المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثورتا تونس ومصر و " أشباح " مثقفينا , حلفاء الإستبداد الموضوعيين !!!



فتحي الحمود
04/02/2011, 08:03 PM
ثورتا تونس ومصر و"أشباح" مثقفينا، حلفاء الاستبداد الموضوعيين:
الثورة ما بين نجاح الشارع في تحقيق تغيير شامل، ونجاح النظام في استبدال رأسه
ولاعبيه فقط!!!!!


بقلم : هيثم شلبي - كاتب فلسطيني
بعد أن وصلت الثورة المصرية إلى مفترق طرق، إما أن ينتصر منطق الشارع ولا يكون
هناك تفاوض مع عمر سليمان، رأس النظام الحالي بعد انتهاء حكم مبارك، إلا بعد
تنحية أو تنحي مبارك، أو ينتصر منطق النظام الذي يمثله الآن نائب الرئيس عمر
سليمان، وجناح مؤيد له في الجيش، على ما يبدو، يمثله رئيس هيئة الأركان ساميِ
عنان، والقائل أن لا تفاوض مع المعارضة إلا بعد سحب المحتجين من الشارع. وأمام
الحوادث الإجرامية التي تمت الأربعاء في ميدان التحرير، والوحوش الذين أطلقهم
رجال الأعمال وجهاز وزارة الداخلية، في حرب مواقع حقيقية، يبدو أن المعركة
الآن، وبعد أن فقد مبارك جميع حظوظه في البقاء حتى نهاية ولايته، هي معركة
سليمان- عنان، أو نسخة منقحة من النظام بدون رأسه مبارك، وهو الطرح الذي ترغب
فيه وتدعمه الولايات المتحدة، وتتساوق معه بعض قوى المعارضة، من حلفاء النظام
الموضوعيين، كحزبي الوفد والتجمع، اللذان طالما شكلا تغطية ديكورية ديمقراطية
لنظام مبارك.
وفي معركة شرسة كهذه، من شأن حسمها أن يغير شكل المنطقة والعالم، إذا ما تم
للثورة انتصار كامل، ونجحت في كنس النظام وحلفائه الموضوعيين الذين سنتحدث عنهم
لاحقا، والذين يشكلون معسكرا ضخما يضم مفكرين وأكاديميين ومثقفين وإعلاميين
وفقهاء، ينتمون للمفاجأة، إلى مختلف المعسكرات الليبرالية والقومية والإسلامية
والاشتراكية، سواء بوعي وإدراك أو دون قصد وتبصّر.
وحتى يتضح أكثر ما نريد قوله، نبدأ بما يمكن أن نسميه "أشباح" النخبة، وهي
المفاهيم الجامدة المستقاة من المدارس السياسية والفكرية التقليدية، والتي كانت
خارج مجال الاختبار في عالمنا قبل الرابع عشر من يناير، موعد انتصار ثورة تونس،
وأصبح لزاما على كل ذي بصيرة أن يضعها موضع اختبار إذا أراد الدفاع عن نزاهته
الفكرية ونجاعته العملية.
ونبدأ "بالشبح" الأول والمتمثل في أمريكا ودورها في ما يحدث في بلادنا عموما،
وما يجري في تونس ومصر وباقي الدول التي تنتظر دورها لاحتلال شاشات الفضائيات.
وهنا نسجل مفارقة مؤلمة تؤكد غياب نخبنا عن صورة ما يجري في العالم من تفاعلات.
ففي الوقت الذي يمتلئ العالم، وعلى رأسه الولايات المتحدة نفسها، ومنذ أزيد من
خمس سنوات، بالحديث عن أفول شمس قائدة النظام العالمي الجديد، وبروز نظام عالمي
جديد تتصدره الصين، وتجاورها الهند والبرازيل وروسيا ولعض النمور التي تتحول
سريعا إلى أسود، وهو النقاش الذي كرسته وأعطته أبعادا ذات مصداقية، الأزمة
الاقتصادية العالمية، لا زلنا نفتش عن أمريكا في ثنايا كل حدث سياسي، اقتصادي
أو اجتماعي في أي بقعة من عالمنا العربي الواسع، وما زالت النخب المتأمركة
عندنا تراهن على قوة مفترضة للولايات المتحدة، تجعلهم يتحدثون عن أوراق اللعبة
السياسية التي تحتكرها الولايات المتحدة وكأن السادات لا زال بيننا، وهو بؤس
تسطع صورته في عملية السلام العربية الإسرائيلية، ولا يوازيه سوى بؤس المعسكر
المناهض للولايات المتحدة من قوميين واشتراكيين وإسلاميين، والذين يعتقدون أن
الولايات المتحدة تكمن وراء كل ما يجري عندنا، تبعا لنظرية المؤامرة المتكلسة
والمفلسة.
