المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المثقف العربي وتأخر الوعي !!!! د . محمد خالد الشياب



فتحي الحمود
15/01/2011, 03:35 AM
المثقف العربي وتأخُّر الوعي


د. محمد خالد الشياب

يعتقد عبدالله العروي أن المثقف العربي ما يزال يعيش "حالة فصم بين الثقافة والمحيط الطبيعي والاجتماعي عرفها التاريخ العربي القديم ولم يغير منها شيئاً التاريخ الحديث". فكوَّن المثقفون العرب "جماعة مستقلة نسبياً عن المجتمع، وموحدة كونها تحمل ثقافة مشتركة مجردة من عوامل التمييز المحلية والزمنية، وهذا واضح -بنظر العروي- في المؤتمرات العربية الراهنة حيث تلغى المميزات، فتفصل بالضرورة المشكلات الثقافية عن جذورها الاجتماعية التي لا يمكن أن تكون غير خصوصية".
من هنا لم يعوّل العروي كثيراً على دور المثقف العربي، في تخطي عتبة النهضة، لأن السلفية والانتقائية -وهما المميزتان لذهنيتنا الحاضرة– ما تزالان "تسبحان في الحاضر الدائم، وهذا هو سبب عدم انتفاع المجتمع العربي بمثقفيه منذ عقود. إن المثقف عندنا لا يتحرر فعلاً، فلا يعين مجتمعه على التحرر، لأنه ينفصل دائماً عن المحيط الذي يعيش فيه، وينتقل إلى عالم ماضٍ يجعل منه الحقيقة المطلقة. ورغم تبجح
المثقفون في المجتمع العربي، يقول العروي، يتخذون أسماء "تتغير مع الظروف، وهم اليوم ماركسيون متطرفون وغداً إصلاحيون دينون.. المتغير هو مجموع الشعارات، المرجع الفكري، ولكن الثابت هو الموقع الاجتماعي".
هذا التكوين المجرد للمثقف العربي، يجعله برأي العروي، يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق، وهذه الظاهرة لا تمثل انفتاحاً وتوازناً "بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه". إن انتقال المثقف من موقع لآخر لم يكسبه موقعاً فاعلاً في عملية التغيير على الصعد المختلفة، داخل أجهزة الدولة وخارجها، كما أن دوره "بات موضع تساؤلات منهجية على المستوى الكوني يغلب فيها طابع تقويم الدور السلبي على الإيجابي، وذلك لأسباب موضوعية ناجمة عن تطور المعرفة الإنسانية وأدوات نقلها من جيل لآخر، حيث باتت التكنولوجيا المتطورة وليس الإنسان وحده، تلعب دوراً بارزاً وأساسياً في نقل المعرفة من جيل لآخر"، فالعروي لا يتصور "مثقفاً عربياً مرتبطاً بمجتمعه، واعياً بقوميته، يتطلع إلى المستوى العالمي، من دون أن تتوفر لديه وسيلة للتعبير عصرية وطيعة".
من هنا، يعتقد العروي أنه لا يمكن تخطي عتبة وبناء النهضة المنشودة في الواقع العربي من دون تحقيق ثورة ثقافية، يقوم بها من يحملون إيديولوجية قومية عصرية، وليس أولئك الذين تربوا في مجتمع تقليدي، ويحملون عقلية متخلفة، لأن ثوريتهم لا بد أن تحافظ "حتى بعد تحقيقها، على هياكل اجتماعية متخلفة في عمقها". فكل "ثورة حقيقية لا يقوم بها إلا من حمل أدلوجة قومية عصرية، وهي ثورة للأسف أمامنا وليست وراءنا، إذ لا نتصور ثورة علمية منفصلة عن ثورة ثقافية شاملة، عن انتقال ذهني من كون إلى كون".
وبما أن التأخر على صعيد الوعي، في المجتمع العربي، بحسب العروي، يتمثل في استمرارية الوعي الديني في الوعيين: الليبرالي والاشتراكي، وسهولة انتقال المثقف العربي من الوعي السلفي إلى الليبرالي أو الاشتراكي وبالعكس، فقد شكلت هذه المنهجية قاعدة مشتركة لدى المثقف العربي. فالمثقف السلفي منهجيته القياس والمحاكاة، والمثقف الليبرالي أو الاشتراكي في أهدافه شبه عصري في نواياه وشبه تقليدي في واقعة، وتلفيقي في منهجه.
لقد نشأ الفكر الليبرالي والاشتراكي على أرضية الفكر السلفي، ولذلك لا عجب، بمنظور العروي، أن نرى مزيجاً من نزوع سلفي تراثي في أساس تطلعاتهما، وهكذا وُجد على الساحة العربية برنامجان لدى المثقفين العرب "يتفقان في الهدف؛ محو التخلف، ويفترقان في الغاية؛ الأصالة بالمحافظة على الموروث، أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك.. الواقع إن كلا البرنامجين بقي حتى اليوم دعوى ولم يخرج أي واحد منهما إلى حيز الوجود".
من هنا يأتي الاختلاف بين رؤية المثقف العربي ورؤية المثقف الغربي وموقف كل منهما من الليبرالية. "فالمثقف الغربي عندما يرفض الليبرالية فهو يرفض شيئاً ملكه واستوعبه، إن أوروبا التي نادت بالليبرالية صارت اليوم في وضع يمكّنها من تجاوزها. وما الحركات التي قامت كرد فعل على العقلانية إلا دليل واضح على هذا التجاوز. فالفوضوية التي تدعو إلى تقديس الفرد، والفردوية التي بدأت كمحاولة علمية في نطاق الوعي والرومانسية الجديدة والسوريالية التي ترمي إلى تكسير الأساليب العقلية والكلمات والتراكيب من أجل تحرير الحس والوجدان من أسر العقل، كلها محاولات لتجاوز العقلانية الليبرالية إلى آفاق جديدة. ولكن حيث يرفض المثقف العربي الليبرالية فإنه يرفض شيئاً لم يستوعبه بعد".
