المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدواء قصة مترجمة عن اللغة الصينية مباشرة



يوسف محمد فرغلى
29/10/2010, 10:06 PM
الدواء
تأليف / لو شيون
ترجمة / يوسف فرغلى
فى إحدى ليالي الخريف بعد منتصف اليل غاب القمر عن السماء لم تكن الشمس قد أشرقت بعد وكانت السماء مكتحلة بلون أزرق ضارب الى السواد .خلا الشارع من المارة إلا من بعض السُهار ، اعتدل هوا تشوان فجأة قائما فى فراشه وأشعل عودا من الثقاب وأضاء به المصباح الزيتى القائم بجانبه فشع نور أبيض خافت فى غرفتين من غرف صالة الشاى .
-" هل ستذهب؟ " جاءه صوت زوجته من داخل الغرفة الصغيرة وتناهى الى سمعه صوت سعال .
- "نعم " أجابها بينما كان يرتدى ملابسه ، مد يديه قائلا :" ناولينى النقود "
رفعت زوجته الوسادة وأخرجت صرة من النقود ناولتها له . أخذها بيدين مرتعشتين ووضعها داخل جيب سترته وتأكد من أن الجيب مغلق من كلتا الجهتين ، أسرج فتيلا أخر واتجه الى الغرفة الداخلية .كان يصدر من تلك الغرفه صوت أنفاس متلاحقة متبوع بنوبة سعال انتظر هوا تشوان حتى يهدأ قليلا و قال له برفق:"يابنى لا داعى لأن تغادر الفراش الأن ، ستتكفل أمك بك شيء "
لم يسمع هوا تشوان صوت ابنه ثانية فاعتقد أنه ربما غط فى النوم ثانية ، فخرج من الباب ومشى فى الشارع . كان الشارع حالك الظلمة خاليا من المارة ، كان هناك فقط ذلك الطريق الشاحب اللون ، تبينه جليا . أضاء الضوء المنبعث من المصباح قدميه حيث سار مقدما قدما ومؤخرا الأخرى . أحيانا كان يصادف فى طريقه بعض الكلاب ولكنه لم يسمع نباح أى منها .كان الجو أبرد كثيرا من الجو داخل الغرفه ، ولكن هوا تشوان شعر بالإنتعاش وبدا وكأنه عاد شابا من جديد واسترد بعضا من قوته وبدا وكأن قوة الحياة عادت اليه من جديد .كان لوقع خطواته دويا عاليا ، وكان كلما جد فى السير كلما زاد الطريق وضوحا وكلما بزغ الفجر جليا فى السماء .
كان هوا تشوان مازال يمشى بحرص فى الطريق ، فجأة تسمر مكانه مذهولا فمن على بعد رأى مفترق الطرق وكان من الواضح أنه مكتظ بالناس .
رجع هوا تشوان عدة خطوات للخلف ووقف مترددا فى مدخل أحد الحوانيت المغلقة ،ومرت لحظة شعر خلالها ببعض البرودة تسري فى جسده .
- " هه، عجوز غريب الأطوار "
- " ياله من عجوز سعيد ......"
انتاب هوا تشوان بعض الفزع وهو ينظر خلفه ليرى ماالأمر ، مر ثلة من الناس أمامه ، فأدار واحد منهم رأسه ناظرا اليه ، لم يكن شكله واضحا ، ولكنه رمقه بنظرة شخص جائع لم ير الطعام منذ مدة ولمعت عيناه بضوء أخاذ . نظر هوا تشوان الى المصباح فإذا به قد إنطفأ ، تحسس جيب سترته فوجد محفظته مازالت مكانها . رفع رأسه ونظر فى كلا الإتجاهين فرأى الكثير من الناس الغرباء جاءوا فى مثنى وثلاث ، مشوا بخفه وتردد ، أعاد النظر ثانية بدقة فلم ير أى شيء أخر يدعو للدهشة .
