المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أقصوصة: حب في المدينة العتيقة



شفيق غربال
10/10/2010, 08:35 AM
أقصوصة
حب في المدينة العتيقة
طال وقوفها في المحطة ، وعيناها لا تتحولان عن الجانب الشرقي من سور المدينة .. حرّك فيها ملل الانتظار حنينا دفينا إلى المدينة العتيقة .. هنالك غير بعيد قضّت أسعد أيم صباها في دار جدّتها لأمّها ، تركض وتنفّس كربتها من علوّهم الضيّق ..يؤثرها الجميع ولا تثريب عليها فيما تفعل وتحب ّ!
- قد تتأخر الحافلة كثيرا ...
تمتمت بهذه الكلمات وأذعنت لرجليها تقودانها إلى وسط المدينة ..هنالك استقبلتها روائح الحلويات والخبز من مداخن الأفران ، والزمن ليس رمضان ، ولرمضان في ذاكرتها عهد أقرب إليها من حبل الوريد !
إنّها لا تزال تذكر معانيه في سلوك الكبار من حولها في دار جدتها :صوم وتراحم وتزاور وصنع حلويات ..
استوقفها باب عاشر في أحد أزقة المدينة .نُكّر لها فما أنكرته . هنالك وراء هذا الباب شهدت رمضان في أجلّ صوره ، وارتبط في ذاكرتها بجدّتها .
استشفّـت الباب ، فرأت مشهدا لن تنساه .
- جدّتي .. هل اقترب العيد؟
- نعم ، نحن في النصف من رمضان يا عزيزتي .. علينا أن ننشط في صنع حلوياتنا ، لنتفرّغ لإعانة الجارات .
- وهل سننتقل كالعصافير ؟ ّ!
- أجل ..إنّ العجائز مثيلاتي لا يتسكعن في الأنهج كالصبايا والعرائس ّ!
- ولكنك تخرجين إلى الجامع ّ!؟
- ذلك في طاعة الله ..غفر الله لنا جميعا ..

*********
أضحكها المشهد ، وترحّمت على جدّتها الّتي حبتها بعطفها وحنانها ,أنفذت فيها حب المدينة العتيقة ..ثمّ تنهّدت واسترجعت بقية شريط الذكريات .
- مرحبا بجرتي الغاليةّ! حلّت البركة! يا فلانة جهّزي مكان الصدارة لجارتنا الغاليةّ!

اشتبكتا في عناق وتقبيل على طريقة العجائز الودودات وأحلّتها مكانها بعد نزع لحافها الحريري وظهور نزر قليل من فتنها الغابرة ، غلب عليها نور متلألئ من وجه يعمره الإيمان والبركة .
- اسمعن يا بنات .تعلّمن منها ما استطعتن ، فليس لنا منها الكثير ، فيها الخير والبركة .
يومئذ تنحنحت جدّتها وأمرتها باللعب بعيدا عن حلقة الصانعات حول صينية البقلاوة ، ثم ّ تفقدت اللوازم وبسملت ،وتوكلت على الله ، واشتغلن كلّهن كخلية نحل ، والجدة تعطر المكان بالبسملة والصلاة على النبي الى أن انتصف الليل وحان وقت صبّ حشو اللوز المرحيّ والفواكه المجروشة .
في تلك الأثناء ، دارت كؤوس الكريمة السخنة واختلطت الأحاديث والهمسات والضحكات والصغار يتطلعون الى ما يدور في مجلس النساء بآذان صاغية ، يضحكون لنكتة ويجمون لسماع كلام لا يفهمونه من أحاديث نسوية خاصة .
انّها تذكر الآن وقع عصا جدتها على الصينية وهي تقول: " العصافير تأكل الحبّ" ، فتصمت النساء ويضحك الصغار من قولها ، فالزمن ليل ولا وجود للعصافير داخل الغرفة !إنها الآن فتاة الثامنة عشرة وهي غير طفلة التسع سنوات .
انقبضت وهي تستعيد مشهد جدتها وهي تختفي في لحافها الحريري وجارتها تودعها بكم هائل من الثناء والشكر والدعوات المطيرة بزيارة بيت الله الحرام وانفرجت وهي تمسك بيد جدتها وتصعد معها الأدراج لبلوغ السطح .ليلتها لم تقدر أن تكتم ضحكتها وسالت جدتها :
- جدتي ، إنني لا أرى عصافير في هذا الليل تأكل الحبّ ، فكيف رأيتها أنت؟
فردّت عليها جدّتها بهدوء مصطنع :
- الصغار المؤدبون لا يتدخّلون في أحاديث الكبار!

*************
هزّت الشابة كتفيها ولم تنس أضواء المدينة وسحب الدّخان في ذلك اللّيل السّاكن .واليوم؟
لقد بات هذا الباب الموصد دونها يحول بينها وبين جدتها ، ويقف حاجزا بينها وبين المدينة العتيقة الّتي فتنها سحرها الأبديّ ، فصارت مثل طائر ألف قفصه ، لا يكاد يفارقه إلاّ ليعود إليه !
انتبهت من حلمها على صوت إحدى الجارات تصيح بابنها من شرفة علوّها ، فأنكرت في نفسها هذا السلوك إذ من عادات أهل المدينة العتيقة ألاّ تعلو أصوات نسائهم في الأزقّة والأنهجّ!
طأطأت رأسها ، وكرّت راجعة إلى المحطة مثقلة الخطى وهي تتمتم :
- رحمك الله يا جدّتي .

محرز شلبي
10/10/2010, 09:27 AM
أرى أمامي مشهدا من مشاهد الماضي المليء بالعفوية والصدق والبراءة والصفاء والنقاء ، لست أدري يبدو كل ماضي أو أغلبه يحكي ذكريات عند الكثير كهذه الصور الجميلة الرائعة التي أبدعتم في نقلها إلينا يارفيق ؟
طبتم وطاب قلمكم..تحيتي وودي

شفيق غربال
11/10/2010, 12:41 AM
أرى أمامي مشهدا من مشاهد الماضي المليء بالعفوية والصدق والبراءة والصفاء والنقاء ، لست أدري يبدو كل ماضي أو أغلبه يحكي ذكريات عند الكثير كهذه الصور الجميلة الرائعة التي أبدعتم في نقلها إلينا يارفيق ؟
طبتم وطاب قلمكم..تحيتي وودي
أخي العزيز محرز ..
نملك جميعا مشتركا من الذكريات مهما اختلفت أقطارنا والسنتنا ..شكرا للشهادة العالية ..
دمت ودام ودك وبهاؤك ..
تحياتي ومودتي