المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السمراء



ظلال
16/10/2006, 11:08 PM
السمـــــــــــــــراء

خيوط الشمس لم تلتق بعد مع خضرة الجبال، لم تتلصص عبر النوافذ الزجاجية، سارقة أجمل لحظات النعاس، خيوط الشمس الذهبية الدافئة المعطرة برائحة الطبيعة، لم تخترق بعد الأسوار، أسوار القرية العتيقة لتستقر في قلب تلك الفتاة العاشقة ذات الجدائل البدوية المسدلة على المنكبين.
حزيران الدفء، الحياة الأمل، الصيف على الأبواب يأتي بصفائه بعد طول غياب... لكنه في صباحات القرية الجبلية يختلف عن كل مكان، فصباح حزيران كان ضباباً خفيفاً ينتشر في أرجاء القرية الصغيرة، متكاثفاً على رؤوس الجبال، منظره تقشعر له الأبدان، لأن في جعبته برد يلسع، والسمراء ذات الجدائل شعرت أنها بحاجة إلى الدفء فتذكرته وتمنت لو أنه بقربها يضمها إلى صدره، وفجأة سرقت الأحلام منها حين هبت ريح خفيفة تحمل في طياتها لسعات البرد، فتذكرت السترة الصوفية التي وضعتها في الحقيبة، ابتسمت حين لبستها وشعرت بالدفء، ولمعت في خاطرها صورة أمها ترتدي الثوب والمنديل جالسة قرب المدفأة، في إحدى ليالي فبراير تحيك بأناملها الخشنة القوية ستره لابنتها الصغيرة تقيها برد الشتاء، ترقرقت دمعة حزينة في أعماق العيون العسلية وكادت أن تبكي السمراء.
القليل من أهل القرية يتأهبون للرحيل، سلالهم وحقائبهم تصطف على جانب الطريق بجانب شجرة الجميز الشامخة، من جانب الطريق هناك تمر الحافلة بهم، حافلة سمعان (أبو النوم)، هكذا يلقبه أهل القرية، لأنه وكما يقولون كثير النوم، لعلهم لم يدركوا لماذا، فهو رجل يتعب كثيراً، عمله شاق، يستيقظ قبل بزوغ الشمس ويعود إلى بيته بعد غيابها، فلا يرى إلا من يسافر معه من القرية وإليها، ينام ولا يسهر مع شلة الأنس في قهوة أبي لينا، فيعتب الأصدقاء كل ليلة ويلقبونه أبي النوم.
تنظر السمراء في وجوههم، عابسين وكأن هموم الدنيا كلها قد تراكمت كصخور ثقيلة فوق صدورهم، منهم من هو جالس على الأرض سانداً ظهره إلى شجرة الجميز وغارقاً في النوم، وأخر يدخن الغليون سارحاً في عالمه الخاص الذي لا يصل إليه إلا الدخان المتصاعد إلى السماء يعانقها، وتلك المرأة البائسة تضم ابنتها التي نشف حلقها من كثرة السعال، بحرقة إلى صدرها، كي تخفف من مرضها وألمها.
أهل القرية مكفهروا الوجوه إلا هي مبتسمة، كل ذاهب في طريقة، وهي ذاهبة لملاقاة حبيب، هم سرق النعاس من جفونهم عند السحر قبل بزوغ الشمس بقليل، أما هي فسرق منها كل النوم، شعاع القمر المنتشر لأبعد مدى لم يدعها وشأنها لتنام، ذكرها بإشراقة وجهه، ففكرت بالغد وانتظرته بفارغ الصبر، لتتلاقى بلحظة سرقت من الزمان عيونها بعيون الحبيب لتبتسم.
