المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رجال أمام الفجر (علي بن غذاهم 2)



جمال عبد القادر الجلاصي
03/04/2007, 01:11 PM
في تعريف ابن أبي الضّياف وما ذكره من أخبار فتنة الأربع والستين وثماني مائة وألف.
ثلاثة آلاف ومائة وأربعون خطوة... مائتان وثمـان وسبعون آية من سورة البقرة... سورة آل عمران وأربعة وأربعون آية من سورة النّساء... معلّقة امرئ القيس وثلاثة أرباع معلقة النابغة... الأجرومية وجزء يسير من الألفيّة...
تلك وحدات قيس الخطوات التي عبرت آلاف المرّات من "باب سويقة" إلى الجامع الأعظم، والله وحده يعلم أنّه لو كان فاقد البصر لاهتدى إليه دون عناء، بل دون أن تتعثر إحدى قدميه بحجر ناتئ أو تزلّ به في إحدى حفر الطريق الكثيرة.
وكم مرّة جرّب إغماض عينيه لعشرات الخطوات ثمّ فتْحها مراهنا أنّه أمام "الزاوية الباهيّة" أو "حوانيت أولاد عاشور" أو غيرها من الأماكن التي يحفظها بعين القلب والبصيرة قبل البصر، وكان في أغلب المرّات يبتسم ابتسامة الظافر لأنه لم يكن يسمح لذاكرته أن تخونه في حساب خطواته التي تقوده إلى أحبّ الأمكنة إلى قلبه وأقربها إلى عقله.
ما إن ينعطف في الزقاق الأخير حتى ينشرح صدره ويبدأ بقراءة الفاتحة في سرّه، ثم يسترسل في دعاء ألّفه مذ كان صبيّا يطلب العلم في حوانيت أولاد عاشور:
" اللهم إنّي عبدك وابن عبدك أقصد بيتا من بيوتك، أطلب فيه علما أنفع به أمّة صفيّك وحبيبك عليه صلواتك وسلامك، فيسّر سبيلي وفتّح بصيرتي وقوّ بصري واجعلني من الداعين إلى طريقك وهدي رسولك، وما فيه صلاح لهذه الأمة التي بدأت الأمم تتهافت عليها كما تتهافت الأكَلة على الثّريد، فنجّنا اللهم من شرّهم وشرّ كل ظلاّم للعباد. آمين."
يتمّ الدعاء وهو يصعد آخر الدرجات المؤدية إلى باب الجامع فينزع بلغته ويضعها تحت إبطه الأيسر، ويتقدم بخطى وئيدة إلى حيث اعتاد الجلوس منذ سنوات... يسلّم على القلائل الذين سبقوه وأنهوا تحيّة المسجد، ثم يقوم بتأدية سنّة التحيّة. يجلس إلى سارية المسجد بعد أن يختار مجلّدا من المجلّدات المرصوفة في خزائن على الجوانب.
على ضوء عشرات الشموع التي أوقدها قيّم "الجامع الأعظم" قبل صلاة الفجر بنحو الساعة يبدأ الفتى اليافع تتبّع أسطر المخطوط التي تعبت أيدي النسّاخ في نسخه وغشيت أبصارهم من كثرة التحديق في ورقه واسودّت أطراف أصابعهم من حبره واحدودبت ظهورهم من كثرة الانحناء على طاولات الكتابة.
ولم يكن ظهر "أحمد بالضّياف العوني"، ولمّا يبلغ السابعة عشر، بأقل من ظهورهم انحناء ولكن عينيه تتقدان ذكاء، كأن شعلة فكره الوقّاد تكاد تضطرم داخلهما...
فرغ المصلّون من صلاة الصبح وتهيئوا للخروج وهم يتمتمون بأدعيتهم ويسوّون برانسهم وعمائمهم المطرّزة أو يحرّكون حبّات سبحاتهم بين أصابعهم، وظلّ الفتى متكئا على ساريته منتظرا بداية درس الجبر.
كان الشيخ الزاهد محمد بن صالح بن ملوكة، الذي قارب التسعين، حريصا على مواصلة إلقاء دروسه في العلوم الرياضيّة كحرصه على الجمع بين المعارف النظرية والرياضة البدنية عملا بالمبدأ المعروف " العقل السّليم في الجسم السّليم ".
وكان الفتى أحمد أحرص من شيخه على متابعة الدروس والاستزادة من علمه ومنهاجه العصري حتى ليكاد يدفعه دفعا إلى الكلام إذا سكت الشيخ من إعياء أو استحضارا لقاعدة علمية أو قول مأثور.
وتتتالى الحلقات في الجامع الأعظم: ما إن تنفرط حلقة الجبر حتى تنتظم حلقة الفقه تليها حلقة النحو ثم أخرى فأخرى...
وتتتابع وجوه تكسوها لحيّ بيض كالثلج ويجللها طيلسان من الكشمير، ترسل من أفواهها دررا تناقلتها ذاكرة العلماء والفقهاء وطلاب العلم وأقلامهم قرونا إثر قرون.
وكان الفتى شديد الحرص ألاّ تفلت من ذاكرته كلمة واحدة ولا من دواته جملة مأثورة أو اجتهاد نابع من شيخ لم يسبق أن تعرّض له الفقهاء قبله. وكان كثير الأسئلة شديد الولع بدقائق التفاسير، متنبها إلى الشروح والمتون، دقيق الملاحظة، طُلعة، لا يكتفي بالدرس الذي يلقيه شيوخه بل يعود إلى الكتب الأصلية ويتفحّصها، وربّما نسخ منها فقرات يستشهد بها في حواراته مع أترابه أو مع شيوخه.


"ولقد حرصت ليلة 27من رمضان 1843 أن أجلس تحت تلك السارية،أين قضيت أحلى سنوات شبابي في تحصيل العلم والنّهل من تلك المنابع التي لا تنضب مياهها ولا تغور.
في هذه الليلة المباركة أمر "المشير أحمد باي" أمير المؤمنين في تونس الخضراء أعزه الله بانتخاب خمسة عشر عالما من المالكية ومثلهم من الحنفية وجعل لكل واحد منهم ريالين في اليوم على أن يقرئ في الجامع الأعظم درسين في أي فنّ وفي أي وقت تيسّر له من النهار. وقد كتبت هذا الأمر بخطي بماء الذهب وكانت سعادتي لكتابته لا نظير لها.
كتبت هذا الأمر وأنا جالس على أريكة السلطنة العثمانية: فقد دعاني شيخ الإسلام عارف باي وكان يومئذ من أعضاء مجلس الشورى لمّا أرسلني أحمد باي إلى إسلامبول في سفارة في عهد السلطان عبد المجيد خان صاحب الخط الشريف. ولما اجتمعت معه رحّب بي بحفاوة بالغة وسألني على حال صديقه شيخي إبراهيم الرياحي وبالغ في الثناء عليه. ثم قال فاتحا الحديث بشأن التنظيمات الخيرية:
- يقبح بنا معشر المسلمين أن يغصبنا غيرنا على أعظم أصول ملّتنا وهو العدل الذي يحبّه الله ولا يحبّ غيره وكأن هؤلاء الملوك يريدون مشاركة الله في كونه يفعل ما يريد ولا معقّب لحكمه.
- إن كلامك، رعاك الله، صواب، ولكن لكل واقع قوانينه وطرق تسييره. وأنا، إن سمحت، أرى أن التنظيمات الخيرية يتعسّر تطبيقها في بوادي المغرب، لغلبة البداوة على أهلها، واعتيادهم على قهر السلطان وشدّة الحكام، ولو كففنا عنهم أيدي البأس لزال الأمن وعاد الأعراب لنهب الطرق والغارة على الحواضر والطرقات...
- إن التنظيمات عبارة عن تأمين الناس في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وكل كيفية يحصل بها هذا الأمن هي المطلوبة...
ثم هل أن صاحبكم معصوم؟
- لا.
- إن الله أمر رسوله بالمشاورة في الأمر وهو الذي لا ينطق عن الهوى.
- إن حاكمنا يستشير رجاله وثقاته...
- ألَهم القدرة على إلزامه الحق إن خالفه؟ ثم واصل دون أن يطلب مني الجواب كي لا يلجئني للكذب والمراوغة. " إن هذا الأمر يحبّه المؤمن الذي يخلص النصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم ويكرهه الملوك الذين يحبون الانفراد بالرأي. ومن ثمرات المشاورة الإقدام على أمر معلوم تخوض فيه الأفكار ومنه استخراج ثمرات العقول وتأليف العقول على العمل. وكما قال الوليد ابن عبد الملك لابنه:" السياسة اقتياد قلوب الرعية بالإنصاف لها واحتمال هفوات الصنائع".

