محمد صباح الحواصلي
17/10/2006, 10:08 AM
زمن الثلج الدافئ
قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
خريف 1985
نسير معا عبر كورنيش (جدة). الليل هنا رخو مسالم. نسير في ظلمة هادئة رصينة حيث الفضاء مفعم بعبق البحر, وقد اختلطت الذكريات بهديره الأبدي.
- "جميل ليل جدة.."
- "وجميل أن نلتقي بعد هذه السنين الطوال." حيث تطيب الذكريات ويتفتق ما في الماضي من ألق, وتطلع, وخيبة. إنها إحدى مزايا الماضي أنه لا يحابي ولا يخمد.
- "ترى هل استطعتَ أن تسبق الشمسَ خلال ذلك الزمن المديد؟"
- "وأنتَ, هل بمقدورك الآن أن تخربش الصخر بأظافرك الهرمة تلك؟"
كم كانت رائعة تلك الأيام. كنا على الأقل نمتلك إحساسا ثريا تجاه الزمن.. وكأننا امتلكنا لحظة الأبدية.
- "لقد تغيرنا يا صديقي على نحو لم يكن في الحسبان. أصبحنا نفكر بحذر, ونقدِمُ بحذر. لقد دخلنا زمن اليقين والوضوح ولم يعد ثمة أفق جديد نصبو إليه.
التفت بخيبة إلى الأفق الذي كان مظلما وله هدير عمره ملايين السنين.
شتاء 1962
هاأنذا أضرب بعيدا خلف أسوار الذكريات, آخذا طريقي إلى الماضي الذي ما عهدناه إلا جامحا ثراً بآلاف الأحاسيس.
حقا يا صديقي إن الماضي لا يخمد.
إنه معنا. وهاأنذا أرى ذينك الصبيين وهما يدلفان بين القبور. إنه دربهما اليومي المألوف المفضي إلى المدرسة. يطآن بأقدامهما دوارس الأشواك ونباتات الفطر, وقد اعتادا على رائحة التراب الجاف وأغصان الآس الخضراء. يستقبلان الشمس كل صباح في غدوهم وهي تصعد أول النهار. بمكنتي أن استرجع شيئا من حديثهما. إنهما يتحدثان عن الرجولة والقوة وأنهما لم يعودا صغيرين وأنهما يستطيعان أن يجوبا آفاق الدنيا دون وجل وبكل جرأة. وبغتة, تفيض في عطفيهما مشاعر عذبة مرهفة فيما أحدهما يقول للآخر:
- "إنها جميلة.. أليس كذلك؟"
- "مثل القمر.. لكنها لم تنظر إلي."
- "الا يكفي أنك نظرت اليها؟"
وعندما بلغا نهاية المقبرة صرخ أحدهما:
- "ياه.. لقد نسيت أن أكتب وظيفة الإنشاء."
- "وماذا ستفعل الآن؟"
- "لا أدري."
- "لا عليك, تعال نتعاون على كتابتها."
اتكآ على قبر رخامي وجعل أحدهما يكتب فيما راح الآخر يرسل بصره خلال القبور المستسلمة لصمتها الأبدي. ثم قفزا من فوق سور المقبرة ودلجا في الطريق الذي ينتهي بالمدرسة.
ربيع 1962
الربيع آتٍ, ولن يكون هناك من هو أكثر منا سعادة. بل من هو أسعد منك أنتَ بالذات. فعهدي بكَ جريء قادر على أن تخلق أروع اللحظات بهجة وحبورا. لم تكن محدودا يا صديقي. حتى في طفولتك كنتَ بركانا لا يخمد. أما عيناك فكم كانتا تواقتين لمسابقة الشمس.
في ذلك اليوم الربيعي هربنا من المدرسة غير آبهين بالعقاب. بل لا أذكر أن العقاب قد شغل حيزا من تفكيرنا, لأننا كنا بمشاعرنا كلها هناك, وراء أفق المدينة المجهول. نطمح بأن نجول (حواكير) الصبار, ثم نجتاز الطرقات الخضرة الحالمة التي كنا نحسب أن لا نهاية لها. اخضرار لا نهائي يكلله المجهول وحب الاكتشاف.
ركبنا دراجتينا.
- "إلى أين؟"
أجبتني: "اتبعني."
