المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللعنة



حجبي فوزية
02/01/2011, 04:47 PM
اللعنة

غامت المدينة، فتدحرجت الكلمات فتية، ضاجة نضارة و تفتت الغيم، تبخرت كتله فتحنطت الكلمات على الشفاه، و تعتمت الوجوه...
غنى الصبية :
أشتاتاتاتا أصبي صبي
/ أوليدات الحراثا راه خبزكم في قبي
لكن قرص الشمس المحتجب أكمل استدارته ، و لفح الأصوات الهشة المترنمة.
- الصهد، الصهد،
و نفر الصغار في الأزقة، يلوون أعناق الحنفيات فلا تنز سوى غبارا، صدأ، صرير... لتفرخ الضحالة، و تولد الحكاية...
في البدء... كانت المدينة المتلفعة بمسوحها الكالحة و لونها الذي صار إلى السواد تزفر بكل قوتها لتكنس الغبار المترسب على جداراتها، لكن الغبار كان يثخن، كلما انفتح شدقا المدينة لتطوح به بعيدا، فيتصدر، بعناد الحيطان، و يغبش السحنات و يعقل الأصوات و يعفر العيون، فلا تكاد ترمش، بله تتسع انشداها أو تضيق كربا...
و كان ذلك التساؤل الباهت الدفين الذي ينتاب كل فرد عن المطر و القوت الزئبقي يخفت، يخفت، يمتصه غبار راكد له مذاق الأرض البور..
يلوكه الداخل و تحجم الشفاه عن قذفه لأنه غير مباح..
و لأن الكلمات طوع الحلوق و الحلوق طوع يديها، كانت المدينة تتمطط بدعة قطة سيامية، حين ترنو إلى هؤلاء البشر المقدودين من تعب و غبار.. الطيعين حد البله و هم يركضون كعقربي الساعة، ذاهلين عن أنفسهم و عن الغيث الذي يشح، فتحمي الأسعار، ليسكر الرجال و يتحششوا و تنبطح النساء شرائح أجيرة في الدور الغريبة، و تواصل المدينة أعراسها السندبادية ...
كل صباح تتمنطق بمراكز حماية فتنتها فلا تهجع أضواؤها حتى تكرع كل القنينات المترعة بوفرة في الحانات الآمنة، و تجثث جيوب زبنائها فتتدلى كعناقيد عنب عجفاء...
و حتى لا تغص الحكاية، رممت المدينة مجمعها الحديث البناء الذي زينته بالنبتات العجيبة و اللوحات النادرة فبدا كعروس تهرب من كبوات الأيام القادمة.
مهرجانات، حفلات، مواسم و نقيق مغنيات لحيمات مبحوحات الحلوق، موائد ممتدة من أقصى إلى أقصى، تصطف فوقها صحون خرافية حافلة بالديوك الجاحظة العيون و الخرفان المحنطة و المشروبات الروحية المعتقة، مغلفة أعناقها بورق السلوفان ..
تجلجل ضحكة النساء المنذلقات العيون و هي تعبها و يشتعل الرجال رفقتهن و هم يحلمون بما بعد الوجبات!!.
... لا شيء يعكر صفو مزاج المدينة اليومي، لا السماء الصقيلة و لا مناوشات الغبار، و لا حتى نوح، ذلك الفتى العاشق، الذي كان يطوف متخفيا على بيوت المدينة، و يؤلب كل عشاقها ضدها، إذ عرفت كيف تجتثه من فراشه البارد ليلا، مخلفة للعيون التي كانت تتلصص عليها من الدرجات و الشقوق صدى سحنات رمادية و وقع أحذية ترفس بسادية رعناء، فآبت العيون إلى المضاجع الحامضة ليتناسل البشر المقدودين من تعب و غبار..
و يعدون في كل اتجاه، كما لو كانوا ملقحين بمصل التشرذم.
و تستمر الحكاية...
بعيدا في القرية كانت الدمامة تسترخي على الكراسي المنخورة و تنادم بحميمية، التراب وطنين الذباب المغلف بحشرجات عيطات الشيخات الرتيبة.
و كانت السحنات تتغضن و تتشنج مع مطلع كل فجر تتسرب فيه الشمس المنبوذة إلى المداشر و المراعي الملساء، و حوانيت البقالة التي لم تكن تبع سوى سلع أنضت لإبطائها على الرفوف...
... وسط الغبار و الأسى تربع دافييد على صدر الدمامة بمحله التجاري المزدان بالألوان و الأضواء كسن ذهبية في فم خرب ليبيع القرية أفراحا هشة... و مشت الدمامة إليه صاغرة يستحثها هشه في وجه الجميع و تساهله في الأداء.
السلع تنفد و الشريط يدور حول عنق الدمامة.
السلع تنفد و دافييد بغليونه و طاقيته المتكومة على مؤخرة رأسه يلتف حول عنق الجميع...
و تتوهج الحكاية...
فجر ذلك الصباح الثقيل الذي لا شمس و لا غبار له أدار الرجال العمائم بخفة غير معهودة و تسارعوا إلى فسحة الشاي الصباحية ..
غطت السماء الصقيلة مساحة بنية سرعان ما أغضفت فاتسعت الأحداق و تلألأت بفرحة مترددة...
لأول مرة خرست الشفاه و لم تغتب الألسن الحاضرة الغائبة...
و لم تستهو مربعات "الضامة" و لا لعبة الورق الأيادي المتشنجة المرتفعة إلى السماء نافرة العروق جدباء متورمة...
وحده، مرتكنا جدع شجرة هرمة كان الفقيه الرمادي اللحية يتمتم بكلمات مبهمة و يده لا تفارق سبحته...
لا تشبه الليلة البارحة...
في البدء كان يتكئ على الجدار الرخامي حيث مجلسه المهيب بجامع المدينة الكبير يرافق خطبه خرير ماء الساقية المتلفع بهديل الحمام و روائح البخور...
و على حين غرة نفخت المدينة شدقيها و طوحت به إلى جدع الشجرة الهرمة...
لو لم يشوش على أذن المدينة لما انتهى إلى ما هو عليه، تقول الحكاية:
... كانت المدينة تعرف بعيونها و آذانها التي لا تنام مدى عشق الفقيه للخطب المجنحة التي تطير حروفها قذائف كلما تحدث عن زينة الحياة: البطنة و القناطر المقنطرة و الأجساد المسبلة...
و لعنة الحياة، الجدران الكالحة و البطون المعصوبة و الظهور المقوسة.
... لو كان يقرأ الخطب الأليفة الممهورة بختم عيون المدينة... لو لم يكن يكورها و يرمي بها كما لو كان قد نكشها من أنفه أو يحملها إلى البقال لقاء حلاوة لصغاره لما انتهى إلى ما هو عليه.
ـ اللي كيقلب على الصداع و ما كا يحمدش الله...
كان يردد أعيان القرية و أشياعهم...

