المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (3) الفصل الثاني - الدفاع عن شعب - عبد الله اوجلان



shiyar
04/04/2007, 10:11 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان
++++++++++++++++++++++++++++++++
الفـصـل الثـانـي

A – الخُلاصة التاريخية للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع


يتجسد أحد أهم النواقص الأساسية لعلم الاجتماع في عدم إشارته إلى الذروة الأخرى (القرين، الشريك) للمجتمعات الهرمية والمنوطة بالدولة، والتي يجب أن تمر بثنائية جدلية بطبيعة الحال على مر التاريخ. وكأن التاريخ عبارة عن سياق تطور خالٍ من التناقضات، ويتقدم على الخط المستقيم للنظام الاجتماعي المهيمن. فمثلما شوهد في كل تطور ظاهراتي، يتطور المجتمع الهرمي والدولتي أيضاً ضمن تناقض مع القيم المجتمعية الطبيعية، التي تلعب دور النقيض. وهو ينمو ويتطور ويتنوع بالتغذي عليها. من الضروري عدم الاستهانة بقوة المجتمع الطبيعي. ذلك أنه يلعب دور الخلية النواة الأم. ومثلما تُولَد جميع خلايا النسيج من الخلية النواة، تتولد المؤسسات المشكِّلة لنسيج المجتمع الطبيعي، منه أيضاً. وكما تُولََد الأعضاء والأجهزة والنظم من النسج، تولد الأجهزة والنظم المجتمعية المتطورة الأخرى من المؤسسات البدائية (المؤسسات الهرمية البدائية) للمجتمع الطبيعي. قد يُكبَت المجتمع الطبيعي، ويُحسَر ويُقحَم في الشرك ويطوَّق. ولكن، لا يمكن إفناؤه أبداً. ذلك أنه يخرج حينها من كونه مجتمعاً. وعجزُ علم الاجتماع عن تثبيت هذه الواقعة، نقصان هام لا يُغتفَر. ما يغذي الهرمية والدولة، هو حقيقة تكوُّن المجتمعات الطبيعية على مر ملايين السنين. وإلا، فكيف بإمكان الثنائية الدياليكتيكية أن تتولد؟ إن القيام بالتحليلات المجتمعية بوسائل طبقية أو اقتصادية ضيقة، يعني ترك أصل الحقيقة وعضوها الأولي على الهامش منذ البداية. هذا هو الخطأ والغلط الفادح المرتَكَب. هذا وناهيك عن نظرة مدرسة الماركسية، ذات التَّوَجُّه الطَّموح إلى المجتمع الطبيعي الذي سمَّته بالمشاعي، وكأنه نظام انتهى عمره وزال من الوجود منذ آلاف السنين؛ والتي أثارت هذا الموقف السلبي وأججته أكثر.
لم ينتهِ المجتمع الطبيعي في أي وقت من الأوقات، ولم يَنفُذ رغم تغذيته لمضاداته. بل تمكّن من إيجاد نفسه على الدوام. ورغم كل التخريبات، لم يُنقِص من وجوده كإثنية، كركيزة صلبة للعبيد والأقنان، كأرضية خصبة لتجاوز التمايز الطبقي العمالي وتنامي المجتمع الجديد، كمجتمع بدوي متنقل بين البراري والأدغال، كعائلة قروية حرة، أو كأسرة بكيان الأم، وكأخلاق نابضة بالحياة في المجتمع. وعلى عكس ما يُظَن، فالقوة الدافعة لتَقَدم المجتمع ليست النضال الطبقي الضيق فحسب، بل والمقاومة العظمى للقيم المشاعية المجتمعية. من غير الصحيح إنكار النضال الطبقي، ولكنه ليس سوى أحد ديناميكيات التاريخ. أما الدور الرئيس، فمنوط دائماً بالرُّحَّل المتنقلين بين الغابات والجبال والبراري المجدبة، والذين عاشوا على شكل حركات إثنية أو قَبَلية، أو شعبية. فالإثنية هي قوة الصمود والتحمل على مدى آلاف من السنين، رغم كافة أنواع الهجمات الضروس، والمصاعب الطبيعية. وما خلقَته كان عبارة عن المقاومة والصمود، بثقافتها وملاحمها ولغاتها، وبقيمها وأخلاقها الإنسانية الشفافة والأصيلة.