وانطلقنا عبر زحام شوارع دمشق. أرسلتُ نظرة إلى السماء. كانت الشمس ترسل دفئا لذيذا يحرض على الإنطلاق. وجاذبني لحظتها شعور بأن الشمس ترمقنا بعين رعايتها وحدنا دون العالمين. تابعنا إلى أن تجاوزنا شتيت البيوت التي تشكل مشارف المدينة, ودلفنا طرقا ملتوية محفوفة بغبطة الاقدام وخشية المجهول. كنتُ أرقب الشمس فيما كنا منطلقين نحو أفق جديد لا أدري متى نبلغه.
رباه! الشمس تدنو من الأصيل والمدينة تذوب خلفنا. يجب أن نعود قبل أن تباغتنا الظلمة. كنتَ منطلقا أمامي لا تلوي على شيء. أناديك:
- "عبد الرزاق.. يجب أن نعود قبل أن تظلم السماء."
- "اتبعني بسرعة.."
- "ولكن إلى أين؟"
- "إلى آخر الدنيا.."
وتزيد من سرعتك, وأراك وأنت ترفع بصرك إلى الشمس وتصرخ بانتشاء:
- "أريد أن أسبق الشمس."
بيد أن الشمس سرعان ما نسحبت بوقارها السرمدي, وأظلمت السماء فيما كنا عائدين منهكين نلوذ بدراجتينا إلى أقصى اليمين كلما داهمتنا أنوار الحافلات والشاحنات.
شتاء 1966
ِلمَ تلك النفرة التي كانت تنغص رواق صداقتنا وتنبت بيننا كالصحالب؟
أصغ إليَّ جيدا يا صديقي. أنا أعلم أنني كثيرا ما أكون البادي في الخطأ, بيد أنني في ذلك المساء البارد كنت على شيء من الحق. بل لأقل إنني كنت معذورا. لقد كنتُ متأججا للغاية, وقد تنبهتْ بداخلي أحاسيس مرهفة متوهجة لا عهد لي بها من قبل. لقد وجدتُ نفسي ليلتها قادرا على أن أكون ما أريد. كنتُ في تلك اللحظات في ذروة من ذرى الاشراق. وكنتُ على وشك أن أقول لك: "هيا بنا يا صديقي لقد أزف وقت الخلق والعطاء.. وقت الإبحار."
بيد أنني لم أجد صدىً لكلامي في أعماقك. بدوتَ لي متريثا يا من أبيتَ إلا أنْ تسابق الشمس. فجمحَتْ نفسي, وكنا قد بلغنا باب دارك, فرأيتني أغزر أظافري في الحائط وأخربشة بقسوة وأنا أصرخ: "لا بد من أن أبلغ ما أريد.."
يا الهي كم كان الجدارُ الصلبُ ليناً! وكأنني كنتُ أغزر فيه أصابعَ من فولاذ. أكتشفتُ لحظتها أن فينا طاقات خبيئة مذهلة, وأن الوصولَ مهما كان بعيدا فهو أقرب من اليأس.
أتذكرها جيدا تلك الأيام يا عبد الرزاق؟
لعل أكثر ما أذكر منها أننا كنا في أوج ثقتنا بأنفسنا وبالمستقبل. كنا دائما على موعد مع الغد الذي ما كنا نحسب أنه سيخذلنا. كنا نحبُ بامتلاء, ونحتدُ بامتلاء, ونؤمنُ بامتلاء, ونغامرُ بامتلاء. وكنا عندما نُصدم نبكي بمرارة, بل أحيانا نبكي مثل الأطفال.
إلى أن أدبرت أيام الصبا بكل تألقها وحرارتها. واستقبلنا, بكثير من التوجس, زمن الريبة والتجريد. ياه.. كم كنا صعبين! كان الإبهام قوتنا.. نركن إلى فيضه الذي كان يولد في أعماقنا توقا إلى المجهول.
كانت حقا رحلة عبثية تلك التي كنا نجوبها دائما عبر مسارب الذات. أترانا كنا ندرك خطورة أن نطلق العنان لنفسينا وندعهما تخترقان حرمة الموروث وصفاء الوضوح؟ لقد ضللنا الطريق لا محالة, وهربنا من طاعة السيد الحقيقي للذات البشرية, وجعلنا نركض ونركض بنشوة جامحة صوب أفق جديد.
