المجد ..فنصح الحاكم بألا أحد يستطيع أن يعوضه و أن البلاد بدونه ستتجه نحو المجهول . فأعلن الحاكم بأنّها ضريبة الديمقراطية فاعتقد أن الحاكم قد رضخ للأمر الواقع . غير أنّ النهاية ( القفلة ) أبانت عن نيته التي هي نية الحكام اللا ديمقراطيين،و الذين وصلوا إلى سدّة الحكم، بطرائق شتّى،لا تخلو من تزوير و خداع ..و ربّما انقلابات دموية .إذ قال لوزيره الأوّل بما طمأنه:(ستكون الرئاسة في الدستور الجديد لفترتين فقط، على أن تكون كل فترة ثلاثون عاماً. )بمعنى حتّى إذا كان الرضوخ لمطلب الشّعب، ينبغي ألا يضيع نصيب الحاكم ، بل أن يستأثر به كاملا،و بطريقة ديمقراطية.عمادها الانتخابات الحرّة ، التي تزوَّر صناديقُها، و يُتلاعب بأصواتها ..
1 ـ النص صيغ بلغة القصّة القصيرة . التي تتسع للجمل الخبرية ، و بعض الحشو المتمثل في الجمـل التّفسيرية التّوضيحية . أمّا لغة الق ق ج فتختلف كلياً . فهي جمل قصيرة ، حافلة بالمعنى ، بعيدة الدلالة ، تعني الشيء و ما بعده. و تسمح بالتّأويل و تعدد القراءات .. بمعنى أنّها ليست جمل التمثلات الدّلالية. représentation sémantique و اللّغة المعيارية ، بل في أغلبها ينبغي أن تكون جمـلا تحظى بنصيب من الإبداعية créativité لتعطي النّص بعداً من التّكثيف الفنّي .
2 ـ من أحسن ما في هذا النّص قفلته . لقد جاءت مفاجئة . و أعطت بعداً من التّأكيد ، و الثّبوت ألا تغيير في ظل عقليات سلطوية متعفنة ،تعيش كالعلق على امتصاص دماء الآخرين . تتفانى في خدمة مصالحها الخاصّة ، و مصالح أتباعها . و لا يهمها خدمة الصّالح العام أبـداً .


*

2- عسكر و حرامية

نصف قرن مضى منذ كنّا مجموعة من الأطفال نلهو في الحارة ، نقسّم أنفسنا إلى ثلاث فرق ، العسكر و الحرامية والمتفرجين ،الحرامية يختبئون .. والعسكر يبحثون عنهم وإذا عثروا على أحدهم مختبئاً خلف سيارة ، أو وراء أحد الأبواب سحبوه من ساقيه إلى وسط الحارة ،وأوسعوه ضرباً ، بينما المتفرجون يضحكون . كبرنا كثيراً ، وولت أيّام البراءة والسّرور، تبعثرنا في أرجاء الأرض وضاقت أرزاقنا واتّسعت .. ومازلنا ثلاث فرق كما كنّا في زمن البراءة والحلم،غير أنّ العسكر اتفقوا مع الحرامية وأوسعونا ضرباً..بينما نضج بالصّراخ..
'' عسكر و حرامية '' ق ق ج لا تخلو من سياسة و تلميح ، استلهمت من لعبة الطفولة . و لكن اللّعبة امتدت في النّص فأصبحت لعبة الكبار، مع تغيير في الأدوار. فبعد أن كان المتفرجون الصّغار يتمتعون باللّعبة من خلال بحث العسكر، و ضربهم للحرامية بعد العثور عليهم . أصبح أمرهم مختلفاً في الكبر، إذ اتّحد ضدهم العسكر و الحرامية معاً، و أوسعوهم ضرباً.