وفي ختام زيارتي أهداني العلاّمة أحمد عارف أريكة فخمة من صنع الترك من خشب الأبنوس المعشّق مزخرفة بالنقوش ومغلّفة بالحرير وهو يقول:
"إن هذه الأريكة وإن تبدو لمن لا يعرفها مثل غيرها من الأرائك إلا أن من يعرفها يجلّها ولا يرتضي الجلوس على غيرها، ليس فقط لفخامتها الظاهرة، ولكن عليها كان يجلس مولانا السلطان المعظم سليمان خان الملقب بسليمان القانوني وهو ينسخ القرآن بيده ثمان مرّات. وأنا أهديها لك إجلالا لعلمك وتقديرا لرفضك الحكم المطلق ورغبتك في تطبيق "التنظيمات الخيرية" في بلادكم أو أي قوانين تحدّ من سلطة الحاكم المطلقة. وإني على يقين أنك لن تدّخر جهدا في إقناع وليّ نعمتك بفائدتها على البلاد والعباد."
فأجبته والدموع تكاد تفرط من بين أجفاني:" والله إن كلامك هذا عندي أعزّ من الهدية رغم علوّ قيمتها في نفسي. فوالله لو أنك وضعت تاجا من الياقوت على رأسي لما فرحت له كفرحي بهذا الكلام."

في الليل، حينما أنتهي من المهام التي لا يمكن لغيري القيام بها، وأخلص من هرج السياسة وأعبائها أجلس على تلك الأريكة الأثيرة على قلبي وأظل محدقا في سقف الغرفة التي أتخذها مكانا أخلو فيه بذاتي التي تحلم بإنشاء ما تاقت له نفسي منذ نعومتها، وتدوين كل ما صعب عليّ قوله صراحة لأولي الأمر الذين لم يفهموا بالتلميح أو بالتشبيه والاستعارة وضرب الأمثال والاستشهاد بالسلف الصالح، أو منعني الحياء حينا، وخشية تجبّر سلاطين الإطلاق حينا آخر من قوله... حتى لا أنتقل إلى جوار ربي فيسألني عما عملت بما علمت فلا أستطيع جوابا."


تعريف علم التاريخ عند
ابن أبي الضياف

"إنّ علم التاريخ، وإن كان من الفنون الأدبية، فهو من وسائل العلوم الشرعية، يكسب النّاظر برهان التجريب، ويشحذ فكر الأديب الأريب، ليقيس على ما مضى، مواقع الانتقاد والرضا، ويرى الأسباب وما تولّد منها، والحوادث وما نشأ عنها. ولولاه لماتت الفضائل بموت أهلها، وأدّى ذلك إلى جهلها. ولا ينكر النّفع إذا كانت الأخبار منقولة، والشوارد بقيد الكتابة معقولة، والآثار مأثورة، والأعمال بعد أهلها مذكورة :
من ملك آثر على حظّ النفس مراعاة الصلاح بغرس الخير وأسباب الفلاح، وآخر قنع بظواهر الأشباح فاستباح منها من استباح، ولم يبق حسنة تنفع ولا ذكرا جميلا يرفع... وعالم رام الصعاب فأخذ بنواصيها وقرّب قاصيها بسياسة شرعية، أساسها المصلحة المرعية، وآخر قدّمه الزمان، فحرّك بما لا يفيد اللسان وثابر على إرضاء ذوي السلطان... وكاتب يعمل قلمه عمل السنان ويقود العقول بسحر البيان، وآخر يريق المداد ويشين ببياض الطرس بوضر السواد.
إلى غير ذلك من فوائد علم التاريخ في الخليقة، على اختلاف الأديان والألسن والألوان، وطبائع الأبدان. وسبحان من علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يكن يعلم."


"ولكن كيف الفرار من هرج السياسة اليومية واتقاء غضب أولي النعمة إذا اعتزلت بدعوى التأليف وليس فيهم عالم بضرورته المؤكدة، ولا مهتمّ بمن سيستفيد بما سأترك بعد رحيلهم ورحيلي؟؟؟
ولست أزعم أني مبدع علم أو مبتكر منهج، ولكن رياح الوطن حرّكتني، وعلّمني ما رأيت من المحن أنّ التاريخ يكتبه الأوّلون ليستفيد منه من يخلفهم ليتّقوا زلاّتهم ويحترسوا ممّا وقعوا فيه من فخاخ...
الأرض والأنهار والوديان الصغيرة والربوع المخضرّة بسنابل القمح والزيتون والمشمش والبرتقال، أو الجرداء ترتبط أسماؤها بتاريخ هؤلاء الرّعاة السّذج كالحملان، الدّهاة كالذئاب. البدو، عرب البوادي من جلاص والمثاليث والهمامة والفراشيش وعرب دريد الرحالة وأولاد عيّار وعمدون والشيحية وأولاد بوسالم، فهي أرضهم التي أصلحوها بعد فساد وعمّروها بعد خراب.
رأيت ثلج تالة يغطي التلال وأشجار الصنوبر، وعاينت فيضان مجردة يغطي حقول القمح في "فْريقة"، وتسلقت جبال الكاف الشامخة وتعرّفت برجالها الأكثر شموخا.
لم أذق الجوع ولا الحاجة ولا الفقر ولكني بعد كل السنين التي مرّت، مازال قلبي يخفق حزينا متألما كلما مرّت بخاطري ذكرى تلك المشاهد وأنا في ركاب الباي.
رأيت الجوع يسكن عيون الأطفال في أرجاء البلاد، ورأيت أبناء عمومتي وعشيرتي ينامون في خيمة واحدة مع ماعزهم خوفا عليها من البرد، لأنها إذا ماتت ماتوا جوعا، ثمّ يأتي القائد أو شيخ التراب ليسلبهم إياها لأنهم لم يتمكنوا من دفع المال الذي أمر الباي به لمساندة الدولة العليّة في حربها ضدّ أعدائها!!!
فاكتب إذن!!!
لا أحد مثلك قادر على التعبير عن هموم هؤلاء، وأنت القادم من أصلابهم التي حملتك جيلا بعد جيل، والرّاضع من حليب كرمهم وشهامتهم.
كل أوراقك جاهزة، كل الأسانيد والوثائق، كل الأوامر العليّة والاتفاقيات بين القناصل والممثلين والنواب والوزراء، كل الرسائل الشخصية، كل الأحاديث التي دارت في الغرف الوثيرة، والتي توهّم المشاركون فيها أنّها لن تغادر جدران المكان مدوّنة، محفوظة ومرقّمة...
كل أنّات الفلاحين، كل غارات البدو، كل صيحات الاستغاثة المكتومة، كل زيتونة شحّت عليها السماء بقطرة مطر لأن زيتها سيذهب لبن عيّاد وأعوانه.
كل حزن الرعية وحسراتها تغلي في قلبك كالمرجل ولا شيء يطفئ سعيرها إلا أن تكتب.
فاكتب إذن!!!
لا أحد مثلك قادر على فضح هؤلاء وتعرية نهمهم للجاه والسلطان والمال.
ولن تمّحي ليلة الاثنين الثاني عشر من صفر عند بلوغي الثالثة عشر من عمري وقد نمنا دون أن يعود أبي من خدمة يوسف صاحب الطابع ودون أن يأتينا من يخبرنا ببقائه خارج الدار كعادته إذا استدعته الضرورة للبيات خارجها.
ولمّا أصبحنا والعامة تتلاعب بجثة الوزير صاحب الطّابع والحاج لم يظهر بعد وهو المؤتمن على مكامن نفسه وكاتب سرّه، هلعت أمّنا واعترتنا المخاوف وحسبناه قضى نحبه مع صاحبه ولكن قلّة شأنه بين أهل السياسة والمتصرّفين في أمور الحكم جعل الناس يهملون ذكر موته.
ولكن ما كاد الناس ينصرفون من صلاة الظهر حتى جاءنا من يبشّرنا بنجاته.وظل والدي يقول: "أنا صنيعة العربي زروق" لأنه من كفّ عنه سيف باش حانبة الترك وهو يهم بقتله قائلا:" إن مات هذا الآن ضاعت أموال صاحب الطابع، لأنّه العالم بزمامه والمطلع على أسراره. فأودعوه السجن.
ولعلّ هذه الذكرى ظلّت في دخيلة نفسي ناقوسا يدقّ كلما وثقت بساسة الإطلاق و بمن يدور في فلكهم."