من أكثر المشاكل التي يدور حولها الجدل، هي احتمالات الأنظمة الممكن ظهورها من أزمة الرأسمالية. لقد سادت أزمة ملحوظة بعد الحرب العالمية الأولى. وقيام الثورة البلشفية منوط عن كثب بتحليلات لينين بهذا الصدد. كان اندلاع الحرب العالمية الثانية يشير إلى أن الأزمة لم تنتهِ بعد، بل تتسم بالسيرورة. ولملمت الرأسمالية قواها، لتقوم بقفزة بارزة مع الثورة العلمية التقنية الكبرى الثانية. لكن هذه الحملات القصيرة المدى، بقيت عاجزة عن تحقيق تَشَعُّب وتوسُّع تصدعات الأزمة في النظام السائد. ومع انهيار السوفييتات بعد السبعينات، ناهيك عن تخفيف أزمة النظام، بل زادت تعقيداً ووطأة. وبذلك بُرهِن على أن التجربة السوفييتية قد خففت عبء النظام، موضوعياً.
وانتعشت الحلول المناوئة للنظام السائد، والتعاليل الليبرالية الحديثة لحلول الأزمة، مرة أخرى في هذه المرحلة. فهل الليبرالية الحديثة، حقاً، كاريكاتور للماضي؟ أم أنها، مثلما زعمت، حداثة حقيقية باسم "العولمة"؟ بينما يدور الجدل بأقصى سرعته بهذا الصدد، فرضَت البدائل التي طرحتها الشعوب، نفسَها أكثر فأكثر، بُعَيد أزمة الاشتراكية المشيدة. إلى أين كان يؤول النظام المنحصر بين أمريكا – أوروبا – اليابان؟ وإلى أين كانت تُفضي التقطبات المجتمعية المتزايدة، والصراع الشمالي – الجنوبي؟ كانت التيارات البيئوية والفامينية، والثقافية الطابع بالأغلب، تبرز كعناصر جديدة. وكانت حقوق الإنسان وقيم الحل للمجتمع المدني تتزايد وتتزايد، في حين كان اليسار منهمكاً في تحديث ذاته. كيف كانت الجدالات الدائرة ترتأي العالم المرتقب، سواء نقاشات "منتديات (كلوبات) أغنياء دافوش"، أو "نقاشات منتديات (كلوبات) فقراء بروتو – آللاغرا"؟ إن المستوى الضحل لتلك الجدالات لم يذهب أبعد من إنقاذ اليوم المُعاش، ذلك أن الرؤية المستقبلية النظرية والمنتظمة كانت غائبة في كلا الطرفين على السواء. لقد كانت الحركة المنهاجية والمخططة محدودة النطاق.
باختصار، لم تكن معلومات الموالين للحرية والمساواة من أجل المجتمع، ولا بُناهم، تشير إلى القدر الكافي للنفاذ من الأزمة بنجاح. كان من الضروري عدم الوقوع في أخطاء مشابهة، هذه المرة، إذا كان لا يُراد – حسب الزعم – الاختناق في مياه التيار الجديد المسمى بالليبرالية الحديثة، بعد أن تمكنت الليبرالية من امتصاص وجذب موجات العديد من الثورات المندلعة إلى مياهها، وفي مقدمتها ثورات 1848، 1871، 1917، والتي شهدها التاريخ الحديث باسم الكادحين والشعوب. ما هو مطلوب ولازم، كان عبارة عن قدرة اكتساب المعلومات الصحيحة، إعادة إعمار المجتمع، وإيجاد الصياغات الناجحة لذلك. نخص بالذكر هنا خيارات الشعوب، التي كان يجب أن تجد معناها، وأن تنوَّر بنيتها في منطقة الشرق الأوسط التي تكاثفت فيها التناقضات مع مرور الأيام، وشهدت الأزمات والاشتباكات الطائشة والمتهورة. كان على الشعوب إعداد خياراتها إزاء الحملة الأمريكية الجديدة، المسماة بأزمة 11 أيلول، والمتسمة بماهية تآمرية غائرة الأعماق. كان يجب أن تكون خيارات تجعلها لا تقع مرة أخرى في الأخطاء والمغالطات الجذرية، ولا تصبح رقعة لبنى النظام المهترئ. لقد كان التاريخ ينتظر منها رداً متواضعاً، ولكن جدياً وغيرَ مخادع في نفس الوقت. حيث كان يوصد أبوابه كلياً أمام التكرارات المجرَّبة التي لا أمل منها.