ولكن هذه المرة كنا نركض نحو سراب, إذ فقدنا المقدرة على إيجاد بديل.
شتاء 1970
لقد غيبك اللحن.. "بحيرة البجع."
غياب عبر طبقات الحلم, وخيوط من آمال حلوة تغالب في ذهنكَ كل ما يمكن أن يعيقها. هذا ما قرأته في عينيكَ اللتين لا تستطيعان أن تخبئا شيئا.
- "هل وصلتَ يا صديقي؟" أسألك.
ابتسمْتَ. داعبت سيجارتك بأصبعك وأنتَ تنفخ دخانها بنظرة ساهمة. لم تجبني. وتلك هي روعتك.. أنكَ تلوذ إلى الصمت عندما تريد أن تقول كل شيء.
أترانا استطعنا أن نجوب آفاق الدنيا؟ هل سبرنا الآفاق المجهولة؟ يا لروعة الصبا الذي اتسع لكل الأحلام. كنا نظن أن الدنيا ستفتح لنا صدرها ونجوبها بما ستملكنا أياه من حرية هائلة لننفذ إلى المجهول.. إلى ما وراء الآفاق.. إلى عبق النور والحلم.
- "ها قد أدبر الصبا يا صديقي بتألقه كله."
- "واستقبلنا, بكثير من الثقة, زمن الخيبة والإخفاق."
وتخلدُ من جديد إلى الصمت, وتغيبُ مع اللحن.. مع انسياب البجعات على سطح البحيرة الراكد. وعندما تهب الريح فجأة, وتبدد هدأة البجعات, أدركُ أنكَ جمحتَ وتجاوزتَ صحاري الإخفاق وبلغتَ الآفاق البعيدة.
اوقظك من غفوتك.
- "أنظر إلى الثلج.."
تلتفتُ إلى النافذة بشوق. نتفُ الثلج البيضاء تولد فرحا طفوليا في أعطافنا. نرقبُ الثلجَ وهو يتراكم على حافة النافذة فيما كانت أسراب البجعات تنساب من جديد فوق هدوء سطح البحيرة.
من مجموعة "غرق السندباد"
قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
خريف 1985
نسير معا عبر كورنيش (جدة). الليل هنا رخو مسالم. نسير في ظلمة هادئة رصينة حيث الفضاء مفعم بعبق البحر, وقد اختلطت الذكريات بهديره الأبدي.
- "جميل ليل جدة.."
- "وجميل أن نلتقي بعد هذه السنين الطوال." حيث تطيب الذكريات ويتفتق ما في الماضي من ألق, وتطلع, وخيبة. إنها إحدى مزايا الماضي أنه لا يحابي ولا يخمد.
- "ترى هل استطعتَ أن تسبق الشمسَ خلال ذلك الزمن المديد؟"
- "وأنتَ, هل بمقدورك الآن أن تخربش الصخر بأظافرك الهرمة تلك؟"
كم كانت رائعة تلك الأيام. كنا على الأقل نمتلك إحساسا ثريا تجاه الزمن.. وكأننا امتلكنا لحظة الأبدية.
- "لقد تغيرنا يا صديقي على نحو لم يكن في الحسبان. أصبحنا نفكر بحذر, ونقدِمُ بحذر. لقد دخلنا زمن اليقين والوضوح ولم يعد ثمة أفق جديد نصبو إليه.
التفت بخيبة إلى الأفق الذي كان مظلما وله هدير عمره ملايين السنين.
شتاء 1962
هاأنذا أضرب بعيدا خلف أسوار الذكريات, آخذا طريقي إلى الماضي الذي ما عهدناه إلا جامحا ثراً بآلاف الأحاسيس.
حقا يا صديقي إن الماضي لا يخمد.
إنه معنا. وهاأنذا أرى ذينك الصبيين وهما يدلفان بين القبور. إنه دربهما اليومي المألوف المفضي إلى المدرسة. يطآن بأقدامهما دوارس الأشواك ونباتات الفطر, وقد اعتادا على رائحة التراب الجاف وأغصان الآس الخضراء. يستقبلان الشمس كل صباح في غدوهم وهي تصعد أول النهار. بمكنتي أن استرجع شيئا من حديثهما. إنهما يتحدثان عن الرجولة والقوة وأنهما لم يعودا صغيرين وأنهما يستطيعان أن يجوبا آفاق الدنيا دون وجل وبكل جرأة. وبغتة, تفيض في عطفيهما مشاعر عذبة مرهفة فيما أحدهما يقول للآخر:
- "إنها جميلة.. أليس كذلك؟"
- "مثل القمر.. لكنها لم تنظر إلي."