فنيـــــا :

1 ـ نلاحظ توظيف اللّغة المباشرة كما في النّص الأوّل . مع كثير من الحشو الذي من الممكن أن يدركه القارئ بدون أن يكتب له.و إذا عدنا إلى النّص فكلّ ما هو بالأحمر حشو:
نصف قرن مضى منذ كنا مجموعة من الأطفال نلهو في الحارة ، نقسّم أنفسنا إلى ثلاث فرق ، العسكر و الحرامية والمتفرجين ،الحرامية يختبئون .. والعسكر يبحثون عنهم وإذا عثروا على أحدهم مختبئاً خلف سيارة ، أو وراء أحد الأبواب سحبوه من ساقيه إلى وسط الحارة وأوسعوه ضرباً ، بينما المتفرجون يضحكون .. كبرنا كثيراً ، وولت أيام البراءة والسرور، تبعثرنا في أرجاء الأرض وضاقت أرزاقنا واتسعت .. ومازلنا ثلاث فرق كما كنا في زمن البراءة والحلم، غير أن العسكر اتفقوا مع الحرامية وأوسعونا ضرباً..بينما نضج بالصراخ..
فيصبح النّص بعد التّهذيب :
'' كنّا نلهو في الحارة ، كعسكر ، و حرامية ، و متفرجين . الحرامية يختبئون ، و العسكر يبحثون عنهم ، و إذا عثروا على أحدهم سحبوه من ساقه إلى وسط الحارة ، و أوسعوه ضرباً ، بينما المتفرجون يضحكون . كبرنا كثيراً و ما زلنا ثلاث فرق كما كنّا. غير أنّ العسكر اتفقوا مع الحرامية ، و أوسعونا ضرباً . ''
2 ـ و ظف النّص الرمز :
العسكر : الأنظمة السياسية الفردية ،و الديكتاتورية الإستبدادية ،و الأنظمة العسكرية التي تسلّطت على بعض الشّعوب فحكمتها بالحديد و النّار . و أصبح ضباط الجيش يحمـون مصالحهم ، و يعملون على تقوية مواردهم و نفوذهم ، و الاعتناء يذويهم و التّابعين .. أمّا السّواد الأعظممن الشعب ، فقد أصبح ، آخر من يفكَر فيه، و في مصالحه .
الحرامية : سماسرة و خدم الأنظمة العسكرية ، و من يعملون ليل نهار ليدوم العسكر و حكمه . لتدوم لهم حرية الأخذ بغير محاسبة ، و التّصرف بغير مشاورة ، و الاغتناء بالنّهب و السّرقة ، و استغلال النّفوذ و المحسوبية ..فهم الوجه الثّاني للنّظام العسكري .
المتفرجون ، القوة الصّامتة ، و المغلوبة على أمرها ، تعاني من مساوئ النّظام و أذياله و حراسه . و لا تملك حق الدفاع أو المبادرة فكلّ عملها موسوم ب : المسّ بالأمن العام .
3 ـ القفلة جيدة ، و معبرة ، و مثيرة .. و يبدو أنّ القاص يولي القفلة عناية خاصّة .


