المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العطــــــــل



جمال عبد القادر الجلاصي
22/03/2007, 06:44 PM
العطــــــــل


السماء صافية، ذلك الصّفاء السّاذج الذي يبعث الرأفة للأزرق المتوحّد. لم تكن هناك ولو غمامة بيضاء واحدة تكسر ذلك الامتداد اللامحدود من الزرقة الباهتة.
بحث بذهن كسول عن سبب يجعله يغيّر جلسته أم يقوم من مكانه أو يحرّك أحد أطرافه الأربعة.
أدخل يده في جيبه ببطء آلمه واخرج علبة السجائر، استخرج واحدة وضعها بين شفتيه وأرجع العلبة، وبنفس اليد البطيئة سحب علبة الكبريت، وبجهد مضن سحب يده اليسرى من بين ساقيه وأمسك بعود الثقاب وقدحه على العلبة. اشتعل الكبريت ولكن دون أن يحدث هالة من الضوء حوله ذلك أن الشمس تسيطر على كلفة إمكانيات الضياء.
تمنى أنه داخل غرفة معتمة ليشعر بالفرح من كتلة الضوء التي سيحدثها اشتعال الكبريت: كان سيفتح عينيه بدهشة وفمه بابتسامة طفولية كما كان يفعل حين يطير من بين ساقيه عصفور وهو يمشي في حقل السنابل المحصود.
آلمته لسعة النار لإصبعيه فرمى العود بسرعة أذهلته ووضع سبّابته بين شفتيه ليطفئ وهم الحريق الذي شبّ فيها.
أدار عنقه ونظر بملل نحو الكتاب الذي يقعي على المقعد بجانبه ككلب غير أصيل. شعر بالندم لأنه تذكر خطأه بإحضار هذا الكتاب، كان ترجمة رديئة لقصص قصيرة لأرنست همنغواي تحت عنوان "في زماننا".
لقد أحس طويلا بإلزام شبه أخلاقي لقراءة هذا الكتاب نظرا لقيمة صاحبه، ولكن ما إن قرأ صفحات لا يتجاوز عددها العشر حتى أحس بالملل والرتابة يغزوان جسمه وعقله فالقاه جانبا وجعل ينقل بصره بين الأعشاب والأشجار التي كساها أول الخريف بصفرته دون أن يكر بأي أمر محدد.
حمل بصر ووضعه ببطء بين ساقيه وبدأ يحصي أعقاب السجائر التي دخّنها فأحس بضيق في صدره وصعوبة في التنفّس، فسحب نفسا عميقا انتفخ له صدره ثم أطلقه بتنهيدة متعمّدة جعلت الكلب يحرّك أذنيه وذيله، فربّت عليه بغير حنان كبير ورفع عينيه نحو النافورة المعطلة، ثم تساءل في غير حماس: لماذا عليّ أن أجيء إلى هنا كل يوم موهما نفسي أنهم ربما أصلحوا النافورة، وقد يخرج منها ماء يبعث الانتعاش؟
أنا أعلم أن النافورة معطلة منذ سنوات وأن لا نية لديهم في إصلاحها، ورغم ذلك أداوم على الحضور ككلب تعوّد أن يلقي له جزار عظما فظل يأتي إلى الدكان حتى بعد إغلاقه نهائيا.
ساءه منظر النافورة اليتيمة فأغمض عينيه باذلا جهدا كبيرا لاستحضار منظرها زمن تألّقها، وفي محاولة لإعانة مخيلته في استحضار المشهد اضطر لإصدار أصوات بفمه مثل تش تش... وكلمات مثل خرير ومياه وارتواء... لكن حضور اللحظة كان يثقل على ذهنه بحيث لم تبلغ الصورة التي تمكن من تثبيتها لعدّة ثواني في شاشة مخيّلته حتى ظل الجمال الذي عليه النافورة الآن، ذلك أن خياله أهمل- في انغماسه لاستحضار صوت الماء وهو يصطدم بالرخام بعد رحلته القصيرة نحو السماء- زقزقة العصافير وعديد النباتات والأزهار التي تحيط بالنافورة، وكذلك صفّ أشجار السرو التي يبدو كمدى أخضر يحمي الناظر من رؤية البناءات غير البعيدة.
ولما تأكد من فشله حاول أن يقنع نفس أنه لا يأتي إلى المكان لأمل في عودة النافورة لسالف روعتها، ولكن لينعم بالوحدة والسكون، فالمكان أصبح أكثر هدوء بعد انقطاع مياه النافورة التي كانت سببا في قدوم الناس إليه.
وإمعانا في إقناع نفسه قارن المكان بالمناطق الأثرية البعيدة عن العمران التي تتحوّل الحجارة فيها إلى مخازن عملاقة للصمت والنسيان، حتى أنه تذكر زيارته للمسرح الأثري بدقة ودهشته لذلك الصمت المطبق الذي يسود المكان حتى أنه لم يسمع زئير أسد واحد ولا صياح المتصارعين ولا صدى معزوفات ثيودوراكيس وهي تخرج من مئات الآلات والحناجر محاولة في يأس شبه أكيد زحزحة المكان عن حياده الطاغي..
أرجعته قرقرة أمعائه ولسعة ألم في معدته إلى حاضره فتذكر أنه لم يتناول سوى قهوة منذ الصباح وأحسّ بجوع مفاجئ، فقام بتصميم ومشى خطوات في طريق العودة، ولكن وصله نباح حزين فعاد مسرعا نحو المقعد واحتضن الكتاب معتذرا ودار سريعا إلى المنزل عبر الطريق المشجّر كأنه سعيد.

عبدالرحمن الجميعان
22/03/2007, 07:09 PM
الاخ الفاضل
لا شك أنك تملك الأدوات الرائعة للقص والسرد، وأنت تملك فكرا في طرحك القصة بهذا الاسلوبن فانت تريد لا شك ما وراء الألفاظ، ولكن تبقى هناك بعض التقنيات والأمور التي تعدل من الجو القصصي العام، لا نستطيع الحكم العام على كاتب بهذا الحجم من قصة واحدة، أتمنى أن أقرأ أكثر من قلمك، وهناك لا شك سنقف أمام حرفك نستنطقه ونجادله...وحتى ذلك الحين لك مني الف تحية..!

جمال عبد القادر الجلاصي
24/03/2007, 06:39 PM
الاخ الفاضل
لا شك أنك تملك الأدوات الرائعة للقص والسرد، وأنت تملك فكرا في طرحك القصة بهذا الاسلوبن فانت تريد لا شك ما وراء الألفاظ، ولكن تبقى هناك بعض التقنيات والأمور التي تعدل من الجو القصصي العام، لا نستطيع الحكم العام على كاتب بهذا الحجم من قصة واحدة، أتمنى أن أقرأ أكثر من قلمك، وهناك لا شك سنقف أمام حرفك نستنطقه ونجادله...وحتى ذلك الحين لك مني الف تحية..!

المبدع المحترم: عبد الرحمان الجميعان:
أسعدني مرورك على محاولتي القصصية، وقرأت ملاحظاتك بانتباه
أرجو ألاّ ينقطع التواصل بيننا،
لقد نشرت من قبل قصة أخرى بعنوان " الصوت الخالق" لعلك لم تنتبه لها...
دمت وفيا للحرف والإبداع
مودتي الخالصة

جمال عبد القادر الجلاصي
14/06/2007, 06:10 PM
أعتقد أن القصة لم تأخذ حقها من الاطلاع والنقد

لذا أعدتها للصفحة علّها تحظى بالتقييم من قبل الأصدقاء

محبتي