المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علاقة المشرق بالمغرب !!! . ( نموذج إبن عربي ) . بقلم : سعاد عبد الكريم



فتحي الحمود
05/03/2011, 06:45 PM
علاقة المشرق والمغرب العربيين ( نموذج إبن عربي ) !!!!!


بقلم : سعاد عبد الكريم

ولد محيي الدين بن عربي (الحاتمي الطائي) عام 560هـ في مدينة مرسية,
وهي مدينة شيدها العرب, عام 216هـ وأصبحت من قواعد شرق الأندلس, تتصف بكثرة
بساتينها وحدائقها ومنتزهاتها ونهر تادر الجميل الذي يمر وسطها.

في الربع الأول من عمره تنقل في بلاد الأندلس تحصيلاً للعلم, وبحثا
عن المعلم, ولم يتأخر فتوح إلهاماته وكشوفاته, إذ خرج من الخلوة الأولى وهو دون
العشرين يتكلم بلسان القوم الصوفية. ولم تورثه كشوفاته وفتوحاته المبكرة
استكفاء تحصيليا بل العكس, لقد دفعته إلى مزيد من طلب العلم, وإصرار على
الاستفادة الصوفية من كل رجالات عصره ومحيطه المعرفي, فتتلمذ للعديد من المشايخ
المغربيين العارفين, بحيث أصبحت مؤلفاته فيما بعد خير مصدر للتعرّف على تاريخ
التصوف المغربي, وبرنامج العلوم الصوفية فيه وموضوعاته, وتوزُّع أساتذته
واختصاصاتهم في القرنين الخامس والسادس الهجريين, فنجد على سبيل المثال أنه
تعلم من موسى بن عمران الميرتلي كيف يتلقى الإلهامات الإلهية, وتعلم محاسبة
النفس عن رجلين من (أقطاب الرجال النياتيين) هما: أبو عبدالله بن مجاهد وأبو
عبدالله بن قيسوم, وتعلم الصبر على اضطهاد العامة عن أبي يحيى الصنهاجي الضرير,
وعلمه أبو عبدالله أشرف الخلوة في الظلام مع تجنب كل داع إلى تشتيت الخواطر,
وتعلم من صالح البربري السياحة والتجوال, وتمرّس بالتوكل على يد عبدالله
الموروري, وغيرهم كثير.

في الربع الثاني من عمره يمم وجهه شطر المغرب الإسلامي وتتبع الرجال
الموسومين بالعرفان على امتداد بلاد شمالي إفريقيا. وتميزت هذه المرحلة بكثرة
السياحة. وحوالي منتصف العمر, عام 598هـ, وكان قد امتلأ من معارف المغرب
الإسلامي, رأى في المنام أنه يذهب إلى الشرق, فذهب.

في الربع الثالث من عمره, ترتسم معالم رحلته المشرقية, فنرصد إقامات
قصيرة الأمد نسبيا في مدن تركية ومصرية وعراقية وسورية, وزيارات إلى القدس,
واستقرار بدني وروحي في مكة المكرمة, حيث باشر تدوين موسوعته الصوفية الكبرى:
(الفتوحات المكية) في المشرق, وفي ظل غياب المعرفة برجالات التصوف المغربيين,
نراه يؤلف كتابين يعتبران بحق تأريخا للتصوف في المغرب الإسلامي: أولهما (رسالة
روح القدس في مناصحة النفس), ألفه في مكة عام 600هـ على صيغة رسالة موجهة إلى
صديقه القديم أبي محمد عبدالعزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي الذي يعيش في تونس.
وثانيهما هو (الدرة الفاخرة في ذكر من انتفعت به في طريق الآخرة), وهذا الكتاب
ليس إلا ملخصا لمؤلف أكثر ضخامة يحمل العنوان نفسه, كان ابن عربي قد تركه في
المغرب, وهو جامع لسير رجالات صوفية من أهل المغرب من شيوخه وإخوانه. إضافة إلى
هذين الكتابين نجد الرسائل القصيرة ونصوص الفتوحات المكية التي تفتح للمشرقيين
نوافذ على المغرب الإسلامي والحضور الصوفي فيه, وتعرّفهم على أسماء كبيرة كابن
مسرة (269 - 318هـ), وابن العريف (481 - 535), وابن برّاجان الإشبيلي, وابن
قسّي, وأبي مدين, وغيرهم كثير.

وتمتاز هذه المرحلة بالخصوبة على مختلف الصعد, فيلتقي بشخصيات صوفية
مشرقية بارزة, ويلقى الحفاوة والتكريم من ملوك الشرق وسلاطينه وأمرائه وفقهائه.

في الربع الأخير من عمره, وكان قد بلغ الستين, وعمت شهرته الآفاق,
ينزل مدينة دمشق ويطيب له الاستقرار فيها. قد نقول إنها عودة إلى منازل الصبا.
وقد نقول إنه اختار دمشق لمناخها وملاءمة طبيعتها لصحة بدنه الذي أتعبته
الأسفار الروحية والواردات الغيبية. كل هذه التأويلات منطقية وصحيحة, ولكننا
نميل إلى ترجيح أنه اختار دمشق لأسباب تتعلق بفتوحاته وتجربته الروحية, لقد
وجدها ملائمة لروحه وتقدمه المستمر, والدليل أنه (أُلقي إليه) وهو في دمشق
كتابه الشهير, الذي حظي بأكثر من 250 تفسيرا وشرحا, وهو (فصوص الحكم, وله من
العمر 66 سنة قمرية.