ربع ساعة مضت من صباح الخامس عشر من حزيران ولم يأتِ سمعان، أبو عبده بدأ يتذمر كعادته، يداه المتجعدتان وعروقه النافرة، الحدبة البارزة في ظهره، عيناه الغائصتين في محجريهما، كلها تذكر بأيام شبابه، أيام كان يحمل أكياس القمح والسكر على ظهره ويسير مختالاً في الشوارع، كان حمالا يطعم صغاره من عرق جبينه، أما الصغار فقد كبروا، وها هو يحمل سلة العنب والتفاح تاركاً أرض القرية لزيارتهم في المدينة، بعدما تركوه وحيداً رافضاً الرحيل لأن عشق الأرض يسري في عروقه ويناديه من اقصى اقاصي الأرض، هم هكذا كلهم يكبرون ويرحلون، وآبائهم يبقون ليعشقوا الأرض...يزرعونها ويحصدونها ويأكلون ما لذّ وطاب من ثمارها.
(سمعان، ها هو سمعان، قد جاء) صرخ أحد الرجال، الذي كان يرقب الطريق من بعيد، دبت الفوضى بين الناس نشطوا فجأة...استيقظ من هو نائم، وابتسم من هو عابس وكأن الفرج قد جاء بعد محنة، الحافلة جاءت وسمعان يلوح بيده، وابتسامته العريضة المعهودة ما زالت على شفتيه، ينطلق يشق ريح الصباح وتسير الحافلة من طريق ترابي إلى آخر، تخترق أشجار البلوط والصنوبر وكروم العنب المنتشرة على جانبي الطريق. والأشجار التي زينت بأجمل ألوان الحب والأمل، الأحمر والأخضر، الأشجار وألوانها ذكّرتها بالحق الأسير، بالعواصف، بلعنة الضمير، ذكرتها بغضبها المدفون، بحزنها العميق في صدرها المحترق ذكرتها بوائل، ذكرتها بالأخضر والأحمر والأسود والأبيض الذي كفنه، فبكت السمراء وأحرقت خديها من شدة البكاء.
هدأَت العاصفة، نسمات الهواء العليل التي تداعب شعرها أهمدت ثورتها، وها هو الذي فارق جفنيها ليلة أمس يعود إليها في لحظات الحزن والكآبة، يصّرُّ على ملاحقتها كي تنام، لكن الطرق وعرة وحركة الحافلة غير متزنة فكيف تنام، تذكرته ورأت وجهه المبتسم يلاحقها بين الأشجار وفي السماء الزرقاء، نسيت الحافلة وأبا عبده وأخاها وائل والدم والكروم، وذابت مع أحلامها الوردية الرقيقة.
(وردة، يا وردة، وصلنا استيقظي) نامت طوال الطريق، صدمت عندما رأت الشوارع الإسفلتية، إنها المدينة، قلبها بدأ بالخفقان، أسرع، وأسرع، أحسّت أنه سيخرج من صدرها، أحست أنها خائفة.... يداها المرتجفتان، ووجها الأصفر، خائفة من المدينة، مرّ عام كامل منذ أن زارتها لآخر مرة، تسأل سمعان عن مطعم هاشم، يطول الشرح، استوعبتس منه القليل، شكرته وودّعته، ونزلت مسرعة من الحافلة، تقطع الشوارع شارعاً تلو شارع، تمرُّ من جانب المحال التجارية كالطفلة تلحق الفراش من زهرة إلى أخرى أيام الربيع، تعبت، جلست على الرصيف تلتقط أنفاسها، تذكرته، آخر مرة رأته فيها كانت الصيف الماضي عندما تزوجت أخته، ذهبت مع أهلها لحضور العرس، رقصت معه، التقت أعينهما وعند رحيلها صافحها وابتسم لها، أحبته، شعرت أنه كل دنياها، ابتسمت له.