- "الا يكفي أنك نظرت اليها؟"
وعندما بلغا نهاية المقبرة صرخ أحدهما:
- "ياه.. لقد نسيت أن أكتب وظيفة الإنشاء."
- "وماذا ستفعل الآن؟"
- "لا أدري."
- "لا عليك, تعال نتعاون على كتابتها."
اتكآ على قبر رخامي وجعل أحدهما يكتب فيما راح الآخر يرسل بصره خلال القبور المستسلمة لصمتها الأبدي. ثم قفزا من فوق سور المقبرة ودلجا في الطريق الذي ينتهي بالمدرسة.
ربيع 1962
الربيع آتٍ, ولن يكون هناك من هو أكثر منا سعادة. بل من هو أسعد منك أنتَ بالذات. فعهدي بكَ جريء قادر على أن تخلق أروع اللحظات بهجة وحبورا. لم تكن محدودا يا صديقي. حتى في طفولتك كنتَ بركانا لا يخمد. أما عيناك فكم كانتا تواقتين لمسابقة الشمس.
في ذلك اليوم الربيعي هربنا من المدرسة غير آبهين بالعقاب. بل لا أذكر أن العقاب قد شغل حيزا من تفكيرنا, لأننا كنا بمشاعرنا كلها هناك, وراء أفق المدينة المجهول. نطمح بأن نجول (حواكير) الصبار, ثم نجتاز الطرقات الخضرة الحالمة التي كنا نحسب أن لا نهاية لها. اخضرار لا نهائي يكلله المجهول وحب الاكتشاف.
ركبنا دراجتينا.
- "إلى أين؟"
أجبتني: "اتبعني."
وانطلقنا عبر زحام شوارع دمشق. أرسلتُ نظرة إلى السماء. كانت الشمس ترسل دفئا لذيذا يحرض على الإنطلاق. وجاذبني لحظتها شعور بأن الشمس ترمقنا بعين رعايتها وحدنا دون العالمين. تابعنا إلى أن تجاوزنا شتيت البيوت التي تشكل مشارف المدينة, ودلفنا طرقا ملتوية محفوفة بغبطة الاقدام وخشية المجهول. كنتُ أرقب الشمس فيما كنا منطلقين نحو أفق جديد لا أدري متى نبلغه.
رباه! الشمس تدنو من الأصيل والمدينة تذوب خلفنا. يجب أن نعود قبل أن تباغتنا الظلمة. كنتَ منطلقا أمامي لا تلوي على شيء. أناديك:
- "عبد الرزاق.. يجب أن نعود قبل أن تظلم السماء."
- "اتبعني بسرعة.."
- "ولكن إلى أين؟"
- "إلى آخر الدنيا.."
وتزيد من سرعتك, وأراك وأنت ترفع بصرك إلى الشمس وتصرخ بانتشاء:
- "أريد أن أسبق الشمس."
بيد أن الشمس سرعان ما نسحبت بوقارها السرمدي, وأظلمت السماء فيما كنا عائدين منهكين نلوذ بدراجتينا إلى أقصى اليمين كلما داهمتنا أنوار الحافلات والشاحنات.
شتاء 1966
ِلمَ تلك النفرة التي كانت تنغص رواق صداقتنا وتنبت بيننا كالصحالب؟
أصغ إليَّ جيدا يا صديقي. أنا أعلم أنني كثيرا ما أكون البادي في الخطأ, بيد أنني في ذلك المساء البارد كنت على شيء من الحق. بل لأقل إنني كنت معذورا. لقد كنتُ متأججا للغاية, وقد تنبهتْ بداخلي أحاسيس مرهفة متوهجة لا عهد لي بها من قبل. لقد وجدتُ نفسي ليلتها قادرا على أن أكون ما أريد. كنتُ في تلك اللحظات في ذروة من ذرى الاشراق. وكنتُ على وشك أن أقول لك: "هيا بنا يا صديقي لقد أزف وقت الخلق والعطاء.. وقت الإبحار."