وفي نهاية هذا التقديم أقول: إننا أوردنا حياة ابن عربي لنقول إن
حياته هي - في زمنه - نموذج لحياة معظم علماء المغاربة وعارفيه, ما إن يشعر
الواحد منهم أنه ختم علوم المغرب واكتنه معارفه حتى يمده بصره إلى المشرق
الإسلامي. ويمثل المشرق بالنسبة له أمورا عدة:

منها: أنه مدينة العلم الإسلامي, عاصمة ثقافة العلوم النقلية, التي
يشعر العالم خارجها أنه لم يكمل تحصيله مالم يأخذ من شيوخها الثقات, أو ينل
شهادة تقدير منهم واعتراف بمعرفته وعلمه, وخاصة القاهرة, ودمشق, وبغداد.

ومنها: أن المشرق يمثل بالنسبة إلى بعضهم أرض الله الواسعة التي
يهاجر إليها, إما التماسا للمال والجاه عند الملوك, وإما لمزيد مكانة وانتشار,
وكثير من رجال صوفية المغرب لم يُعرفوا, ويؤسسوا طرقهم وزواياهم, إلا في المشرق
العربي.

ومنها أيضا, أن المشرق هو النصف الثاني من وحدة إنسانية هي دائرة
الوجود العربي الإسلامي, فما إن يحيط العالم بالنصف الأول حتى تنازعه نفسه إلى
النصف الآخر ليطمئن إلى اكتمال معرفته.

ومنها أيضا وهو الأهم أن المغاربة والأندلسيين كانوا يشعرون بحتمية
خروجهم للمشرق لأداء فريضة الحج وزيارة الأراضي المقدسة.

وهكذا يمكننا أن نقول إن الرحلة المشرقية كانت تراود معظم علماء
المغرب, وتكاد تشعرهم بنقصان إن لم يقوموا بها. والعديد ممن قام بهذه الرحلة
اتجه إما للإقامة النهائية في المشرق, أو عاد إلى المغرب حاملاً معه مذاهب أهل
المشرق الفقهية, وعاداتهم, وزروعهم, وكتبهم وعلومهم. كما شارك الجغرافيون
والرحالة المغاربة في عملية التثاقف بين المشرق والمغرب في القرون الوسطى, وذلك
بتدوين أحداث رحلاتهم ومشاهداتهم في بلاد المشرق, مثال رحلات ابن جبير الأندلسي
(540 - 614هـ) الذي ولد في بلنسية وقام برحلات ثلاث إلى المشرق, توفي خلال
رحلته الأخيرة في مدينة الإسكندرية. وكذا رحلات ابن بطوطة (المعروف منها ثماني
رحلات) المولود في طنجة من بلاد المغرب عام 704هـ والمتوفي في مراكش نحو عام
769هـ.

رحل إلى مكة لأداء فريضة الحج وهو في الحادية والعشرين من عمره, وهدف
من وراء رحلته أيضا تتويج دراساته بالألق الذي يأمل أن يضفيه عليه المغرب أخذه
العلم عن علماء المسلمين في المشرق), ويعتبر كتابه (تحفة النظار في غرائب
الأمصار وعجائب الأسفار) واحدًا من أثمن المصادر عن بدايات التاريخ العثماني,
وتاريخ الهند الإسلامية, وتاريخ إفريقيا الغربية.

وسوف أحصر مداخلتي بأربعة أقسام آملة أن تكشف عن صورة غير متداولة
لعلاقة المشرق بالمغرب, استشفها من نصوص صوفي مغربي المولد مشرقي الممات,
استطاعت مؤلفاته أن تعكس واقع التصوف في القرنين السادس والسابع الهجريين. وهذه
الأقسام الأربعة هي:

1 - فلسفة المكان والسفر.

2 - الشرق والغرب.. من الجهة إلى الصفة.

3 - صراع المشرق والمغرب.

4 - هوية زيتونة.. لا شرقية ولا غربية.

***

1 - فلسفة المكان والسفر
أ - فلسفة المكان

إن الإنسان الصوفي شديد الإحساس بالزمان والمكان وبالآخر من الإخوان,
وتتجلى هذه الذائقة المرهفة في كل عمل يريد أن يقوم به, فهو يختار لعمله أفضل
الوقت, أو يختار من العمل ما يوافق الوقت لمقولتهم (إن الصوفي ابن وقته). كما
أنه يصطفي لعمله خير رفيق فلا يسافر ولا يصاحب ولا يؤاكل ولا يبيع ويشتري في
الأسواق ولا يقوم بأي عمل مع آخر إن لم تتوافر فيه شروط إنسانية وقيمية معينة.

أما بخصوص المكان, فالصوفي يبذل جهداً ملحوظاً في البحث عن المكان
الذي (يجد فيه قلبه), وتكثر إشاراته حول (روحانية المكان). يتجلى حضور المكان
عند الصوفي قويا فاعلا, ويكاد يكون شريكًا في إنتاج تجربته الروحية.

وقصة ابن الفارض, المعاصر لابن عربي, قوية الدلالة على هذا الموضوع
إذ كان قد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره, وهو مشدود القامة في المجاهدات,
مبذول النفس في الرياضات, وما من كشف يلوح, وما من نداء يطلع من غيب. رجع يومًا
من سياحته في وادي المقطم إلى حضر الناس. وعندما أراد الدخول إلى المدرسة
السيوفية بالقاهرة, وجد على بابها شيخا يتوضأ وضوءا غير مرتب, فاعترض عليه
ونبهه إلى أن وضوءه لا يطبق قواعد الشرع. نظر إليه الشيخ, واسمه أبو الحسن
البقال, وقال له: (ياعمر, أنت ما يُفتح عليك في مصر, وإنما يُفتح عليك بالحجاز
في مكة شرفها الله, فاقصدها, فقد آن لك وقت الفتح).