أمر أحمد باي بأن المولود في المملكة التونسية حرّ لا يباع ولا يشترى

أمّا بعد فإنه ثبت عندنا ثبوت لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسنون ملكية المماليك السودان الذين لا يقدرون على شيء على ما في أصل ملكيّتهم من الكلام بين العلماء إذ لم يثبت وجهه وقد أشرق بقطرهم صبح الإيمان منذ أزمان. وأين من يملك أخاه على المنهج الشرعي الذي أوصى به سيد المرسلين آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة. حتى إن من قواعد شريعته تشوّفه إلى الحرية وعتق العبيد على سيده بالإضرار. فاقتضى نظرا والحالة هذه رفقا بأولائك المساكين في دنياهم وبمالكيهم في أخراهم أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه خشية وقوعهم في المحرّم المحقق المجمع عليه، وهو إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم. وعندنا مصالح سياسية منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملّتهم. فعيّنا عدولا بزاوية سيدي محرز والزاوية البكرية وزاوية سيدي منصور يكتبون لكل من أتى مستجيرا حجة في حكمنا له بالعتق على سيده وترفع لنا لنختمها.
وأنتم، حرسكم الله، إذا جاء لأحدكم المملوك مستجيرا من سيده أو اتصلت بكم نازلة في ملكية عبد وجهوا العبد إلينا وحذار أن يتمكن به مالكه لأن حرمكم يأوي من التجأ إليه في فكّ رقبته من ملك ترجّح عدم صحّته ولا نحكم به لمدّعيه في هذا العصر. واجتناب المباح خشية الوقوع في حمى المحرّم من الشريعة، لاسيّما إذا انظم لذلك أمر اقتضته المصلحة، فلزم حمل الناس عليه. والله يهدي للتي هي أقوم.
28 محرّم 1262-1846




بسم الله الرحمان الرحيم.
تبارك من جعل الأمان أقوى أسباب العمران، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد فيقول الفقير لربه المشير محمد الصادق باشا باي، وفّقه الله لما يرضاه، وأعانه على ما أولاه، إني أقبل البيعة من الأعيان الحاضرين على مقتضى ما وقع الالتزام به في 20 محرّم 1274 ( 09/09/1857) من المرحوم المقدس أخينا المشير سيدي محمد باشا باي، وهو عهد الأمان، لسائر السكان، على الأعراض والأموال والأبدان، وما حواه من القواعد اللوازم والأركان، وحلفت وأحلف بالله وعهده وميثاقه على مقتضاه، وأن لا أخالفه وأتعداه، وهذا الكلام صدر مني ونقله الناطق به عني، وختمي وخطي فيه أقوى شاهد وأوضح إعلان، لكل من حواه هذا الديوان ولسائر الرعية والسكان، وعلى مقتضاه عليكم السمع والطاعة، ويد الله مع الجماعة.
حرّر يوم25 صفر 1276. (24/09/1859)



... ثم جمع باي العصر رجال مجلسه الخاص وتكلّموا في شأن زيادة دخل الدولة مرارا عديدة، مع الإعراض عن تنقيص المصروف كل الإعراض ومن حام حوله رشقته سهام الاعتراض. حتى قال أمير الأمراء أبو عبد الله حسين رئيس المجلس البلدي بلسان فصيح:" يا سيدي إن هذه المملكة لا قدرة لها على احتمال شيء زائد، وهي من الموجود الآن في خطر، فحالها كحال البقرة إذا حلب ضرعها حتى خرج الدم، فهي الآن ينزّ ضرعها بالدم وولدها بمضيعة، والعطب أقرب إليها من السلامة".
وكان أن جاوبه بعض الحاضرين بكلام فيه غلظة وإن كان مجانبا للصواب، وذلك تقرّبا للباي.
ومن أهل المجلس من يرى أن الرعية لاسيما العربان، في ثروة وغنى، لقلة ما يلزمهم من مصاريف الحواضر إلا أن أموالهم مدفونة تحت التراب. ولذلك لا يرى بأسا من التثقيل عليهم ليضطروا إلى إخراج أموالهم من مدافنها، إلى غير ذلك مما لا يقوم على صحّته دليل.
ومنهم من يرى أن العربان إذا كثر مالهم ساء حالهم، وفي ثقل الجباية كسر لشوكتهم وكبح لهم عن العصيان، وينقل في ذلك مثلا أرسله بعض الأوغاد السفهاء من جهلة الترك، وهو:" العربي خذ ماله واقطع رأسه".
ومنهم من يرى أن سيدنا يرى بنور الله، فما يظهر له هو السداد والصلاح في نفس الأمر، فهمته العقول أو لم تفهمه، وباطن القائل لا يعتقد ذلك وشواهد الحال تكذبه، إلا أنه يستر قصوره عن إقامة الدليل بهذا الملق البارد.
حتى نطق رئيس اليهود والقبّاض، نسيم بيشي الذي لا يعلم من أحوال الرعية شيئا ولا يهمه ما هم فيه من الفقر وسوء الحال:" إن الرأي سهل، وهو أن مال الإعانة يزاد إليه مثله، ويكون عاما في سائر مدن المملكة، من غير استثناء ولا اعتبار لحال الدافع." ولما أتمّ مقاله قابله الباي بالاستحسان، وأن هذا الرأي بمكان من السّداد والصّلاح.
فاضطرّ الوزير خير الدين إلى أن قال للباي:
" يا سيّدي، إن أخفيت ما ظهر لي في نصح سيدي وبلادي أكون خائنا لأمانة الاستشارة، أرى أن هذه الزيادة في مال الإعانة تؤدي إلى زوالها بالمرة، أو تلجئ إلى مال أكثر منها لتجهيز الجيوش لغصب الناس، ولا نجد في السنة التي بعدها ما يقارب الإعانة الأولى، هذا باعتبار القدرة على الغصب".
ولعمري إنها مقالة نصح يجد ثوابها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا.
ولقد وقع جميع ما توقّعه وأكثر.
وقال بعض من باشر العربان في خلاص الجباية حتى حصلت له ملكة في ذلك:" لا بدّ من قوّة شديدة لغصب هؤلاء الناس، ودونها يستحيل خلاص هذا القدر المزاد".
وقال أبو المسرّة فرحات أمير لواء وعامل الكاف وعربانه: "إن عربان بلدنا لا ستطيعون ذلك، وضعفهم مشاهد بالعيان، وذلك أني بعت في العام الماضي على الضعفاء خيام بيوتهم في الستة والثلاثين، وتركتهم مع صبيانهم تحت أديم السماء للحرّ والقرّ."
واستبدّ الباي ومن كان على رأيه من أهل مجلسه، وقليل ما هم بهذا الرأي، وصدرت من الباي في ذلك مناشير كانت لقطع العافية والطاعة والعمران أحدّ من المناشير.


رسالة الباي إلى قيّاد العربان وعماله
بسائر البلدان بشأن الزيادة في الإعانة
وبعد، فإن النظر في مصالح الرعايا اقتضى فيما سلف لزوم أداء الإعانة لجميع الرعايا مقابل إسقاط أمور كانت مرتبة عليهم، وبإسقاطها حصلت مصلحة للجميع. وقد اقتضت المصلحة الآن أن تكون الإعانة اثنين وسبعين ريالا في العام، يدفعها كل نفر من الأنفار المقيّدة أسماؤهم بدفتر عملكم. فالعمل أن تعلموا من لنظركم بذلك، وتحرضوهم على المناجزة في الخلاص، وتجتهدوا في ذلك. ومن يخلّص إعانته يأخذ حجّة في الخلاص تكون دليلا على خلاصه. وتحذّروا جميع أهل عملكم من التراخي. والله ولي إعانتكم.

والسلام.




مجمل ما رواه ابن أبي الضياف عن الفتنة التي أثارتها زيادة مال الإعانة. وأخبار عن قـتل أبي المسرّة فرحات عامل الكاف.


... وفي يوم الجمعة 8 أفريل 1864 ظهر ما كان متوقّعا من عربان المملكة وبلدانها، وهو نتيجة تضعيف الأداء على سائر أهل المملكة دفعة في آن واحد.
وجاهرت أقاصي العربان بأن هذا القدر المزاد عليهم في الإعانة لا طاقة لهم على حمله. ومن أراد أن يطاع فليأمر بالمستطاع.
وفشا هذا الخبر في الناس، وآنست العربان من المدن استحسان فعلهم، لاسيما التي استثناها منشور الإعانة الأول كالقيروان، التي عمد بعض أهلها إلى مقام السيد أبي زمعة البلوي صاحب رسول الله، فأطفؤوا مصابيحه وكسروها، ونكسوا أعلام تابوته بعد أن قلبوه، إلى غير ذلك مما رأوه من طرق الاستغاثة والالتجاء والتوسّل.


