المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيد الرئيس / ميجال أنجل أستورياس



جمال عبد القادر الجلاصي
03/04/2007, 12:58 PM
السيد الرئيس




الجزء الأول

21، 22، 23 أفريل
1

باب الرّحمان

خاطف، ضوء جليّ، برق باب الرحمان! مثل طنين الآذان الذي يظل إثر رنين نواقيس الكنيسة لصلاة التبشير، كينونة مضاعفة متألمة: الظل في الضوء، والضوء في الظل.
خاطف، ضوء جليّ، برق باب الرحمان، كلها حرمان! خاطف، ضوء جليّ، برق باب الرحمان! خاطف، خاطف، برق، ضوء خطاف... برق الضوء، خاطف البرق...
المتسولون يتسكعون بين ردهات السوق. تائهين في الظل المتجمد للكاتدرائية، في اتجاه ساحة السلاح، عبر الطرق العريضة كالبحار، في المدينة التي تعيش عزلتها شيئا فشيئا.
يجمّعهم الليل عندما يجمّع النجوم. يتجمعون للنوم عند باب الرحمان، دون أي رابطة سوى البؤس. يتبادلون اللعنات، يطلقون الشتائم بشراسة الأعداء الذي يفتشون عن الخصومات، يتضاربون بالمرافق وأحيانا يقذفون بعضهم بالطين المخلوط بالبصاق والسباب. المساند والثقة، أشياء لم تنتم أبدا لعائلة المزبلة هذه. ينامون بكامل ملابسهم متباعدين، ينامون كلصوص متوسدين كنوزهم: بقايا لحم، حذاء قديم، أعقاب شمع، حفنة أرز مطبوخ ملفوفة في صحيفة قديمة، برتقال وموز متعفن.
تراهم عند سوق باب الرحمان متجهين صوب الجدار، يحصون ملاليمهم، يتثبتون من سلامتها، يحادثون أنفسهم، يحصون ذخائر معدتهم وحربهم لأنهم يمشون في الشارع كأنهم يستعدون لحرب دائمة متسلحين بالحجارة ويمضغون خفية قطعة خبز جاف. لن تراهم أبدا يتعاونون، بخلاء ببقاياهم مثل كل المتسولين، يفضلون إعطاءها للكلاب عوض رفاق البؤس.
بعد أن يأكلوا ويضعوا نقودهم في منديل ويعقدونه سبع عقد، ويربطونه قرب سرّتهم، يتمددون أرضا ويغطسون في أحلام حزينة ومضطربة. كوابيس يرون خلالها خنازير جائعة ونساء نحيلات، وكلابا مشوهة، عجلات سيارات وأشباح رهبان يطوفون بالكنسية كأنهم بانتظار موكب الدفن، تسبقهم دودة شريطية مصلوبة على ساق متجمدة. أحيانا يفيقون من عمق النوم على صرخة معتوه اعتقد أنه تاه في ساحة السلاح. أحيانا يوقظهم بكاء عمياء رأت في حلمها أنا الذباب يغطيها وأنها معلقة مثل ذبيحة أمام دكان جزار. أحيانا الخطى الرتيبة لدورية تجرجر سجينا تحت ضرباتها القاسية تتبعها نسوة تحاول بمناديل تغرق بالدموع مسح آثار دمائه. أحيانا الشخير المفزع لأقرع معتل، أو تنفس صماء بكماء حامل تبكي خوفا لأنها تحس طفلا في أحشائها... لكن صراخ المعتوه كان الأكثر وحشة، كان يمزق السماء، صراخ طويل مهتز دون أي نبرة إنسانية.
يوم الأحد حلّ مخمور بين هذه المجموعة الغريبة، عندما نام بدأ ينادي أمه باكيا مثل طفل. عندما سمع المعتوه كلمة "أماه" التي بدت من فم المخمور كأنها لعنة أو شكوى، نهض ونظر في كل الاتجاهات من أول الباب إلى آخره، ثم، بعد أن استيقظ جيدا وأيقظ رفاقه بصرخاته، بدأ يبكي رعبا، مصاحبا المخمور في نحيبه.