فعدم تكون مثقفين عرب يتولون، كما في الغرب الأوروبي، صياغة أيديولوجيا تنسجم مع صيرورة التقدم العربي، وتدعيم قيم ومصالح طبقة سياسية ليبرالية حقيقية بسبب الصدمة الاستعمارية، أدى بالمثقفين العرب إلى الاتكاء على أرضية سلفية، وظلوا، بشكل عام، وفيين للمجتمع التقليدي، وبقي المجال الثقافي العربي مفتوحاً للفكر التقليدي والسلفي، مما أضعف الاتجاهات المعادية للتقليد عند الطبقة السياسية الليبرالية العربية، ووضع صيرورة التقدم العربي في طريق مسدود. فالنخبة المثقفة، أكانت في مواقع اليسار أم في مواقع اليمين، وهي تدافع في كلتا الحالتين على التقاليد.. تنتهي برفض الحداثة ومعارضتها، اعتماداً على حجج ملفقة"، وهذا الأمر هو الذي دعا العروي إلى التركيز على الدولة كجهاز للتحديث، لأنه يئس "من أن يكون المثقفون وسيلة تحديث".
لقد أنجز الوعي الديني مهمته في عصر النهضة على يدي الأفغاني وعبده اللذين نهضا بمهمة تاريخية تجسدت في تعظيم الأيديولوجيا التقليدية. وقد أُجهض هذا الوعي أو هُزم كتيار إصلاحي، ليس لأنه عجز عن مواجهة تحديات عصرية جديدة بالنسبة له فحسب، بل لأن هناك هوّة عميقة قامت بين الماضي العربي والواقع العربي بفعل التغلغل الاستعماري، وأصبحت محاولة الإصلاح الممثلة بالوعي الديني تسقط في هذه الهوة بفعل ذلك التغلغل الذي لم يبقِ التطور للمجتمع العربي متواصلاً كنمو عضو منتظم، بل أحدث انقطاعاً حال دون استمرار تطوره الطبيعي.
وكي يردم العرب هذه الهوة ويصححوا مسيرة تطورهم وينتظموا في مسيرة التاريخ الإنساني، فإن الآلية النظرية المناسبة لتحقيق ذلك، من منظور العروي، تتجسد في "القطعية المعرفية" مع التراث، بمعنى القطع مع الأساليب والمناهج العقلية للبحث الفكري التي استخدمت في التراث العربي الإسلامي، واستبدال الأساليب والمناهج العقلية الحديثة والمعاصرة بها. فكما يقول العروي، لا بد "من امتلاك بداهة جديدة، وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي، حاجز تراكم المعلومات التقليدية، لا يفيد فيها أبداً الجزئي، بل ما يفيد هو طي الصفحة.. وهذا ما سميته وما أزال أسمّيه: القطيعة المنهجية".
إن إنجاز ثورة ثقافية تسمح بالقطع مع تصورات معينة للتاريخ والثقافة والعمل السياسي، هو ما يسمح بتقليص الفوارق بيننا وبين الأخر، فبواسطة هذه الثورة، تتحقق "الخطوة الأولى في اتجاه تملك الحداثة وتوطين التحديث"، عبر الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته التي تندرج في "صيرورة الحقيقة، وإيجابية الحدث التاريخي، وتسلسل الأحداث، ومسؤولية الأفراد، (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ)".
إن أزمة القطيعة لدى المثقفين العرب، يقول العروي، تأتي من تأرجحهم بين مجتمعين "مجتمع الغرب المهيمن، والمنظور إليه عموماً، بأنه الأسمى، من الناحيتين الموضوعية والذاتية، ومجتمعه الخاص به الذي يعدّه من مستوى أدنى، بحيث يصير وضعه محصلة لهذه القطيعة". وتأتي كذلك من شعورهم بأنهم سيفقدون حريتهم إذا خضعوا للفكر التاريخي، وبأنهم سيكونون مسيَّرين، "وسيبقون دائماً في طور التلمذة إذا لم يتعدَّ عملهم تدارك التأخر، وأنهم سيتخلون عن شخصيتهم إذا اعترفوا أن التاريخ فيهم".
للخروج من هذه الأزمة يلزم المثقفين العرب الأخذ بأحد الاتجاهين، "إما باتجاه استدراك تأخر مجتمعهم عن طريق حركة من الإصلاح والثورة، وإما باتجاه المبالغة في تقدير ذلك المجتمع ومن ثم نفي التأخر التاريخي والدعوة للعودة إلى الماضي، مثلما يحصل عندنا".
وينتهي العروي إلى الموقف الآتي: إن الخروج من هذه الأزمة، لا يكون بالرجوع إلى نظريات الماضي والحفاظ على أصالة فارغة، فهذا وهْم يعوق التطور، وإنما توديع المطلقات والاعتراف بأن النموذج الإنساني أمامنا لا وراءنا، وبأن الواقع الاجتماعي في صيرورة دائمة. والتحول إلى الحداثة القائمة على العقلانية والتقدم والنقد ومسؤولية الإنسان عن نفسه، على المستوى النظري، والماركسية التاريخانية، والدولة الحديثة على المستوى العملي، هي معالم الفكر العصري والمجتمع العصري، الكفيلة بالإصلاح وتجاوز التأخر.