*

3- قط أســـود

لمحته وأنا أهمّ بركوب سيارة الأجرة..ظهر للحظات كالوميض ثمّ اختفى، لكنّ صورته ظلّت تؤرقني ، ارتجف جسدي وأنا أتمتم " يا فتاح ..يا عليم"..عبثاً حاولت أن أقنع نفسي بأنّه في الغالب لم يكن قطاً حالك السواد، بل كان رمادياً صحوت من شرودي على صوت اصطدام السيارة بأخرى أمامها ، نزل السّائق وهو يصيح مزمجراً متوعداً ،غادرت السيارة وأكملت طريقي متخفياً بالجدران.
'' قط أسود'' نص يحيلنا على مسألة التّطير .و التّطير: هو التّشاؤم من مرئي أو مسموع . و قد عرف منذ القديم عند عرب الجاهلية، إذ كانوا يهيجون الطّير فإن طار يميناً تيمّنوا و ابتهجوا و يسمى ذلك ''بالسّائح ''. أمّا إذا طار يساراً تشاءموا وعادوا عمّا كانوا يزمعون فعله و يسمى ذلك '' بالبارح '' و قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : " التّطير هو الظّنّ السيئ الذي في القلب , والطيرة هي الفعل المرتب على الظن السيئ " ا.هـ عون المعبود 10/406
و أمر الطيرة منهي عليه لأنّه شرك . و في الشّعر نجد :
قال شاعر :
الزجر والطير والكهان كلّهـــــــم *** مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر :
وما عاجلات الطير تدنى من الفتى *** نجاحاً ولا عن ريثهن قصــور
وقال آخر :
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى *** ولا زاجرات الطير ما الله صانع
و يبدو أنّ بطل النّص من المتطيّرين.يتشاءم من القط الأسود ، أو من اللّون الأسود عموماً . فما أن رأى قطاً أسود اللّون ،حتّى شعر بأنّ صورته تؤرقه، ارتجف جسده، و استنجد بالخالق سبحانه و تعالى ( يا فتاح .. يا عليم ) و حاول أن يقنع نفسه بأنّ القط الذي رآه رمادياً و ليس أسودً ..و لكن أفاق من مغالطة نفسه باصطدام سيارة الأجرة التي كانت تقلّه بسيارة كانت تتقدمها. فدخلا السّائقان في شجار بينما البطل غادر سيارة الأجرة و أكمل طريقه متخفياً بالجدران .
الفكرة لا بأس بها . لأنّ المتطيرين المتشائمين لا زالوا لحد الآن رغم نهي الدين عن ذلك . و لكن طريقة العرض و الصياغة . جاءت لتؤكد ما هو منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم ( الطيرة شرك ) رواه ابن مسعود. إذ البطل تشاءم من القط الأسود ، فوقعت حادثة للسيارة التي كانت تقلّه .

فنيــــا :

1 ـ النّص وظف اللّغة المعيارية المباشرة . مستفيداً من واقعة قد تكون حقيقية.
2 ـ القفلـة جاءت من النّوع الذي يثير الأسئلة : (غادرت السيارة وأكملت طريقي متخفياً بالجدران.) هل لأنّه تشاءم من رؤية القط الأسود ،واعتقد أنّه السبب في الذي وقع ؟ هل غادر تشاؤماً من القط و السيارة و الحادثة ؟ هل غادر تجنباً لشجار السّائقين و ربّما ُيطلب للشهادة ؟ هل غادر لغرض في نفسه ؟ أسئلة تتناسل في ذهن القارئ ، و هذا جيد جميل .



*

4- لعبـــــة الألــــــــوان

قال الأبيض للأخضر ألسنا معاً نمثل النقاء والرخاء..؟ فما حاجتنا لضم لون الدّماء ؟ .. وما ضرورة اللّون الأسود الذي يشبه الليل الحالك ؟.. هجمت الألوان على بعضها ، فاختلط الأبيض والأخضر بالأحمر والأسود.. ضاع نقاء الألوان وفقدت ملامحها .. بينما علت في الأجواء قهقهات اللّون الأزرق.