كانت الكلاب تنبح، وتسمع صرخات، وأقدر الجماعة على الصراخ يقف لينادي بأعلى صوته ليلزم الجميع الهدوء، ليلزم الجميع الهدوء... أو الشرطة. لكن الشرطة تمتنع عن الاقتراب. لا أحد هنا يمكنه دفع الخطية. " تعيش فرنسا"!... يبعبع الأعرج مع صرخات المعتوه وحركاته الذي غدا سخرية المتسولين نتيجة هذا الوغد الأعرج الذي يقلّد أحيانا المخمور وأحيانا أخرى الدمية، هكذا كانوا يلقبون المعتوه، الذي يبدو في نومه كميت يبعث مع كل صرخة، دون أن يهتم بالظلال المتكدسة أرضا، الملفوفة بخرق، والذين يرمونه عند رؤية جنونه، بسخريات وضحكات عالية. بنظرات تائهة أعلى من الوجوه الموحشة لرفاقه، دون أن يرى شيئا أو يسمع صوتا، يعود للنوم مرهقا من كثرة البكاء. لكن بالكاد يغفو حتى تعود صرخة الأعرج "أماه"، ليفيق من جديد.
يفتح الدمية عينيه فجأة، كنائم يرى أنه يجري في الفراغ. حدقتاه تتسعان شيئا فشيئا، ينكمش من جديد، يصل الألم إلى أحشائه والدموع تنهمر من عينيه، ثم يعود تدريجيا للنوم وجسمه مرتخي، والبؤس يغلّف بقايا يقظته المتحللة. ولكن بالكاد يتذوّق الراحة حتى يوقظه صوت خبيث آخر " أماه"!.
إنه صوت الأرملة، خلاسية هرمة، بين ضحكة وأخرى تواصل:" أمّاااااه، أيتها الرحيمة، أملنا، نرجوك نحن المنفيين! آه! ارفعي عنّا المظلمة" !
يفيق المعتوه ضاحكا، كأنه يسخر أيضا من قدره، جوعان، تجري دموعه وقلبه من بين أسنانه، بينما المتسولون يفتكون من الهواء قهقهقهقهقهقهقهات على الهواء، على الهواء.. وامرأة بدينة شواربها ملطخة بالمرق تكاد تختنق من كثرة الضحك، ومن كثرة الضحك بال أعور وهو يضرب رأسه بالجدار، كتيس. والعميان يتذمرون لأنهم لا يستطيعون النوم في هذه الفوضى. والناموسة، أعمى بلا ساقين، يحتج لأن، حسب رأيه، فقط المخنثون يمكنهم الضحك بهذه الطريقة.
العميان، بالنسبة للآخرين، كأنهم يغنون، والناموسة الذي ما زال يتحدث، لا أحد يسمعه. من يمكنه أن يأخذ على محمل الجدّ ادعاءاته؟ " أنا، من قضى طفولته في ثكنة للمدفعية، حيث جعلت مني ضربات البغال والقادة رجلا – حصانا. ممّا مكنني وأنا شاب من أن أجرّ أرغني الضخم في كل الشوارع. أنا الذي فقدت عينيّ خلال معركة دون أن أدري كيف، ثم رجلي اليمنى في معركة ثانية دون أن أعرف متى، ثم اليسرى في معركة ثالثة، تحت عجلات سيارة دون أن أعرف أين"!
أشاع المتسولون أن الدمية أصبح معتوها نتيجة حديث الناس عن أمه. أصبح التعيس يجول في الأسواق والشوارع والساحات كي يفرّ من الهمج الذين يلاحقونه هنا وهناك مثل لعنة سماوية بكلمة " أماه"! يبحث عن مأوى في المنازل لكن الكلاب والخدم يلقونه خارجا. يطردونه من الكنائس والمغازات، من كل مكان، دون أن يعيروا انتباها لتعبه الحيواني ولا لتعابير عينيه اللتان توحيان بالشفقة دون وعي.