وظهر في عرش ماجر رجل من أولاد مساهل، من عامة من ينسب نفسه إلى العلم، اسمه محمد بن علي بن غذاهم، ولم يكن له قدم في إمرة ولا شهرة سوى أنّ أباه كان من أطبّاء العربان ووليَ خطة القضاء في ناجعته. قال هذا الرجل لأحداث قومه:
" لا خلاص لكم من ثقل هذا الحمل إلاّ إذا جمع الله كلمتكم على الامتناع".
وظهر في جلاص وعربان القيروان السّبوعي بن محمد السّبوعي من أكبر بيوت جلاص خلفا عن سلف، يقول ما يقوله بن غذاهم وهو مسموع الكلمة في قومه.
وتآمر العربان في سائر الجهات على ذلك وتوعّدوا من خالفهم أو حلّ ربطهم أو دفع شيئا من هذه الزيادة بالأخذ الوبيل وحرق البيوت.
وتعاقدت العروش على ما أبرموه من الاتفاق بالكتابة والعهود والأيمان المغلظة والاجتماع على أكل الطعام، وتركوا ما كان بينهم من الضغائن والأحقاد.
اجتمع علي بن غذاهم بعد صلاة الجمعة بقومه في الجهة الغربية من البلاد وأبرم معهم العقد على أن: "القصد بهذا الاجتماع هو الاستعفاء من هذا الأداء الثقيل الذي لا قدرة عليه، وإذا غُصبنا عليه بالقتال تكون يدنا بالمدافعة على النفس والمال والحرم واحدة. ولا يتعرّض منّا أحد لنهب أموال الناس بالحرابة، ومن تعرّض تكون يدنا عليه واحدة، لأن كلامنا مع الدولة، وإخواننا المسلمون يعذروننا، فإذا تعرضنا لأخذ أموال الناس صرنا حربا لله وللسلطان ولا يعذرنا أحد، بل تتوفر الدواعي على قتالنا والله معهم. ولا ننسى أن السور الذي يقينا أنّا مظلومون".
وبهذه السياسة كفّ أيدي العامة وكبح أهل الفساد وكاد أن ينزع ما في أدمغة العربان من العدوان والنهب الذي اعتادوه، وانتزاع العادة شديد.
وردّ سلب قَفل أتى من الجريد قاصدا تونس، ففقدوا منه حملا من التمر، فقال صاحبه: "سامحتهم فيه لأن الجوع ألجأهم إلى أكله". فقال له بن غذاهم: "لابدّ أن تأخذ منهم ثمن تمرك على سعره بتونس لا بالجريد." فدفعوا له ذلك. وقال لأهل القفل: "إن أهل تونس إخواننا ونعلم أن قلوبهم تعذرنا، لأنهم يعلمون أن عُدْمنا ضرر لهم في تجارتهم وفي صناعتهم."
ولمّا بلغت المملكة أن صارت دار حرب، وشاع الخلاف وكثر الإرجاف، وساءت الظنون، بادر الباي بموافقة أهل مجلسه الخاص إلى مكاتبة أهل المملكة بما نصّه بعد افتتاحه:
" وبعد، فقد كان مما اقتضاه نظرنا، لمراعاة أهل المملكة، أن يزداد في مال الإعانة مقدار لا يجحف بالرعية لأنه يتفاوت بتفاوتهم في الغنى، وجعلنا ذلك موكولا إلى عهدة أعيانهم. فنشأ من ذلك تحيّر في أطراف المملكة، ونحن لا نرضى مضرّة رعيتنا الذين بهم قوام دولتنا، ولذلك بادرنا لسدّ باب الهرج، وأسقطنا عنهم ما كنا أمرنا بزيادته، وأبقينا الأمر على ما كان. وبأمرنا هذا يتصرف من أذنّا له بقبول النوازل وفصلها، من أهل المجلس الشرعي والعرفي والعامل.
والله وليّ إعانتكم، والسلام.



هذا وقد كان الباي استعجل بتوجيه بعض العمال لخلاص هذه الإعانة المضاعفة، ومنهم عامل الكاف وعربانها وهو أمير لواء أبو المسرّة فرحات، فطلب قوة عسكرية أقل فوائدها حماية نفسه, فقيل له:" ابعث إلى وجق الكاف يتعرّض لك وتسير به." والتقى بوجق الكاف في مكان عيّنه لهم وساروا معه غير راغبين وقالوا له:" إن دافعنا عنك قتلنا لا محالة، والأمر بيد الله."
ولما وصل المتعرّضون من أتباع بن غذاهم وهو غائب عنهم صاحوا بفرسان الوجق أن يتفرقوا، وأغلب فرسان الوجق من ونيفة عربان الكاف فحادوا عنهم ورموه على زناد واحد فأصيب فرسه ودافع عن نفسه بمكحلتين كانتا معه، وكان رابط الجأش راميا شجاعا فقتل منهم ولكن الكثرة غالبة لا محالة. فخرّ قتيلا مظلوما، سامحه الله.
وقد كان، رحمه الله، يستعظم هذه الإعانة وطالما ناضل على عدم إمكانها وكذلك من أجل إبطالها.
وكان موته في 20 أفريل 1864. وحضر الباي وإخوته ورجال دولته جنازته.
ويقال أن قاتليه من قبائل ونيفة أتوا ببعض سلبه وسلاحه إلى علي بن غذاهم فأنكر ذلك ولم يقبل منه شيئا، وقال لهم: "لم تكن هذه من عقدة الاتفاق، إذ أن اتفقنا على الامتناع عن الأداء، وإذا غُصبنا عليه بالقتال تكون يدنا واحدة في المدافعة ن النفس والحرم والمال، وأي ذنب لهذا القتيل وهو عبد مأمور، حسبه الطلب وحسبنا الامتناع، ويكفي طرده، فإن قاتلنا قاتلناه. وهذا اللباس الذي أتيتموني به من شعار الأمراء، وأنا لست منهم، إنما أنا رجل من العامة أستعين بهم على دفع الضرر." وتبرّأ منهم.
هكذا يقال والله أعلم.
ولما وقع ذلك خافتهم أهل العقول والثروة، وتدرّعوا بإظهار التحزب معهم وواسوهم ببعض المال.
وعندما علم إبراهيم بن عباس قائد دريد بتبرسق، بما حدث لأبي المسرة فرحات ركب أدهم الليل، وأتى إلى باردو فارّا بنفسه فنجا.
وكذلك فعل قائد أولاد عيّار بعد مشورة عقلاء القبيلة.
وأتى عرش جندوبة إلى عاملهم الشاب النجيب أبو محمد رشيد ابن الوزير أبي النخبة صاحب الطابع وقالوا له: " مقامك عندنا ربما يضرّك ويضرّنا، ولا قدرة لنا على منعك، وأبوك رجل كبير لم يزرع شرّا، ويجب أن نشيّعك إلى محل مأمنك." وشيّعه فرسان منهم إلى محلّ آمن.
ولمّا قتل عامل الكاف فرحات وبقيت ولايته شاغرة، توقع الباي ورجال دولته أن يثب علي بن غذاهم إلى قلعة الكاف ويملك خزنتها، وتكون معقله الذي يأوي إليه، لاسيما وسائر عروش ونيفة معه أطوع له من ظله. فبادر بعلاج ذلك بولاية أبي الفلاح صالح بن محمد الكلاعي وله وجاهة في الكاف الذي بها مولده ومنشؤه. فطار من تونس إلى الكاف وهو في قيد الشيخوخة، ودخلها على حين غفلة من أهلها وحاز قصبتها. وبعث إلى الأعيان فأتوه وقال لهم:
- إن الكاف محسوبة من المدن، وأهلها براء من دم فرحات، قد بلغني أن من قتلوه يريدون الهجوم على الكاف أو حصارها، وأنا أكفيكم أمرهم بالمدافع. فقالوا له:
- إن بلدنا لا تطيق الحصار.
- تسرّحون أنعامكم في ظل مرمى المدفع.
- فقراؤنا في حاجة إلى الطعام.
- هذه رابطة حبوب وبها ما يكفي المحتاج وزيادة، يأخذ منها المحتاج قدر كفايته.
- والأدام؟
- إن بخزنة القصبة من الزيت ما يكفي أهل الكاف أكثر من عام.
- والحطب للطبخ؟
- هذه سانيتي على عين الكاف، وبها أكثر من ثلاثة آلاف عود من الزيتون، يقلع المحتاج منها ما يريد. ثم أضاف: قد أجبتكم إلى مطالبكم، وأخبركم أن سيدنا أسقط عنكم ما زاد في الإعانة وأعطاكم الأمان التام، وهذه أوامره، ولم يبق بعد هذا من مطلب، فإن خلعتم أمانكم بأيديكم أدير مدافع القصبة إلى البلاد وأول ما أهدم داري التي هي بين دوركم، ثم أصّر الكاف دكّا، وعندي من البارود والكور ما يكفي لذلك ويزيد، وأنتم تعلمون، ثم بعد ذلك اجلس على برميل بارود وأعطيه النار لأني مللت من الحياة ولي من العمر ما يناهز التسعين سنة.
وأتبع قوله فعلا، فوفى بجميع ما قال، ومكث داخل القصبة، وسدّ بابها، وحرسها بنفسه. وأخذ في سياسة عربان تلك الجهة يمن الخائف ويؤلف الشارد، وهو في القصبة.
وماجت الإيالة واضطرب حالها وتوقّع أهلها الحرب، وكل من لم ينج إلى الحاضرة من العمال أو نوابهم، وبقي في إمرة مشايخ الشرطة مثل العامة، تغافل عنه أهل عمله لحاجة في أنفسهم، وهي أنهم كلما احتاجوا قوتا أو مالا بعثوا إليه وهو يعلم أن الرفض جزاؤه القتل.
وفي هذه الأيام ثار أهل صفاقس على عاملهم، وكادوا يفتكون به لولا هربه بمركب إلى سوسة ومن هناك إلى تونس.
وفعلت سوسة مثل فعل صفاقس. وعمّت الفوضى سائر بلدان الساحل كالقلعة الكبرى ومساكن وجمّال وغيرها...
وقد كتب الباي مكاتيب أمان لسائر بلدان الساحل وعربانه وأمر بتفريقها على كل من يطلب الأمان، فلم يطلب أحد ذلك.