'' لعبة الألوان '' نص رمزي ، يوظف الألوان و اختلافها ، و ما ترمز إليه ، و ما تنطوي عليه من دلالات، الألوان هنا ألوان العلم الفلسطيني و اختلاطها و فقدانها النقاء، رمز لخلاف الفصائل الفلسطينية ، و اللون الأزرق الضاحك رمز لعلم الصهاينة . و لكن ممكن أن تأخذ الألوان أبعاداً أخرى : ففي دراسة نفسية للدكتور : فريلنينج ببافاريا الشمالية ،والذي يعتبر أشهر طبيب نفساني في العالم يستخدم الألوان في العلاج، أثبت أنّ اللّون الأخضر يهدئ ضربات القلب ، ويساعد على تحسين الدّورة الدّموية ، وقد قام في أحد تجاربه بطلاء جدران بعض المصانع التي تستخدم آلات شديدة الضّجيج فتبين أنّ العمال كفّوا عن الشّكوى من الضّجيج، بسبب تأثير اللّون الأخضر المحيط بهم.
أمّا الأبيض: فيبعث على الاطمئنان و الإحساس بالصّفاء و السّكينة و التّفاؤل و السّرور..و أمّا الأسود فيبعث التّشاؤم و يؤثر سلباً على نفوس كثيرة . و الأحمر يساعد على الانتباه،و اليقظة،و هو لون القلب،و التّعبيرعن الإحساس والعواطف بيد أنّ الأزرق يسبب شعوراً بالسّلبية، و البرودة والعمق، و يمتاز بتخفيف التّوتر والعصبية...
الألوان الخمسة، تعبر عن خمس طبقات،أو فئات و أصناف، من الشّعب ..
هناك الأبيض الطّبقة الوديعة المسالمة ، و الأخضر فئة النّقاء و العمل و الرّخاء .
ثمّ هناك الأحمر ، صنف من النّاس، يفكر و يحسّ دموياً . ينشد التّغيير و لكن بتحكيم الدماء و القوّة . أمّا اللّون الأسود ، فرمز لصنف آخر تقوقع فكرياً . و انحبس لديه الوعي عند القشور، و توافه الأمور، فأظلم الدنيا في عينه و سعى جاهدا لإظلامها في عيون الآخرين .أمّا الأزرق فرمز صنف من النّاس ، مات لديهم الإحساس ، فأصبحت البرودة ، تشكّل لديهم،اللا مسؤولية و اللا مبالاة . فالنّص يجعل من النّاس ألواناً مختلفة ، و غير متجانسة .. و إن كان السّارد قد جمع مجازاً بين الأبيض و الأخضر في (النّقاء و الرّخاء) و لكن شتّان ما بينهما من فرق و اختلاف. فإن اختلطت الألوان فحتماً ستفقد خصيتها و نقاءها اللّوني . و حتماً سيتميز الأزرق الذي بقي في الحياد ، محافظاً على نقائه.
ملاحظـــة : الذي أعرفه، من أساسيات الألوان جميعاً ؛ ثلاثة:الأحمر-الأزرق-الأصفر و سميت بالألوان الأساسية لأنّه لا يمكن استنباطها من الألوان الأخرى . أما الألوان المحايدة فهي اللّون الأبيض و الأسود و ما ينتج عنهما من رماديات . أمّا الأزرق فهو أساسي في التّكوين اللّوني، بمعنى أنّه مشارك في الدّائرة اللّونية.فهل اختير محايداً لبرودته كما أسلفنا ؟ قد يكون ذلك أو غيره . و لكن أعتبر استغلال الألوان في النّسيج القصصي أمر جميل في مجال الأسلوب و التّعبير. و تحسين الأداء performance بدل اللّغة المعيارية المباشرة.


*


5- الخـــوف

بيتنا القديم كان يعج بالفرح ، نتحلق كلّ مساء حول مدفأة الفحم لنستمع إلى حكايا جدتي عن عالم ملئ بالخيال، لم يكن بالبيت ماء ولا كهرباء ،وكنا نخاف الظلام والعفاريت التي تسكن أدمغتنا دون أن يراها أحد ، نلتصق بجدتي و ببعضنا طلباً للأمان ودرءاً للخوف ، وكلّما
مررت بالبيت القديم بعد أن غمرته أضواء الكهرباء،وسكنه أناس لا يعرف بعضهم بعضاً ، ارتجف جسدي لعبوري بوّابة الذّكرى وأصابني خوف أشد، فقد غابت جدتي وصرت أرى العفاريت تسعى في كلّ مكان رغم الأضواء السّاطعة.
'' الخوف '' نص يمتح من ذكريات الطفولة ، و عالم الجدة، و الحكايات و السَّمر اللّيلي و دنيا العفاريت .. في بيت كبير بدون أنابيب الماء، و لا أسلاك الكهرباء...ذكريات تأبى أن تفارق مخيلة السّارد حتّى و إن مرّت سنوات طويلة ، و تغيرت أحوال البيت، ماتت الجدّة و رحلت أسرة السّارد، فسكن أناس آخرون، و امتدّت أنابيب الماء في الجدران، و توزّعت أسلاك الكهرباء في الغرف ،فأضيئت الأرجاء و الأماكن المظلمة .. و لكن السّارد ظلّ يعيش خوفاً يسكنه منذ زمن بعيد فوبيا /المكان: ( ارتجف جسدي ، لعبوري بوابة الذّكرى، و أصابني خوف أشد، فقد غابت جدتي ،و صرت أرى العفاريت تسعى فكل مكان رغم الأضواء الساطعة.)