المدينة، كبيرة، كبيرة جدا، نظرا لكسله، أصبحت تصغر شيئا فشيئا، بالنسبة لرعبه: ليالي الرعب تليها نهارات القهر، ملاحق من الناس الذين لا يكتفون بالهتاف:"أيها الدمية يوم الأحد ستتزوج أمك... الأغنية العجوز... الأغنية العجوز... العجوز الغانـيـ..." بل يضربونه ويمزقون ملابسه، ملاحقا من الأطفال يلتجئ إلى الأحياء الفقيرة، حيث يكون حظّه أتعس، هناك حيث الكل يعاني البؤس، بالكاد يرونه يركض حتى يشتمونه ويرمونه بالحجارة والفئران الميتة والعلب الفارغة.
عند خروجه من واحد من تلك الأحياء مثل هذا اليوم عندما بدأت النواقيس تدق دقة التبشير، صعد نحو باب الرحمان، مجروح الجبهة، دون قبعة يجر وراءه بقايا طائرة ورقية علقت في ظهره للسخرية، كل شيء يخيفه: ظلال الجدران، خطوات الكلاب، الأوراق المتساقطة من الأشجار، زعيق السيارات المسرعة. عندما وصل إلى الباب كاد الظلام يخيّم. المتسولون يديرون وجوههم باتجاه الجدار، يحصون ويعيدون إحصاء مرابيحهم. الأعرج يتخاصم مع الناموسة، الخرساء الصماء تتلمس بطنها، الضخمة دون سبب، حسب رأيها، والأعمى يتأرجح في حلمه مغطى بالذباب مثل لحم معلّق أمام دكان جزار.
سقط الدمية نصف ميّت، لم يُرح ساقيه منذ ليال طويلة. يحكّ المتسولون لحمهم في صمت دون أن يستطيعوا النوم، منتبهين لخطوات العساكر تروح وتجيء في الساحة قليلة الإضاءة، ولقعقعة سلاح الحرس، أشباح ملفوفة في برانيس مخططة، يسهرون في أتم استعداد، من شبابيك الثكنات القريبة، على سلامة رئيس الجمهورية الذي لا يعرف أحد مسكنه لأنه يبيت خارج المدينة في بيوت عديدة في نفس الليلة، ولا كيف ينام لأن الناس تقول أنه ينام واقفا، قرب هاتف والسوط في يده، ولا متى ينام، لأن أصدقاءه يؤكدون أنه لا ينام أبدا.
من باب الرحمان يمر جسم مظلم، يتقوقع المتسولون مثل ديدان. يعلو مع صرير الأحذية العسكرية نعيب طائر مشؤوم في الليل المظلم العميق دون قاع...
يفتح الأعرج جفونه، نهاية العالم تحسّ في الجوّ، صاح في البوم:" هويا لي، هويا لي، يمكنك أن تأخذ الملح والبهار... لا أريد لك خيرا أو شرّا، لكن صدفة ألعنك" !!! يبحث الناموسة عن وجهه، الهواء ثقيل كأن الأرض تنتظر زلزالا. ترسم الأرملة إشارة الصليب قرب العميان.الدمية وحده نائم وهو يشخر.
يتوقف الجسم المظلم، الضحكة تنير وجهه، يقترب من الدمية، بهدوء، وبسخرية يصرخ:" أماه"! لم يقل أي كلمة أخرى. مرعوبا من الصرخة، انتفض المعتوه وارتمى عليه، دون أن يترك له الوقت لاستعمال أسلحته، يغرس أصابعه في عينيه، يمزق أنفه بأسنانه، ويضرب أسفل بطنه بركبته، إلى أن سقط بلا حراك. أغمض المتسولون أعينهم من الرعب، والبومة مرّة من جديد، والدمية فرّ عبر الطرقات المظلمة تهزّه نوبة من الهلع.
قوة عمياء سلبت حياة العقيد خوزي باراليس سورينتي المعروف بالرجل ذي البغلة الصغيرة.
الفجر لاح ...