هذه القصة من حياة ابن الفارض تدلنا على فعالية المكان, وأنه مشبوك
بالحياة الروحية للسالك, كما أنها تنبهنا إلى فعالية موضع معيّن من الأرض هو
(مكة المكرمة), التي نعلم أن ابن عربي استقرّ بها في الربع الثالث من عمره,
وكتب فيها موسوعته الصوفية (الفتوحات المكية). فهل نستدل بالحادثتين على أن مكة
هي أرض فتوحات للمؤهل للفتوح.

واستنادًا إلى حضور المكان ومشاركته في إنتاج التجربة الروحية, نجد
ابن عربي يقول صراحة في رسالة: (المكان إذا لم يؤنث لا يعول عليه, يعني
المكانة) وهذا يدل على أن ابن عربي لم يعول على نزول مكان لا يتحول إلى مكانة.
فالمكان الحق هو ما كان لنازله مهبط تنزلات وإلهامات وواردات. يقول في ترجمان
الأشواق ص7:
رأى البرقَ شرقيّاً, فحَنَّ إلى الشرق
ولو لاح غربيًا لحنّ إلى الغربِ فإن غرامي بالبريق ولَمْحِهِ
وليس غرامي بالأماكن والتَّرْبِ

هذه الخصوصية الروحية المعرفية للمكان, هي أحد العوالم الباعثة على
السفر الفيزيائي للإنسان الصوفي.

ب - السفر والهوية

لم يكتف الإنسان الصوفي بالسفر الباطن المعنوي, بل جعل السفر البدني
المادي من جملة مقاماته المكتسبة بالرياضة والمجاهدة. وذلك لأن السفر يقطع
علائق المرء بالأشياء ويكسر قيد العادات والمستحبات والمستحسنات. كما أنه في
الوقت نفسه يفرد الإنسان ويجعله مرجع ذاته, فتظهر هويته الحقيقية لأنه يخرجه عن
نظامه الاجتماعي الذي كان يحميه ويحيط بسلوكاته ويحقق اندماجه بالآخرين.

واللغة العربية عبرت عن هذا الواقع الإنساني, حيث قالت إن الأحرف
الثلاثة: السين والفاء والراء, أصل واحد يدل على الانكشاف والجلاء, وأنه سمي
السفر صفرًا لأنه يُسْفِر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيُظهر ما كان خافيا
منها.

فالصوفي استخدم أساليب عدة تمكنه من التقاط هويته الحقيقية من وراء
أقنعة اليوميات, وأهمها أسلوبان: السفر والخلوة. فكلاهما يُخرج الإنسان عن فلكه
الطبيعي, عن مكانه, ويضعه في مواجهة نفسه, فيعرفها ويتوحّد.

والمكان يكبر ويصغر, فقد يكون جهة كالمشرق والمغرب, وقد يكون مدينة
كمكة المكرمة والمدينة المنوّرة والقاهرة ودمشق وقد يكون بيتًا أو غرفة في بيت,
أو قد يكون بدن الإنسان نفسه الذي هو أرضه وبيت خلوته في وقت جلوته.

2 - المشرق والمغرب.. من الجهة إلى الصفة

ينظر ابن عربي - بداية - إلى الشرق والغرب على أنهما جهتان متقابلتان
من الكون, وعندما يرسم خريطة بيت الإيمان يجعل حدوده من جهاته الأربع العبادات,
فمن جهة القبلة (الجنوب) تحدّه الصلاة, ومن جهة الشمال الصوم, ومن جهة الغرب
صدقة السر, ومن جهة الشرق الحج. وأيضًا في إطار معنى الجهة الحيادي يستخدم ابن
عربي عبارتي (بلاد المغرب وبلاد الشرق), فيخبرنا عن (رجال الفتح) وأن عددهم
أربعة وعشرون نفسًا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون, وبهم يفتح الله على قلوب
عباده ما يفتح من المعارف الأسرار.

وجعلهم الله سبحانه على عدد الساعات, لكل ساعة رجل منهم, ومنهم ببلاد
الشرق أربعة ومنهم بالمغرب ستة, وباليمن اثنان, والباقي بسائر الجهات.

وحيث إن (رجال الفتح) يلازمون مكانهم لا يبرحون أبدا, نستطيع أن
نستشف منذ البدايات رجحان كفة المغرب على كفة المشرق في الكفاءة الروحية
والوظائف الكونية الغيبية.

ثم في مرحلة ثانية ينتقل ابن عربي من المعنى الظاهر للمشرق والمغرب
إلى المعني الرمزي والباطن. فالشرق لا يدل على محل وجهة كونية فقط, بل أصبح
مرادفا لصفة هي الشروق والظهور, في مقابل المغرب المرادف للبطون والستر. وهكذا
تصبح ثنائية الشرق والغرب تعني ثنائية الظهور والبطون, الغيب والشهادة, الطلوع
والغروب, الإعلان والستر, الليل والنهار.. إلخ.

