المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شمعة في مهب الريح



عادل الامين
17/10/2006, 03:44 PM
كان أحمد الابن الأكبر ..ثم تلي ذلك عقد ثلاثي من الشقيقات كبراهن كوثر ثم سناء ثم إيمان ، توفي والدهم العامل في السكة الحديد بالذبحة الصدرية ولحقت به بعد عام واحد من الأحزان زوجته الطيبة فاطمة، وجد الشاب نفسه أمام مسؤولية جسيمة، إعالة شقيقاته الثلاث، تبددت أحلامه في دراسة الجامعة. كلية القانون حيث كانت تطوف أحلامه، كان يري في القانون سيد كل شيء، تنقل في بحثه عن عمل في وظائف كثيرة حتى استقر به المقام أخيرا كسائق شاحنة، ومن هذا العمل الشاق تعلم الحياة،ظل دائما يضع شقيقاته الثلاث نصب عينيه يعمل ليلا ونهارا ، ويوفر لهن الوضع الملائم الذي جعلهن يتطلعن لدراسة الجامعة.
توالت السنين وتمكنت شقيقاته الثلاث من الالتحاق بالجامعة .. درست كوثر الطب وتزوجت من أخصائي كبير وتقيم معه في إحدى دول البترول... درست سناء الاقتصاد وتزوجها مدير بنك وتعيش معه في ضاحية الصافية بمدينة الخرطوم بحري، أما إيمان الصغرى فدرست القانون وهي ألان مع زوجها في أمريكا.. ظلت شقيقاته طيلة فترة دراستهن بارات بشقيقهن، يغسلن ملابسه ويسهرن علي راحته، أصبح في المنزل كهارون الرشيد، حتى جاء اليوم الذي تزوجت فيه إيمان ورحلت مع زوجها عاد بعد رحلة طويلة وهو في غاية الإرهاق أوقف الشاحنة أمام المنزل المظلم الكئيب ، دلف إلي داخل البيت وهو يشعر بانقباض شديد .. لم يعد هناك أحد في المنزل، ملابسه المتسخة ملقاة في كل مكان و لأول مرة أحس في نفسه أنه لم يعد هناك أحد يضحي من أجله، الظلام الموحش يلف المكان بعباءته السوداء ويزيد من كآبته ، أضاء جميع أضواء البيت وجلس وحيدا يفكر ماذا بعد أن تزوجت البنات؟ ورحلن ، لقد أنجز مهمته علي أكمل وجه، هيأ لشقيقاته مستقبل تحلم به كل فتاة . " لابد أن أبواه في السماء ينظران إليه بعين الرضى ، ولكن ماذا حقق لنفسه ؟ " شعر انه لاشيء وظل هذا الشعور بالعدمية ينقص عليه حياته.. ولأول مرة خلال حياة الطويلة تسول له نفسه معاقرة الخمر، علها تملأ الفراغ العريض الذي أمتد داخله، لم تكن زجاجة الخمر عسيرة المنال خرج إلي الشاحنة وسرعان ما عاد متأبطا الزجاجة وبدأ يكرع الخمر المر شعر أن رأسه تدور... نظر بعينيه الزائغتين إلي شكله في مرآة الدولاب أمامه .. رأي شكل باهت لرجل خط الشيب رأسه اقترب من العقد الخامس من عمره ، نهض ونظر إلي نفسه في سخط تجرد من ملابسه وطفق يتأمل جسده المتين العاري .. وقف يفكر في هذا البركان الخامد الذي لم تتاح له فرصة ينفجر طيلة السنوات الماضية وهو يعاني الآمرين بين حديد الشاحنات وأوراق البنك نوت... طافت بخياله ذكريات حافلة بالشحن تذكر عندما كان يتوقف بشاحنته عند مدينة القضارف،و زملاؤه يندفعون داخل المدينة ،يطفئون شهواتهم المستعرة.. إلا هو كان يخاف من تبدد المال في مثل هذه الأمور ويصبح ذلك تقصير في حق أخواته ،خاصة أن دراسة الجامعة تتطلب المال الوفير. آثر ان يكبح شهواته كلها وفضل الجلوس في البوفية المتواضعة التي تديرها أرملة أحد سائقي الشاحنات ، سمع أنه تعرض لحادث في منطقة العقبة الخطيرة حيث هوت شاحنته في الوادي السحيق وظلت أرملته نورا المرأة الحزينة المتشحة بالسواد تكسب عيشها وعيش أبنها الصغير من هذه البوفية ... ظلت نورا تكن لأحمد احتراما خاصا لأنه الوحيد الذي يتعامل معها بصورة لائقة و يختلف عن جميع سائقي الشاحنات الذين يأمون المكان . طافت كل هذه الذكريات بخاطره الثمل وتذكر الحادثة عندما اشتبك في معركة عنيفة مع ثلاثة فتيان كانوا يتعرضون لنورا دائما، لم يدر ما الدافع الذي حركه لعمل ذلك واحمد لا يحس بها إطلاقا