2

موت الناموسة

توشي الشمس الشرفات البارزة للدائرة الثانية للشرطة، من هنا وهناك يمر أحد عبر الشارع نحو الكنيسة البروتستانتية، نرى هنا وهناك باب يفتح من بناء حجري بناه الماسونيون. في الدائرة جمع من النسوة ينتظرن السجناء، جالسات في الساحة، حيث توحي دائما بقرب نزول المطر، وعلى المصاطب في الممرات المعتمة، يجلسن حفاة، وسلة الطعام في حجورهن محاطات بمجموعة من الأطفال، الصغار ملتصقين بأثداء أمهاتهم المتدلية، والأكبر يهددون بتثاؤبهم الخبز في السلة. يتحدثن بمحنهن بصوت منخفض، دون أن يكففن عن البكاء، يمسحن دموعهن بركن من الشال. في صمت يغرق وجه عجوز في الدموع وكأنها تريد القول أن محنتها كأم هي الأمرّ. الألم دون دواء في هذه الحياة وفي هذا المكان الكئيب، أمام شجرتين أو ثلاث مهملة ونافورة جافة و شرطيين شاحبي الوجوه يلمعون في أوقات عملهم أزرارهم ببصاقهم، ليس لهؤلاء النسوة سوى الاتجاه إلى الله.
يمرّ عسكري هندي قريبا من النسوة، وهو يجرجر الناموسة. لقد قبض عليه في ركن مدرسة الأطفال وهو يمسكه من يده، يؤرجحه كقرد. لكنهن لا ينتبهن إلى ما في الوضعية من هزل، لأنهن مهتمات بمراقبة السجانين ، الذين سيبدؤون بين لحظة وأخرى توزيع الغداء ويأتونهن بأخبار سجنائهم.
- قال أن... يجب ألا تهتموا لأمره، وأن حالته تحسنت! قال أن... أن تجلبوا له بأربعة ريالات دهان الجنود منذ أن تفتح الصيدلية! قال أن... يجب أن تبحثوا عن دفاع، أن تجدوا متربص لأنه يقبض أقل من المحامي! قال أن... قلت لكم ألاّ تكونوا هكذا، ليس هناك نساء معهم، لا يحق لك أن تحسي بالغيرة، وأن في ذلك اليوم جلبوا واحدا من هؤلاء ولكنه سريعا وجد حذاء على مقاسه! قال أن... أرسلوا له بريالين مرهم من أجل الالتهاب، لأن لا يستطيع الذهاب إلى المرحاض! قال أن... يؤلمه أن تبيعوا الخزانة!
- اسمع أنت، قال الناموسة، عندما لاحظ سوء معاملة الشرطي، لا يعنيك الأمر أليس كذلك؟ بالطبع لأني فقير! فقير ولكني شريف... ثم أني لست ابنك، هل تسمعني؟ لست دميتك ولا مخاطك ولا أي شيء يتبعك كي تحملني بهذه الطريقة. لقد انتهى الأمر وأنتجوا الفكرة العبقرية لأخذنا لمأوى المتسولين لنكون في علاقة طيبة مع اليانكي! لقد مللنا! فليذهبوا إلى الجحيم، دائما الديك الرومي للمحشو! هذا إذا عوملت بطريقة حسنة. عوضا عن هذا ، في المرة التي زارنا السيد الذي يهتم بالأمور التي لا تخصّه، بقينا ثلاثة أيام دون أكل، متطلعين من حواف الشبابيك نرتدي الأغطية مثل المجانين...
المتسولون الذين قبض عليهم وضعوا في واحدة من ثلاثة غرف، زنزانة ضيقة ومظلمة, يزحف الناموسة مثل سرطان بحري. صوته الذي خنقه صوت السلاسل التي تغلق الأبواب والبذاءات التي يطلقها السجانون، تضخم داخل الكهف المقبب.
- آه يا ملهمتي! كل هؤلاء البوليس! عذراء الدائرة الملعونة،كل هؤلاء الأبالسة! يسوع الرائع كن محل ثقتي...