ويظهر تأويل ابن عربي للشرق والغرب واضحًا في إجابته على السؤال رقم
مائة وستة وثلاثين من أسئلة الحكيم الترمذي: (أين باب الاسم الخفي), فأجاب ابن
عربي: بالمغرب. ويعلل هذا الجواب بقوله: (وجعله الله بالمغرب لأنه محل الأسرار
والكتم وهو سر لا يعلمه إلا أهل الاختصاص. فلو كان هذا الباب بالشرق لكان
ظاهرًا عند العام والخاص, ووقع به الفساد في العموم (...) والشرق بمنزلة الخروج
إلى الدنيا, وهي دار الابتلاء للعام والخاص, والغرب بمنزلة الخروج من الدنيا
والدخول في الآخرة, فإنه انتقال إلى دار التمييز والبيان ومعرفة المنازل
والمراتب على ما هي عند الله تعالى).

وهكذا فالشرق ليس مجرد مكان بل هو صفة الشروق, وكل ما هو شرقي أو في
الشرق فهو ظاهر لأن الشرق يُظهر, في مقابل كل ما هو كائن في الغرب فهو في ستر
لأن الغرب يستر.

3 - صراع المشرق والمغرب

شارك ابن عربي في المفاخرة المشرقية المغربية, وانحاز للمغرب وأعلن
صراحة ودون مجاملة لفظية, واستنادًا إلى تأويله السابق للشرق والغرب, أن المغرب
الإسلامي يعلو على المشرق في ميدان الروحانيات والتصوف. يقول في رسالة
الانتصار: (ففتح المغرب لايجاريه فتح إذ حظه من الزمان الوجودي الليل, وهو
المقدم في الكتاب العزيز على النهار في كل موضع. وفيه كان الإسراء للأنبياء,
وفيه تحصل الفوائد, وفيه يكون تجلي الحق لعباده, وهو زمان السكون تحت مجاري
الأقدار, وهي الغاية. إذ السكون عدم الدعوى, لايبقي وجودًا ولا رسمًا. فالحمد
لله الذي جعل فتح هذا المغرب فتح أسرار وغيره, فلا تُفتض أبكار الأسرار إلا
عندنا, ثم تطلع عليكم في مشرقكم ثيبات قد فرضن عدتهن فنكحتوهن بأفق المشرق).

ولن أكتفي بهذا الموقف النظري الذي أعلن فيه ابن عربي تفوق المغرب
صوفيًا, بل سوف أتتبع كتبه ورسائله لأرصد عمليًا وتفصيلاً علاقته الشخصية
بالمشارقة والمغاربة, ورأيه فيمن التقى به وفيمن لم يعاصر. وسوف أجعل هذا
التفصيل على ثلاث فقرات أخصصه لكتب أربعة من كتب ابن عربي وهي: الفتوحات, روح
القدس, الدرة الفاخرة, وكتاب التجليات.

أ - الفتوحات المكية

يعتبر كتاب الفتوحات المكية مصدرا نادرا يختزن مئات الأسماء الصوفية
المغربية, ومعظمها يرجع إلى شخصيات غير متداولة في كتب الطبقات المعروفة.
ونلاحظ أن ابن عربي لا يقتصد في عبارات الثناء والمدح حين يذكر واحدًا من
المغاربة الذين تقدّموه بالزمان أو عاصروه ولم يلتق بهم. وعلى سبيل المثال:

ابن مسرة هو (من أكبر أهل الطريق علماً وحالاً وكشفاً).

- ويذكر كتاب ابن العريف (محاسن المجالس) ويذكر بعضًا من أقواله,
ويشهد له بتمام المعرفة بالله يقول: (ما أحسن كلامه وما أتم هذه المعرفة بالله
وما أقدس هذه المشاهدة نفعه الله بما قال). ويعرفنا برتبته في عصره: (ابن
العريف أديب زمانه) (ف1/228).

- ويحصّل كتاب خلع النعلين لابن قسي رواية عن ابنه بتونس عام 590هـ.

- أما أبو مدين المعاصر له فهو الأثير لديه, حنّ إلى لقائه, إلا أن
الله سبحانه لم يأذن له بذلك. يروي لنا ابن عربي خبر هذه الرغبة فيقول: (قعدت
بعد صلاة المغرب بمنزلي بإشبيلية في حياة الشيخ ابن مدين, وتمنيت أن لو اجتمعت
به, والشيخ في ذلك الزمن ببجاية مسيرة خمسة وأربعين يومًا. فلما صليت المغرب
تنفلت بركعتين خفيفتين. فلما سلمت دخل علي أبو عمران (السدراني), فسلم, فأجلسته
إلى جانبي وقلت: من أين? فقال: من عند الشيخ أبي مدين ببجاية. فقلت: متى عهدك
به? قال: صليت معه هذا المغرب. فرد (أبو مدين) وجهه إلي وقال: إن محمد بن الربي
بإشبيلية خطر له كذا وكذا, فسر إليه الساعة وأخبره عني (...) يقول لك: أما
الاجتماع بالأرواح فقد صح بيني وبينك وثبت, وأما الاجتماع بالأجسام في هذه
الدار فقد أبى الله ذلك .فسكِّن خاطرك والوعد بيني وبينك عند الله في مستقر
رحمته). وعلى الرغم من أنه لم يلتق به فإنه أورد الكثير من أقواله, ونقل ما
بلغه من أنه سنّ ركعتين بعد الفراغ من الطعام ومشت سنّة في أصحابه. ويؤكد على
معرفته به فيقول: (أبو مدين من أكابر العارفين, وكنت أعتقد فيه, وكنت فيه على
بصيرة), كما نعلم من نصوص الفتوحات أنه كان عارفًا بمقامه وهجيره وأشياء كثيرة
تخص حياته الروحية.

