المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مكابرة !



علي عكور
23/12/2010, 09:46 AM
مُكابَرَة *

بَعدَ أنْ أنهينا ترتيبَ حقيبَة سَفرِها , وقفنا لنمارسَ طقوسَ الوداعِ البليدَة , وقفنا أمامَ بعضِنا تفصلُ بينَنا خُطوَةٌ , ثُمّ بنصفِ خطوةٍ منّي و أخرى مِنْها التَحمنا كغمامتين في سماءِ الفراقِ , لا تلبثانِ أنْ تنفصلا لتكملَ كلُّ واحدَةٍ مسارَها بِمُفرَدِها ! .
ككلِمَةٍ تَحتضِنُ معناها , فتَحتْ ذراعَيْها و احتضنَتني بقوّة , و في صَقيعِ الوداعِ و نَفْحِ رياحِهِ البارِدَة تَدثّرتُ بِمِعطفِ كبريائي , كُنْتُ متماسِكًا أمامَها و ثابتًا كأشجارِ الصّنَوبَرِ المُعمّرة . ذرَفَتْ دَمعَة تلألأتْ على خَدّها فَمسَحتُها بشالِ الصّوفِ المُلتَفّ حَولَ عُنقي . غارَتْ عينُها الأخرى فذرفتْ دَمعَةً حَرّى فَمسَحتُها بِطَرَفِ إصبَعي. ثمَ هطلَتْ دموعُها هطولًا ليُعشِبَ الألمُ في صدري و يُغطي مساحاتٍ شاسِعَة !!.
كُلّما امتَدّتْ لحظَةُ العناقِ اشتَدّ عَصْفُ الريحِ حولي و اهتزّت الأرضُ ؛ بيدَ أنّني شَجَرَةُ صَنوبَرٍ غائِرَةُ الجذورِ تَشمَخُ في وجهِ العاصِفَةِ دونَ انْحناءٍ , و تزدادُ ثباتًا إذا مادت الأرضُ تحتَها . التَقَتْ أعيُنُنا فامتَدَّ بينَها جسْرٌ لا مَرئيٌّ عَبَرتْ عليْهِ عرباتُ الحُزنِ لركضِ خيولِها وقعٌ في آذانِنا . استمرتْ عيناها تنثُرُ حروفَها المتلألئة على صَفحَةِ خدّها , و في المقابِل كانت عيناي تقرأ بطلاقَة , بدا الأمرُ أشبَه بكرنفالٍ خرجَت الدموعُ لترقصَ في صَخَبِهِ ؛ بَيْنَما ـــ إمعانًا في الثبات ـــ فَرضْتُ حَظرَ تجوالٍ على دموعي .
أخذتْ حقيبةَ يدِها الجديدَة , و أمسكتُ أنا بطرفِ حقيبةِ سَفَرِها و سحَبْتُها خلفي , ثمّ ركبنا السيارَة نطوي الإسفلتَ المُمتدِّ للّحاقِ بالطائرَة . في الطريقِ إلى المطار كانَ الصمتُ سيّدًا نحنُ عبيدُه . ثمّة كلماتٍ تقال غيرَ أنّ حروفها تتهشّمُ كالأغصانِ المُحترقَة . اقتربنا كثيرًا من المطار فمدّتْ جسورَ الكلام :
ــــ كيفَ سَتتدبّرُ أمورَك في غيابي ؟
ــــ لستُ طفلًا , لطالَما تدبّرتُ أموري بنفسي قبلَ أنْ تدخلي حياتي .
قُلتُها و أنا أتصنّعُ ضِحكَة أشبَه بضحكَةِ مُهرّجٍ أبْلَهٍ . نظرتْ إلىّ ثمَّ أمطرتْ برقّةٍ و حنانٍ :
ـــ أنت طفلي , و تظلُّ كذلكَ مهما كَبُرْتَ و كابَرتْ .
رغمَ أنّني اغتسلتُ بكلماتِها من الداخِل , إلّا أنّني أخفَيْتُ ذلك بلؤمِ طفلٍ يُخفي قطعَةَ حلوى عنْ أعيُنِ أمّهِ . ركنْتُ السيارَة جانبًا , و ترجّلنا منْها, أخذنا الحقيبَة و اتجهنا نحو الصالَة . قبلَ أن ندخلَ رفعتُ رأسي و قرأتُ اللوحَةَ في الأعلى : ( ا ل م غ ا د ر و ن ) .. قرأتُها في داخلي مقطعَة الحروفِ , تمامًا كأشلاءِ منْ يتناثرونَ بشَظيّةِ الفراق .. أنهيتُ إجراءات السفرِ ببُطءٍ شديد . أمسكتُ يدَها و سرنا نحو رجل الأمنِ ليدقّقَ أوراقها الثبوتيّة . طلبتُ منْه أنْ يسمحَ لي بمرافَقتِها بضعَ خطواتٍ ففعل بلُطفٍ . خطونا قليلًا ثمّ توقفنا إلى اليمين , وقفنا أمام بعضنا , و كنخلتَينِ مائلتَين على بعضِهما , مالتْ رؤوسنا لتبادلِ الوصايا الأخيرَة , قبلَ أنْ ينبُتَ نداءُ الرحلَة شجرَةً دخيلَةً بيْنَنا . نظرَ إليَّ رجلُ الأمنِ و انفصلتْ يدانا و افترقنا .
في طريقِ العودَة , ملأتُ مَقعدَها الفارغ بنظراتي , ثمّ أخرجتُ منْ درجِ السيارَة عطرها القديم . أفرغتُ ما تبقى من قارورَة العطرِ في فضاءِ السيارَة , و على امتدادِ الطريقِ كنتُ أحاولُ أنْ أدخلَ أكبرَ قدرٍ من العطرِ في صدري , ربّما كيلا أختَنِقَ في غيابِها , و ربّما لأختَنقَ فعلًا !!