وفي الوقت الذي أثبتت الأحداث في تونس، كما تثبت حاليا في مصر، أن شارعا هادرا
يقدم مئات الشهداء، يرفض المساومة ويتعامل بحنكة حتى الآن مع ألاعيب الساسة
الأعداء والأصدقاء، أربك فرنسا والغرب في الحالة التونسية، وتتخبط الولايات
المتحدة في محاولاتها اللاهثة للرد عليه والحفاظ على مصالحها في مرحلة ما بعد
مبارك، يستمر فضلاء محللينا القوميين في الحديث عن دور أمريكي في هذه "الفوضى
الخلاقة"... أية إهانة!!! وفي سعيهم لإثبات نظرياتهم المتهافتة، يعيدنا كبار
مفكري نظرية المؤامرة، إلى مفاهيم "الشرق الأوسط الكبير" والفوضى الخلاقة سالفة
الذكر، والتي تستهدف تقسيم عالمنا العربي، في استبلاد عجيب لوعي الناس.
ونتساءل، كيف يستقيم عند هؤلاء المحللين، الدفاع عن أن مفاهيم حقبة جورج بوش
الابن بل والأب لا تزال توجه السياسة الأمريكية في منطقتنا، كما لو كنا لا نزال
في بداية عقد التسعينات؟ كيف يصر قادة الرأي عندنا على أن إسرائيل تقف الآن خلف
الاضطرابات في مصر، وهم يرون فرائص نتنياهو ترتعد في الكنيست، وتصريحاته
العصبية تستجدي العالم شرقا وغربا أن يساندوا مطالبة إسرائيل لمن سيخلف مبارك
أن يؤكد حفاظه على معاهدة السلام؟ كيف نطبل لانتصار المقاومة العراقية،
والتقهقر الاستراتيجي للقوة العظمى الماضية في العراق وأفغانستان، وبعدها
بدقائق يؤكدون أن أمريكا تمسك بجميع الأوراق في العراق، وأنها تبدل الآن أساليب
التغيير في البلدان العربية. كيف ستغير حالنا، إذا كنا نسارع خلف كل طاغية ترفع
الولايات المتحدة يدها عنه لانتهاء صلاحيته بحجة أنها تناصبه العداء وتتدخل
بشكل سافر في محاولة تغييره. ثم كيف لا زلنا غير مدركين، أن استبداد أنظمة
كنظام صدام حسين، وبن علي ومبارك وغيرهم هو المسؤول الأول عن كشف العراق وتونس
ومصر وغيرها أمام كل ألألاعيب المعلنة والخفية للولايات المتحدة وإسرائيل، وأنه
المسؤول الأول عن بقاء هذه الأخيرة سادرة في امتهان وهدر كرامة 350 مليون عربي،
والدليل التصريح الصارخ لشيمون بيريز بأن إسرائيل تفضل وجود قادة عرب مستبدين
أكثر من المتطرفين. وقبل أن نختم، لا حاجة لنا بخبراء في الشأن السياسي لكي
يشرحون لنا أن الولايات المتحدة، بمبعوثيها العلنيين والسريين، وبزيارات رجال
سياستنا وجيشنا إلى واشنطن، إنما تجاهد من أجل الحفاظ على مصالحها في عالم عربي
يتجدد، وهي مهمة قد تنجح أو تفشل، والأهم أن نجاحها أو فشلها أمر يتقرر في
الشارع الهادر، وليس في منتديات الساسة أو غرفهم المغلقة. ونطمئنهم، إذا كانوا
مهمومين فعلا بهذا الأمر، أن شارعنا يتمتع بذاكرة قوية، ولا يمكن له أن يغفر
للولايات المتحدة وإداراتها المتعاقبة دورها في دعم جرائم إسرائيل وإدامة
الاستبداد في أكثر من بلد عربي، حتى لو سبّحت بحمد ثوراتنا، وشتمت حكامنا
الساقطين بأقذع الشتائم. ونؤكد بنفس القوة، أننا لن نصطف خلف مستبدينا منتهي
الصلاحية لمجرد أن الولايات المتحدة تسعى لاستبدالهم بجياد أكثر فتوة، لأننا
نريد أن نكون نحن، شارعا ومواطنين، من يختار جياده التي تعبر به إلى المستقبل،
ومعظم حكامنا، الذين لطالما جروا قاطرة الولايات المتحدة، ليسوا من هذه الطينة
على كل المستويات، وعليه، فهم لا يلزموننا.