لقد اعتَبَرتُ الرد على هذه الأسئلة، التي طالما بحثتُ عن أجوبة لها، واجباً أساسياً ملقى على عاتقي في مرافعتي هذه. كما أنها في الوقت ذاته، كانت تحتِّم عليّ إيجاد الجواب المرتجى لوقائع الحياة الساحقة التي يعاني منها الشعب الكردي المتطلع دوماً إلى الحل الكفؤ الممكن التطبيق، واللائق به من جهة، وإلى إيجاد قوة المعنى المرتقبة، والوسائل البنّاءة من أجل حل مظفر للمشاكل التي عانتها حركة PKK، التي ترى نفسها مسؤولة عن لعب دورها الريادي من جهة ثانية. وبينما أجد هذه المسؤولية في ذاتي، فإنني متيقظ كلياً ومدرك لضرورة التحرك باسم خيار كافة الشعوب الفَوْقَومية (فوق قومية)، ممثَّلاً في شعبنا. واتخذتُ من وجهة النظر الإنسانية المثالية، والطبيعية البيئوية، والمتخطية لمفهوم "الوطنية والأممية" القديم الضيق؛ محوراً أساسياً لجميع تقرباتي. لهذا الغرض قمتُ بطرح أفكاري بصدد المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي، للنقاش والمعالجة.
السؤال الواجب طرحه والرد عليه أولاً هو، كيف يجب أن يكون إطارنا النظري؟ عَمَّ يمكن أن يتمخض البقاء بلا نظرية؟ إلى أين تؤول بنا النظريات الخاطئة والناقصة؟ كيف يجب أن تكون مزايا الإطار النظري القدير والمناسب للأهداف المرجوة؟
إلى جانب كون "الموضة" لفظاً متداوَلاً، إلا أن الصحيح جوهرياً هو ما يقال بأننا في عصر "مجتمع المعلومات". ما يُقصَد بهذا اللفظ هو أنه من الصعب إيجاد الحلول لأبسط الظواهر، وإدارة شؤونها، بدون قوة المعلومات. فما بالك بالظواهر ذات المشاكل الشاملة من حيث المعنى والبناء، من قبيل التحول المجتمعي! أما محصلة السير بحفنة من الحلول البسيطة، فهي الخسران بالأرجح. في حين أن الانتصار التصادفي يتضمن في كل لحظة مهالك المآل بصاحبه إلى الهزيمة والفشل، عاجلاً كان أم آجلاً. وبالنسبة للحياة والمسير المألوفين، فلا يفيدان سوى باضمحلال معنى الحياة الحقة، وزواله تدريجياً. فالحياة الحقة ليست مجرد السير، بل والسير الدؤوب الأقصى.
من هنا، فعدم تنوير مساعي التحول الأساسية أو توجيهها بإرشادات نظرية قديرة ومناسبة للأهداف، في مجتمعات الأزمة؛ سيُصعِّد من احتمال ذهابها هباء أو تمخضها عن نتائج معاكسة، بنسبة كبيرة. تتأتى مشاهدتنا للتكاثفات الفكرية العظيمة في مثل هذه المراحل من التاريخ، من مثل تلك الخصائص للواقع المعاش. وللسبب ذاته نشهد بروز المدارس الفكرية والعقائدية العظيمة لدى ظهور الحضارات، أو قُبَيل وبُعَيد تشكُّل الأنظمة الجديدة.
من المهم بمكان التركيز، وبكثافة، على الفلسفة الماركسية اللينينية، باعتبارها طبعت تقاليد المعارضات بطابعها في القرن العشرين. وبالنسبة لي شخصياً، كان من الواجب إدراك مدى استحالة قطع المسافة، دون وضع اليد على الخطأ الأساسي لهذا المفهوم – الذي أثر عليّ شخصياً أكثر من غيره من المفاهيم – قبل مرور سبعين عاماً عليه.
إنني أنظر إلى تشكيل مفهومي بصدد النظام، الذي سعيت لاصطلاحه بـ"المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي"، خارج نطاق سلطة الدولة أساساً؛ بأنه خُلاصة سلوكي النظري. ويتجسد مضمون إرشاداتي النظرية في البحث عن الحل خارج نطاق كافة سلطات الدولة الهرمية الكلاسيكية المتواجدة في المجتمعات الدولتية، وليس خارج دائرة مفهوم سلطة النظام الرأسمالي وحسب. وكونه سلوك نظري مرتبط بالواقع المجتمعي لأبعد الحدود، وليس سلوكاً خيالياً أو طوباوياً مثلما يُظّن؛ فإنني أعتبره أهم مكسب لي في كفاحي. إلى جانب دور أرضيتي الشخصية والمجتمعية في بلوغي القوة والكفاءة النظرية، إلا إن المؤثر الأساسي هو قدرتي على تفهم المجتمع التاريخي ضمن كافة البنى النظامية. أما ما يستتر وراء فهمي هذا، فهو خصائص النضال والكفاح الذي خضته، ونجاحي في التحلي بروح المسؤولية.
لا جدال حول مكانة فترات الانزواء والسجون والخيانات والمخاضات المستمرة لمدة عشرات السنين، في تشكُّل الأديان الكبرى والمدارس الفكرية العظيمة. ولقيم المجتمع الطبيعي والإثنيات وصراع الفقراء من أجل الوجود أيضاً، مكانة لا غنى عنها في بنية التفكير هذه. ساطع سطوع النهار أن أساسنا التاريخي لن يكون بفهم التاريخ بأنه تَأَصُّل الأحداث الهامة وتجذُّرها حول السلطة السياسية. لكن هذا السلوك قد يتسم بقيمة معينة في استيعاب النظام القائم ككل متكامل، واستنباط الدروس منه.
التاريخ الذي يجب اعتماده أساساً، هو تاريخ كل ما يشهد التقطبات المتضادة ضمن سياق التطور المجتمعي الهرمي والطبقي. كل التواريخ السياسية الرسمية، إما أنها لا تتطرق أبداًَ لوجود هذا التاريخ، أو أنها تراه تاريخ مجموعة فوضوية ضيقة النطاق، أو محشر لا حِكمة فيه، أو سرب قطيع يليق استثماره واستغلاله من أجل مآربها هي. بقدر ما يُعَد هذا التاريخ – الرسمي السياسي – جافاً ومجدباً وتجريدياً ومثالياً، فهو أيضاً مفهوم ظالم في عاطفيته. لذا، لن يجد تاريخنا معناه إلا بابتدائه من المجتمع الطبيعي، وارتكازه إلى كافة أنواع أفكار وعمليات المحكومين، من إثنيات وطبقات وجنسيات، إزاء الهرمية والسلطة السياسية.
بينما نعرِّف دعامةَ نظريتنا التاريخية على هذا النحو، فهي ببُعدها الآخر – وبطبيعة الحال – تشمل أعلى حد لقوة المعرفة في المجتمع. ذلك أنه إذا لم نستطع لحم مفهومنا التاريخي الصحيح بالحدود القصوى للمعرفة، فلن نقدر حينئذ على تحديد كفاءتنا في المعنى وطرازنا في البناء بشكل كفء بصدد المستقبل الآتي. علينا الإدراك تماماً بأن أي نظرية لا تستوعب نطاق المعرفة لدى النظام بأكمله، ضمن أفقها المعرفي؛ إنما هي ناقصة، ولن تنجو من الذوبان في آفاق النظريات المضادة. إنها حقيقة النضال الأيديولوجي الأولية.
إن رسم الإطار النظري لنظام المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي على هذه الشاكله، هو الخطوة الأولى. فبمقدار ما نعبئ فحواها ونطور من تطبيقها العملي، سيكون النظام المتطور لدينا حراً ومتساوياً بنفس القدر. يمكننا الرؤية مسبقاً بأن نظاماً متطوراً في هذا الاتجاه ليس نظاماً هرمياً أو دولتياً كلاسيكياً كالقديم، ولا نظاماً عبودياً للمجتمع المهزوم والمسحوق والمستعمَر. إنه نظام أخلاقي مقيم لعلاقته الدياليكتيكية السائرة مع الطبيعة، غير معتمد في داخله على التسلط والحاكمية، ومحدِّد للمنافع المشتركة مع الديمقراطية مباشرة.
تُعنى الماهية المشاعية في تكوُّن الوجود المجتمعي بالمضمون، لا بالشكل. وهي تبرهن على سيرورة وجود المجتمع عبر الطراز المشاعي وحسب. أما الافتقار إلى الماهية المشاعية، فيكافئ تماماً الخروج من كونه مجتمعاً. كل تطور يحصل على حساب القيم المشاعية، يعني خسران بضعة من القيم داخل المجتمع. من هنا، فاعتبار الحياة بحالتها المشاعية شكلاً أساسياً للحياة هو أمر واقعي. ولا يمكن للجنس البشري أن يواصل وجوده دون توفر هذا الشكل من الحياة. إننا ننوه بإصرار إلى هذه الحقيقة بهدف إدراك القناعات الخاطئة الآتية: إن الهرمية والسلطة اللتين تُحييان المجتمع وتسموان به قيِّمتان – حسب التعبير الحضاري – وما يتبقى هو سرب قطيع يجب رعايته وسَوقه.
يمكننا القول أنه بقدر قِدَم هذا المفهوم، فهو أول كذب ورياء منظم وكبير احتل الأذهان بالأكثر. وبقدر إقناع المجتمع بهذه المزاعم، أُضفيت المشروعية على المرحلة المتطورة على حسابه. إنها قناعة وطيدة بحيث يكاد لا يوجد من لا يقتنع أو لا يؤمن بها. إن إرجاع القيم المحيية للمجتمع والسامية به، إلى القوة الهرمية وقوة السلطة، رغم كون النظام المشاعي هو نمط وجود وتكون الجتمع؛ إنما يتصدر قائمة التناقضات الواجب تحليلها وحلها. هذه المقولة المؤمِّنة لتحريف وتشويه التاريخ المجتمعي، هي معيار المفهوم الأساسي لكافة البنى الفوقية، وعلى رأسها التاريخ والآداب والسياسة. وهكذا يتحول طراز الوجود الحقيقي للمجتمع إلى مادة خرساء، لا قول لها ولا لفظ.
من دون التخلص من تسمية المجتمع البدائي بـ"البدائي"، لن ينجو علم الاجتماع من بناء كافة تثبيتاته على أرضية خاطئة. علينا مرة أخرى اللجوء إلى التشبيه بالخلية النواة. قد تكون الخلية الأم بدائية نسبةً لكافة الخلايا المتميزة بالتنوع. لكن هذه البدائية ليست ببدائية أو رجعية يتوجب تخطيها، بل إنها تعني المبدأ الأس. ومن دون النظر إلى قيم المجتمع المشاعي من هذه الزاوية، فستُقيَّم وتُدرَس كافة المؤسسات الأخرى بشكل لا جذور له، ويفتقر إلى المعاني الحقيقية بشكل منفرد.
