المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثلاث ساعات في فيوميتشينو



وليد سليمان
17/10/2006, 05:01 PM
إلى : Ute Nossman

1

كنت منهمكا في قراءة تحقيق صحفي، عندما سمعت المضيفة تسأل عبر مضخم الصوت عما إذا كان يوجد طبيب بين ركاب الطائرة.
كانت قد مرت ساعة تقريبا على إقلاع "البوينغ 747" التي تقلنا، في رحلتها المتجهة إلى بروكسال. تركت المجلة جانبا وسألت سيدة كانت تجلس قرب النافذة في الجهة اليمنى عما يحدث. فقالت السيدة دون أن يبدو عليها أي انفعال:
- يبدو أن هناك سيدة مريضة جدا على متن الطائرة وأن حالتها خطيرة.
بعد دقائق، سمعت المضيفة تتساءل مرة أخرى عما إذا ما كان يوجد طبيب أو طبيبة بين الركاب، ولم يجب أحد مجددا.
كان أغلب الركاب من البلجيكيين المتقدمين في السن. فلا شك أن أغلبهم قد قدم ضمن واحدة من تلك الرحلات الرخيصة التي تنظمها وكالات الأسفار للمتقاعدين. وكانت السيدة التي قرب النافذة بلجيكية أيضا على ما يبدو، إذ أن ذلك واضح من لهجتها. كانت قبيحة جدا وبدينة إلى حد أن الإنسان يتساءل عما إذا كانت قادرة على ترك مقعدها دون مساعدة. ولم تكف منذ بداية الرحلة عن الأكل.
وبعد دقائق خاطبتني وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل:
- يبدو أن زوج السيدة يعمل في السلك الدبلوماسي. لقد سمعت المضيفة تقول ذلك.
التفت إلى الخلف محاولا رؤية السيدة المريضة، إلا أنني لم أستطع تبين شيء، فقد كانت تجلس في آخر الطائرة، وكانت مساند المقاعد تمنعني من رؤيتها. حينئذ مرت مضيفة متجهة إلى غرفة القيادة، فاستوقفتها السيدة البدينة وأمطرتها بالأسئلة.
حين ابتعدت المضيفة قالت لي السيدة البلجيكية:
- إن حالتها قد ساءت كثيرا، وهم الآن على اتصال بمطار "فيوميتشينو"، فهو الأقرب.
كان الاهتمام باديا على السيدة البدينة. فيظهر أنها قد وجدت في حكاية المسافرة المريضة ما يشغلها، أكثر حتى من الأكل.
وفجأة، سمعت صوت المضيفة عبر مضخم الصوت وهي تقول أنه علينا الاستعداد حيث ستهبط الطائرة اضطراريا في مطار فيوميتشينو إذ أن حالة السيدة خطرة.
كان يوما ربيعيا مشمسا، وكان من الممتع رؤية البحر الأبيض المتوسط من نافذة الطائرة، بحيث يشعر الإنسان بالراحة عندما ينظر إليه. وانتبهت من جديد للسيدة البدينة وهي تقول لي:
- هل تعتقد أنها سوف تنجو؟
قالت هذه الكلمات وكأنها تحدث نفسها، اذ بدا عليها الكثير من الانفعال. وكانت تتململ في مكانها محاولة أن ترى ما يجري في الجهة الخلفية للطائرة. ولولا الحزام الذي كان يربطها في مقعدها، فلا شك أنها كانت ستغادر مكانها لرؤية ما يجري عن قرب.
أحسست بالطائرة وهي تنحرف قليلا عن مسارها، وحين نظرت من النافذة بدا واضحا أنها قد غيرت وجهتها تماما.
بدأ ضجيج المسافرين يزداد، وصار الاضطراب يطغى على الجو. ومن النافذة لم يعد الإنسان يرى البحر وحده، فقد صارت ترى بعض الحقول وطريق سريعة. وأدركت أننا الآن نطير فوق سماء روما.
لم تهبط الطائرة على الفور مثلما كنت أظن، بل ظلت تحوم حول المطار لبعض الوقت. وأخيرا أعلم الركاب عبر مضخم الصوت أن عليهم أن يربطوا أحزمتهم، إذ أن الطائرة سوف تهبط.
قالت لي السيدة البدينة وهي تربط حزامها وكأن الأمر يتعلق بفيلم بوليسي:
- يا لها من رحلة شيقة!