لم يمض الكثير من الوقت حتى رأى بعض الجنود يتحركون فى الجانب المقابل للشارع كانت حللهم العسكرية مخيطة من الأمام والخلف بقطعة من القماش الأبيض على شكل دائرة حيث رأهم بوضوح من على بعد ، مروا من أمامه ، وتمكن من أن يرى حواف حللهم العسكرية المغطاة بالون الأحمر القانى ، كان صوت كل خطوة من خطواتهم العسكرية لها دوى يعم الأرجاء ، وفى لمح البصر كانو قد أحاطوا ذلك الحشد من الناس وفجأة أيضا تجمعت الجماعات المتفرقة من الناس مكونة حشد كبير . تدافع تيار الحشود الى الأمام حتى وصلوا الى بداية مفترق الطرق ثم توقفوا فجأة مكونين نصف دائرة، نظر هوا تشوان الى ذلك الجانب أيضا لكنه لم يستطع أن يرى سوى ظهور تلك المجموعة من الناس ، كانت أعناقهم ممدودة لأعلى حيث بدوا كمجموعة من البط تمسك بإعناقهم أيدى خفية وترفعها لأعلى . بعد فترة صمت قصيرة بدا أن هناك بعض الهمس ثم بدأوا يتحركوا مجددا وتدافعوا للخلف فى صوت مدو، تدافعوا حتى وصلوا الى المكان الذى يقف فيه هوا تشوان حتى كاد أن يسقط من كثرة الزحام والتدافع .
- " هاى ،ياهذا أعطنى النقود وسأسلمك البضاعة !"
كان شخصا مغطى بالسواد من رأسه الى أخمض قدميه ، وقف أمامه مباشرة ونظر اليه بعينين أشبه بسكينين شطرتا هوا تشوان الى نصفين . كانت احدى يديه ممسكة به واليد الأخرى كانت تحمل بعض الخبز المغموس بالدم* ، وكانت قطرات من هذا الدم مازالت تقطر من يديه .
أسرع هوا تشوان وأخرج صرة النقود من جيبه وأعطاها إليه فى تردد ولكنه لم يجرؤ على أن يأخذ ذلك الخبز . أصبح الرجل أكثر قلقا وفزعا وصرخ فيه قائلا :" ما الذى تخشاه لماذا لا تأخذه ؟!" كان هوا تشوان مازال مترددا ومن ثم جذب هذا الرجل المغطى بالسواد المصباح من يده ونزع غلافه الورقى ولف به الخبز وأعطاه له .
- " لمن ستعطى هذا الدواء ؟ "
خُيل الى هوا تشوان أن أحدا يسأله ولكنه لم يجب ، كان تركيزه منصبا على هذه اللفافه وبدا كأنه يحتضن بين ذراعيه حياة جديدة لإبنه الوحيد ، ولم يعد يكترث لأى شيء أخر .سيأخذ هذه اللفافه الى بيته طمعا وأملا فيما ستجلبه له من سعادة . سطعت الشمس وظهر أمامه طريق طويل يصل حتى بيته ، التفت وراءه فرأى اللافتة القديمة المعلقة فوق مفترق الطرق وعليها عبارة " السرادق القديم " مكتوبة بأخرف ذهبية باهته .
2
وصل هوا تشوان الى البيت ، كانت صالة الشاى قد نظفت فى الصباح الباكر وأعدت الموائد لشرب الشاى حيث كانت تلمع ويشع منها ضوء خافت من أثر التنظيف . لم يكن يوجد زبائن بعد ، كان هناك فقط ابنه الصغير جالس على إحدى الموائد يتناول الطعام حيث تجمع على جبهته العرق الغزير وتساقط على الأرض ، حتى إلتصق به قميصه الذى كان يرتديه وبرزت عظمتا كتفيه حتى أصبحتا على شكل رقم " ∨ " ، عندما رأه هوا تشوان على هذه الحالة لم يستطع أن يمنع تقطيبة علت جبينه .
خرجت زوجته من المطبخ مسرعة وفتحت عيناها على إتساعهما وسألته بشفتين مرتعشتين
- " هل حصلت عليه ؟"
- " نعم "
دخلا الى المطبخ وتناقشا معا لبرهة ، خرجت زوجته بعدها ولم تضع مزيدا من الوقت فأخذت ورقة من أوراق اللوتس القديمة وبسطتها على المائدة ، فتح هوا تشوان الغلاف الورقى للمصباح واستخدم ورقة اللوتس لإعادة تغليف الخبز المغموس بالدم . كان إبنه قد انتهى من تناول الطعام وعلى الفور قالت له أمه :" يابنى إجلس مكانك ولا تأت الى هنا " . أخذت تعد الموقد ، وقام هوا تشوان فأخذ ورقة اللوتس الملفوف بها الخبز وأخذ أيضا ذلك المصباح المنزوع غلافه وألقاهما فى نار الموقد ، وعندما خبت ألسنة النار إمتلأ المكان برائحة غريبة .