- في مقابل هذه الحرارة تجاه صوفية المغرب, نجده ينتقد الغزالي (ف ج4
ص106, 93), ولا يكاد يذكر ابن الفارض (ذكر مرة في الجزء الرابع من الفتوحات
ص560), ويذكر أقوالاً للجنيد لاتخرج عن دائرة التعريفات التي تتكرر في غير
موضع.

ب - روح القدس والدرة الفاخرة

ترجم ابن عربي في كتابيه (روح القدس) و(الدرة الفاخرة) لأكثر من
سبعين رجلاً من رجال الصوفية. وهي ترجمة لها أهميتان: الأهمية الأولى أنها نصوص
نادرة وتكاد تكون المصادر الوحيدة لمعرفة هؤلاء الصوفيين. والأهمية الثانية أن
ابن عربي لم ينقل الترجمة عن الكتب والموسوعات, بل هي ترجمة حية لأشخاص التقى
بهم وعاش معهم فترات تطول وتقصر, وبالتالي استطاع أن يلتقط جوهر شخصية الواحد
منهم ويعكسها في مؤلفه.

وهؤلاء الصوفيون هم: أبو جعفر العريني, أبو يعقوب يوسف بن يخلف
الكومي, صالح العدوي, أبو عبدالله محمد الشرفي, أبو يحيى الصنهاجي, أبو الحجاج
يوسف الشبربلي, أبو عبدالله محمد بن قسوم, أبو عمران موسى بن عمران المارتلي,
أبو عبدالله محمد الخياط, أبو العباس أحمد الجرار, أبو عبدالله محمد بن جمهور,
أبو علي حسن الشكاز, أبو محمد عبدالله بن محمد بن العربي الطائي, أبو محمد
عبدالله الموروري, أبو محمد عبدالله الباغي الشكاز, أبو محمد عبدالله القطان,
عبدالله بن جعدون الحناوي, أبو عبدالله محمد بن أشرف الرندي, موسى أبو عمران
السدراني, أبو محمد مخلوف القبائلي, صالح الخراز, عبدالله الخياط, أبو العباس
أحمد بن همام, أبو أحمد السلاوي, أبو اسحق إبراهيم العبسي, أبو محمد عبدالله بن
إبراهيم المالقي, عبدالله بن تاحمست, السخان, أبو يحيى بن أبي بكر الصنهاجي,
أبو العباس بن تاجة, أبو عبدالله بن بسطام الباغي, يوسف بن تعزي, أبو الحسن
القانوني, محمد الحداد, أبو اسحق القرطبي, أبو عبدالله المهدوي, علي بن موسى بن
النقرات, أبو الحسين يحيى بن الصايغ, ابن العاص أبو عبدالله الباجي, أبو
عبدالله بن زين اليابري, أبو عبدالله الفران, أبو زكريا يحيى بن حسن الحسني,
عبدالسلام الأسود, أبو عبدالله القسطيلي, أبو العباس أحمد بن منذر, موسى أبو
عبدالله المعلم, أبو العباس الخراز, الحاج أبو محمد عبدالله البرجاني, أبو
عبدالله محمد النابلي, أبو عبدالله المرابط, أبو وكيل ميمون بن التونسي, أبو
محمد عبدالله بن خميس الكناني, شمس أم الفقراء, فاطمة بنت المثنى, أبو عبدالله
محمد بن المجاهد, أبو الحسن المنهنالي, أحمد الشريشي, أبو عبدالله الجليسي,
عبدالماجد بن سلمى, أبو اسحق إبراهيم الحناوي, الأشل القبائلي, ابن الحكيم
الكحال, زينب القلعية, أبو عبدالله الطرطوسي, ابن جعفر, عمر الكركري, علي بن
عبدالله بن جامي, عبدالحق الوراق, عبدالله بدر الحبشي.

ويظهر بوضوح إعجاب ابن عربي بمتصوفة المغرب, وتهيبه منهم:

- يقول في ترجمة الكومي, إنه كان إذا قعد بين يديه وبين يدي غيره من شيوخه
يرعد مثل الورقة في يوم الريح الشديد, ويتغير نطقه, وتتخدر جوارحه حتى يعرف ذلك
من حاله. ويقول عن الشيخ الكومي نفسه, إنه إذا شاء أخذ بيد المريد من أسفل
سافلين, وألقاه في عليين في لحظة واحدة. وأنه رآه في النوم وقد انشق صدره وفيه
مصباح يضيء كأنه الشمس. وكان بينهما علاقة روحية حميمة لدرجة أن ابن عربي إن
تمناه وهو في بيته لمسألة تخطر له, كان يراه أمامه, فيسأله ويجيبه ثم ينصرف.
- ويقول عن الشيخ العريني (كان إذا تكلم في علم التوحيد فحسبك أن تسمع).
- وصالح العدوى لم يتخذ مسكنًا ولا تداوى قط, لا يكلم أحدًا يجالسه, لا يدخر
شيئًا لغدٍ البتة, صاحبه سنين, ويكاد يعد كلامه معه من قلته, أخبره بأمور
مستقبلية فرآها كلها ما غادر منها كلمة.
- والشرفي يخبره بالشيء قبل كونه فيكون كما يخبره, وعاين من بركاته وانتفع
به.
- والصنهاجي له قدم راسخة في الرياضات والإشارات, وكان من أهل السياحات
ملازما للسواحل مؤثرا للخلوة.
- عبدالله الخياط, ابن عشر سنين أو إحدى عشرة سنة, شديد الوجد والتوله,
اجتمع به ابن عربي بجامع العديس وكان قد فُتح له في هذا الطريق وما علم به أحد.
أراد الموازنة معه, فما رأى نفسه بين يديه إلا كدرهم زائف.