يتباكى رفاقه كحيوانات موبوءة، تعذبهم الظلمة فيحسون أنهم لن يستطيعوا أبدا نزعها من أعينهم من شدة الخوف. إنهم هنا حيث عانى الكثيرون من الجوع والعطش حدّ الموت، وكانوا مرعوبين من فكرة أن يصنعوا منهم صابونا أسود مثلما يفعلون بالكلاب، أو يذبحونهم لإطعام الشرطة. تتقدم وجوه آكلي لحم البشر مضيئة كمصابيح خدودهم تبدو كمؤخرات وشواربهم بمحلول الشوكولا.
تواجد طالب وخادم كنيسة في نفس الزنزانة.
- سيدي، أظنّ أنك جئت قبلي إلى هنا، أنت ثم أنا، أليس كذلك؟ تكلم الطالب ليقول أي كلام كي يتخلص من كتلة رعب يحس أنها تسد حلقه.
- أعتقد، أنك على صواب، أجاب خادم الكنيسة وهو يبحث في العتمة عن وجه محدثه.
- و... حسنا... كنت سأسألك لأي سبب أنت مسجون؟
- فلنقل من أجل أسباب سياسية...
أحس الطالب الرعب يغزوه من رأسه حتى قدميه وبالكاد نطق:
- أنا أيضا...
يفتش المتسولون عن كيس المؤونة الذي لا يفارقهم، لكن في مكتب مدير الشرطة سرقوا منهم كل شيء بما في ذلك ما كان في جيوبهم بحيث لا يدخل شيء إلى السجن، ولو علبة كبريت. كانت الأوامر واضحة.
- ومحاكمتك؟ واصل الطالب.
- ولكن لا يوجد محاكمة كما قلت. أنا هنا حسب أوامر عليا! قال خادم الكنيسة وهو يحك ظهر على الجدار حتى يسحق القمل.
- كنت...
- لا شيء... قطع الخادم بعنف، لم أكن شيئا!
في تلك اللحظة صرّت السلاسل وفتح الباب كأنما يتمزق كي يُدخل متسول آخر.
- تعيش فرنسا! صاح الأعرج وهو يدخل.
- إنني في السجن... صرّح الخادم.
- تعيش فرنسا!
- ... من أجل جرم ارتكبته خطأ. تخيل أني عوض أن أنزع إعلانا يخصّ عذراء " الأو" نزعت من باب الكنيسة أين أخدم إعلان يوبيل أم السيّد الرئيس.
- ولكن كيف عرفوا ذلك؟ همس الطالب، بينما يمسح الخادم دموعه بأطراف أصابعه، ساحقا دموعه في عينيه.
- الحقيقة ... أني لا أعلم السرّ... المؤكد أنهم أوقفوني وجلبوني لمكتب السيد مدير الشرطة الذي - بعد أن ضربني بعنف- أمر بوضعي في هذه الزنزانة سرّا باعتباري ثوري.
يبكي المتسولون خوفا، وجوعا وبردا، منغمسين في الظلمة.لا يرون حتى أياديهم. يسقطون أحيانا في سبات، فيسري بينهم تنفس الصماء البكماء الحبلى كمن يبحث عن مخرج.
لا أحد يعلم الساعة، ربما منتصف الليل، أخرجوهم من قبوهم، يجب التحقيق في جريمة سياسية، حسب ما قال لهم رجل قصير وسمين بوجه بلون الزعفران وشوارب مرتبة على شفاه غليظة وأنف أفطس وعينين غائرتين. انتهى بأن يسألهم جميعا، ثم واحدا فواحدا إن كانوا يعرفون مرتكب أو مرتكبي جريمة اغتيال عقيد في الجيش عند باب الرحمان.
الغرفة مضاءة بسراج مدخّن، ضوؤه الضعيف يوحي وكأنه عبر طحالب... أين الأشياء؟ أين الجدار؟ أين ذلك المشاط الأحدّ من فكّ النمر وذلك الحزام البوليسي المليء بالرصاص؟
إجابة المتسولين غير المنتظرة جعلت رئيس المحكمة الخاصة الذي يستجوبهم يقفز من كرسيّه.
- هل ستقولون لي الحقيقة؟ صرخ وهو يفتح عيونا من رصاص خلف نظارات حسير. بعد أن ضرب بعنف الطاولة التي يستعملها كمكتب.