فنيـــــا :

1 ـ اعتمد النّص لغة وصفية تقريرية ( معيارية ) و هي اللّغة التي ينبغي تفاديها قدر الإمكان في الق ق ج . لأنّها تجعل النّص مفتوحاً مفهوماً ، يعطي كلّ شيء دفعة واحدة .
2 ـ النّص جاء حافلا بالجمل الزّائدة أو الشّارحة.أو كلمات لا تخدم الفكرة ( الخوف ) و كلّها تشكّل حشواً ، لنلاحظ ذلك بالأحمر من خلال النص :
بيتنا القديم كان يعج بالفرح ، نتحلق كل مساء حول مدفأة الفحم لنستمع إلى حكايا جدتي عن عالم ملئ بالخيال، لم يكن بالبيت ماء ولا كهرباء ،وكنا نخاف الظلام والعفاريت التي تسكن أدمغتنا دون أن يراها أحد ، نلتصق بجدتي و ببعضنا طلباً للأمان ودرءاً للخوف ، و كلّما
مررت بالبيت القديم بعد أن غمرته أضواء الكهرباء،وسكنه أناس لا يعرف بعضهم بعضاً ، ارتجف جسدي لعبوري بوّابة الذكرى وأصابني خوف أشد، فقد غابت جدتي وصرت أرى العفاريت تسعى في كل مكان رغم الأضواء السّاطعة.
و إذا أزحنا كلّ هذه الشّوائب سنحصل على نص مهذب مكثّف إلى حدّ ما :
نتحلق كلّ مساء حول مدفأة الفحم لنستمع إلى حكايا جدتي. لم يكن بالبيت كهرباء. كنّا نخاف الظلام و العفاريت. نلتصق بجدتي و ببعضنا طلبا للأمان.
وكلّما مررت بالبيت القديم بعد أن غمرته أضواء الكهرباء،وسكنه أناس آخرون، ارتجف جسدي لعبوري بوّابة الذكرى،فقد غابت جدتي،وصرت أرى العفاريت تسعى في كل مكان.



*

6- قطــــة بيضـــاء

اعتدت أن أراها كلّ يوم عندما أغادر شقتي، بيضاء لا شية فيها ،تجري هابطة السلم بأقصى ما تستطيع ، ثم تقف من بعيد وتلتفت ناحيتي في ترقب ، جرّبت أن ألقي لها بقطعة خبز،ثم بقطعة لحم ثمّ بسمكة صغيرة، أصبحت كلّما رأتني خارجاً تمسحت في حذائي، وحكّت جسدها بقوة أسفل ساقي.