- " يالها من رائحة جيدة ! أى نوع من الفطائر تأكلون ؟ " كان هذا صوت السيد توا بي وو يعلن عن وصوله . كان هذا الرجل عادة مايأتى الى صالة الشاى كل يوم ، فيكون أول الحاضرين وأخر المنصرفين ، كان قد وصل الى الطاولة المواجهة للشارع التى تقع فى الركن ، ثم جلس وسأل هذا السؤال ، لكنه لم يتلق الى رد .
- " هل هى عصيدة الأرز المحمص ؟" مرة أخرى لم يتلق أى رد . أسرع هوا تشوان وصب له الشاى .
- " يابنى ، يمكنك الدخول الأن "
دعت زوجة هوا تشوان ابنها للدخول للغرفة الداخلية ، كان يوجد كرسى فى منتصف الغرفة جلس عليه ، قدمت اليه أمه طبقا به شيء أسود دائرى الشكل وقالت له بلطف :" تناولها وستشفى من المرض "
تناول ابنها الطبق ونظر اليه وبدا كأنه يحمل حياته بين يديه وامتلأ قلبه بالدهشة والفضول ، بحرص شديد شق كرة الخبز السوداء وعلى الفور خرج من القشرة المتفحمة بخار أبيض . عندما إنقشع هذا البخار الأبيض كشف عن لبين أبيضين من الخبز ، لم يبذل مزيدا من الجهد حتى كان قد أكل الخبز كله ، ولكنه نسى تماما ماهو طعم هذا الخبز ولم يتبقى أمامه سوى طبق فارغ ، وبجانبه وقف والده فى أحد الجوانب ووقفت أمه فى الجانب المقابل وبدت عيناهما كأنهما يترقبان اى شيء يدخل أو يخرج من جسده ، لم يتحمل ابنهما ضربات قلبه المتلاحقة وضغط على صدره بيديه وأطلق سعلة حادة .
- " خذ قسطا من النوم وستكون على مايرام "
إمتثل لأمر أمه ونام وهو يسعل ، إنتظرت حتى إنتظمت أنفاسه وقامت بلطف وغطته بلحاف مليء بالرقع .
3
إزداد عدد الزبائن فى صالة الشاى وأصبح هوا تشوان أكثر إنشغالا ، فهاهو يحمل إبريق الشاى النحاسى الكبير ويمر على الزبائن ويصب لهم الشاى ولكن هالة سوداء رفيعة أحاطت كلتا عينيه .
- " هوا تشوان ، هل أنت مريض ؟ " سأله رجل ذو لحية بيضاء شعثاء .
- " لا ، لست مريضا "
- " لست مريضا ؟! أريد أن أضحك ملء فمى ، أتمنى ألا يكون ......" أثر الرجل ذو اللحية البيضاء الصمت ولم يكمل جملته .
- " هوا تشوان مشغول فقط ، لولا أن إبنه ......." لم يكمل السيد توا بى جملته حتى إندفع رجل فجأة داخلا من الباب . كان دميم الوجه يرتدى ثوبا أسود مفتوحة أزراره عند الصدر ويلف حول خصره حزاما أسود عريضا حيث لفه بطريقة عشوائية . بمجرد أن دخل من الباب صاح قائلا لهوا تشوان :" هل تناوله ؟ هل تحسن ؟ هوا تشوان أنت محظوظ ! نعم أقولها لك أنت محظوظ فلولا مهارتى فى جمع المعلومات ......"
كان هوا تشوان يحمل فى يد إبريق الشاى واليد الأخرى وضعها بجانبه إظهارا للإحترام ، حيث استمع اليه واضعا إبتسامه على وجهه . كان كل الزبائن فى صالة الشاى يستمعون إليه أيض بإهتمام بالغ . أسرعت زوجة هوا تشوان وهالة سوداء أيضا تحيط بعينيها ، أحضرت له كوبا وضعت فيه ورقة من الشاى و ورقة من أوراق الزيتون و أسرع هوا تشوان وصب له الماء الساخن .
صاح الرجل الدميم قائلا " إنه علاج مضمون ، فهو يختلف عن أى علاجات أخرى تعرفانها ، تخيل هذا تأخذه وهو ساخن وتأكله وهو ساخن "
- " بالتأكيد فكيف كنا سنكون لولا عناية العم كانج " شكرته زوجة هوا تشوان فى إمتنان واضح .