بين قوسين:
مناجاة محمود قابادو لشيخه المدني، وتأويل رؤيا المشير الثالث...


المناجاة:
طوال الليل كان شيخي يقطّر لي عسل حكمته، ويروي نهمي من نوره، طوال الليل كنت أسمع دهشا أمواجا تتهادى تحت نافذتي وهو يقصّ عليّ رحلاتي عائدا من مدن لم أزرها، ومنافي تمنّيت المقام في أرجائها...
لم أكن نائما، ولم يصبني الخدر، كنت أغالب الدوار، وأفرك العينين اللتين تحوّلتا إلى جمرتين من كثرة التحديق في العتمة، وقراءة رمال الطريق...
أعلم ما لا تعلمون وأعلو فوق أحلامكم" أنا صفيّ الإمام وجليس المختارين، يسكن اليقين قلبي بينما يقتلكم الشكّ وتؤرّقكم الهواجس، رأيت النور رؤيا العين، واستبدّت بي الغبطة حتى سالت دموعي وانفطرت نفسي أسى من كثرة ما رأت من مغانم.
لقد اكتشفت منذ الومضة الأولى أني لم أكن أحلم أو أتوهّم، لقد دعاني شيخي بنفسه لزيارته.
لولا بقيّة من نطفته في دمي لأنكرني والدي، ولولا بقيّة من حليب مازال يسيل من شفتيّ لتمّنت أمي ألاّ تراني في صحن الدار...
لم يبق من ابنهما الذي أنجباه وربّياه إلا الاسم الذي اختاراه لي يوم مولدي، وكان شيخي ينادي به معرّفا فأزهو وأعلو حتى ليصيبني الندم خوف الكبْر.
"المحمود" فعله، المحمود قوله، المحمود سعيه، حتى قال "المحمود قدومه إلينا". فلم أعد أطيق صبرا, وحملني شوقي سائرا حينا، طائرا أحيانا، إلى الركن المتين والحصن الأمين، عبرت قرى ومدنا وقوافل كانت تمرّ بي فلا ألمح إلا غبارها الذي تنثره على الطريق. رأيت ملوكا يضربون على الدفوف كالغانيات وسلاطين يغتسلون بالعسل المصفّى، وعاشرت وزراء لا يرون أصابع أقدامهم من شدة التخمة، و كنت أكتفي بالكسرة اليابسة، وأحيانا يكفيني العشب الأخضر طعاما ومشاركة الخيول ماء السواقي...
راودتني نساء تكاد تقسم أنهن خلقن من الشمع
لا من الطين، وكنت أمنّي نفسي بالوصول إلى النور الخالص الصّافي، وكانت ترضى بهذه الأمنية لتصبر...
وصلت، بعد إغماض طرف أو بعد دهور لا يعرف عدّها إلا من أنشأ النجوم وأحصاها. لا يهمّ الآن، وصلت ورميت ما تبقّى من جسدي على ركبتيه الطّاهرتين، ورجوته: "لا تشفني، أي سيدي، لا تشفني، عليل بحبّ لا أبغي منه شفاء ولا راحة، بل غرقا في العلّة حتى لا تبقى مني ذرّة إلا عشقتك".
وابتسم إمامي وفاحت منه ريح المسك وهو يقول: "جئت أخيرا يا المحمود، هل كان لا بدّ أن أدعوك بنفسي كي تجيء؟ لقد بُشّرت بك مذ كنتُ مريدا وكنتَ في أصلاب أبيك، وها أنت تجيء بعد أن انغلقت في وجهك السبل وخانك بعض روحك وبعض جسدك، ولكن ما تبقى منهما يكفي...
لقد أكثرت الطّرْق على أبواب لا تفتح ونسيت الباب الذي لا يغلق أبدا؟ هل نسيت الرؤى وتجاهلت البشارة وتغافلت عن الإشارات التي كنت ألقيها في سبيلك كلما غلّقت في وجهك الأبواب"...
أي سيدي، أشاعوا أنّي أغنّي في طرقات الحاضرة وأضحك وأبكي كمن فقد عقله. وتهامس الناس أن شياطين وادي عبقر تتكلم بلساني فأنطق شعرا لا أدرك معناه ولا أستطيع إعادته لو أردت...
كنت أحسد الأبقار التي تخور متى شاءت، والعصافير التي تزقزق والكلاب التي تنبح والخيول التي تصهل، ولا أحد يمنعها من أن تسبّح خالقها وتحمده على نعمه... وكنت أهذي بحمدي وثنائي وكنت أعلم أنّ الله يسمعني، وأنّك علمتني ما أقول بغير كلام.



الرؤيا والتأويل:

- لقد جئتك وما أرسلت في طلبك.
- ولو طلبتني لسعيت لك حامدا الله على تذكّرك لعبدك ورغبتك في رؤيته.
- أنت تعلم أني دائم الرغبة في رؤيتك والاستماع إليك تنثر درر الكلام من فمك.
- والله يا مولاي لو متّ بعد هذا الثناء الذي لا أستحقّه لكنت سعيدا أن يكون آخر ما سمعت أذني.
- لقد جئتك اليوم وعطّلتك عن دروسك وحرمت من علمك طلبته لأني في غمّ منذ أفقت من نومي قبل صلاة الفجر وإني لا أثق بغيرك كي يؤوّل الرؤيا التي أذهبت النوم من جفني والراحة من قلبي وجسمي.
- إن شاء الله خيرا يا مولاي، قصّها عليّ وإني لواجد لك تأويلا تطيب له نفسك ويرتاح له قلبك، بإذن الواحد الأحد.
- رأيتني في بستان ما شاهدت عيني أخصب ولا أجمل منه منظرا، وكانت الشمس مشرقة دون حرّ ونسيم عليل يهب من الشرق فتنتعش النفس من الروائح التي تنتشر معه. وكانت الأزهار تغمر أرض البستان بألوان لا يحصرها إلا من أبدعها. وكنت أتنقل بينها أشمّ واحدة وأداعب أخرى وألاحق فراشة أو استمع لطنين النحلات التي تجمع الرّحيق. وكنت في كل هذا تغمرني سعادة لم أتذوّق مثلها منذ خلقت، رغم كثرة بساتيني وضيعاتي وحدائق قصوري، وعلى مشارف البستان رأيت أشجارا مثمرة من كل الفصول ومن كل الأشكال فأسرعت الخطى نحوها لأتملى منظرها وأتمتّع بالتذوق ممّا اشتهت نفسي. وصلت الرابية المثمرة وقطفت برتقالة بحجم البطّيخ تكاد تشفّ عمّا بداخلها من نضارتها وبدأت بتقشيرها متخيلا ماءها العذب يروي ظمئي. وما إن أنهيت تقشيرها حتى فزعت من ديدان مقزّزة تخرج من داخلها وتنظر إليّ بشماتة غريبة، فألقيت بها مذعورا وأخذت غيرها فإذا بها تحوي أفظع ممّا حوت سابقتها. ابتعدت عن شجر البرتقال وأنا ألعن حظي التعس وقطفت تفّاحة يبهج النفس منظرها ورائحتها الذكية، وتأكدت من خلوّها من آثار العفن والدود، ثم قضمتها بأسناني فإذا بفمي يمتلئ دودا يتحرّك داخلها كالثعابين فبصقت ثمّ تقيأت ما بأحشائي حتى كادت تخرج روحي من جوفي. وابتعدت عائدا إلى الأزهار... وفجأة ادلهمت السماء وظهرت في الأفق سحب سوداء محمرّة، وتردّد دويّ الرعد يهزّ الأفئدة ويخلع الأمن من القلب المطمئن. وأفقت مذعورا من هول ما رأيت، وها أنا أمامك لتؤوّل رؤياي بما أوتيت من العلم، وأعرف أنك ممن لا يخطئون في التأويل.
- حاش لله، يا سيدي فالكمال لله وحده. ولكن أفسّر الرؤيا بحسب اجتهادي وما أوتيت من العلم إلا قليلا. ولكن أريد أن أطمئنك أن رؤياك خير إن شاء الله. فلا يفزعك وجود الدّود فهو خير وزيادة مال. أما البستان فهو حرمكم، فالبستان يدلّ على المرأة وعلى قدر جمال البستان يكون عفاف المرأة وصلاحها وجمال روحها. كما يدل البستان على الجنّة تصديقا لقوله تعالى في سورة البقرة:" أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار". أما الرّعد والسحاب والبرق فتأويلها عندي خير إن شاء الله، فالرعد يدل على المواعيد الحسنة والأوامر الجزلة وعلى الخصب لأن الرّعد إذن بالمطر. أما السحاب فهو يدل على الإسلام الذي به حياة الناس ونجاتهم، وهو سبب رحمة الله تعالى لحمله الماء الذي به حياة الخلق، وربما دلّ على العلم والفقه والحكمة والبيان. والله ورسوله أعلم.
- بارك الله لك في علمك وطمأن قلبك كما بعثت الاطمئنان إلى قلبي.
- العفو يا مولاي، فأنت أميرنا وسيدنا ولا يطمئن لنا بال حتى تطمئن ولا يهنأ لنا عيش إلا بهناء عيشك.
- إن نقابة الأشراف لا تدرّ عليك من المال ما يكفي ليعولك ويقوم بك وعائلتك.
- يا سيدي أنا أعيش تحت ظلّك ورعايتك وعيالي يكفيهم فخرا أنك تدخل منزلهم المتواضع وتخصّ أباهم بزيارتك وتشريفك دون الوزراء وأرباب دولتك الكرام.
- سيأتيك أمري بتولّي التدريس في المدرسة الحربية إلى جانب التدريس في الجامع الأعظم، وولاية القضاء في باردو.
- والله يا مولاي إن كرمك يفوق الوصف ومنّك عليّ بهذه الخطط يجعل لساني يفيض شعرا لاهجا بشكرك:
وكم للصادق الأسمى مزايا إذا عدّت فلا مثل عديد
فلم يجهل له في العلم فضل ولم يعرف له فيه نديد
ولم يغرر بلين الصفح منه فينكر بأسه الخشن الحديد
يجلى ما درى في بط جأش وعزم لا ينهنهه كــؤود
وحسن طوية ووفاء عهد ووعد نجزه صدق وجـود



