المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ألف سلامه



مجدي راشد
13/11/2010, 02:06 PM
منذ غرق العبارة السلام ونجاته منها بأعجوبة ظل سلامه ملتصقا بسطح الأرض ولم يفكر في استخدام أي وسيلة أخرى يعود بها إلى بلده سواء كانت وسيلة جوية أو بحرية .. ماذا يفعل وقد شاء القدر أن يصبح أسيرا داخل هذا القفص الجميل مترامي الأطراف بقضبانه الأسمنتية البديعة الشاهقة وهذه التربة الصفراء القاسية المحاطة بالمياه المالحة من كل جانب .. وهذه البيوت الأشبه بصوب زجاجية غاية في الراحة .. هو نعيم يزهد فيه ولا يُطرِب قلبه المتعلق بحياة الريف ..
لا مفر أمام فتى الريف البسيط سوى ركوب هذا الوحش بأمواجه العاتية أو أن يُعلّق بين السماء والأرض حتى يصل إلى عشقه الذي هجره بكامل إرادته ..
يراوده كل ليلة نفس الحلم وهو يأوي إلى أرض قريته التي تربي فيها واكتست بشرته بلون قمحها .. هي عشقه الذي تخلى عنه واستسلم لمحاولات إخوته بتحويلها إلى أرض بور حتى يبنوا عليها ويزداد سعرها .. هي الأرض التي ضمت جسد أبيه وأمه وهي مأواه الذي لا يتوقف عن العطاء ..
أراد إخوته أن يغرسوا فيها هذه الكتل الأسمنتية الصامتة بعطائها المحدود .. لم يعيروا رأيه أي اهتمام فهو في نظرهم الصغير أسير أحلامه الذي لايعرف مصلحته .. ماإن بدأوا في البناء حتى تأسى بهم أهل القرية ولم يمر عام على موت أبيه حتى وجد العمائر وقد ارتشقت بظهر الأرض وأراقت خيراتها فلم يحتمل وقرر كعادته الهرب .. تنفس إخوته الصعداء وشجعوه على الرحيل ..
سلامه تيتانيك .. هو الإسم الذي أطلقه عليه زملاء عمله بعد نجاته من الغرق وظهوره في وسائل الإعلام وهو يحكي قصة نجاته .. كانوا يسخرون من لهجته الريفية التي جُبل لسانه عليها مما زاد غربته وحشة وقسوة جعلته يفكر في العودة عن طريق البحر ..
بعد هذه الحادثة أصبح محط أنظار كل من حوله .. كانوا يُلحون عليه حتى يقص عليهم ما حدث وبرغم نظرات السخرية الماكرة التي كان يلمحها في أعينهم أثناء القص إلا أنه كان يجد بعض الراحة لمجرد التفاف الناس حوله ومتابعة قصته التي كان يلتمس فيها مايبرر به أمام نفسه وأمامهم خوفه من السفر بأي وسيلة لا تلتصق بسطح الأرض ..
كان سبب سخريتهم هو أنه لم يركب العبارة يوم غرقها لأنه لم يلحق بها بسبب تأخره في الوصول .. توسل إليهم حتى يركب معهم ولكنهم رفضوا فاضطر للمبيت على رصيف الميناء على أمل اللحاق بالعبارة التالية .. مر الوقت عليه ثقيلا قبل أن يجد حركة غير طبيعية في الميناء .. ابتلع البحر العبارة ..
وقع عليه الخبر كالصاعقة .. تخيل نفسه بداخلها ولكنه حتى لم يحتمل هذا الهاجس فقرر الهروب مرة أخرى إلى داخل قفصه الذي حاول التسلل خارجه ولكنه عاد مرة أخرى أسيرا بلا أسوار ولا سدنة سوى هذا الخوف الرابض بداخله وتلك الرمال الجافة وهذه المياه المالحة التي تحيط به من كل جانب وهذا الجسر المزمع إقامته منذ سنوات ..
تركت قصة سلامه ونجاته الكثير من المرارة في نفوس بعض من استمعوا إليها وسخروا منه .. فقد تعروا ووقفوا شهودا أمام أنفسهم .. كل منهم كانت له قصة هروب وكل منهم اختار الوسيلة التي يلتصق بها إلى سطح الأرض ..
وقفوا جميعا أمام المرآة فوجدوا ...... ألف سلامه