''قطة بيضاء ''
نص يخالف النّص السّابق '' قط أسود'' فبقدر ما يثير هذا الأخير التشاؤم و التطير كما رأينا . نجد أن هذا النص يوحي بالألفة و الانسجام ، و الطيبة و المودة : قطة بيضاء ، كلما رأت السارد نازلا من شقته ، إلا و أسرعت إليه ، تتمسح بحذائه ، و وتحك جسدها بأسفل ساقه ، و كان يطعمها خبزاً و لحماً و سمكاً ...
فهذه العلاقة أساسها المصلحة ، حتّى و إن كانت بين جنسين مختلفين؛إنسان/حيوان . و هذا يذكرنا بحيوانات السّرك و مروضها. فكلّما أنهت دورها، يبادر إلى مكافأتها . و كأنّي به يشجعها على الاستمرار في تأدية دورها، على أحسن وجه.هنا المسألة مسألة تعود واعتياد .
و لكن هل يمكن اعتبار النّص ق ق ج ؟
ألاحظ أنّ النّص اعتمد بعض عناصر القص : هناك سارد مشارك، و سرد و وصف و فضاء مكاني/العمارة، شخصيتان (السّارد و القطّة) أفعال حركة:( أغادر، تجري، تقف، تلتفت، ترقب، جربت، ألقي ، حكّت ..) و اسما الفاعل (هابطة، خارجا) رغم كلّ ذلك، و رغم القدرة على الكتابة le pouvoir d’écrire في مجال السّرد ..لم تتحقق بنية القص . لأنّ الق ق ج ، بنية قصصية أولا وأخيراً، لا أقول نمطية ،و لا منمذجة ، و لكن أقول إنّها طرائق من التّعبير الخاص . تتعارض مع المباشرة و التّقريرية ، و تعتمد التّكثيف اللّغوي منعاً للتّرهل و الانسياب الوصفي ، مع اعتماد قفلة شاملة .. الشّيء الذي لا نلمسه في هذا النّص.الجميل نثرياً ، غير المكتمل قصصياً.


*

7- ثمــــــــــــــــار

كانوا يهزّون الشّجرة فتتساقط الثمار ..
أمطروها بوابل من الأحجار ..
توقف سقوط الثمار ، وهطلت الأحجار فوق الرؤوس.

'' ثمار '' هذه ومضة، و الومضة تختلف على الق ق ج في الشّكل و المضمون .
من حيث الشّكل تأتي الومضة متجمعة، ملتفة حول نفسها . تصاغ في عبارات قليلة ، لا تحلّل ،و لا تفسر، و لا توضح ..إنّما تثير الاهتمام بالحدث ، فدورها الإشارة ليس إلا . لأنّ الحدث في الومضة لا يحتاج للتّطور و تصعيد ، و لا لدعم و توطيد. الحدث يأتي كاملا .
كما هوهنا:الحدث/ الثمار.و كلّ ماعدا ذلك مصابيح تحاول أن تضيئ معالم الحدث للتنبيه ، و الإشارة ، ليس إلا . أوضح ذلك من خلال النّص :
كانوا يهزون الشّجرة فتتساقط الثمــــار ..
أمطروها بوابل من الأحجار ..( من أجل سقوط الثمــــار)
توقف سقوط الثمـــــار ، وهطلت الأحجار فوق الرؤوس. ( بدل الثمــــار )
لنلاحظ أنّ ''الثمار'' واردة في كلّ جملة، إمّا صريحة، و إمّا ضمنياً . و هي الحدث الخام الذي بقي على حاله الوجودي، رغم ما صيغ من جمل ..
و هذه ومضة جميلة ، فيها إشارة رمزية . للفرق المهول بين عملية هزّ الشّجرة برفق و سقوط ثمارها . و رميها بالحجارة ، و بعنف مما جعل الشّجرة تسقط حجارة بدل الثمــار.