- " إنه علاج مضمون فقط إذا تناولته وهو ساخن ، فهذا الخبز المغموس بالدم يستطيع أن يشفى أى مريض من السل "
عندما سمعت زوجة هوا تشوان كلمة " السل " إمتقع لون وجهها وعلته مسحة من الحزن ، لكنها أسرعت ورسمت إبتسامة على وجهها وغمغمت ببضع كلمات وغادرت مسرعة .
كان العم كانج هذا منعدم الإحساس فما زال يرفع صوته بالحديث عن هذا وعن ذاك حتى وصل صوته المرتفع الى ابن هوا تشوان النائم فى الداخل ، فاستيقظ على إثر سعلة .
- " إذن فقد صادف إبن هوا تشوان هذا الحظ السعيد فمن الطبيعى أنه سيشفى من هذا المرض ، ولا عجب إذن فى أن هوا تشوان يبتسم طوال اليوم " قال الرجل ذو اللحية البيضاء ثم وقف أمام العم كانج وأخفض رأسه هامسا إليه :" أيها العم كانج ، لقد سمعت أن المجرم الذى حكم عليه بالإعدام اليوم هو أحد أبناء عائلة شيا ، فمن هو هذا الشاب ؟ ما هى القصة بالتحديد ؟ "
- " من ؟ أليس هو ابن السيدة شياسى ؟ ذلك الشاب الصغير ! " لاحظ العم كانج أن كل الزبائن سصغون إليه بإهتمام فشعر بسعادة غامرة وانتفخ وجهه القبيح ورفع صوته قائلا :" ذلك الشاب الصغير لم يكن يريد الحياة ، نعم لم يكن يريد أن يعيش ، ولكننى فى هذه المرة لم أحصل على أى شيء ، حتى ملابسه الذى جُرد منها أعطيت للجلاد أيي ذو العين الحمراء . يجب أن نأخذ فى الإعتبار أولا أن هوا تشوان صادف هذا الحظ السعيد [..لأنه حصل على خبزه المغموس بالدم عندما تم إعدم ذلك الشاب ]، وثانيا أن العم الثالث لعائلة شيا قد ربح خمسة وعشرون عملة فضية يبضاء لامعة مثل الثلج وضعها كلها فى جيبه ولم ينفق منها شيئا "
مشى إبن هوا تشوان خارجا من الغرفة واضعا كلتا يديه على صدره وأخذ يسعل ، وصل الى الفرن وأخرج منه وجبة غذائه الباردة وصب لنفسه بعض الماء الساخن ، وجلس وأخذ يأكل . ذهبت اليه أمه وسألته بلطف :" يابنى هل تحسنت قليلا ؟ فأنت مازلت كما أنت تعانى من الجوع ......."
- " علاج مضمون ! علاج مضمون ! " رمق العم كانج أبن هوا تشوان بنظرة حادة ثم أشاح وجهه وتابع حديثه
- "إن ذلك العم الثالث لعائلة شيا حقا لرجل ذو حنكة فلو لم يبلغ السلطات عن ذلك الشاب لكان أعدم هو وعائلته كلها وصودرت أملاكهم ، ولكن كيف هو الأن ؟ إنها الفضة ! ذلك الشاب لم يكن يستحق الحياة ! حتى وهو فى السجن حاول أن يحرض السجان على الثورة "
- " اه ، ياله من أمر فظيع " أتاهم صوت شاب فى العشرينيات من عمره جالس فى إحدى الصفوف الخلفية حيث ظهر الغضب جليا فى نبرة صوته .
- " عليك أن تعرف أن أيي ذو العين الحمراء كان ذاهبا لإستجوابه ولكنه بدلا من ذلك أخذ يتبادل معه أطراف الحديث ، فقال له ذلك الشاب أن كل الأراضى الواقعة تحت حكم أسرة تشينغ هى ملك للعامة من الناس . فتخيل أنت هل هذا كلام رجل عاقل ؟ كان ذو العين الحمراء يعرف مسبقا بأنه لم يكن لديه سوى أمه العجوز ولكنه لم يتخيل أنه فقير الى هذا الحد فلم يكن معه أى شيء يستحق الذكر . كان غضب ذلك الشاب قد بلغ مبلغا عظيما فحاول أن يتعدى عليه بالضرب فأعطاه ذو العين الحمراء صفعتين قويتين "
- " أيي يجيد الفنون القتالية ، فمن المؤكد أن هاتين الصفعتين كانتا كفيلتين بإسكات ذلك الشاب " أتاهم صوت تو بى الجالس فى الزاوية فجأة وقد بدا سعيدا .