ثاني "الأشباح" هو الموقف من الإسلاميين، الكلمة العامة المضللة والتي لا تعني
في النهاية شيئا محددا. ولنستعرض المواقف المختلفة من هذه الجماعة غير
المتجانسة، والتي تجمع مهاتير محمد، يوسف القرضاوي، الملا عمر، حسن الترابي،
محمد حسان، عمرو خالد، رجب طيب أردوغان، راشد الغنوشي أسامة بن لادن، وهو خليط
بينه من الفروقات أكثر مما بين تشي غيفارا ورونالد ريغان. البعض يعتقد أنهم خطر
يتهدد الديمقراطية والقيم المدنية، أما البعض الآخر فينسب لهم قوة ليست لهم
ويفترض مسبقا أنهم سيكتسحون أية انتخابات يمكن أن تجرى في عالمنا العربي، وفي
المحصلة نجدنا أمام وقاحة دامية من معسكر "المتنورين" والحداثيين الليبراليين
والاشتراكيين تشرعن وتبرر إقصاء الإسلاميين من العملية الديمقراطية، دون بحث أو
تمحيص أو تكليف نفسها عناء شرح كيف يمكن أن نسمي هذه العملية "ديمقراطية".
والموضوعية تستدعي التسجيل هنا أن سجل "الإسلاميين" الذين تقلدوا المسؤولية في
أفغانستان، السودان وقطاع غزة ليس مشرفا على الإطلاق، وأن المنظومة الفكرية
الاجتماعية الثقافية والسياسية للسلفيين عموما والوهابيين تحديدا هي في منتهى
الخطورة على الإسلام والمسلمين، قبل أن تكون خطرا على غيرهم. لكن ذلك لا يدفع
سوى لالتفاف الجميع حول وضع مدونة سلوك سياسي ومجموعة من القواعد المنظمة لحقل
العمل السياسي، لا على محاكمة نوايا هذا الفريق الحداثي "العميل للأمريكان" كما
يروج إسلاميو القمع والاستئصال، أو هذا الفريق "الظلامي" كما يصر حداثيو القمع
والاستئصال. وكخلاصة، فإن التعامل مع الحركات الإسلامية خارج سياق كونها حركات
سياسية مثل باقي الحركات، وتحكمها نفس القوانين، وتعاني من نفس الأمراض،
وتغريها السلطة المنفلتة من عقال المحاسبة، تماما كما تغري حركات المعارضة
والأغلبية عندنا، وأن الضمانة تجاه شططها أو شطط غيرها من الحركات على اختلاف
أيديولوجياتها هو بناء دولة قانون ومحاسبة تحترم خيارات الناس، وأن الخطر
الموضوعي الذي يتهدد مجتمعاتنا يضم تحالفا موضوعيا ثلاثي الأطراف- وهنا أستعيد
عبارات أهم مفكرينا الدكتور برهان غليون-، أعضاؤه "الأصولية المفقرة" و
"الحداثة المضيّعة" و "التوفيقية –أو التلفيقية سيان- السحرية". وقبل أن أختم
هذه النقطة، فما يثير العجب، أن هناك من أكاديميينا وإعلاميينا ومفكرينا
ومثقفينا من لا يزالون يروجون للرواية المهلهلة، القائلة أن "الغرب الحسّاس
والإنساني" يضغط على مشاعره ومبادئه ويصبر مضطرا على بن علي ومبارك وباقي
نظرائهما العرب، لأنهم –أي ديكتاتوريينا- أفهموهم (أي قادة الغرب) بأن البديل
لأنظمتهم الاستبدادية هم الإسلاميون "الوحوش". هل هناك استبلاه أكثر من هذا؟