باختصار, إن ترجمته لمشايخه في المغرب مفعمة بالإعجاب, وصدق المحبة,
ووضعية التلميذ الذي يتطلع إلى الاستفادة والتعلّم من أستاذه.

ج - كتاب التجليات

يمكننا أن نضع كتاب ابن عربي التجليات في مواجهة كتابيه: (روح القدس)
و(الدرة الفاخرة). فإذا كان هذان الكتابان يؤرخان للتصوف المغربي, ويبدو فيهما
ابن عربي تلميذًا أمام أساتذة, فإنه في كتاب التجليات يتربع على عرش الأستاذية
العظمى, يوقف صوفية المشرق, يحاكمهم في لا مكان ولا زمان, يحاججهم في أقوالهم
حول التوحيد, ويبين لهم مواطن الغلط فيها. والأهم من ذلك, أنه بعد أن صحح لهم
توحيدهم, يساعدهم (بعد موتهم) على الترقي في مقامات روحانية. ونختار بعضًا من
الشخصيات الصوفية الكبيرة والمشهورة, لنظهر اختلاف خطاب ابن عربي مع المشرقيين.
وحيث إن البحث هنا لا يحتمل التطويل في موضوع التوحيد, لذلك سوف أختصر المحاججة
بين ابن عربي وصوفية المشرق وألتقط فقط الألفاظ الدالة على نمط العلاقة:

- يقول ابن عربي إنه التقى الشبلي في تجلي ثقل التوحيد, فقال له: يا شبلي
التوحيد يجمع والخلافة تفرق, فالموحد لايكون خليفة مع حضوره في توحيده. فقال
له: هو المذهب. ثم سأله الشبلي عن أسئلة أجابه عليها ابن عربي. وهنا يتجلى
معلمًا, يُسأل فيجيب. واختتم اللقاء بأنه قبّل الشبلي وانصرف.
- يقول إنه رأى الحلاج في تجلي العلة. وسأله: لم تركت بيتك يخرب? فأجابه
بأنه لما استطالت عليه أيدي الأكوان أنفت نفسه أن تعمره, فقيل مات الحلاج,
والحلاج ما مات, ولكن البيت خرب والساكن ارتحل. فقال ابن عربي: عندي ما تكون به
مدحوض الحجة. فأطرق الحلاج وقال: (وفوق كل ذي علم عليم). وفي ختام اللقاء, تركه
ابن عربي وانصرف.
- وبعد أن كان معلمًا للشبلي وللحلاج, هاهو معلم لذي النون المصري, يقول
رأيت ذا النون المصري في تجلي سريان التوحيد, وكان من أطرف الناس.

فقلت له: عجبت من قولك (كذا وكذا...) يا حبيبي يا ذا النون, وقبلته
وقلت: أنا الشفيق عليك لا تجعل معبودك عين ما تصورته فيه, ولا تحجبك الحيرة عن
الحيرة, وقل ما قال, فنفى وأثبت: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , ليس هو عين
ماتُصور ولا يخلو ما تُصور عنه.

وبعد أن بيّن ابن عربي لذي النون غلطته في التوحيد, نجد هذا الأخير
يقرّ بعلم ابن عربي ويتحسر على معرفته بهذا العلم بعد فوات الأوان وانقضاء
الحياة الدنيا بحقه. فيقول: (هذا علم فاتني, وأنا حبيس والآن قد سرح عني, فمن
لي به وقد قُبضت على ما قُبضت عليه).

هنا يتجلى ابن عربي مرة ثانية معلمًا صوفيًا لذي النون, ويعلّمه أن
ترقي الأرواح بالعلوم لا ينتهي بانتهاء الحياة الدنيا بحق الشخص, فيقول له: (يا
ذا النون ما أريدك هكذا, مولانا وسيدنا يقول (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون). والعلم لايتقيد بوقت ولا مكان ولا بنشأة ولا بحال ولا بمقام).

وهكذا - بحسب نص ابن عربي - يتوالى الترقي الروحي الإنساني بالعلوم
بعد موت البدن, وهذا علم وحال لم يكن لدى صوفية المشرق خبر به. يقول ذو النون:
(جزاك الله خيرًا, قد تبين لي ما لم يكن عندي, وتجلت به ذاتي, وفتح لي باب
الترقي بعد الموت وما كان عندي منه خبر. فجزاك الله خيرًا).

- وفي تجلي التوحيد, وغايته أن يكون هو الناظر وهو المنظور, رأى (أخانا
الخراز رحمه الله), فقال له: هذا نهايتك في التوحيد أو هذا نهاية التوحيد? فقال
له الخراز: هذا نهاية التوحيد. فقبّله وقال له: يا أبا سعيد تقدمتمونا بالزمان
وتقدمناكم بما ترى.

كيف تفرّق يا أبا سعيد في الجواب بين نهايتك في التوحيد ونهاية
التوحيد, والعين العين ولا مفاضلة في التوحيد, التوحيد لا يكون بالنسبة هو عين
النسبة.