- " ذلك البائس الحقير لم يخش التعرض للضرب بل ظل فقط يردد " مثير للشفقة ، مثير للشفقة " .
- " ما المثير للشفقة فى ضرب ذلك الحقير ؟ " أتاهم صوت الرجل ذو اللحية البيضاء .
نظر العم كانج اليه بإزدراء وضحك بإستهزاء قائلا :" أنت لم تسمع كلامى جيدا ، إنظروا الى التعبير المرتسم على وجهه ، لقد قال ذلك الشاب أن أيي هو المثير للشفقة ! "
إرتسمت فى أعين الحاضرين نظرة من التبلد وتوقف الحديث . إنتهى إبن هوا تشوان من تناول الطعام واعتلا جبهته العرق الغزير وبدا أن هناك بخار يتصاعد من رأسه .
- " أيي مثير للشفقة ، هذا كلام رجل مجنون ، نعم لقد جُن ببساطة " أجابهم الرجل ذو اللحية البيضاء بعد أن تدارك خطأه .
- " لقد جُن " أجاب الشاب الذى فوق العشرين بقليل بعد أن إتضحت له الحقيقة .
عاد النشاط لصالة الشاى مرة أخرى وتصاعدت المناقشات والضحكات واشترك إبن هوا تشوان أيضا فى هذا اللغط ، وازداد سعاله قوة . وقف العم كانج وربت على كتفه قائلا :" إنه علاج مضمون لاداعى لأن تسعل كل هذا السعال ، إنه علاج مضمون ! "
- " لقد جُن " هز السيد توا بى رأسه متعجبا .
4
كانت هناك قطعة أرض خالية متاخمة لأسوار المدينة الشرقية ، كانت فى الأصل مقبرة . كان يخترقها طريق متعرج ضيق تكون عن طريق الناس الذين إنتعلوا هذه المقبرة ولكنه بدا وكأنه طريق طبيعى يقسم المقبرة ، فعلى يسار هذه الطريق يتم دفن المنفذ فيهم حكم الإعدام والمساجين الذين ماتوا فى غياهب السجون نتيجة الظروف السيئة داخل السجن ، أما الجانب الأيمن فتوجد مقابر الفقراء ، وعلى كلا الجانبين علت قباب القبور حيث بدت وكأنها كعكة عيد الميلاد فى أحد بيوت الأغنياء .
كان الطقس فى عيد تشينج مينغ * هذه السنة أكثرة برودة من المتوقع ، كانت أشجار الصفصاف قد نبت لها أغصان جديدة طولها نصف متر ، لم يكد يبزغ الفجر حتى كانت زوجة هوا تشوان فى الجانب الأيمن من الطريق تجلس بجانب أحد القبور المبنى حديثا . أخرجت أربعة أطباق ووضعتها على الأرض و وعاء وضعت به بعض الأرز وأخذت بالبكاء . قامت بإحراق بعض الورق المقوى كطقوس للميت * ثم جلست على الأرض بتبلد وبدت وكأنها تنتظر شيئا ما ولكنها لم تدر فى قرارة نفسها ما الذى تنتظره . هبت رياح خفيفة داعبت شعرها القصير الذى إشتد بياضه عن السنة الماضية .
على الطريق الصغير جاءت امرأة أخرى لَفع الشيب رأسها ، كانت ترتدى أسمالاً بالية ، كانت تحمل فى يدها سلة دائرية قديمة قرمزية اللون كات معلقا خارجها بعض الورق المقوى المعد للحرق ، كانت تمشى بضع خطوات ثم تتوقف لتلتقط أنفاسها . فجأة رأت زوجة هوا تشوان تجلس على الأرض وتنظر إليها ، فترددت قليلاً وظهر على وجهها الأبيض الشاحب بعض الخجل ، ولكنها فى النهاية قطبت جبينها وقصدت الى قبر فى الجهة اليسرى من الطريق و وضعت السلة جانبا .