كرّر الجميع أن المجرم هو الدمية، راوين بأصوات متألمة تفاصيل الجريمة التي وقعت أمام أعينهم. بعد إشارة من الرئيس، بدأ البوليس المنتظر أمام الباب بضرب المتسولين وهم يدفعونهم نحو قاعة خربة، أين يتدلى من السقف حبل.
- إنه المعتوه! صاح أول المعذبين، وهو يحاول التخلص من ألمه بقول الحقيقة، إنه المعتوه يا سيدي! إنه المعتوه! أقسم بالله، إنه المعتوه اقسم ! إنه الدمية المعتوه! الدمية! المعتوه! الدمية! إنه هو! إنه هو!
- هذا ما نصحوكم بقوله، ولكن معي لا يمكن أن تنطلي عليّ الأكاذيب: الحقيقة أو الموت... اعلموا إذا إن كنتم لا تعلمون... ضاع صوت الرئيس كتدفق الدماء بالنسبة للتعيس المعلق بالحبل من أصابعه دون أن يتمكن من وضع قدميه على الأرض وظل يصرخ:
- إنه المعتوه! إنه المعتوه! أقسم أنه المعتوه! إنه المعتوه! إنه المعتوه!
- أكاذيب! صاح الرئيس بعد صمت، أكاذيب! كاذب! سأقول لكم من اغتال العقيد خوزي باراليس سوريانتي، وسأرى إن كنتم تجرؤن على الإنكار، سأقول لكم بنفسي... إنه الجنرال أوزبيو كاناليس والأستاذ آبال كارفاخال.
أحدثت كلماته صمتا رهيبا، ثم أنّات متتابعة، وفي النهاية، نعم... عندما تُرك الحبل سقطت الأرملة على ظهرها، مغمى عليها، وجنتاها مغطيتان بالعرق والدموع كفحم مبلل بالمطر. أقرّ رفاقها وهم يرتعشون ككلاب تموت في الشوارع بعد أن سممتها الشرطة، بأن كلام السيد رئيس المحكمة صواب، كلهم باستثناء الناموسة. رسمت على وجهه تكشيرة ألم وامتعاض. كان معلقا من أصابعه لأنه يؤكد ونصفه مغروس في الأرض كما يبدو كل الذين لا يملكون أرجلا، أن رفاقه يكذبون حين يتهمون رجالا غرباء عن الجريمة التي يعتبر المعتوه هو الوحيد المسؤول عليها.
- مسؤول! التقط القاضي الكلمة. كيف ترجؤ على القول أن معتوها يمكن أن يكون مسؤولا؟ أرأيتم الكذب؟ مسؤول، غير مسؤول!
- هذا يسأل عليه هو فقط.
- يجب أن يضرب! اقترح شرطي بصوت امرأة، في حين ضربه آخر على وجهه الدامي بذيل ثور.
- قل الحقيقة! صاح القاضي، بينما تنهمر الضربات على وجه العجوز. الحقيقة وإلا ستبقى معلقا طيلة الليل.
- ألا ترى أني أعمى؟
- لتنكر إذا أنه الدمية...
- لا. لأني أقول الحقيقة، ولأن لي خصيتان في مؤخرتي.
ضربتان بالسوط أدمتا شفتيه.
- أنت أعمى ولكنك تسمع. قل الحقيقة، اشهد كبقية زملائك.
- حاضر، وافق الناموسة بصوت مطفئ، اعتقد الرئيس أنه ربح المعركة، حاضر أيها النذل الأحمق، إنه الدمية...
- غبيّ!...
ضاعت شتيمة القاضي في آذان نصف رجل لن يسمع شيئا مطلقا. عندما حلّوا وثاق جثة الناموسة أي صدره، لأنه بدون رجلين سقطت عموديا كبندول مكسّر.
- العجوز الكاذب! لم تكن شهادته لتصلح لشيء لأنه أعمى! صاح رئيس المحكمة وهو يمر قرب الجثة.
وجرى ليعد تقريره للسيد الرئيس حول النتائج الأولية للتحقيق، في عربة يجرها حصانان نحيلان، وعوض المصباح للإضاءة يستعمل عيون الموت. رمى البوليس جسد الناموسة في عربة الفضلات التي تتجه نحو المقبرة. بدأ الديكة بالصياح. المتسولون الذين أطلق سراحهم ظهروا في الطريق. الصماء البكماء تبكي خوفا لأنها تحس طفلا في أحشائها.




