المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حيتان على مائدة عشاء!



جواد البشيتي
20/03/2007, 03:13 PM
حيتان على مائدة عشاء!

جواد البشيتي

ما أصعب أن تَجِدَ نفسك في وسط جماعة ليس من لغة مشترَكة بينك وبينهم، فتُكْرَه على أن تعتصم بحبل الصمت، مُسْتَمِعا لأحاديث، هي في ميزانك لا وَزْن ولا أهمية لها، وقد يعسر عليك فهم كثيرٍ من مفرداتها، وعباراتها، ومصطلحاتها.

حَدَثَ معي شيء من هذا القبيل حين دعاني قريب لي إلى العشاء في منزله، ليفاجئني بجمع من ضيوفه، من شتَّى المنابت والأصول؛ ولكن يجمعهم ويفرِّقهم شيء واحد هو سوق الأسهم (البورصة) فكلهم من كبار المستثمرين في الأسهم.. بعضهم وزراء سابقون، وبعضهم مدراء بنوك، بعضها "إسلامي" الخَلْق والخُلْق، وبعضهم مستثمرون ـ إعلاميون، أي يؤدُّون عملا إعلاميا ماليا إلى جانب الاتِّجار بالأسهم.

تارةً، كانوا يتبادلون أحاديث تفوح منها رائحة الحرب الباردة، وطوراً يتبادلون عبارات المجاملة والتبجيل والألقاب الرفيعة، فالمصلحة بتناقضها كانت هي قوة الجذب والطرد في العلاقة بينهم.

بعضهم تحدَّث بتشاؤم عن متوسط عُمْر المستثمر في سوق الأسهم، وبعضهم تحدَّث عمَّا يعانيه من أمراض في القلب. لكنَّ "الأرقام" التي كانوا يذكرونها في أحاديثهم كانت هي سيِّدة الكلام؛ أمَّا وقعها في نفسي، وفي نفس كل من يشبهني اقتصاديا وماليا، فكان من السوء بمكان.

ثمَّة شيء في أحاديثهم أدهشني وحيَّرني أكثر من سواه، وهو رغبتهم الدينية في أن يُقْنِعوا أنفسهم، أو بعضهم بعضا، بأنَّ الاستثمار في البورصة، أو الاتِّجار بالأسهم، بيعاً وشراءً، ليس ضربا من "القمار"، أو "المَيْسِر"، فالآية تقول: "يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبيرٌ". وتذكَّرتُ رفاقهم من المستثمرين في المصارف حين توفَّروا، مع كثير من الشيوخ، على إنتاج فتاوى تُنَزِّه هذا النوع من الاستثمار عن "الربا" إذا ما استوفى شروطه الدينية الإسلامية.

لقد رأيتُ في هذا الجانب من الجدل، الذي لن يحسموه أبدا، كيف يُسوَّى النزاع بين مصالح البشر (الاقتصادية والمالية في المقام الأول) وبين ما هو في منزلة البديهية الهندسية، فالمصالح يمكنها أن تكون حربا حتى على ما يشبه تلك البديهية من المبادئ والمعتقدات إذا ما أخفقت في تأويلها بما يعود بالنفع والفائدة عليها.

على ما يكتنف العلاقة بينهم من مبادئ داروينية، أهمها مبدأ صراع البقاء، اتفقوا وتواضعوا على أنَّ الاستثمار في سوق الأسهم فيه من المعاني والنتائج ما يجعله من "الحلال الخالص"، وليس فيه ما يَحْمِلنا على النظر إليه على أنه ضرب من القمار، بإثمه الكبير.

في هذا الجدل سمعت كثيرا كلمة Risk (المجازفة) وكأنها هي التي، بمعناها، تقيم الدليل على أنَّ الاتِّجار بالأسهم ليس قمارا، وليس إثما كبيرا بالتالي.

القمار إنَّما هو كل لعب يُشْتَرَط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئا من المال، سواء أكان بالورق أم بغيره. والقمار بتعريفه هذا هو "المجازفة" بعينها، فاحتمالا الربح والخسارة متساويان في وجه عام. إنَّ "المجازفة"، التي ينطوي عليها كل استثمار حتى ذاك الذي يربيه الله وهو التجارة، ليست بالمعيار الذي به يصلح تمييز الحلال من الحرام.

حتى معيار "النفع العام" ليس بصالح، فالاستثمار في سوق الأسهم ليس من النمط الذي يُنْتِج ثروة مادية حقيقية للمجتمع، فهو لا يؤدِّي إلا إلى تقاسُم، وإعادة تقاسُم، "القيمة الجديدة" المُنْتَجة في قطاعات الإنتاج المادي كالصناعة والزراعة.

الاتِّجار بالأسهم، بيعاً وشراءً، يظلُّ كلَعِب القمار في النوادي؛ يُشْتَرَط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئا من المال؛ ولكن ورق هذا اللعب هو "الأسهم". وثمَّة فَرْق كبير بين أن تملك أسهما في شركة وبين أن تبيع أو تشتري أسهما في البورصة، فأنتَ مستثمِر حقيقي إذا ما امتلكتَ أسهما في شركة (في مصنع مثلا) وأنتَ لاعب قمار، لا ريب في معناه، إذا ما اتَّجَرْت بالأسهم ذاتها، بيعاً أو شراءً. و"الإثم" يَعْظُم عندما تؤثِّر في سوق الأسهم بوسائل وطرائق وأساليب، يجتمع فيها الكذب والخداع والإشاعة والتآمُر، أي عندما تصطنع، بتلك الوسائل والطرائق والأساليب، ما يؤثِّر في عمل قانون العرض والطلب في هذه السوق بما يفيدكَ ويضر غيرك. ومع أنَّ الكذب والخداع والإشاعة والتآمُر.. هي قوام الأخلاق الحقيقية في سوق الأسهم فقد حرص المستثمرون فيها على تجميلها بتسميات جميلة من قبيل الحذق والمهارة والذكاء الاستثماري..

هذا المرض الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي انتشر وعمَّ، فجمهور المستثمرين في سوق الأسهم من مواطنينا في اتِّساع وتزايد مستمرين، وإنْ كان معظمه، من الناحية العددية، من صغار المستثمرين، الذين هُم الضحية الكبرى على وجه العموم.

الشأن السياسي تخلَّل أحاديثهم، فكانوا "ساسة"؛ ولكن من النمط "الشيلوكي"، فكل تطوُّر أو حدث سياسي يمكن أن يعود على مصالحهم الشخصية في سوق الأسهم بالنفع والفائدة هو تطوُّر جيِّد. بعضهم تمنى أن "تطوِّر" قمة الرياض المقبلة "مبادرة السلام العربية" بما يلبي مطالب ليفني؛ لأنَّ هذا، بحسب توقُّعه، سيؤدي إلى ازدهار تلك السوق. وعندما قال أحدهم إنَّ لإسرائيل يداً، أو أصابع، في إحدى الشركات، فيُحْجِم، بالتالي، كثير من المستثمرين عن الاتِّجار بأسهمها، ردَّ عليه آخر قائلا: ليس من "يهود" في الشركة، وكل ما في الأمر أنَّ منتجات إسرائيلية تُوْجَد فيها. وهذا إنَّما يعني أنَّ مصلحته تقضي بتحريم تطبيع العلاقة مع "اليهود"، حتى الآن، وتحليل تطبيعها مع "المنتجات الإسرائيلية" الآن!

العشاء انتهى؛ ولكن نتائجه لم تنتهِ بَعْد، ولسوف نراها عمَّا قريب في الأسعار، في الأرباح والخسائر، في الحيتان والأسماك!