رأيتُ الطريقَ يمتدُّ أمامي خيوط دُخانٍ , و الإسْفَلتُ يتناسلُ تحتي كفراغٍ تركَتْهُ خلْفَها . بعدَ سَيْرٍ متواصلٍ مملٍّ , نَبّهني زِحامُ السياراتِ و أبواقُها أنني وصلتُ إلى المدينَة. المدينَةُ تزدحمُ و تختَنِقُ , و أودُّ لو أمنَحُها قليلًا من فراغي الروحيّ , الذي قلّبني حبّةً في خَيْطِ مسْبَحتِه . أطفأتُ المُحركَ و ترجّلْتُ من سيارتي , و عندما انتَصبْتُ واقفًا سمعتُ أزيزَ الطائِرَةِ فلاحتْ صورتانِ : وجْهُهَا و هي مُعلَّقةٌ بينِ السماءِ و الأرض , و أشجارُ الصّنَوبَرِ تطعَنُ صدرَ الريحِ بأغصانِها , .. اشتدّ الأزيزُ غيرَ أنّني لَمْ أُعرهِ اهتمامي و مَضَيْتُ .
ارتَقيتُ الدرجَ و سَمعتُ وقعَ خطواتِها يصعدُ معي , فقرّرتُ أن أستخدمَ المصعدَ صعودًا و نزولًا في المراتِ القادِمَة , أدخلتُ لسانَ البطاقَةِ المُمَغنطةِ في فمِ البابِ الخشبيّ فقرأها و انفتحَ بهدوءٍ , غيرَ أنّني سحبتُهُ منْ مقبَضِهِ و أغلقتُهُ بشدّةٍ , عُدتُ إلى الخلفِ خطوتينِ أو أكثَر , بقيتُ خارجَ الشقّةِ مُتكئًا على جدارِ الشقَّة المقابِلَةِ , أرعبتني فِكرَةُ أنْ تكونَ خلفَ البابِ في استقبالي كما اعتادتْ أنْ تفعلَ . و أرعبَتني أكثَر حقيقَةُ ألا تكونَ خلفَ البابِ في استقبالي .
تملّكني الشرودُ للحظَة , ثمّ انتبَهتُ و مسحتُ حروفَ هاجِسِها عنْ صفحَةِ وجهي , انتصَبْتُ و اقتَربْتُ من البابِ و فتحتُه . دخلتُ بخطواتٍ تكادُ تجِفُّ و تَتَيبّسُ كلّما تقدّمْتُ , و في لحظَةٍ تشبِهُ عَودَةَ الإبصارِ لضريرٍ فقدتُ السيْطرَة على حرَكَةِ عيْنَيَّ , و اتّسعَ مَجالُ الرؤيَةِ : شالُها الأحمَرُ يلْتفُّ على ذراعِ المقعدِ كقصيدَةً تطوّقُ شاعِرَها , عِطرُها يقفُ بجانبِ قلمِ الكحلِ و طلاءِ الأظافِرِ كأنهم يحيكون مُؤامَرة , قلمُ الروجِ مائلٌ على طرفِ المرآةِ , سُتْرتُها ينبعثُ منها عطرٌ مثلَ جرعَةِ مورفين زائدَةٍ , خزانَة الملابسِ كهفٌ مظلمٌ و ثيابها بداخلِهِ أشباحٌ يرقصون , كلمَة ( أحبُّكِ ) مكتوبَةٌ بقلمِ الروجِ على المرآةِ كأنّ حروفَ الأبجديّة تناسَلَتْ مِنْها , كتابُها ينامُ على طرفِ السريرِ , و حروفُه أطفالٌ يتامى يخرجونَ رؤوسَهم منْ بينَ الصفَحاتِ ينتظرونَ بلَهفَةٍ عَودَة أمّهم , حذاؤها الأنيقُ بكعبهِ العالي تجمّدتْ خطوتُه , كرسيُّها يفتحُ ذراعَيْهِ بانتظارِها , دفترُ خواطرِها منزوٍ في طرفِ المنضدَة مثلَ فكرَةٍ مهملَةٍ لم تجدْ من يكتبُ عنْها ..
ازدحمتْ الأفكارُ و اختَنقَ مرورُها في رأسي , لمْ تكنْ عرباتُ الأفكارِ تسيرُ إلّا في شارعِها , كلُّ فكرَةٍ ترتطمُ بالأخرى لتتناسَل . انتفضَ هاتفي النقّالُ عندما بلّلَه الرنين , أخرجني رنينُ نغمتِها مما يصطخبُ بروحي , سألتني : ماذا تفعلُ ؟ قلتُ بتردّدٍ : أقرأ في كتاب ..
في المساءِ ذهبتُ إلى غرفَةِ النّومِ , وقَفتُ أمامَ السريرِ أصارُعُ فكرَةَ أنّني سأصابُ بالأرقِ في أوّلِ ليلَةٍ لغيابِها . تماسَكتُ و سخرتُ منْ أفكاري المُبالغِ فيها . سرتُ بخطواتٍ منهكةٍ نحو السرير بَيْدَ أنّ قدميَّ تعثّرتا بشيءٍ على الأرض , اختلَّ توازني و كدتُ أسقطُ كالأطفال , نظرتُ خلفي مثل جريحٍ في ساحةِ حربٍ , .. نظرتُ خلفي , .. لا شيْء سوى حقيبَة يدِها !!




كنتُ قد نشرتُها بعنوان : ( عند المغيب, تسطع أكثر )
و لا أدري أيُّ العنوانينِ أكثر مناسبَةً .