*

8- ملــــــــك

وقع الأسد في أسر الصيادين ..اجتمع كلّ الحيوانات
قالوا: كان هائل الحجم، زاهي اللّون ، بطئ الحركة.
ثم ّبايعوا الفأر ملكاً.
''ملك '' و مضة جميلة أخرى ، لا تقل رمزية و دلالة : الأسد/الملك ، يقع أسيراً في حبال الصيادين . و بقيت الغابة بدون حاكم تجتمع حوله الكلمة . فظهر الانتهازيون ، الذين لا يهمهم إلا مصالحهم، و كيف تمضي سليمة، فقالوا عن الأسد الغائب :'' كان هائل الحجم، زاهي اللّون ، بطئ الحركة . '' مسوغات لا تغير في الوضع شيئاً . و لا تعيد الملك . بل و كأنّها تهنأ لذهابه و اختفائه لقولها (بطئ الحركة) و لكن ما بديلها في الحكم ؟ هي لم تبحث عن مثيل للأسد الراحل : (هائل الحجم، زاهي اللّون ) و إنّما بادرت لمبايعة الفأر ملكاً. و شتّان بين الأسد و الفأر !! و لنا المثل الشّافي في ما وقع في العراق. قتل الأسد و احتجب . و جيء بفأر فوق دبابة مجنزرة . فلا العراق بقي عراقاً ، و لا الناس استطابت أمناً ..بل الجميع يشتاق لأيّام الأسد ، لأنّه كان أسداً ، و ليس فأراً.


*

9
- ديمقراطيـــــة

وقـّعوا على أوراق الاستفتاء، نصفهم قال نعم والنّصف قال لا
وصل للرئاسة بالإجماع وبقي فيها دهراً..
تساءلوا فعلموا أن ما وقـّعوه كان وثائق للتنازل عن الوطن.

'' ديمقراطية '' الكلمة التي تعني دائماً ( اللا ديمقراطية ) حين يتحدث عنها في العالم النامي أو العالم الثالث .بل أسمح لنفسي بنوع من الجرأة و أقول :لا وجود للديمقراطية إلا وفق ما يفهمها كلّ نظام . فهي مصطلح عائم و سيبقى هكذا أمد الدّهر . كلّ و ديمقراطيته .
(وقـّعوا على أوراق الاستفتاء، نصفهم قال نعم والنصف قال لا ) هذا يعني بلغة الإحصاء التّعادل بين نعم و لا . و هذا لا يحدث إلا في الحلم . و لكن السّارد جاء بلغة الحلم. ليقر فقط ألا غالب و لا مغلوب ، و إن كان و لابد فليعاد الانتخاب من جديد . نتيجة لا ترضي الحاكم بأمره. فيقرر النتيجة التي يريد .و (وصل للرئاسة بالإجماع وبقي فيها دهراً.. ) و هكذا تبيح ديمقراطية الحاكم/النظام . أن يفوز و بالإجماع. و ليس بالأغلبية و فوق هذا يبقى فوق صدر الشّعب دهراً.. و لنا في الحكم العربي المثل الشّافي.
أمّا المواطنون الناخبون و في هول ما يشاهدون و يعيشون (تساءلوا فعلموا أنّ ما وقـّعوه كان وثائق للتنازل عن الوطن. ) كيف لا و الجمهوريات تصبح ملكيات.و إراثة الحكم ، تصبح حقاً مشروعا لا يجادل فيه إلا من يرغب أن تلحق به تهمة المسّ بالأمن العام . و سينتهي بلا جنسية ، و لا وطن . إمّا مغترباً في ملاجئ بلا هوية . أو أسيراً تلفّق له أبشع التّهم ، و كلّ ذلك بمحاكمة و ديمقراطية ...
النّص ومضة جميلة ، هادفة ، تؤشر لواقع مرّ، صعب على الفهم ، ممتنع عن الإدراك .. ..لأنّه يستبلد النّاس جميعاً ، و يبقي للطّغمة الحاكمة ، حقّ التّصرف كما تشاء ..