لاحظوا أن العبارة السابقة افتراضية في كل كلمة فيها.. هي تفترض أن الغرب مناهض
للاستبداد، وأنه إنساني يتعذب لمآسي شعوبنا، وثالثا أنه يخاف من الإسلاميين
العرب، من الإخوان المسلمين وسلفيي "قناة الناس"، ورابعا أن ديكتاتوريينا
يضحكون عليهم ويخدعوهم!!! وأين ذهبت المصالح المتبادلة؟ وما علاقة النهب المنظم
وغياب القانون بحرب الإسلاميين؟ وماذا بشأن أنظمة الاستبداد "الإسلامية"؟ هي
تحمي الغرب ممن؟؟؟؟
أما ثالث الأشباح فيتعلق بالخوف على سلامة مجتمعاتنا من "الفوضى التي يجلبها
التغيير"، أو "الفراغ الدستوري الذي يؤدي للمجهول"، وهي عبارات مثيرة للغثيان،
تكررت بداية في الحالة التونسية، وعلى لسان من؟ معارضي النظام الذين بمجرد هرب
رأسه دخلوا في تحالف موضوعي معه ضد باقي المجتمع ومكوناته، كأحمد الشابي وأحمد
إبراهيم، ويتكرر الآن في الحالة المصرية فيما يشبه حفلة ندب جماعي، بإسناد
خارجي "محترم" على جميع الفضائيات. وهنا نؤكد بداية، أننا لا نشكك في نوايا
البعض وصدقهم في الخشية على أمن الناس وسلامة المجتمعات، لكن من حقنا أن نسأل،
لا بل أن نصرخ: أي فراغ دستوري ذلك الذي تتحدثون عنه والذي يفترض أن مجتمعاتنا
تعيش حالة "عمار دستوري" في ظل الاستبداد؟ أي حرمة لدستور لم تحترم كلمة واحدة
فيه، وانتهكت أنظمة الاستبداد عندنا روحه ونصوصه؟ وللمتباكين على الآمنين الذين
يروعهم "ذئاب" النظام في الشوارع والبيوت، نقول: وهل ما كان يعيشه المصري قبل
الخامس والعشرين من يناير يمكن أن نسميه أمانا بأي معيار من المعايير؟ هل
الغابة التي كان وحوش النظام من ساسة ورجال أعمال يجوسون فيها يمكن أن تسمى
مجتمعا ليكون بديلها فوضى؟ وهل ينسى المصريون الذين ثاروا في الشارع ضحايا
العبارات والقطارات وقوارب الموت وحرائق المسارح وإهانات أقسام البوليس لمجرد
أن مجموعة من المجرمين روعتهم ليومين قبل أن يردعها تماسك الناس ونزولهم للشارع
لحماية بيوتهم وممتلكاتهم؟ وحتى المتباكين على تخريب الممتلكات العامة على
اعتبار أنها ملك عامة الشعب... نسألهم: منذ متى كان هناك ملكية للشعب في ظل
أنظمة الاستبداد؟ إذا كان إحساس المواطن العادي أن البلد برمتها ليست ملكه، ولا
يملك أن يغير فيها مسؤولا أو يحاسب لصا أو يغير منكرا، كيف لا تخجلون عندما
تلومونه على عدم الإحساس بملكيته لمرافق عمومية منتهية الصلاحية من السبعينات،
يشكل وجودها بحد ذاته إهانة للناس الذين يستعملونها؟ وأخيرا، كيف تفترضون أن
الشباب الواعي الذي قام بالثورة دون الحاجة لتوجيهات نخبة "العقلاء" لا يدرك
بأن أقل ثمن يدفعه مقابل الحصول على حريته، هي فوضى قد تستمر أياما أو أسابيع
قبل أن يستقر العالم الجديد الذي يناقض كل فوضى؟ وهو ثمن بخس زهيد مقابل الحرية
الغالية.