في تأويل السّحاب والرّعد والبرق
للإمام محمد بن سيرين

السّحاب إذا لم يكن معه مطر فإن من كان ينسب إلى الولاية فإنه وال لا ينصف ولا يعدل. وإذا نسب إلى التجارة فإنه لا يفي بما يتبع، ولا بما يضمن. وإذا نسب إلى عالم فإنه يبخل بعلمه. والسحاب سلاطين لهم يد على الناس ولا يكون للناس يد عليهم. وربما دل على عوارض السلطان وعذابه وأوامره إذا كان أسود وإذا كان معه ما يدل على الهمّ والمكروه والريح الشديدة والنار والحيات والعقارب فإنها غارة تغير عليهم وتطرقهم في مكانهم، أو مغرم وخراج يفرضه السلطان عليهم أو جرادا أو دَبّا يضرّ بنباتهم وزرعهم. وأما السحاب الأحمر في غير حينه فإنه كرب أو فتنة أو مرض. والسحاب المظلم يدل على غمّ شديد يصيب الناس بسبب الجور والظلم.
الرّعد يدل على وعيد السلطان وتهديده وإرعاده، ومنه يقال إنه يرعد ويبرق. وتدل الرعود أيضا على طبول الزحف والحرب والعساكر والبرق على النصال والبنود المنشورة والأعلام. والمطر على الدماء المراقة والصواعق على الموت. وقال بعضهم الرّعد بلا مطر خوف، وهو يدل على اغتيال ومكر وباطل وكذب. وقيل صوت الرّعد يدل على الخصومة والجدال.
البرق يدل على الخوف من السلطان، وعلى تهديده ووعيده، وعلى سل النصال، وضرب السياط. وربما دل من السلطان على ضدّ ذلك، على الوعد الحسن والضحك والسرور والإقبال والطمع من الرغبة والرجاء، لأنه كما وصف أهل الأخبار سوط ملك السحاب الموكل بها والرعد صوته عليها، مع قوله تعالى:" يريكم البرق خوفا وطمعا". وإن صاحبت البرق صواعق تساقطت في البساتين والفدادين فجوائح وأصحاب أعشار وجباة، ويغشى ذلك المكان الجور والفساد.