بيد أنني لم أجد صدىً لكلامي في أعماقك. بدوتَ لي متريثا يا من أبيتَ إلا أنْ تسابق الشمس. فجمحَتْ نفسي, وكنا قد بلغنا باب دارك, فرأيتني أغزر أظافري في الحائط وأخربشة بقسوة وأنا أصرخ: "لا بد من أن أبلغ ما أريد.."
يا الهي كم كان الجدارُ الصلبُ ليناً! وكأنني كنتُ أغزر فيه أصابعَ من فولاذ. أكتشفتُ لحظتها أن فينا طاقات خبيئة مذهلة, وأن الوصولَ مهما كان بعيدا فهو أقرب من اليأس.
أتذكرها جيدا تلك الأيام يا عبد الرزاق؟
لعل أكثر ما أذكر منها أننا كنا في أوج ثقتنا بأنفسنا وبالمستقبل. كنا دائما على موعد مع الغد الذي ما كنا نحسب أنه سيخذلنا. كنا نحبُ بامتلاء, ونحتدُ بامتلاء, ونؤمنُ بامتلاء, ونغامرُ بامتلاء. وكنا عندما نُصدم نبكي بمرارة, بل أحيانا نبكي مثل الأطفال.
إلى أن أدبرت أيام الصبا بكل تألقها وحرارتها. واستقبلنا, بكثير من التوجس, زمن الريبة والتجريد. ياه.. كم كنا صعبين! كان الإبهام قوتنا.. نركن إلى فيضه الذي كان يولد في أعماقنا توقا إلى المجهول.
كانت حقا رحلة عبثية تلك التي كنا نجوبها دائما عبر مسارب الذات. أترانا كنا ندرك خطورة أن نطلق العنان لنفسينا وندعهما تخترقان حرمة الموروث وصفاء الوضوح؟ لقد ضللنا الطريق لا محالة, وهربنا من طاعة السيد الحقيقي للذات البشرية, وجعلنا نركض ونركض بنشوة جامحة صوب أفق جديد.
ولكن هذه المرة كنا نركض نحو سراب, إذ فقدنا المقدرة على إيجاد بديل.
شتاء 1970
لقد غيبك اللحن.. "بحيرة البجع."
غياب عبر طبقات الحلم, وخيوط من آمال حلوة تغالب في ذهنكَ كل ما يمكن أن يعيقها. هذا ما قرأته في عينيكَ اللتين لا تستطيعان أن تخبئا شيئا.
- "هل وصلتَ يا صديقي؟" أسألك.
ابتسمْتَ. داعبت سيجارتك بأصبعك وأنتَ تنفخ دخانها بنظرة ساهمة. لم تجبني. وتلك هي روعتك.. أنكَ تلوذ إلى الصمت عندما تريد أن تقول كل شيء.
أترانا استطعنا أن نجوب آفاق الدنيا؟ هل سبرنا الآفاق المجهولة؟ يا لروعة الصبا الذي اتسع لكل الأحلام. كنا نظن أن الدنيا ستفتح لنا صدرها ونجوبها بما ستملكنا أياه من حرية هائلة لننفذ إلى المجهول.. إلى ما وراء الآفاق.. إلى عبق النور والحلم.
- "ها قد أدبر الصبا يا صديقي بتألقه كله."
- "واستقبلنا, بكثير من الثقة, زمن الخيبة والإخفاق."
وتخلدُ من جديد إلى الصمت, وتغيبُ مع اللحن.. مع انسياب البجعات على سطح البحيرة الراكد. وعندما تهب الريح فجأة, وتبدد هدأة البجعات, أدركُ أنكَ جمحتَ وتجاوزتَ صحاري الإخفاق وبلغتَ الآفاق البعيدة.
اوقظك من غفوتك.
- "أنظر إلى الثلج.."
تلتفتُ إلى النافذة بشوق. نتفُ الثلج البيضاء تولد فرحا طفوليا في أعطافنا. نرقبُ الثلجَ وهو يتراكم على حافة النافذة فيما كانت أسراب البجعات تنساب من جديد فوق هدوء سطح البحيرة.
من مجموعة "غرق السندباد"