وهنا يقودنا الحديث للتطرق للشبح المتمثل في "الشباب المتحمس غير الواعي" الذي
لا يوجد من يمثله أو ينطق باسمه، مقابل النخبة العاقلة التي لا تجد من يستمع
لصوتها الهادئ الرزين. لقد تسابق على فضائياتنا مختلف المحللين الذين يبدأون
دائما بتحية الشباب الشجاع، تحية أقسى من أية إهانة، لأنهم يردفوها مباشرة
بالطلب منهم أن يعودوا لبيوتهم بعد أن "أوصلوا رسالتهم" لأولي الأمر، الذين
كالعادة يطمئنوهم أنهم قد "فهموهم" وأنهم سيقومون بالإصلاح المطلوب، قبل انتهاء
ولايتهم!!! بداية، تقتضي الأمانة الفكرية –والحياء في الحقيقة- أن نقول أن وعي
الشباب الذي صنع الثورة في كل من تونس ومصر هو أكبر بما لا يقاس، ليس من وعي
حكامهم وجوقة خدمهم من مفكرين ومثقفين وصحفيين وفقهاء، بل وممن يدعون تمثيلهم
من أحزاب المعارضة التقليدية، بل وأزيد أنهم أنضج من المفكرين والأكاديميين
والمثقفين والإعلاميين والفقهاء، الذين طالما عارضوا الأنظمة، ويتباكون الآن
على أمن المواطنين، أو يرفعون الصوت عاليا بالحديث عن أصابع أمريكا وإسرائيل
وراء ما يحدث. وإذا كان فهم دوافع معسكر الاستبداد ومنافقيه بديهيا، فإن موقف
أحزاب المعارضة المدجنة ينبع من إدراكهم العميق للوعي الرائع الذي يتمتع به
الشباب، والذي يهدد وجودهم في أية انتخابات ديمقراطية حقيقية قد يجلبها
التغيير، فيبدوا لهاثهم وراء التسويات، وغمغماتهم عن الشباب والتغيير محاولة
لإنقاذ النفس، بدفع الأمور باتجاه التضحية برأس النظام دون الاقتراب "كثيرا" من
آلياته، لأنهم ببساطة جزء أصيل منه. أما المثقفون والأكاديميون المعارضون،
فيبدو تفسير سلوكهم الذي يعيب على المتظاهرين "قلة خبرتهم، عدم مسؤوليتهم، عدم
وجود برنامج عمل لديهم، عدم تبلور قيادة تتحدث باسمهم..." وغيرها من العبارات
التي يكذبها الواقع بشكل صارخ، زيادة على أنها تصب موضوعيا، بوعي أو دون انتباه
في خانة "أعداء الثورة" ممن يودون رؤية نسخة منقحة من النظام بقوى اجتماعية
جديدة، تعيد إفراز نفس أمراض نظام الاستبداد السافر، وتتقاسم مغانمه، وتعطي
فتاتها "للشباب المتحمس الذي لا يعرف مصلحة البلد". وهنا نتساءل: منذ متى كان
الحماس سبّة؟ وكيف كنا سنتخلص من أنظمة بن علي ومبارك بدون هذا الحماس؟ وما هي
سبل التغيير المتاحة للتعامل مع مثل هكذا أنظمة استبدادية، ليعيب العقلاء على
هؤلاء الشباب حماسهم وتضحياتهم؟ ونتساءل عن حق: ما الذي فعلناه بعقلانية
مفكرينا ومثقفينا وإعلاميينا، على مدى عقود الاستقلال الشكلي؟ أم أنها محاولات
من يرون أنفسهم مهددين بالإحالة على التقاعد، من ميدان الفعل السياسي، الثقافي،
الفكري، الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن ضاق بقواه الحية الجديدة؟ رجاء أخير لهذه
النخبة، نرجوكم، نستحلفكم بكل ما هو عزيز عليكم (مع شكّنا المسبق باستجابتهم)،
أن تستحضروا بقية من حياء وتكفوا ألسنتكم عمن هم في الشارع، يقدمون حياتهم ثمنا
لتحريركم قبل غيركم، يكفيهم سياط النظام وسفاحيه، فلا تكووهم بسياط ألسنتكم
لأنها أقسى وأمرّ.