ويتعامل معها فقط كصاحبة محل تقدم الوجبات للمسافرين ولكن في ذلك اليوم المشهود عندما حضر هؤلاء الشراذم كان الموقف لا يحتمل الصمت خاصة و أن الغلام الصغير أخذ يبكي بحرقة و يشده من ملابسه و يستغيثه لإنقاذ أمه من مضايقات هؤلاء الأوغاد , انقض عليهم وقاتلهم بضراوة . كانوا شرسين جدا وابلى في تلك المعركة بلا حسنا وتورط في ضرب زعيمهم بقضيب من الحديد أصابه بكسر مضاعف في الفخذ. وأصبحت مشكلة تأذي منها كثيرا وقادته لدخول المحاكم وهذا ما كان يخشاه دائما.. يخاف من فعل ما يشين وتتضرر شقيقاته في الجامعة بسمعته فإذا هو متورط في اعتداء واذي جسيم بسبب أمرأة لا يكاد يعرفها .. أبتسم وهو يتأمل جسده العاري عندما طاف بخياله زيارات شقيقاته له في السجن وجلوسهن في المحكمة بكل اعتزاز ..إذ كان كلهن متفهمات الوضع الذي لم يكن سوي تجاوز حق الدفاع الشرعي عن النفس ،كما أنه بموقفه الشهم أضحى حديث البلدة ..كل هذا جعله يشعر بالرضى .. وتذكر موقف لم يستطيع نسيانه. عندما انتهت المعركة.. اندفعت نورا نحوه وأخذت تمسح بيدها الدماء عن وجهه المتورم بحنان بالغ وتهمس في أذنه " لماذا لا تتزوجني وتريحني من هذا العذاب؟!!".
تذكر في تلك اللحظة وبرغم من الآلام المبرحة التي كانت تجتاح كيانه شعر بانه رجل اندفعت الدماء الحارة الي تلك الاجزاء الحساسة من جسده . طافت هذه الذكريات بخاطره كشريط سينمائي . أخيرا نهض واستدار من أمام المرآة بعد أن دب النعاس في عينيه، ذهب إلي حجرته لينام وآخر فكرة تدور في رأسه هي العودة للبحث عن نورا ..خاصة أنه ترك السفر عبر تلك النواحي منذ سنين واغمض عينيه ثم نام في المنزل الموحش حتى تعالي آذان الفجر ، أستيقظ ونظر إلي جسده العاري وشعر بخجل شديد بعد ان زالت عنه آثار الخمر التي احتساها بكثافة عن رأسه، ارتدى ملابسه علي عجل واندفع نحو الشاحنة التي يحبها كما يحب إنسان، فهي صديقه الوحيد وانطلقت الشاحنة في طريق الإسفلت. متجه إلي القضارف ، اندفعت الشاحنة وهويسابقها بقلبه.
"هل يا تري ستذكره نورا؟" طافت بعقله الهواجس المطربة والشاحنة منطلقة في الطريق الذي يتلوى كثعبان أسود يمتد في الأفق وبعد مسيرة طويلة كانت تنتظره في مدينة القضارف مفاجئة محزنة. لم يكن هناك اثر للبوفية المتواضعة التي تملكها نورا. وجد كافتيريا حديثة مبنية علي أحدث طراز تصطف أمامها الشاحنات . أوقف الشاحنة وأندفع داخل الكافتريا كان هناك صبي في مقتبل العمر ، نظر الصبي إلي القادم الجديد في دهشة لم تستمر طويلا وانتهره صاحب المحل الذي يجلس خلف ماكينة النقود يرتدي نظارة طبية سميكة ..انسحب الصبي بهدوء من الكافتريا وهو لا يزال ينظر إلي القادم الجديد في دهشة عميقة، تقدم أحمد من صاحب الكافتريا بخطوات متثاقلة ومتعثرة.. نظر إليه صاحب الكافتريا بامتعاض وارتياب ، خاصة عندما استفسره عن البوفية التي كانت مقامة في مكان الكافتريا وعن صاحبته .. رد صاحب المحل ردودا مقتضبة وكأنه يريد أن يطرد هذا الزائر الغريب الذي افسد عليه سكينته . لم يلحظ أحمد رجل الرجل الحديدية الممتدة تحت المنضدة.
انسحب في هدوء حزين وخرج من الكافتريا في تثاقل وإتجهه نحو الشاحنة وكانت أحاسيسه المكلومة ترفض فكرة موتها، كان يحس أنها قريبة في مكان ما" نورا التي أحبته في الماضي واستيقظ حبه لها الآن " والشاحنة منطلقة به في ذلك الغروب الدامي أضحت فكرة واحدة تجتاح خاطره" لابد من العثور علي نورا ولو طال السفر" نظر إلي المرآة العاكسة للشاحنة وكأنه لمح طيف امرأة وصبي يقفان جوار الكافتريا يلوحان من بعيد .. خفق قلبه بشدة ثم تنهد في آسي .
ـ " لعلها الأوهام الناجمة عن بقايا الخمر التي احتساها بكثافة الليلة الماضية ".

1995 عطبره السودان