*

10- ســـــــــؤال

سأل الزّعيم مستشاريه :
- هل مازال الشّعب يتابع الصّحف
أجابوا: نعم ، فقرّر إغلاق نصف المخابز .
'' السّؤال '' ومضة جميلة أيضاً ، فيها رمز و إشارة ، و توظيف لروح المثل السّائر .. و يبدو أنّ الكاتب ، تفوق في مجال الومضات . تفوقـــاً بينـــاً ملحوظــاً.
حين يسأل الزّعيم/الحاكم مستشاريه : (هل مازال الشعب يتابع الصحف ؟ )
فهذا كناية أنّه لمس وعياً مختلفاً في سلوك شعبه، باعتبار المجلات و الصّحف السيارة تبثّ الوعي ، و تحثّ على الديمقراطية و اكتساب المعرفة ... و كلّ ذلك لصالح الشّعب . و قد يراه الحاكم المستبد في غير صالحه . فأن يحكم شعباً متخلفاً أحسن و أريح له من أن يحكم شعباً متسيّساً ، مثقفاً واعياً .. إذاً لا بدّ من إيقاف هذا التيار . فإغلاق الصّحف سيفتح عليه أبواب جهنم . في أوساط الصحافة العالمية و دوائر حقوق الإنسان و حرية التّعبير ...فكان لا بد لمستشاريه أن يخرجوه من هذه الورطة . فأشاروا عليه بالشّرط الإنتقامي الذي أساسه المثل الذي يقول:( جوّع كلبك يتبعك ) فكان منه أن ( قرر إغلاق نصف المخابز . ) لسبب أو لأخر ..و لن يعدم من أجل ذلك سبباً.
فحين ينشغل الشّعب بلقمة العيش و كيف يحصل عليها ؟ فلا وقت له لقراءة الجريدة و لا اقتنائها . و هذا ـ مع الأسف ـ ما نعيشه في عالمنا العربي ، سياسة التّجويع و التّفقير و ضحالة العلم ، و سدّ أبواب الطّموح و الارتقاء . و النّعمة كلّ النّعمة لمجموعة محظوظة ، هي من الحاكم و إليه .

خلاصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــة:

الأستاذ محمد فؤاد منصور من الرعيل الذي عاشر أقطاب القصّة في مصر . و رغم تكوينه العلمي ( طبيب ) كان كمجايله يوسف إدريس ( الطبيب) محبا للأدب و بخاصة السّرديات: من قصة، و قصة قصيرة، و رواية. و الآن و مع ظهور الق ق ج ساهم و أبدع في ذلك.بل و كما نلاحظ في هذه العشرية، اهتم أيضاً بالومضة . فما عسانا نستخلص من هذه العشرية ؟

(1) امتلاك للوسيلة الأدبية Literary medium
(2) المحافظة على البناء المنطقي للنّص Logical from
(3) توظيف اللّغة الدّلالية Referentical langaguage
(4) توظيف نظام التّرميز Symbolie system
(5) اعتماد التناص أو التّداخل النّصي Intertextuality
هذه أمور سيّجت بناء النّصوص ،و أعطتها إطارها العام،و لكن كانت إلى جانب هذا أمور أخرى ، حبذا لو تداركها القاص في أعماله القادمة .
(1) ينبغي اعتماد اللّغة المجازية Figurative language بدل اللّغة الدّلالية المعيارية. فالقصّة القصيرة جداً،لا تظهر معالمها إلا بالتّكثيف و الحذف و
الإضمار، و الإشارة و التّلميح ...
(2) توظيف النّسق التّخييلي Fictionality
(3) اجتناب الفائض اللّغوي L’inguistic redundancy كالجمل الشارحة المفسرة أو الواصفة .. و التي من الممكن أن يدركها القارئ من ذات نفسه .بمعنى توظيف الإيجاز Prolipse ما أمكن . في غير هذا كنت ومنذ ثلاث سنوات خلت . أجد في كتابة الأستاذ القاص محمد فؤاد منصور نسغ التّجربة الحياتية، و ثقافة المطالعة والبحث، و قضيا الأمّة، و هموم الشّعب و انشغالات الفرد العادي .. كانت نصوصه مرآة عاكسة لمواطن الضّعف الاجتماعي، و ذلك ، بفنية صادقة ، و تعبيرية واقعية...

تحياتي / د مسلك ميمون