3
هروب الدمية

يفرّ الدمية عبر الطرق الملتوية، الضيقة، لضواحي المدينة، دون أن يقلق بصياحه الجامح تنفس السماء ولا نوم السكان، المتساوي في مرآة الموت بقدر اختلافهم في الصراع الذي يخوضونه عندما تشرق الشمس، بعضهم ينقصهم الضروري لهذا يضطرون للعمل لكسب خبزهم، بينما الآخرون يكتفون بفوائض صناعة الحظوة: أصدقاء السيد الرئيس، يملكون، أربعين منزلا، خمسين منزلا، يقرضون بفوائض تبلغ بين تسعة وعشرة بالمائة شهريا، موظفون يراكمون سبعة أو ثمانية وظائف عمومية، يستغلون امتيازات ، والمنظمات الخيرية، والرتب الوظيفية، منازل للقمار، ملاعب لصراع الديكة، والهنود، ومصانع للخمور، ودور للدعارة، وخمارات وصحف مدعّمة.
حمرة الفجر تلوّن المثلث الذي تكوّنه الجبال حول المدينة، وتنثرها على الأرياف كغلاف من القذراة.في الطرق التي تبدو كأنفاق حقيقية، يمرّ أول العمال متجهين إلى أعمالهم، أشباح في عدم هذا العالم الذي يعاد خلقه كل فجر، يتبعهم بعد سويعات بموظفي المكاتب، وبائعي المغازات، الحرفيون والتلاميذ، قم حالي الحادية عشر، عندما تكون الشمس عالية، يخرج الرجال المهندمون في جولة غذائية و فاتحة للشهية في نفس الوقت، أو يخرجون للبحث عن صديق نافذ بغاية مصاحبته لشراء وصولات المرتبات المتأخرة للمعلمين المتضورين جوعا، بنصف ثمنهم. الطرقات تغرق دائما في ظلمة القبو، والصمت الذي يقطعه حفيف أوراق الذرة، أو تنانير فتيات الشعب اللواتي يتفنّن لإطعام عائلاتهن، جزارات، بائعات مرطبات، أو خضروات، وتلك التي تنهض باكرا لتدبر أمورها، ثم عندما يميل الفجر بين الأبيض والوردي مثل زهرة البغونية نسمع الخطوات المنتظمة للموظفة النحيلة، التي تنظر إليها من أعلى السيدات الجميلات، اللواتي لا يخرجن إلا من بيوتهن إلا عندما تعلو الشمس لكي يتثاءبن في الأروقة ويرمين أحلامهن للخادمات، ويمسحن على القطط ويقرأن الصحف أو ينظرن في المرايا.
نصف في الحقيقة ونصف في الحلم، يركض الدمية، ملاحقا من الكلاب ومسامير المطر الرقيق. يجري أينما اتفق، لاهثا، فمه مفتوح، لسانه يتدلى ويداه مرفوعتان في الهواء. أبواب ونوافذ وأبواب، وأبواب ونوافذ، تمر على جاني الطريق... توقف فجأة ويده على وجهه كي يتقي عمود الهاتف، وعندما يكتشف أن العمود غير مؤذي يضحك بقهقهة ويواصل جريه، كمن يفر من سجن اين تبتعد جدران الضباب كلما اقترب منها.
في الضواحي حيث تنتهي المدينة، يستلقي، كمن وصل أخير إلى سريره، على المزبلة وينام. بيت عنكبوت هائل يمتد في المزبلة، بين أغصان يابسة تتربص الغربان وطيور الجيف ، التي دون أن تغفل عن الدمية بعيونها الزرقاء تحطّ أرضا حين تراه فاقدا الحركة، وتحاصره بقفزات صغيرة، قفزة هنا وقفزة هناك في رقصة جنائزية للطيور الجارحة. تنظر دون توقف في ك النواحي، تتمدّد مستعدة للطيران عند اقل حركة للأوراق أو الفضلات، قفزة هنا وقفزة هناك، ضيّقت الدائرة حتى أصبحت الضحيّة على مرمى مناقيرها. نعيب وحشي أعطى إشارة الهجوم، وقف الدمية، وبدأ في الدفاع، اقوى الطيور غرس منقاره في الشفة العليا كحربة حتى لامست الأسنان، بينما يتخاصم الآخرون حول العينين والقلب بالمناقير، دون أن يهتموا بأن الطريدة ما زالت على قيد الحياة، وكان يكن أن ينجحوا لو لم يرتمي الدمية على ظهره وسط المزبلة بين سحابات الغبار والفضلات التي تساقطت كالقشور.
حل المساء. سماء خضراء وريف أخضر. في الثكنات تدق أبواق السادسة، في الزنازين يبدأ سبات السجناء الذين يقتلون بطلقات السنين. تدخل الآفاق رؤوسها الصغيرة في طرقات المدينة كحلزون بألف رأس. يعودون من المقابلات الرئاسية بحظوة أو بنكبة. أنوار البيوت المشبوهة تطعن في الظل.
يناضل الدمية ضد شبح طائر الجيف الذي يحسّه فوقه، وضدّ ألم الساق التي كسرت وهو يسقط، ألم غير محتمل، أسود، ينزع منه الحياة.
طيلة الليل يئنّ بهدوء، وبقوة، بهدوء وبقوّة، مثل كلب مجروح.
... خر خر خر خر، خرّ، خرّ... خرّ...
... خرخر خرخر خر...خ خ خ ررر ...