الحب، لأول مرة منذ أن فتحت عيناها على الدنيا، في صغرها كانت اختها سعدى كل يوم قبل غروب الشمس بقليل تلبس أجمل ما عندها، تسرح شعرها، وترفع خلصةً ضئيلةً منه بالمشط الذهبي الصغير الذي أهداه رامي لها، تمسك بيد وردة وتأخذها معها إلى الطاحونه لترى رامي خلف أكياس القمح والطحين، تلتقي وإياه، تجلس قربه، تبتسم تتهامس معه كالعصافير، كانت سعدى دائماً مسرورة، تغني وترقص كالفراش، ولم تكن وردة تفهم شيئاً إلا عندما أكملت الخمسة عشر ربيعاً وشعرت به لأول مرة في الصيف الماضي عندما اصطادته عيناها اللوزيتيان.
كادت أن تنسى نفسها جالسة على الرصيف، لولا أن سيارة فارهة توقفت بجانبها، بها شابان في مقتبل العمر: (أحلى عيون أحلى جدائل، ما اسمك يا حلوة، أتريدين أن نوصلك إلى مكان ما).
شباب المدينة وكلامهم المتملق المعسول، (مخادعين وغدّارين)، هكذا قال عنهم سعد أخوها، الذي يعيش حياته في المدينة، يقول عنهم أن ليس لهم قلوب من لحم ودم كباقي البشر بل قلوب من حجر. جمد قلبها من الخوف حين سمعت تعليقاتهم، قصص سعد المخيفة عنهم اشعرتها بأنهم وحوش تريد افتراسها بكلام خفيف معسول لا معنى له، وزاد خوفها حين فتح أحدهم السيارة، ولم يكد يضع قدميه على الأرض حتى ولّت هاربة، أنفاسها تقطعت، خناجر تتغرز في صدرها ألماً، سمعت قهقهاتهم وكلامهم كأنه السَّراب: (قروية صغيرة بلهاء) وآخر يقول: (ولكنها حلوة، حلوة يا رجل ألم ترى عينيها)، رأته بهما وفتحتهما للحب، تشتاق لرؤيته بقوة، الشمس حارقة، شعرت بالحر يخترق كلّ جزء من جسمها، خلعت السُّترة وهي تتأفف وأعادتها إلى الحقيبة، لم تعتد علىجو المدينة، قريتها هي الأجمل، الهواء العليل، الأشجار الخضراء، الطرق الترابية، كل شيء طبيعي لا تصنع فيه، المدينة غريبة عليها شعرت بالضّياع بالاختناق، بالتشتت، أبواق السيارات، البنايات، دخان المصانع، المقاهي التي لا تسلم من تعليقات من يجلسون فيها كلما مرَّت بقرب إحداها، وأخيراً ها هي تصل زقاق الحارة العتيقة التي ذكّرتها بالقرية، وها هي أم أحمد تجلس في عتبة الدّار تقلب العدس (كيف حالك يا أم أحمد؟).
أزاحت نظرها عن صينية العدس، ورفعت رأسها المطأطئ، حدّقت بوردة فلم تعرفها، خلعت عويناتها الكبيرة عن وجهها وصرخت (مَنْ؟ وردة، كيف أنت يا صغيرتي؟) العجوز أم أحمد عرفت السمراء، سعدت بلقائها، مرَّ زمن بعيد منذ رؤيتها سألتها عن القرية وأهلها، وعن عرائش العنب وأشجار التين عن الشاي بالنعنع وعن الحليب البلدي.
وعلمت وردة أن سعداً لم يعد بعد من عمله فبقيت عند أم أحمد تتبادلان أطراف الحديث إلى أن جاء سعد، الذي تفاجأ بقدومها، قبلّها على جبينها ضمّها إلى صدره بحنو الأب على صغاره، حمل حقيبتها وذهبا إلى البيت، سألها كثيراً عن القرية وعن أهلها، فسعد ابن بلد، شاب مكافح يعشق الأرض ويحنُّ لها، يعتز بأنه فلاح ابن فلاح، ويعمل بعرق جبينه ليجمع النقود، فيرجع إلى القرية ليتزوج لبنى ابنة عمّه.