ـ مطر، مطر. تصايح الصبية و لهجت الألسن بشكر متعثر يحبسه خوف دفين...
ابتلت الجلابيب و العباءات... تخضبت حمرة !!!
دم... دم !!!...
حجارة... حجارة!!!
أي... أي... أي
تفرقت الجموع مذعورة و انعطفت في كل الجهات.
وقف شيخ القرية في وجه الراكضين... نادى بصوته السلطوي الصاعق... لم يأبه به أحد، حتى العسس المتصلبين في مواقعهم انضموا إلى الراكضين...
هرع إلى بيته أخرج كل الخوابي من مخابئها و أفرغها في الصندوق الكبير... اختلط السمن بالعسل، بزيت الزيتون، بالأوراق النقدية بالتحف ... بالهدايا التي لا زالت ملفوفة...
و إذ حمل كل مدخراته في الخوابي و بيت الخزين إلى الصندوق، استلقى فوقها و جثم كالفأر حتى يهدأ السيل !!!
..................................







ماذا تقول الحكاية ؟
بعد العاصفة في الليالي الباردة، كان الكبار يحكون للصغار عن الصندوق، و عن الشيخ الذي تمدد بداخله جاحظ العينين و بجواره كل عسس القرية جاحظي العيون هم الآخرين و قد احتقنت وجوههم.. و لم يكن من مجال للشك بأنهم انتحروا بخنق بعضهم البعض ..
كما حكى الكبار للصغار عن عدوى الانتحار التي كانت تصيب كل من أمسكه العسس كما كانوا يصرحون في تعليل أسباب وفاة من يعتقلونهم .. و كيف انتقلت تلك العدوى بقدرة قادر إلى العسس و شيخ القرية !!!...

...........................................


و تستمر الحكاية...
تعلقت الذيول بالذيول و الأذرع بالأذرع و التفت السيقان بالسيقان...
كانت الحجارة المتلفعة بالقطرات القانية تتعقب البطون المتخمة و المؤخرات المخنثة و العجزة المثرين المتصابين، و الهراوات المتعقبة لباعة التقسيط...
انفجرت الرؤوس رؤوس (هم) تحت وطأة الحجارة فسقطت الأدمغة نثارا... كانت آسنة، منخورة، ضئيلة الحجم.
و تمزقت الصدور، صدور (هم) فتناثرت القلوب سوداء بلون الفحم... كانت خشنة الملمس و كلها نتوء و شروخ..
اشتد هياج السائل الأحمر، و استحالت الأقمصة الكابوي الملونة بالأحمر و الأبيض و الأزرق إلى خرق متهرئة و انسلخت سراويل الجينز عن المؤخرات المرعوبة المتقلصة...
و صارت كل سلع دافييد إلى المجاري لتبتلعها دفعة واحدة..
بالمدينة انقلبت السيارات المصفحة النفاثة، إلى صفائح حادة تتربص بالوحل لتذبح الأقدام الرخوة الناعمة...
أوحلت الأرض بالقرية كما بالمدينة. تساقطت ملصقات المغنية المقيمة بتلك الرقعة المولعة بهز البطن و ركضت أمها لتتلقف " مضمة الذهب و السراتل و الخواتم، التي جرفها السيل...
عبثا كان لهاثها :
ذَهْبي، ذهبي
.......................
وعند مدخل المدينة... بعيدا عن الصخب ، كانت السجون تتهاوى و الهراوات تتحمل حجارة و سيلا و تنقلب إلى أصحابها تشج رؤوسهم و تجتز أعناقهم المكتنزة...
جرعة دم، مزيدا من الدم، تنبعث الأصوات من وراء القضبان الورقية منادية.
جرعة دم طاهرة..
اغتسلي..
إغتسلي..
ها نحن عشاقك الذين أنكروا أصباغك و فخديك المنفرجين، نطلع من الرطوبة و العتمة لنطهر أديمك و ننقعك في مطهر الغضب المقدس...
كانت السماء تنفث حجارة، سيلا، لعنة...
و كانت الأرض تلهث، و عشاقها المترعون بلعنة السماء المباركة يستردون حناجرهم المنقوعة في الغبار... قبضاتهم...يتوهج دم السماء المقدس في عيونهم فيتوغلون في شرايينها، خفافا بفرحة النشور.
و صلبا كسنديانة كان نوح يتقدم الجموع العائدة من الرماد، لتدك الغبار و تصنع مجد الحكاية.