هنا خجل أبو سعيد الخراز من نقصان معرفته في توحيده, فآنسه ابن عربي
وانصرف.

- أما الجنيد فيعرفنا ابن عربي أنه شاركه في (تجلي بحر التوحيد) ولم ينتقده,
بل رأى ما قاله في هذا المجال صحيحًا. وهذا يعني أن الجنيد وابن عربي معه من
أهل الفناء في التوحيد, ونترك ابن عربي يعبر بلغة شعرية راقية عن هذا الاندماج
الإنساني بين شخصين في حال واحد, يقول: (التوحيد لجّة وساحل, فالساحل ينقال
واللجة لا تنقال, والساحل يُعلم واللهجة تُذاق. وقفت على ساحل هذه اللجة, ورميت
ثوبي وتوسطتها. فاختلفت علي الأمواج بالتقابل, فمنعتني من السباحة, فبقيت
واقفًا بها لابنفسي. فرأيت الجنيد, فعانقته, وقبلته. فرحّب بي وسهل (...)
فعانقني وعانقته, وغرقنا فمتنا موت الأبد, فلا نرجو حياة ولانشورا), وهذا يعني
أن ابن عربي غرق مع الجنيد في بحر التوحيد, ويسأل الله سبحانه عدم العودة (أي
الصحو والفرق) من الغرق في التوحيد (الفناء - حال الجمع).

ولكن, وإن كان ابن عربي يعانق الجنيد ويغرق معه في بحر التوحيد, إلا
أنه في (تجلي توحيد الربوبية) يخالفه, ويحاججه ليبين له نقصان معرفته وعدم صحة
توحيده في هذا المجال. إذ رآه في هذا التجلي فبادره: كيف تقول في التوحيد يتميز
العبد عن الرب, وأين تكون أنت عند هذا التمييز. لا يصح أن تكون عبدًا ولا أن
تكون ربًا, فلابد أن تكون في بينونة تقتضي الاستشراف والعلم بالمقامين مع تجردك
عنهما حتى تراهما.

لا يناقش الجنيد ابن عربي, بل يعترف فورًا بقصوره, ويخبرنا النص أنه
يخجل ويُطرق. فيلاطفه ابن عربي ويقول له: لا تُطرق نعم السلف كنتم ونعم الخلف
كنا. وحين يشعر بفوات الوقت لإصلاح ما كتب في الحياة الدنيا, يسأل ابن عربي:
كيف بالتلافي وقد خرج منا ما خرج ونقل ما نقل? يطمئنه ابن عربي بقوله: لاتخف,
من ترك مثلي بعده فما فُقد. أنا النائب وأنت أخي.

وينختم اللقاء بأن قبّل ابن عربي الجنيد قبلة, فعلم ما لم يكن يعلم,
ثم انصرف.

- وهذا يوسف بن الحسين يعرّفه ابن عربي بغلطه في عطشه للتوحيد, فيتنبه,
ويهفو إلى ابن عربي فيحتضنه وينصب له معراج الترقي فيه.
- وفي تجلي من تجليات المعرفة يرى ابن عطاء, ونلاحظ أنه يغلظ في الكلام,
ومما قال له: (يا ابن عطاء ما هذا منك بجميل (....) تب إلى الله يا ابن عطاء
(...) ارفع الهمة..).

وعندما تنبه ابن عطاء لعدم صحة معرفته بالله, يشعر بما شعر به ذو
النون قبله, وأنه فات وقت العمل, وأنه لا يستطيع أن يرفع الهمة كما نصحه ابن
عربي, فيقول: (مضى زمان رفع الهمة).

هنا يعلّمه ابن عربي ما علّم الذين قبله من عدم توقف الأرواح بالموت
البدني عن الترقي. فيقول له: (للهمم رفع بالزمان وبغير الزمان. زال الزمان فلا
زمان, ارفع الهمة في لا زمان تنل مانبهتك عليه. فالترقي دائم أبدًا).

يشكره ابن عطاء ويقول له: (بورك فيك من أستاذ), ثم فتح هذا الباب
فترقى, فشاهد, وأقر لابن عربي, الذي انصرف بعد هذا الحوار.

- وفي تجلي نور الغيب يرى سهل بن عبدالله التستري, فيسأله ويجيب, ويبين له
ابن عربي مواقع الغلط في كلامه, وأنه حدّد الله سبحانه من حيث لا يشعر. وعندما
يسأله سهل أن يخبره هو بالحق على ما هو عليه, يقول: (وهل الجواب عنه إلا
السكوت).

وعندما يفنى سهل ويرجع, ويجد الأمر على ما هو عليه, نرى ابن عربي يحض
سهلاً على الاعتراف له بالأسبقية المعرفية. فيقول: (يا سهل, أين أنا منك).
فيقول سهل: (أنت الإمام في علم التوحيد).

بعد هذا الاعتراف من سهل, ينزله ابن عربي - بحسب النص - إلى جنب
النوري في علم التوحيد, ويؤاخي بينه وبين ذي النون المصري. ثم ينصرف.

وفي ختام هذا القسم الثالث نقول: يتجلى ابن عربي تلميذًا في المغرب,
معلمًا في المشرق. ثم قدم لنا تراجم لأسماء مغربية مخبوءة كالكنوز في السراديب
ممن انتفع هو بهم في طريق الآخرة, خاصة في كتابه روح القدس والدرة الفاخرة, وفي
المقابل أخبرنا بوقائع في كتاب التجليات ضمت أسماء مشرقية كبيرة انتفعت به بعد
مفارقتها للدنيا في حياتها الآخرة. وبعد أن كان لا يملك إلا أن يستمع إن تكلم
أبو جعفر العريني في التوحيد (كما ورد في روح القدس), هاهو (في التجليات) يصحح
عقائد المشرقيين في التوحيد.