أخيرا وليس آخرا الشبح المسمى "الجيش"، ونقول باختصار، لمثقفينا القوميين
والاشتراكيين والإسلاميين بالأساس، أي المعسكر الذي من المفترض أن يكون بجانب
الثورة: لا تحملونا على قبول أوهامكم وطابوهاتكم، أنتم الذين عاصرتم حقبة
الانقلابات العسكرية خلال الخمسينات والستينات، وتحالفها الموضوعي مع مستعمري
الأمس، وما رافق تلك الحقبة من مآسي وفوضى. لقد عانى جيلنا من "الاستقرار" الذي
جاء به مستبدونا "الجمهوريون" الذين اعتبروا أن "ملك الموت" هو الناخب الوحيد
المعترف به، وأن توريث الحكم "لمواطن كل عيبه أنه ابن رئيس" هو أمر لا يتنافى
مع أرقى صيغ الديمقراطية العربية. ولمن لا يريد أن ينتبه أو يفهم، لا مانع من
التكرار: هذه حقبة ثورات شعبية ليس لها في تاريخنا سوى سابقتين سودانيتين أعوام
1964 و 1985، ولا يمكن أن تقيسوا عليها تنظيراتكم عن التغيير عن طريق انقلابات
الخمسينات والستينات، أو التغيير عن طريق الدبابات الأمريكية. وعليه، فخوفكم
التقليدي من العسكر، والمفهومة علاقته بتراث الانقلابات، بحاجة لبعض التدقيق
لأسباب عدة أهمها، أن الجيش وفي كثير من الحالات، كان أحد ضحايا أنظمتنا
الاستبدادية مرتين: الأولى عندما جرد من كبريائه وطلب منه القبول بالصغار
والصمت المشين أمام إسرائيل وهي تفتك بالفلسطينيين وباقي الشعوب العربية
المحيطة (بدعوى العقلانية والواقعية للمفارقة,, هل تذكرون؟)، والثانية عندما
قلمت أظافره، حتى اللحم أحيانا، خوفا من تكرار كابوس الانقلابات، وذلك لحساب
تضخّم أجهزة الأمن أو القمع الداخلي التي ألقيت على عاتقها مهمة حماية النظام
الاستبدادي. لذلك وببساطة، فذاكرة الشباب لا تختزن تراثكم السلبي تجاه جيش لم
تره منذ عقود لأنه محشور منذ أيام التسليم للولايات المتحدة وإسرائيل في
الثكنات، ولم يسقط لهم قتيل على يديه، وليس لديه معتقلات يزج فيها بأبناء البلد
ونشطائه، طبعا هذا بشكل عام مع بعض الاستثناءات. وهنا يبدو الكلام التقليدي عن
الجيش ودور الجيش المستقبلي، وإدارته للمرحلة الانتقالية، ونزوله للشارع، يحمل
نفس التعميم الفقير الذي يحمله الكلام عن الخوف من الإسلاميين، ومن "فوضى
الأمريكان الخلاقة"، ومن حق الشباب الواعي أن يعترض على هذا التعميم غير العلمي
حتى لو صدر عن علماء، وأن لا يجد غضاضة في تدخل الجيش للانضمام إليه في خلع
الطاغية، وحماية مرحلة انتقالية تؤسس لدستور جديد ومرحلة سياسية جديدة. لكن
الصحيح أيضا، أن أطرافا من الجيش قد يغريها اتجاه الأمور نحو صياغة نظام جديد
بآليات "ديمقراطية شكلية" وقوى اجتماعية جديدة تعيد توزيع الثروة على أسس
جديدة، بشكل يزيد من الفتات الذي يقدم للناس مؤقتا، إلى حين تقوية النظام
الجديد ودخوله في أنواع أمراض من الاستبداد لم نختبرها من قبل.