وفي شهر ماي 1864 أتت لحلق الوادي سفن حربية من أعظم السفن، وبها مدافع الشيشخان المخترعة في هذه المدة من دولة الفرنسيس والأنقليز والطليان ذكروا أنهم أتوا لحماية تجّارهم في المملكة من آثار الحرب في هذه الإيالة. وقدمت بعدها سفن بخارية حربية من الدولة العلية العثمانية بقيادة "حيدر أفندي" من خيرة رجال الدولة وسفرائها. ولما وصل حلق الوادي يقال أن أمير الأسطول الفرنسي قال له:" لا تنزل البرّ." وحذّره غوائل ذلك. فأجابه حيدر أفندي:" المقدر كائن، ولابد لي أن أنزل إلى البرّ." فقال له:" نمنعك من ذلك بالقوة." فقال له:" إن أردت ذلك كاتبني، وأنا أنزل البرّ، وارم شقوفنا بالمدافع إن رأيت ذلك سائغا."
ومن الغد اجتمع حيدر أفندي بالباي وقال له:" إن مولانا السلطان قد بلغه أن أهل المملكة ألجؤوك إلى الخروج فرارا بنفسك، فأمرني أن أبحث عنك وأرجعك إلى مقرّ ولايتك. ونشكر الله على وجودك في محلّك، وأن الحال ليست كما بلغنا من إراقة الدماء بالحاضرة وغيرها. وأنا اليوم في إعانتك على ما يظهر لك من الخدمة في البر أو في البحر، وقدومي لكم بخطّة متفقّد.
هذا، ولما نزلت هذه الحادثة الراجفة، وكثرت بسببها الأراجيف، وأظلم جوّ الإيالة، وظهر في أرجائها دخان نار الفتنة، وسمع قنصل فرنسا شارل دو بوفال ما يدور في الحاضرة وبلدانها، وما ينقل عن عربانها، اغتنم هذه الفرصة ليظهر التداخل في أمر الإيالة وأحكامها. فأتى الباي يوم الجمعة (29 أفريل 1864) ومعه أمير الأسطول الفرنسي ومعين الماريشال ومترجم القنصلية وأعيان العسكر الفرنسي.
ولما دخلوا للباي وجدوا معه الوزير أبا النخبة مصطفى خزنه دار، وقبل الجلوس قال القنصل للباي بكيفية لم تعهد لأمثاله:" جئت لأتكلم مع سيادتك في أمور مهمّة ونشتهي أن نخلو بك وحدك." فسكت الباي. ثم أعاد القنصل المطلب بقوله:" نشتهي أن نتكلم معك وحدك بغير حضور الوزير". فقال له الباي:" سامحني، إذ لا يمكنني أن أخرج وزيري، ولك الخيار في الكلام". فقال له: "حيث كان الأمر هكذا نتكلم حينئذ".
وجلس الباي وجلسوا وشرع القنصل في الكلام مع الباي بقوله:
- جئت أطلب منك على لسان الإمبراطور أن تبطل الكونستيتوسيون، أي عهد الأمان، لأنه أنتج ضررا لبلادك ولنفسك، والإمبراطور يشتهي أن تكون حاكما في نفسك وحاكما في بلادك، ونعلمك أنه إذا أتت مراكب لعمل الكونستيتوسيون، فقد أتتك الآن أربعة أجفان، فإن لم تكف بعث ثمانية وإن لم تكف اثني عشر وأكثر. فقال الباي:
- إني لا أتدخل في أعمال نوّاب دولة فرنسا، والدولة هي التي تعلم ذلك، وأنا لست المعطي لعهد الأمان بل أخي هو الذي أعطاه بسبب مطلب القنصل، والدولنامة التي أتت. ولمّا قمت مقام أخي ألزمني أن أتمم وألتزم ما التزم أخي، والقوّة التي ألزمتنا له تلزمنا لإبطاله. ثم أشار أن الحال يقتضي توقّفه الآن لهذا السبب الطارئ.
ثم طلب القنصل إبدال المأمورين في مباشرة الخدمة السياسية. فأجاب الباي:
- لا أستطيع في وقت صعب مثل هذا أن أبدل وزرائي ورجال دولتي، ولا تظن أن بلدنا مثل فرنسا حتى يتيسّر لي إخراج أناس وإدخال غيرهم. فأجاب القنصل:
- كل بلاد يقع فيها مثل ما وقع هنا يكون أول دواء تبديل الوزراء، لأن الوزراء الذين كانوا سبب الحيرة، لا يستطيعون دفعها، وإذا لم تكن لك معرفة برجال يصلحون، فإذا سرحتني بتسمية من يصلح أسمي لك رجالا، فإذا قبلتهم فجميع هؤلاء الأعيان من العسكر والإمبراطور وجميع فرنسا تقف عند أكتافهم إعانة لهم، لننال النصر والذكر الجميل. فإذا لم تقبل رأينا ربما فات الأوان.
- أشكر حضرة الإمبراطور على الإعانة، ولست خيرا من الملوك الذين ذهبوا، وأنا تحت حكم الله. وأشار بإصبعه إلى السماء. ثم واصل أي ذنب لهؤلاء تريد إخراجهم؟
- إنهم أغنياء والدولة فقيرة، تركوها بلا قوّة ولا دراهم لوقت مثل هذا، حتى أنها لا تجد عسكرا ولا ما يلزمه، لأنط لما أردت جمع العسكر لم تجد إلا خمسمائة عسكري. وبلغني أن بعضهم هرب، ولذا لزم تغييرهم.
- لا يمكن لي تبديل وزرائي، وتعلم أنه يتيسّر لي تبديل بعضهم أو كلهم في وقت الراحة.
- نطلب منك جوابا رسميا على هذا.
- إذا أردت جوابا رسميا اكتب لي نجبك بالكتابة.
- لا أكتب لك لأنك إن أجبتني بمثل هذا نعلم أنه جواب وزرائك، وأنا أريد جوابك لا جوابهم. وأنا صادق وهذا الكلام الذي قلته على لسان الإمبراطور هو كلام رسمي، ونطلب جوابك أنت لأن عندي بابورا نريد أن نوجهه اليوم للإمبراطور بالذي تجيب به.
- أنا لم أكذّبك، أنت صادق وأنا صادق لذلك أجبتك مشافهة على ما عرضت علي مشافهة.
وجمع الباي وزراءه ورجال دولته، وهو على مرضه، وأخبرهم الخبر قائلا:" أما أنا فرأيي أن لا أسلم في أحد من وزرائي إلا إذا ظهر فيه ما يقتضي ذلك، ولا أضيع شيئا من حقوقي ولا أرضى بهذه الحالة ولو أدّت إلى زوالي، فالباقي هو الله تعالى. وإذا صرت مقهورا على رأيي في أتباعي الذين هم آلات مباشرتي فأي حال يستقيم لي؟" فوجمت الجماعة، فقال الوزير مصطفى خزنه دار:" يا سيدي أنا أقول لك بمحضر خدّامك هؤلاء، لا تفسد سياستك مع قنصل فرنسا بسببي، فأنا خديمك وخديم أسلافك، نشأت في داركم صبيا إلى أن شبت، لا تقرّبني الخطة ولا يبعدني عدمها، وأنا الآن سلّمت وأرى تسليمي ينقص من شدّة قنصل الفرنسيين." ووافقه هذا الرأي صهره وابن تربيته الوزير خير الدين، وقال له:" أنت بمنزلة أبي، وهذا محل الأداء لما يجب لك من حقوق البر والوفاء، وإنما محل النصح لسيدنا ومولانا، أنت رجل محسود، وتطرّقت بسبب ذلك ألسنة الناس إليك بالاعتراض على أفعالك والقدح في سيرتك، ولسنا بصدد تصويب القدح أو تخطئته، وتسليمك يوقع فترة ربما تنصلح بها أحوال البلاد، فالواجب أن تسلّم أنت ومن معك، وتسليمك, إن لم ينتج نفعا لا ينتج ضررا، وهذه عادة في الدول، فاسترح أنت من الانتقاد وأرح سيدنا من التعب، فربما يؤدي هذا الحال إلى ضرر." ووافقهما الرأي أمير الأمراء حسين رئيس المجلس البلدي. وقال وزير الحرب أبو عبد الله محمد:" أنا أيضا أسلّم."
فقال بعض أهل المجلس:" هذا الرأي لا يساعدنا، والحالة هذه، وهو أشد مما نحن فيه، لأن القنصل أشاع في البلاد انه طلب عزل الوزير وأنّ الباي لابدّ موافق على ذلك، فإذا سلّم الوزير ظهر للناس عيانا أن القنصل هو الذي يتصرف في ولايتنا وأن أميرنا ليس له من الأمر شيء وحسبه الانقياد، وهذا ما يزيد في هيجان العامة من إنكارهم تدخّل القنصل في أحوال البلاد، وتنكره الخاصة أيضا، فالقاضي والمفتي والإمام يرون، والحالة هذه، أن ولايتهم مشروطة برضا القنصل. فقال الباي:" هذا رأيي ولو أدى إلى زوالي، فزوالي اليوم أولى لهمتي من زوالي لأمر قدمته يدي."
ثم إن مسيو دي ليسبس وكيل الباي في باريس طلب من الباي أن يتوسّط بينه وبين القنصل في المسالة، فاستحسن الباي رأيه. لكن وساطته لم تنجح فقد عاد من القنصلاتو متغيّرا وقال: "يسوءني أن أبلغ ما سمعت لكن أمانة النقل تقتضي أن أقول أن القنصل مصرّ على عزل بعض الوزراء وهم الوزير مصطفى خزنه دار، والوزير خير الدين وحسين رئيس المجلس البلدي، والوزير أحمد ابن أبي الضياف". وسكت خجلا.
وبقي الباي مع رجال دولته في المجلس، فأعادوا مقالتهم الأولى، والوزير ساكت وخير الدين كذلك، وهما على رأي واحد، وزبدة رأي الجماعة أن قالوا للباي:" إن أمرنا بيدك، ورأينا هو ما عرضناه عليك." فصمّم الباي على رأيه وتحقق أنّ أهل المملكة والعربان لم يطلبوا ذلك، وإنما طلب قنصل الفرنسيين ذلك لمأربه الخاص.


رسالة من القنصل الفرنسي على لسان أحد
التجار الفرنسيين إلى علي بن غذاهم:

إلى الأعز الأكمل العالم الأمثل السيد علي بن محمد بن غذاهم أكرمه الله آمين:
وبعد، فالذي يكون في شريف علمكم الزكي أنّا كنّا أرسلنا لكم ثلاثة أجوبة قبل هذا ولا نعلم هل وصلوكم أم لا. ولم ترجعوا لنا ضدّهم،، وعرّفناكم بكثير من مصالحكم التي هي مراغبنا والله شاهد ورقيب. فيلزمنا الآن أن نبدوا لكم منها شيئا ونعرّفكم أيضا بما عندنا الآن. فأول ما نقسم لكم بالإنجيل الذي أنزل على المسيح بن مريم عليه السلام أن لا أخفي عليكم شيئا من الواقع وهو أننا شادّين معكم صحيح في جميع مطالبكم لأننا نتحقق يحيط بكم ضرر كبير الذي يسفك به دماءكم لأن الخزندار مجتهد فيكم غاية الاجتهاد، من جملة ما وقع أنّه دار بالباي وبعث للسلطان ليبعث له عشرة آلاف عسكر ليقاتلكم بهم ولما بلغ دولتنا تعرّضت للعساكر المذكورة ورجّعتهم من مالطة وخاطبت السلطان بالواقع وأنكم مظلومون وقائمون في حقكم من شدّة الضرر الذي أحاط بكم وامتثل السلطان لذلك وترك الأمر في كلفتنا لنفصل بينكم وبين الباي ونحن بهذا الأمر لنا فائدتين الأولى مصلحتكم والثانية لم يساعدنا دخول الترك إلى إفريقية ولما تحقق الخزندار ذلك أرسل سي حسين الفريك إلى سوسة ليشيع الخبر في الساحل أن الفرنسيين مرادهم في أخذ إفريقية لينشئ العداوة بيننا لأنه وجدنا في حمايتكم، لأنه إذا اشتهر طلبكم في الترك ضعفت معارضتنا في جيبان عسكر الترك. وكذلك نعرّفكم أنه بعث يوسف بن بشر إلى باجة ليفسد عليكم العروش حتى تجدهم المحلة حاضرين فيجب أن تكون على بصيرة ونحن عرّفناكم بجميع مصالحكم ونعرّفكم باختصار ورأس سلطان فرنسا إذا بقى الخزندار في البلاد يهلككم على بكرة أبيكم.
والسلام من أمير الأمراء كبير الشقوف الفرنسية المقيمين بحلق الوادي ومن القنصل جنرال دولة فرنسا بتونس ومن الكرونيل الفرنسي المقيم بتونس. والسلام.
10 محرم الحرام 1281 ( 15 جوان 1864)