أحداث اليوم أجهدتها، ألقت بنفسها على السرير، ونام سعد على الأريكة، تأملت النجوم والقمر، رأت ملامح وجهه منقوشة في كبد السماء، حنطيُّ البشرة، ناعس العيون، ودقيق الشفتين. زادت لهفتها لرؤيته... استنشقت رائحة البخور، تنبعث من بيت أم أحمد، ثم سمعتْ التسبيحات، اطمأنت نفسها وابتسمت.
في الصباح قلق سعد عليها، السّواد يحيط بعينيها وكأنّ رقعة قماش سوداء قد ألصقت حولهما، فتحججت بالمدينة وضجيجها، وأنها لم تستطع النوم من الأصوات المزعجة، فصوت ديوك القرية أرحم من زعيق أبواق السيارات وحركتها المستمرة.
اليوم الجمعة وسعد لا يعمل في هذا اليوم، أراد أن يطعمها شيئاً مميزاً، فاصطحبها إلى مطعم هاشم قرب البيت، أكلت أشهى حمص وفول ذاقته في حياتها.
وفي طريق العودة أخبرها أنه مدعو على الغداء عند دار أبي ربيع، ابتسمت، صدمت لم تصدّق ما قاله سعد، وأخيراً سوف تراه، رسمت صورته طوال الطريق في الأشياء التي تتأملها أو تمرُّ بها، اشتاقت له في تلك اللحظة أكثر من غيرها، سعد يكلِّمها وهي غير قادرةٍ على التفكير فيما يقول أو حتى الإجابة، فاستنتج أنها تعبة من السفر وبحاجة إلى الراحة.
عند الظهيرة، لبست أجمل ما عندها، الفستان الأخضر الذي لبسته الصيف الماضي، سرّحت شعرها، ذهبت مع سعد إلى دار أبي ربيع، استقبلها الكُّل بحفاوة كانوا يتحدثون عن جمالها البريء وعن عينيها اللوزيتين، ولكنها لم تأبه لما قالوا، لأنها تفكر به، (أين هو أنا أحبه)، لكنَّ وازع الشرق المزروع في أحشائها صرخ بها وقال: أنت شرقية فاهمدي التزمي حدودك ولا تبوحي بالسر. طرق الباب، ثم فتح، ها هو، الطول الفارع، العينان الناعستان، الجبهة السمراء العريضة، والابتسامة عينها، لم تستطع أن تتمالك نفسها، نهضت عن الكرسي، ابتسمت، تأملته بلهفة المشتاق، لكن، (من هذه التي معه؟) صافح سعد ثم صافحها وابتسم لها، ثم جاء دور الشقراء التي معه، صافحت سعد وقبّلت وردة.
(خطيبتي هند)، تطايرت الأحلام، توقفت الحياة وعقارب الساعة، شعرت بالبرد يمزَّقها، يده ملوثة وقبلتها مسمومة، خرجت من الباب مسرعة، خرجت من سجون الليل تنتزع النهار وتعصف الأفكار بها، لتعلم أنّه شاب من المدينة ليس مُلكها.



19/5/2000

محمد فؤاد منصور
13/07/2007, 01:37 PM
عزيزى ظلال
نص بديع وحرفية فى القص تأسر القلب، لغة سلسة ومشاعر راقية تنقل لنا البراءة البكر لفتاة القرية التى عاشت الحلم المستحيل إلى أن صحت على حقيقة أن إيقاع القرية وبساطة العلاقات بها لاتتوفر لأهل المدن، إنها المرة الأولى التى أعلق فيها على نص لك فأنت كاتب تملك أدوات الأبداع الراقى ولكن لى سؤال أود معرفة إجابته هل "ظلال" هو أسمك الحقيقى ؟ ألم نتعاهد هنا على أن نظهر بأسمائنا الحقيقية؟ ..تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl: