المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صنم من تراب



عبد الرحيم صادقي
01/05/2011, 01:44 PM
سكان جزيرة قازان يعبدون صنما من تراب. يسجدون له سجدتين عند شروق الشمس، ويسبحون بحمده سائر اليوم. وهم يقيمون موسما للصنم كل عام، وتلك مِلَّتُهم. لكن سكان الجزيرة كانوا يجهلون أن الصنم من تراب. ذلك أن بلدة رومية هي من يصنع الصنم ويُزخرِفه بأروع النقوش، ثم يُطلَى الصنم بأبهى الصِّبَاغ، وتُلقَى عليه بُردة مرصعة بالذهب واللجين، ثم يوضع فوق رأس الصنم إكليل من الماس.
وكان أحد الرعية إذا أقام صلواته للصنم يضطر لخفض بصره من شدة النور المنبعث من التاج. أما إذا أصَرَّ أحدُهم على التحديق في الصنم فسرعان ما يغشاه النور، ثم ينقلب إليه بصره خاسئا وهو حسير. وللصنم حراس غلاظ شداد، حتى إذا سوَّلَت لأحدهم نفسُه الاقتراب منه وَكَزوهُ وكزةً أَلْزَمَتْه مكانه. وأنى له الدُّنُوُّ منه وبينه والصنم حُجَّاب وكَتَبة، ومِلْء القصر حيث الصنم عبيد وأقيان وبأيديهم أسِنَّةٌ وأسل؟
لكن أحد المَكَرَة تَنَبَّهَ وهو يؤدي صلاته على أن النور لا ينبعث من التاج، وإنما هو انعكاسٌ لشعاع شمس الشروق المتسرب مِن ثُقبٍ صُمِّمَ بدقة بالغة، وبراعة وتَفَنُّنٍ على أحد جُدُر القصر. ولذلكم ليس في دين القوم إلا صلاة الشروق. قلَّبَ الماكرُ الأمرَ، وفَكَّرَ في ما عساهُ يُدْنيه من الصنم فيتعرَّف حقيقتَه. ثم فكَّرَ وقَدَّر، فوقع على حيلة لم تخطر بِبالِ إنسِي ولا جان. إنه البَيْلَسان، نَعَم البيلسان. فالبيلسان سائل لم يَشُمَّهُ أحدٌ إلا أخذته سِنَة.
وفي اليوم الموالي، توجَّهَ الماكرُ تِلقاءَ القصر وقد سدَّ مِنخَرَه بقطن فلا يكاد يُرى، وعَزَم على ألا يتنفس طيلة مكثه بين يدي الصنم إلا عن طريق فمه. وبينا هو في سجدته فتح قارورة البيلسان، فإذا بالحُجَّاب والعبيد وقد أخذهم النعاسُ عند أول نَشَق. دنا العابد من الصنم على عجل ورفع بردته، وتلمسه فإذا به من حجر. ثم حفر عند وَرِكِه الأيسر، وأخذ حَصَيَاتٍ وطار مع الريح.
وفي صباح الغد كان العابد الآبق لا يلتقي أحدا من أهل الجزيرة إلا حدثه بما كان من أمره، وأرَاهُ ما معه من حصيات، شهادةَ حقٍّ أن الرَّبَّ المعبود ليس إلا صنما من طين. ثم إن الناس تجرؤوا على فعل ما فعله الآبق، وكان مما جرَّأهم على ذلك أن سدَنَة المعبد وحراس القصر وحُجَّابَه، كان لا يبوح أحدُهم بما يَجِدُهُ من غَفْوٍ دون أدنى مدافعة، خشيةَ أن تلحقَهُ لعنةُ الرب. ولم يكُن لِيُحَدِّثَ الآخرين بذلك مخافة أن ينكشف أمرُ نعاسه في حضرة الرب، فتسرع بالخبر عيون القصر تَزَلُّفاً وقُربى. وللقصر عيونه التي لا تنام. فلقد كان يظن كل حارس أنَّ غَفْوَتَهُ أمرٌ يحدث له خاصة. وعادةُ الحراس التكتم، ولا ثقة لبعضهم ببعض.
استمر الناس يدخلون على الرب فرادى حتى لا ينكشف أمرهم، ويقومون بما قام به أول عبد آبق. وفي الليل وبينا هم في سمرهم يتنادرون وقد اتخذوا ربهم هُزُؤاً، كان الآبق يَسْلُو بما معه من حصيات الوَرِك الأيسر للرب المعبود. دام أهل الجزيرة على هذه الحال قرابة عام، فلَم يبق في الجزيرة أحد إلا وقد علم أن الرب صنم من تراب. ولما انتشر الخبر اليقين، هوى الصنم فأصبح هشيما تذروه الرياح.