وبهذا نختم. لا أحد يجادل في أن الثورة في تونس ومصر قد قطعتا نصف الطريق نحو
الانتصار الحاسم، الذي يتأسس فيه المجتمع الذي سنفخر جميعا بالعيش فيه، لكن
تحقيق الانتصار الكامل مرهون بتحقق عدة أمور: أولها أن يستطيع وعي الشباب أن
يستوعب ويتغلب على جميع حيل النخبة السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية
والفقهية من مختلف المعسكرات، وأقصد من معسكر الاستبداد المباشر أو معسكر
المعارضة التقليدية حلفائه الموضوعيين، وثانيها أن ينجح هذا الوعي الشاب في حرف
النقاش من المساحة القاتلة التي يكررها على مسامعنا إعلام الإثارة والتواطؤ على
السواء، في البحث عن ماهية الشخصيات التي ستقود المرحلة القادمة، وكأن الفيصل
في نجاح الثورة هو الاختيار بين أحمد الشابي أو راشد الغنوشي في تونس، أو بين
محمد البرادعي أو أيمن نور في مصر، هذا طبعا من بين طابور المستوزرين
"والمسترئسين". إن الفيصل في الأمر كله، والذي سيعلن تحقيق الثورة انتصارا
كاملا، هو قدرتها على تحويل النقاش إلى ساحة بناء منظومة القيم القانونية
والإنسانية والأخلاقية التي ستحكم علاقة المواطن بالسلطة، والقدرة على استرجاع
ما استولت عليه هذه الأخيرة من مساحات حياتنا، وأن ننجح في خلق مجتمع الكفاءة
والتوزيع العادل للثروة، وتكريس ثقافة المساءلة والحساب، ثقافة مسؤولية الناس
عن إدارة شؤونهم ومصائرهم دون وصاية، ثقافة الفصل التام بين السلطة بما هي
آليات ووسائل، وبين من يديرون الشأن العام بما هم مقترحي ومنفذي برامج يرضى
عنها الناس ويقبلون باختبارها. وهنا طلبنا الأخير من مثقفينا القوميين
والاشتراكيين والإسلاميين والليبراليين الوطنيين: نرجوكم أن تفهموا حتى ترتاحوا
وتريحونا، أن معايير حقوق الإنسان وكرامته، وآليات إشرافه على مصيره ومستقبله،
القابلة للتطبيق بشكل عام –بما هي آليات- على السويدي والسنغافوري والبرازيلي
والكندي، يمكن أن تنطبق على المصري والقطري واليمني والجزائري والعربي في كل
مكان. لقد مللنا صراعكم حول الشورى والديمقراطية وأهل الحل والعقد، وباقي
معارككم التي لا تعني لنا سوى شيء يتيم: عدم رغبتكم بالقيام بأي فعل،
والاستعاضة عنه بالمعارك الافتراضية، والتي لم تؤد ولن تؤدي إلى أية نتيجة سوى
إطالة أمد الاستبداد في بلادنا. لا تسمّوها ديمقراطية، سمّوها ما شئتم، أو
لنسميها كما يسمي الإسرائيليون الدولة الفلسطينية العتيدة: "دجاج مقلي". ما
نريده ببساطة أن نكون أحرارا في اختيار من يدير شأننا، في صياغة مستقبلنا،
والانتفاع بثرواتنا، وأن نطمئن إلى مستقبل أبنائنا.. نريد دولة تشبهنا، وإعلاما
يحمل ملامحنا وقسماتنا.. نريد تعليما يدمجنا في العصر الحديث، يدربنا على النقد
والتفكير والابتكار.. نريد فقها يحترم إنسانيتنا، ومناصب يشغلها الأكفأ بيننا،
وهي كما ترون مطالب بسيطة ليس فيها ما يثير حفيظتكم أو خشيتكم من احتمال تغربنا
(أن نتبنى منظومة القيم الغربية) أو ضعف إيماننا. بكلمة واحدة، نريد بلادا
وأنظمة نحس فيها بأننا بشر حقيقيون، ولسنا مجرد كائنات أوقعتها الصدفة في فخ
العيش في غابة عربية، تمسخ فيها آدميتنا، ونخسر فيها دنيانا وآخرتنا كل لحظة
ألف مرة!!!!!!!