إن المقابلة بين هذه الكتب الثلاثة بالإضافة إلى نصوص الفتوحات تبين
المكانة العالية التي يعطيها ابن عربي للصوفيين المغربيين, فضلا عن شعوره
بالمهابة والرعدة كورقة في يوم الريح الشديد, في مقابل مساحة الحرية التي
يتعامل بها مع المشرقيين.

4- هوية زيتونة... لا شرقية ولا غربية

لن نظل في عالم التفرقة والتضاد, كما تجلى في مفاخرة المغرب للمشرق,
بل سنرقى مع ابن عربي إلى هوية الإنسان العارف المتكثرة الجامعة للأضداد.
والكفيلة بإيجاد علاقة متكاملة بين المشرق والمغرب.

وهنا يتجلى ابن عربي راهنيًا في أفكاره, إذ يقدم لنا حلاً لتأليف
المختلف, واندماج عناصره المتضادة في كل متكثر, يحفظ خصوصية كل عنصر وهويته
ويحترمها ولا يعمل على إزالتها.

ومرجعه في هذه الهوية المتكثرة للإنسان العارف آيتان قرآنيتان: الآية
الأولى أسست لتنزيه هوية العارف من الجهات. والآية الثانية أسست لجمعية هوية
العارف لكل الجهات, وفيما يأتي نفصل هاتين المقاربتين لهوية العارف:

أ- هوية العارف منزهة عن التقيد بالجهات

يستند ابن عربي إلى آية قرآنية هي: يا أهل يثرب لا مقام لكم , ليرى
أنها تشير إلى مقام العارف الذي لا يتقيد بصفة أصلاً. يقول في الفتوحات:

(المقام الذي ينتهي إليه العارفون وهو أن لا مقام, كما وقعت به
الإشارة بقوله تعالى يا أهل يثرب لا مقام لكم . وهذا المقام لايتقيد بصفة
أصلاً. وقد نبه عليه أبو يزيد البسطامي لما قيل له: كيف أصبحت? فقال: لا صباح
لي ولا مساء, إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة وأنا لا صفة لي (انتهى كلام
أبي يزيد). فالصباح للشروق والمساء للغروب, والشروق للظهور وعالم الملك
والشهادة, والغروب للستر وعالم الغيب والملكوت. فالعارف في هذا المقام
كالزيتونة المباركة التي لا هي شرقية ولا غربية, فلا يحكم على هذا المقام وصف
يتقيد به, وهو حظه من ليس كمثله شيء .

إذن, الشخص العارف لا يتقيد بصفة, لا بشرق ولا بغرب, لابصبح ولا
بمساء, لا بظهور وشهادة ولا بسرّ وغيب, إنه منزه عن الصفة مبرّأ. وهذا التنزيه
عن الصفة يعليه على المفاخرة, ويجعله فوق الصراع حول شرق وغرب...وهذا جزء من
المحل.

ب - هوية العارف جامعة للجهات كلها

يستند ابن عربي إلى آية قرآنية هي: ... مثل نوره كمشكاة... ليرى
أنها تشير إلى هوية العارف الكامل الحاملة للصفات المتقابلة. فالعارف هنا صاحب
هوية لا شرقية ولا غربية, لا بمعنى أنه يعلو على شرق وغرب, ويخلو منهما ويتنزه
عنهما, بل بمعنى أنه لا ينحاز لشرق ولا لغرب بل يجمع في ذاته خصائص الشرق
والغرب في وحدة معرفية إنسانية, دون امتزاج لهذه الخصائص أو ذوبان.

يقول: (فهذه أربعة: مشكاة وزجاجة ومصباح وزيت. والخامس: الهوية, وهو
الزيتونة المنزهة عن الجهات (لا شرقية ولا غربية). وكني عنها بالشجرة من
التشاجر وهو التضاد, لما تحمله هذه الهوية من الأسماء المتقابلة).

ويشبّه ابن عربي هذه الجمعية الصفاتية بالإنسان: فهو واحد بذاته
متعدّد بمكوناته.

يقول: (هوية أحدية فيها صور مختلفة (...) فزيد إحدى العين (...) وكل
جارحة منه متميزة عن غيرها من الجوارح, وكل قوة منه في باطنه لها حكم ليس
للأخرى ومحل ليس للآخر, فتميزت الصور في عين واحدة).

وهذه الجمعية تحقق الاعتدال اللازم لتوازن الشرق والغرب وتكاملهما,
يقول: (هذه الشجرة لا شرقية ولا غربية فوصفها بالاعتدال), وهذا الاعتدال إضافة
إلى الانفتاح على خصائص الشرق والغرب يجعلها متمتعة بخصائص القطبين, يقول ابن
عربي: ((شجرة) لا شرقية ولا غربية في تمام الاعتدال, لا تميل عن عَرَض إلى شرق
فيُحاط بها علمًا, ولا إلى غرب فلا تُعلم رتبتها).

وهكذا فالإنسان العارف معتدل المقام بين الشرق والغرب, فلا يميل بكله
إلى الشرق فيحيط به الناس علمًا, ولا يميل بكله إلى الغرب فيجهل الناس رتبته.
*