وكان الباي لمّا أمر بتوقيف الدستور والمجالس، لما طرأ من الأسباب التي نقلت البلاد من حالة السلم إلى حالة الحرب، اصطفى أفرادا من مجلسه الخاص، وهم الوزراء المباشرون للوزارة، وأفرادا سماهم وزراء وكتب لهم أوامره في هذا اللقب، وغيرهم وصار يجمعهم يومي السبت والاثنين من كل أسبوع للمفاوضة والاستعانة بالرأي في المشورة، ولا ندم من استشار.
وفي هذه المدة توجه العارف بالله الشيخ مصطفى بن عزوز إلى القيروان، وتكلم مع أعيان جلاص، ثم تكلم مع بعض العامة أيضا، ووعظهم وحذّرهم عاقبة البغي وسطوة الله الذي لا يحب المفسدين في الأرض، وحرمة النفس.
وبلّغ لهم أوامر الباي في الأمان وإسقاط ما ثقل من الأداء، فانقادوا معه إلى الحاضرة، ومعهم وجق القيروان وأعيان القلعة الكبرى من عمل سوسة.
ولما علم القنصل بما يدور بالحاضرة من كلام، وجواسيسه على ما يقال بالمرصاد، توقّع هيعة تصدر من بعض السفهاء بالبلاد، فطلب من الباي أن يبقي سلسلة البوغاز بحلق الوادي مفتوحة في الليل لتدخل شوانيهم لحمل الماء للأسطول ولنزول العسكر إن اقتضى الحال نزوله، فقال له الباي: "لا سبيل لنزول العسكر للبلاد، ولا مقتضى له من الأحوال، ولا يصعب على عسكركم قطع هذه السلسلة إذا أردتم دخول قوي لبيت ضعيف. على أن دخول العسكر من مراكبكم إلى البر، لاسيما في الليل، يزيد في هذه الحيرة التي صحبها لطف الله بعباده إلى حد الآن، حيث لم يسفك بالحاضرة دم ولا ضاعت أموال".
ثم أمر الباي أهل الحاضرة أن يحرسوا بالليل أحواز دورهم، وأن تتكفل أعوان الضبطية بحراسة المجامع والطرق العامة وبطحاء باب البحر حيث ديار القناصل وتجار الإفرنج. وصعبت هذه الحراسة بالدور على أهل البلاد فكلمهم عقلاء في ذلك، وأسرّوا للأحداث والفتيان أن " قنصل الفرنسيين طلب فتح سلسلة البوغاز بحلق الوادي ليلا ليسهل نزول عسكرهم، ولا بد من سبب يبني عليه نزول عسكرهم إلى البلاد كقتل أحد من رعيتهم أو ضربه كما حدث في هذه المدة القريبة بالشام. فعليكم بالصبر فإنه وقايتكم من الضرر وإذا لم تصبروا في هذه الشدة ربما خرجت هذه البلاد من أيدي المسلمين والعياذ بالله، ونبوء حينئذ بخزي في الدنيا وعذاب الآخرة".
هذا كله والأخبية مضروبة وبها قليل من العسكر.













فصل فيما وصلت إليه المملكة التونسية من احترام الذّات البشرية وأسباب التمدّن




إنّ أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان فهناك شرع الله ودينه، والله تعالى أحكم من أن يخصّ طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين.
وإن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل الحكم التابع للعادة يتغيّر بتغيّرها.
رسالة بيرم الأول في السياسة الشرعية.

*وقد رأينا بالمشاهدة أن الدول التي ارتقت إلى أعلى درجات العمران، هي التي تأسست بها عروق الحرية والكوسنتيتوسيون المرادف للتنظيمات السياسية، اجتنى أهلها ثمارها بصرف الهمم إلى مصالح دنياهم...
وبالجملة فالحرية إذا فقدت من المملكة تنعدم منها الراحة والغنى ويستولي على ألها الفقر والغلاء، ويضعف إدراكهم وهمّتهم كما يشهد بذلك العقل والتجربة.
* تحذير دوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عمّا يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا بمجرد من انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السّير والتراتيب ينبغي أن يهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر. حتى أنهم يشدّدون الإنكار على من يستحسن شيئا منها وهذا على إطلاقه خطأ محض.
خير الدين التونسي- أقوم المسالك








أمر عليّ في منع الاسترقاق في سائر المملكة


وبعد، فلا يخفى أن المقدس المنعم ابن عمنا سيدي أحمد باشا باي أصدر أمره المؤرخ في 52 محرم الحرام سنة 1262 (...) بإبطال الرّق والعبودية من المملكة مراعاة لما تهم مراعاته من المصالح الدينية والإنسانية والسياسية، وأنه ومن خلفه من أسلافنا المقدسين حكموا بإبطال الأسواق التي كان يقع بها بيع العبيد وعتق كل من يفد إلى المملكة على حالة الملكية وأصدروا الإذن للعمال أن ينهوا إلى الوزارة ما يبلغهم من المخالفات المتعلقة بالملكية وحذروهم من طائلة التغافل، كما لا يخفى أن جناب وزيرنا الأكبر كان أصدر للعمال بمقتضى إذن من حضرتنا مكتوبا مؤرخا في 05 رجب سنة 1304 (...) يتضمن لزوم العمل بمقتضى الأحكام المشار إليها. ولما كانت المقاصد الجليلة التي بني عليها الأمر المؤرخ في 25 محرم 1262 مما يهمنا إدراكها وكان من المفيد أيضا أن نجمع في أمر واحد جميع الأحكام المتعلقة بإبطال العبودية بمملكتنا ومعاقبة من يخالفها أصدرنا أمرنا هذا بالفصول الآتية:
الفصل 1: لا عبودية بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكل إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه، ومن يقع عليه مل يمنع حريته، فله أن يرفع أمره للمحاكم.
الفصل 2: مستخدمو السودان أو السودانيات في مملكتنا يلزمهم في مدة ثلاثة أشهر من تاريخ صدور أمرنا هذا أن يعطوا من لم يعط إلى الآن ممن ذكر حجة بالعدالة مكتوبة عن إذن القاضي بالمكان أو العامل أو نائبه تقتضي أنه حر غير مملوك ومصروف الحجة المذكورة على المخدوم.
الفصل 3: من خالف أحكام الفصل السابق تحاكمه المحاكم الفرنسية إن كان أجنبيا أو المحاكم التونسية إن كان تونسيا بخطية قدرها من ريالات 200 ريالات2000.
الفصل 4:من يثبت عليه أنه اشترى إنسانا أو باعه أم حازه بوجه الملكية يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سين.
الفصل 5: الفصل 463 من قانون الجنايات الفرنسي تجري أحكامه على المخالفات المبنية بأمرنا هذا والفصل 58 من القانون المذكور تجري أحكامه على من تكررت منه المخالفات المذكورة.
9 شوال1307

جمال عبد القادر الجلاصي
09/08/2007, 02:40 PM
الأستاذ إبراهيم الدرغوثي إخوتي

ها اني أنشر الجزء الثاني من رواية "رجال أمام الفجر"

لتلقي ملاحظاتك البناءة التي لا غنى لي عنها

محبتي واحترامي

فايزة شرف الدين
05/11/2007, 12:30 AM
الأستاذ / جمال الجلاصي
قرأت لك الجزء الأول ، وكنت في شوق كبير جدا لمعرفة باقي قصة اليهودية مسكة ، ولكنك ، سكت عن الكلام المباح ، ولم تكملها ، وكنت أتوقع بقيتها في الجزء الثاني .
لا زلت أقرأ في هذا الجزء وهو يحتاج إلي قدر كبير من التركيز ، وأعتقد أنه بدأ يخرج من طور الرواية ، ليأخذ منحي آخر ، ربما سرد تاريخي ، وشروح لسير الأقدميين ، ببلاغة ورصانة وأسلوب جزل .
بالطبع العمل في غاية الجودة ، ولي تعليق بعد أن أنتهي من هذا الجزء
أعود وأسأل عن مسكة اليهودية ، فإنني أترقب البقية ، وإلا سأضطر كي أشفي غلتي ، بتأليف بقيتها .
شكرا لك مبدعا متألقا

جمال عبد القادر الجلاصي
18/11/2007, 01:39 PM
المبدعة المميزة فائزة

شكرا أولا على المرور العطر
والملاحظات القيّمة

أعملك صديقتي أن الروائة ما زالت في طور الكتابة
وأني اخترت نشرها أجزاء منها لأعرف آراء الأصدقاء والمهتمين
لأستفيد منها في التنفيحات والتعديلات التي سأقوم بها
أما عن مسكة فحكايتها شبة مكتملة ستكون ليك فرصة قراءتخا في الأسابيع القادمة

إن شاء الله

محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
18/11/2007, 01:39 PM
المبدعة المميزة فائزة

شكرا أولا على المرور العطر
والملاحظات القيّمة

أعملك صديقتي أن الروائة ما زالت في طور الكتابة
وأني اخترت نشرها أجزاء منها لأعرف آراء الأصدقاء والمهتمين
لأستفيد منها في التنفيحات والتعديلات التي سأقوم بها
أما عن مسكة فحكايتها شبة مكتملة ستكون ليك فرصة قراءتخا في الأسابيع القادمة

إن شاء الله

محبتي