2

عندما حطت الطائرة أخيرا في مطار فيوميتشينو، لاحظت أن وقوفها كان في مكان بعيد جدا عن الطائرات الأخرى. ومن النافذة، رأيت سيارات شرطة الحدود الإيطالية تحيط بالطائرة من كل مكان مطلقة صفارات الإنذار. ونزل منها "الكرابينييري" وطوقوا الطائرة وهم مشهرين أسلحتهم. وفهمت من ذلك أنهم قد أمروا باستطلاع الأمر والتأكد مما إذا كان بالفعل توجد سيدة مريضة على الطائرة.
صعد ضابطان على متن الطائرة، أحدهما يحمل هاتفا لاسلكيا. ودخل أحدهما إلى غرفة القيادة، فيما اتجه الآخر إلى مؤخرة الطائرة حيث توجد السيدة المريضة.
مرت بضع دقائق قبل سماع قائد الطائرة يخبرنا عبر مضخم الصوت أننا سننزل إلى مطار فيوميتشينو لبعض الوقت، ريثما يتم فحص السيدة. ثم أتت حافلة صغيرة تابعة للمطار، وطلب منا أن نركب على متنها في حين أتت سيارة إسعاف لنقل المريضة.
أقلتنا الحافلة إلى مبنى المطار المغطى. وبعد المرور عبر الجمارك حيث تم التأكد من جوازات السفر والقيام بالشكليات الجمركية، وجدت نفسي في فضاء السوق الحرة.
ورحت أتجول في أروقة السوق. ثم بحثت عن كافيتيريا أجلس فيها. ولم أبحث طويلا، فقد وجدت كافيتيريا نظيفة جدا وخافتة الإضاءة. كانت المقاعد والطاولات من الألمنيوم وقد وضعت على المقاعد وسائد صغيرة، لكي يكون الجلوس عليها مريحا.
اخترت مكانا هادئا في إحدى الزوايا. وبعد أن طلبت "إكسبريسو" أشعلت سيجارة ورحت أتأمل المسافرين. لم تتأخر النادلة في إحضار القهوة، فرحت أرتشفها ببطء مجيلا نظري في زبائن المقهى.
كانت تجلس قبالتي فتاة في حوالي العشرين من عمرها. وشد انتباهي أن شعرها مشدود في ضفيرتين، مما أعطاها مظهرا طفوليا، وكأنها "لوليتا" حقيقية. وفيما كنت غارقا في هذه الأفكار، وجدتها تتوجه إلي بالكلام، وسألتني بالإيطالية عما إذا كان لدي ولاعة. قلت نعم وأنا أقدم لها الولاعة. وبعد أن أشعلت سيجارتها أرجعتها إلي قائلة:
- Grazie mile .
سألتها عما إذا كانت تتحدث الفرنسية فقالت نعم ثم أضافت بالفرنسية:
- أنا إيطالية، ولكني أدرس في مونريال بكندا منذ عامين تقريبا.
- إذن أنت متجهة الآن إلى مونريال!
- نعم، فقد كنت في عطلة، والآن انتهت العطلة.
و أضافت:
- لقد تمنيت أن أبقى اليوم أيضا في روما إذ أن عيد ميلادي اليوم. ولكن نظرا لاكتظاظ الطائرات المتجهة إلى مونريال فقد كان علي أنا أمتطي هذه الطائرة بالذات وإلا سيكون علي أن أنتظر أسبوعا كاملا.
كانت طريقتها في الكلام تتماشى مع ضفيرتيها وتجعلها تبدو مثل طفلة صغيرة، إلا أن ذلك بالتأكيد هو ما جعلني أستظرفها.
قلت لها مبتسما:
- عيد ميلاد سعيد وكل عام وأنت بخير.
- شكرا، لكم تمنيت أن أحتفل به بين أفراد عائلتي وأصدقائي.
- لا تهتمي، يحدث أحيانا أن يجبر الإنسان على فعل أشياء لا يرغب فيها.
وفيما كانت تقول ذلك فكرت في شيء يمكنني أن أقدمه إليها كهدية، وكان الشيء الوحيد الذي وجدته هو حاملة مفاتيحي الفضية التي تمثل "تانيت" فأخرجت المفتاح الوحيد الذي كانت تحتوي عليه وقدمتها لها:
- هذه هدية متواضعة لك، لم أجد ما أهديك غيرها.
وببعض التردد قبلت الهدية. وبدا من تعابير وجهها أنها قد أعجبتها. وبعد أن شكرتني، سألتني إلى ما يرمز الشكل في حاملة المفاتيح.
قلت:
- إنها "تانيت"، آلهة الخصوبة لدى الفينيقيين. يقال عندنا انها تجلب الحظ. أتمنى أن تجلب لك الحظ.
- أتمنى ذلك أنا أيضا، فكم أنا محتاجة إلى الحظ.
حينئذ، سألتني عن اسمي، ولما بدا لها غريبا بعض الشيء، سألتني عما إذا كان له معنى معينا. فشرحت لها معناه، وسألتها بدوري عن اسمها.
- اسمي أناببيلا، ولكن أصدقائي ينادونني آنا. اختر ما شئت.
- كلاهما جميل، ولكن سوف أناديك "بيلا" لأنك فعلا « Bella ».
- حسنا، إذا كنت تعتقد ذلك فعلا فلم لا.
تحدثنا عن السفر. وسألتها عما إذا كانت تحب ذلك، فقالت أنها لا تعشق شيئا في حياتها أكثر من السفر، فهي تكاد تنفق جميع مدخراتها في السفر.
سألتني بدورها عما إذا كنت أحب السفر فأجبتها بنعم. ثم بدت متعجبة عندما قلت لها انني، في الواقع، لا أستمتع كثيرا بالأسفار التي أقوم بها. وشرحت لها أن السفرات التي أقوم بها غالبا ما تكون في إطار عملي، وأن العمل يستغرق كامل وقتي فلا أجد وقتا للمتعة. وقبل أن أنتهي من كلامي، أعلن في مضخم الصوت أن على المسافرين المتجهين إلى مونريال أن يستعدوا، وعندئذ قالت بيلا :
- خسارة...لقد كان الحديث معك ممتعا...
ولكن قبل أن تودعني بحثت قليلا في حقيبة يدها، ثم أخرجت تحفة صغيرة من الكريستال في شكل دلفين وقالت وهي تقدمها إلي:
- آسفة أنا أيضا... ليس لدي ما أهديه إليك غير هذا الدلفين. ليكن تذكارا من بيلا إليك...
و قبل أن آخذ التذكار من يدها أخرجت مفكرتها من جيب معطفها وخطت بسرعة اسمها الكامل وعنوانها ورقم هاتفها.
- أنا حقيقة سعيدة بمعرفتك...أعذرني لقد تأخر الوقت...ما أن أتلقى رسالة منك سوف أجيبك دون تأخير...لم يعد الوقت يكفي حتى لأخذ عنوانك...