إذن، إن كنا نود أن نكون مبدئيين في النضال المجتمعي، علينا أولاً أن نُكِنّ الاحترام والتقدير لطراز وجود المجتمع، والنظر إليه بعين واقعية. إذ ثمة هروب من المشاعية، حتى لدى أكثر المجتمعيين المعاصرين راديكالية، ليس بتحليلاتهم وحسب، بل وفي تطبيقاتهم العملية أيضاً. أما القول بأنه خاص ولكن أفكاره مشاعية، فهو مغالطة حقيقية. وهو محصلة لإبقاء النظام الرأسمالي المجتمعَ مجرداً من الأخلاق ومفتقراً إليها. فعندما نصل نهايات القرن العشرين، نكاد نرى أن الإثنية، القبيلة، العشيرة، والشعب هي مصطلحات بقيت على هامش علم الاجتماع. لكن، بدون إيلاء القيمة اللازمة للإثنية، بقدر السلطة السياسية على الأقل؛ فمن غير المحتمل إيلاء المعنى اللازم للمشاكل المجتمعية أو البلوغ بها إلى تحليلات سليمة وصحيحة. يُعبِّر المضمون المشاعي عن ذاته في الإثنية بأكثر الأشكال كثافة. ماذا سيتبقى من المجتمع في حال قضائنا على الإثنية؟ فحتى البارحة كانت كل المدارس الفكرية المعاصرة، بما فيها الماركسية، ترى الإثنية شكلاً بِدْئياً وبدائياً، لا فاعلية له. أما مضمونها المشاعي، فهو أكثر مؤقتية، وخاص بالرجعية والتخلف، حسب ما صورته تلك المدارس. هكذا اعتُبِرَت الفردية مشرِّفة وهامة بمقدار ما تبرز إلى الأمام وتهيمن على القيم المجتمعية. من هنا، فعندما نقول أن علماء الاجتماع سيئون جداً نسبةً إلى الرهبان، إنما نتكلم حينها عن نقطة بالغة الأهمية. فالراهب، الذي يبرز في المجتمع كأكثر الشاعرين به، يعيش مع المجتمع ومن أجله حسبما يعتقد ويفكر. في حين أن صحة معلوماته ليست بالقسطاس الأساسي. بل إن القسطاس الأساسي هو ارتباطه بمشاعية المجتمع. أما "عالِم الاجتماع"، فأياً كانت صحة معلوماته، فهو لا يعتمد المشاعية المجتمعية أساساً، بل يتقرب كعضو تكنيكي. وهكذا تبدأ الكوارث.
من هنا، إن لم يدرك كافة العلماء عموماً، وعلماء الاجتماع على وجه الخصوص، قدسية مشاعية المجتمع، وإن لم يلتزموا بها حتى الموت؛ فلن ينجوا وقتئذ من تسميتهم – بحق – باسم "طبقة اللاأخلاقيين الكبار". فلو أن الالتزام بمشاعية المجتمع، والارتباط بها كان موجوداً، لما وصلت الحروب والسلطة، والاستعمار والاستغلال، إلى هذه الأبعاد المعاشة. وإلا، فبأي مجتمعية يمكننا تعليل القنبلة الذرّية؟
أكثر مراحل تطور المجتمع المشاعي حرجاً هي العتبة التي بلغها بتعرضه للبنيوية الهرمية. فالخبرات والتجارب المجتمعية المتراكمة تتجه صوب غنى المعاني، وبالتالي صوب تكوين اللغة وترميز الأشياء. وتُقدَّس هذه المرحلة مع ظهور الديانة الطوطمية. تتأتى أهمية الدين من لعبه دور الهوية الأولى الخاصة بالمجتمع. إنها حالة الوعي البدائية. تنبع قدسية الوعي بشكله هذا من الحياة المجتمعية ذاتها. فالانقطاع عن حياة فصيلة الثدييات البدائية الحيوانية، يجلب معه أول فارق هام في المعنى. وحداثة هذا الفارق