كان ذلك القبر وقبر إبن هوا تشوان متوازيين على خط واحد ولم يكن يفصلهما عن بعضهما سوى ذلك الطريق الضيق . رأت زوجة هوا تشوان تلك السيدة تخرج الأطباق وترصها وتضع بها بعض الأرز ثم إعتدلت واقفة واجتاحتها نوبة بكاء ، حرقت بعض الأوراق ؛ إعتقدت زوجة هوا تشوان أن تلك المرأة ربما ليدها إبنا أيضا مدفون فى ذلك القبر .
ألقت تلك المرأة العجوز نظرة أخرى مترددة على القبر ، وفجأة إرتجفت كل من يديها ورجليها وترنحت متراجعة بضعة خطوات للخلف بينما حدقت عيناها بتبلد فى القبر . رأت زوجة هوا تشوان كل هذا فخشت على تلك المرأة من أن تجن من كثرة الحزن ولم تصبر أكثر من ذلك ، فهبت واقفة وعبرت الطريق الى الجهة الأخرى وقالت لها بصوت منخفض :" إن سيدة فى مثل سنك عليها ألا تحزن كل هذا الحزن ، هيا نعود أدراجنا معا ."
أومئت المرأة العجوز برأسها ولكن عينيها مازالتا محدقتين الى أعلى ، ثم قالت بصوت منخفض مرتعش :" إنظرى ما هذا الشيء هناك ؟ " . تتبعت زوجة هوا تشوان المكان الذى أشارت المرأة فرأت القبر الذى أمامهم كانت تغطيه الحشائش المتفرقة حيث ظهرت من أسفلها التربة الصفراء ، كانت قبيحة المظهر . وعندما أعادت النظر بدقة أكبر إندهشت لما رأته كان من الواضح أن هناك إكليلا من الزهور البيضاء والحمراء تحيط بالقبر .
كانت قوة أبصارهما قد تأثرت بفعل عوامل السن والشيخوخة ولكن كانتا تريان هذه الزهور بوضوح تام . لم تكن الزهور كثيرة ، كانت موضوعة بحيث تأخذ شكل دائرة ، لم تكن الزهور مقطوفة حديثا ولم تكن منظمة بشكل جيد . إنشغلت زوجة هوا تشوان بالنظر الى قبر إبنها والقبور المجاورة له ولكنها رأت فقط بضع زهور بيضاء شاحبة وقفت تقاوم البرد ، حيث إنتشرت فى أرجاء المكان . إنتاب زوجة هوا تشوان شعور بعدم الرضاء والفراغ ولكنها لم تشأ أن تنقاد لهذا الشعور . تقدمت تلك المرأة العجوز بضع خطوات وألقت نظرة أخرى فاحصة وقالت فى قرارة نفسها :" هذه الزهور ليست لها جذور وبذلك فهى لم تنبت نفسها بنفسها فلابد أن أحدهم وضعها هناك . ...... فمن يأتى لهذا المكان ؟ فلا الأولاد يأتون هنا للعب و أقاربنا لا يأتون الى هنا منذ فترة ....... فما الأمر إذن ؟ " أخذت تقلب الأمر فى رأسها و فجأة بدأت فى البكاء وقالت بصوت عالٍ
-" يابنى يو ، لقد ظلموك كلهم ، ولكنك لم تنس ولم تحزن ، ولكنك اليوم أظهرت هذه القدرة والمهارة ..[ فى وضع إكليل الزهور هذا مكانه ] فى هذا اليوم بالتحديد ، فما الذى تريد قوله لى من خلال ذلك ؟ " ....[ يتضح هنا أن "يو" هو نفسه الشاب الذى تم إعدامه صباح ذلك اليوم ] . نظرت فى جميع الأتجاهات ولكنها لم تجد سوى غراب يقف على شجرة خالية من الأوراق فأكمات قائلة :" يا بنى يو إنه لمن المؤسف حقا أنهم دفنوك هنا ، سوف يلاحقهم البلاء أينما كانوا ، السماء وحدها تعرف أنك فقط أغمضت عيناك متظاهرا بالموت ، ..... فإذا كنت هنا الأن وتسمع كلامى هذا فدعنى أراك تدعو ذلك الغراب ليطير ويحط على قبرك .. [ كدليل على ذلك ] " .