3

كان الممر المخصص للطائرة المتجهة إلى كندا بعيدا بعض الشيء، و لذلك كان على بيلا أن تسرع.
و عندما اختفت بعد خروجها من الكافيتيريا، تأملت في الدلفين البلوري الذي تركته لي، و بدا لي في غاية الظرف.
لم تمر لحظات حتى سمعت مضخم الصوت وهو يدعو مسافري الرحلة المتجهة إلى بروكسال إلى العودة إلى الطائرة. فوضعت الدلفين في جيب معطفي وأنا أمسك به في رفق مثلما يمسك الإنسان بتحفة ثمينة.
عندما أخذت مكاني في الطائرة، رأيت المرأة البدينة تتحدث إلى إحدى المضيفات. وحين جلست في مقعدها قالت لي وكأنها كشفت عن لغز خطير:
- لقد تم نقل المرأة المريضة إلى المستشفى، ستبقى في روما... وقد اتصلوا بزوجها...
ما هي إلا بضع دقائق حتى أقلعت الطائرة. فأحسست بالانفعال وأنا أتحسس الدلفين البلوري في جيبي.
وحين اتخذت الطائرة مسارها في سماء روما الصافية، وضعت يدي في جيب بنطلوني كي أخرج الورقة التي تحمل عنوان بيلا...ولكني لم أجد الورقة في الجيب الأيمن رغم أني كنت متأكدا من أني قد وضعتها هناك. كما لم أجدها في جيبي الأيسر. فتشت في كل جيوبي فلم أعثر لها على أثر. حينئذ تأكدت أنها قد سقطت مني قبل صعودي الطائرة.
أخرجت من جيبي الدلفين، ورحت أتأمله بخيبة... هذا كل ما تبقى لدي من بيلا، أو أناببيلا المولودة في مثل هذا اليوم: السادس من أفريل، والتي لا اعرف إن كنت سألتقي بها مرة أخرى.

أفريل2004- جانفي 2006