بين النباتات الغابية، التي تحول قذارات المدينة إلى زهور جميلة، قرب عين ماء عذبة، يحول عقل المعتوه العالم الصغير في رأسه إلى عاصفة.
... خرخر... خرخرخرخر...خرخر
أظافر الحمى الفولاذية تجرّح جبينه. انفصال الأفكار. تمطط العالم في المرايا. تباين خارق في الأحجام، إعصار مجنون. هروب مدوّخ، أفقي عمودي مائل، رضيع وميّت لولبيّا.
... خرخر. خرخر...خر...خ.ر.رخخ...
قوس القوس قوس القوس قوس القوس قوس القوس قوس القوس زوجة لوط ( التي اخترعت اليانصيب؟ ) تتحوّل البغال التي تجر قطارا إلى زوجة لوط، وثباتهم أقلق السائقين ، الذين لم يكتفوا بتكسير سيياطهم عليها وضربها بالحجارة، بل دعوا الرجال ليستعملوا أسلحتهم ضدها. الأكثر شرفا يحملون خناجر، وبالطعنات يجعلون البغال تتقدم.
خرخر... خرخر... خرّ...
إر.غبيّ... إر غبيّ...
الشحاذ يشحذ أسنانه ليضحك، شحّاذ الضحك!
أمّاه!
صرخة المخمور تهزّه.
أمّاه!
القمر بين الغمام، ينير دون بهجة ويصبح بياضه، فوق الأوراق الندية، لامعا كالخزف الصيني.
ها هم يحملون!...
ها هم يحملون!...
ها هم يحملون القديسيين إلى الكنيسة، وسيدفنونهم!
آه! يا للفرح، آه! سيدفنونهم، آه! يا للفرح، آه!
المقبرة أكثر سعادة من المدينة، أكثر نظافة من المدينة! آه! سيدفنونهم!
تارا تارا را! تاراري!
تيت تيت!
تارا را! تارا ري!
دم دم تاكا دوم! دم دم تاكا دوم!
تيت تيت!
دم دم تاكا دوم!
واصل،وهو يدفع كل شيء، بقفزات كبيرة، وهو يمرّ من بركان لآخر، من نجم لنجم، من سماء لسماء، نصف يقظ ونصف نائم، بين الأفواه الصغيرة والكبيرة، بأسنان وبدون أسنان، بشفاه وبدون شفاه، بشفاه مضاعفة وبالسنة مضاعفة، بثلاثة ألسنة تصرخ به: أماه! أماه! أماه!
توت توت! يركب قطار الحرس ليبتعد سريعا عن المدينة، نحو الجبال التي تصنع سلالم صغيرة نحو البراكين، هناك أبعد من أبراج الإذاعة أبعد من سوق البراغيث، أبعد من برج المدفعية، طيران هوائي بمعجون الجنود.
يعود القطار إلى نقطة انطلاقه كلعبة مشدودة بخيط! وعند وصوله، تراك! تراك! يجد في انتظاره بائعة خضروات خنّاء بشعر أشدّ صلابة من سعف قفّتها لتصيح به: " خبز للمعتوه، ببغاء! ماء للمعتوه! ماء للمعتوه!
يجري ملاحقا ببائعة الخضروات التي تهدده بسطل ماء، نحو باب الرحمان. لكن عند وصوله... أماه! صيحة... قفزة... رجل... ليل... صراع... موت... دماء... هروب... المعتوه... "ماء للمعتوه ببغاء! ماء للمعتوه!..."
استفاق ألم ساقه. يحس في عظامه متاهة. تحزن حدقاته لضوء النهار. نباتات متسلقة نائمة، ملطخة بزهور بديعة، تدعوه للنوم تحت ظلالها، قرب برودة النبع الدي يحرك ذيله، كأن بين الزبد ونباتات السرخس يختبئ سنجاب فضّي.
لا أحد. لا أحد.
ينغمس الدمية من جديد في ليل عينيه، حتى يتمكن من صراع الألم، باحثا عن وضع لساقه المكسورة، ماسكا بيده شفته الممزقة. لكنه عندما ترك جفنيه المحمومين، مرّت عيه سماوات ودماء، وخلال البروق تفرّ الديدان التي تحولت إلى فراشات.
ملقى على ظهره بدأ بالهذيان محرّكا جرسا. ثلج للمحتضرين! بائع الثلج يبيع الزاد الأخير! الخوري يبيع الثلج للمحتضرين! يمرّ الزاد الأخير! تيك تيك! ثلج للمحتضرين! بائع الثلج! انزع قبعتك أيها الأخرس، الغبي! ثلج للمحتضرين!...

جمال عبد القادر الجلاصي
05/09/2007, 12:44 PM
أصدقائي

اكتبوا ولو جملة قصيرة

تعبيرا عن رأي

الصمت يقتل المبدع

محبتي

جورج عساف
29/01/2008, 10:41 AM
أستاذ جمال ترجماتك رائعة مثلك وجهودك مقدرة
واني أدعوك لترجمة قصتي المعروضة لترجمتها الى الفرنسية والانكليزية بعنوان قلب الأم
مع كل الاحترام
جورج عساف :vg::vg::vg:

جورج عساف
29/01/2008, 10:41 AM
أستاذ جمال ترجماتك رائعة مثلك وجهودك مقدرة
واني أدعوك لترجمة قصتي المعروضة لترجمتها الى الفرنسية والانكليزية بعنوان قلب الأم
مع كل الاحترام
جورج عساف :vg::vg::vg:

جمال عبد القادر الجلاصي
12/02/2008, 06:15 PM
المبدع الصديق جورج عساف

شكرا على كلماتك المشجعة

إن شاء الله ستكون القصة مترجمة في غضون أيام

وأعتذر عن تأخر الرد

محبتي