كانت الرياح الخفيفة قد توقفت عن الهبوب منذ مدة ، فسكنت الحشائش الجافة وكفت عن الإهتزاز فكانت مثل أسلاك نحاسية خارجة من باطن الأرض ، وتردد صوت المرأة المرتجف فى أرجاء المكان فكان كلما زاد إرتجافا كلما أصبح صداه أكثر خفوتاً حتى ينتهى الصوت الى العدم ثم يلفهم صمت الموت من كل مكان . كانتا واقفتين وسط الحشائش الجافة التى تعج بها المقابر ، رفعتا رأسيهما ونظرتا الى الأعلى فإذا بذلك الغراب مازال واقفا على تلك الشجرة ، أحنى رأسه للخلف قليلا و وقف كأنه تمثال من حديد .
مر الكثير من الوقت ، وازدادت أعداد القادمين الى المقابر ، الصغير منهم والكبير جاءوا لزيارة أقربائهم . لم تدر زوجة هوا تشوان ما الذى يتوجب عليها فعله ، فبدت وكأن حملاً ثقيلا قد أزيح عن كاهلها ومن ثم فكرت بالعودة الى البيت ، فقالت لتلك المرأة : " هيا بنا نعو الى البيت "
أطلقت تلك المرأة تنهيدة وأخذت تلملم الأطباق الموجودة على الأرض بوهن وفتور ، ترددت قليلا ولكنها فى النهاية سارت مبتعدة ببطء وأخذت تسأل نفسها " ما هذا الأمر بالتحديد ؟ " . لم يكادا يبتعدا بضع عشر خطوة حتى سمعتا صوت نعيق حاد ، إلتفتا خلفهما ناظرين فى فزع فإذا بهم يروا ذلك الغراب قد قوس نفسه وبسط جناحيه مستعدا للطيران ، ثم طار مثل الرمح نحو الأفق الواسع .
الهوامش :
* الدواء :
كُتبت هذه القصة فى شهر ابريل (نيسان ) من العام 1919 . تصف أحداث هذه القصة المجتمع الصينى قبل ثورة 1911 حيث كان يقبع تحت حكم أسرة تشيغ – أخر الأسر الملكية – الإقطاعى الفاسد . فى تلك الفترة شهد المجتمع الصينى بعض الإنتفاضات و الثورات من أهمها إنتفاضة يى خه توان وغيرها .
تصف قصة لو شون هذه مدى جهل الشعب الصينى بهذه الحركات الثورية بل و معارضتهم أحيانا لها ، حيث كانت تدعوا هذه الإنتفاضات الى التخلص من الأفكار الكنفوشيوسية وغيرها من الخرافات القديمة وكانت تدعو لدراسة العلوم والتكنو لوجيا ، أفكار لم يتقبلها الشعب الصينى حينها ولكنها أثبتت نجاعتها فيما بعد .
فشلت ثورة 1911 بسبب تدخل القوات الأجنبية وابتعادها عن الشعب . بعد كتابة هذه القصة بشهر على الأرجح قامت حركة 4 مايو 1919 حيث قامت المظاهرات الطلابية متسلحين بقصص لو شون ومقالاته الثورية ، التى إنتقد فيها المجتمع الصينى ليس فقط لمجرد النقد ولكن طمها فى توعية الشعب الصينى وتحريرة من الأفكار والخرافات القديمة والجهل الذى كان سائدا حينها . لم يقتصر نقد لو شون على الحكومة فقط ولكن كان نقده الأكبر موجها للعائلة الصينية التى ساهمت بشكل أو بأخر فى هذا الجهل والتخلف .
تصف هذه القصة عائلتين فى الصين أولهما عائلة هوا المتمثلة فى هوا تشوان وعائلته ، والثانية عائلة شيا المتمثلة فى السيدة شياسى وإبنها ، كلتا العائلتين وقع عليه ظلم ونكبة من نوع ما وكلتا العائلتين كانتا ضحايا لنظام فاسد ، ومن الطريف أنك إذا جمعت اسمى هاتين العائلتين فى كلمة واحدة ( هوا شيا ) فهى تعنى ( الصين ) فى دلالة واضحة على أن هذا الظلم وقع على الصين كلها وليس فقط عائلتين .
* الخبز المغموس بالدم : إنتشرت خرافة فى الصين القديمة مفادها أن الخبز المغموس بالدم يساعد فى علاج مرض السل
* عيد تشينغ مينغ : عيد تقليدى فى الصين يكون بين اليوم الرابع أو الخامس من إبريل ، من النشاطات التقليدية فى هذا العيد ترميم وكنس القبور وإحراق بعض الأوراق النحاسية أو الورق المقوى و وضع الطعام وغيرها كتعبير عن إحترامهم للميت .