مؤثرة ومُرعِشة، حيث تحتوي في ثناياها خصائص كونها الأولى (البدائية). والممارسة العملية المجتمعية تنمُّ عن مستجداث باعثة على الغبطة والنشوة في كل خُطاها الهامة. هذا الوضع هو الوعي المتزايد. ومرحلة اكتساب الوعي تسفر عن بث الأصوات على شكل لغة، واللغة تؤدي إلى التسمية، والتسمية إلى الترميز. تتميز مرحلة اكتساب الوعي بأهمية مصيرية بالنسبة للإثمار والإنتاج العملي. ومع الزمن يغدو الصمود والثبات صعباً من دونها. حينها يُدرَك مدى بُخس نوعية الحياة اللاواعية. وتحصل التطورات النوعية بالتوازي مع اختلاف الوعي وتنوعه. تنهل الظاهرة الدينية كامل أهميتها وقدسيتها من هذه الدورة الحرجة للحياة، لتحتضن التناقض بين طياتها منذ البداية. حيث باتت الحياة عصيبة من دونها، لأنها أضحت تعبر عن الوعي والهوية الأولى للمجتمعية. لكنها بوجهها الآخر متزمتة إزاء المستقبل، لاحتوائها سلسلة من القواعد والأحكام بشأن القدسية والتابو (المحرَّمات، عدم اللمس، عدم الدنو، المنطقة المحظورة). إنها منغلقة أمام عناصر الوعي الجديدة. وهي بخاصيتها هذه تُطلي التطور بطلاء من النشاء. ولأجل هذا السبب، تصبح التعددية الدينية ضرورة لا مفر منها، منذ بداياتها. فالتعددية الدينية وتعددية الآلهة تعبران عن زيادة الاختلاف والتباين في الوعي. إنه أمر إيجابي. إن تعليل كل شيء بالأرواح (الأرواحية) في بدايات الدين هو ثمرة البراديغما الاجتماعية السائدة آنذاك. وهو أمر إيجابي. ومع الزمن تبرز الروح الكبرى التي يتم المرور منها إلى القدسية، كترميز للتكاثف الحاصل في اكتساب الهوية وخاصية المجتمع. فالجماعة بحد ذاتها كانت إلهاً في البداية.
حكاية سيدنا إبراهيم غريبة الأطوار بإلهامها الإلهي. فمثلما هو معلوم، يَرُود سيدنا إبراهيم إحدى أكثر الثورات الذهنية تأثيراً في التاريخ، بتمرده على مجموعة الآلهة الملوك النماردة البابليين والآشوريين، وتحطيمه أوثانهم. لكن القبيلة العبرية (كلمة عبرية هي من بقايا اللقب المطلق عليها فيما بعد في عهد المصريين، وتعني "الأناس المُغْبَرّون") لا يمكن أن تبقى يوماً واحداً دون إله. لكن هذا الإله من المحال أن يكون طوطم المرحلة البدائية أيضاً. ذلك أنه حصل تمرد ثوري على الوثنية. في حين أنه من العصيب خلق تصوُّر جديد، لأنه يستدعي الغنى في المعاني الجديدة. باقتضاب، يستلزم الأمر تغييراً دينياً راديكالياً. حيث لا بد من التأثر بالنظام الديني والإلهي لتلك الحقبة. لكن، ثمة ضرورة قصوى للتجديد وللحرية التي يحتضنها هذا التجديد بين أحشائه.
تهدف مرحلة الانزواء، التي تعتبر وقفة تقليدية في نظام النبوة، إلى بلوغ تكاثف المعاني. تسمى الأفكار الجديدة المنتعشة في الذهن خلالها بمصطلحاتها وأشكالها، باسم الإلهام والوحي. الوحي هو بالأرجح صوت الإله المجرد. والتجريدية هنا تشير إلى الانتقال من نظام المعاني المتخلفة الكائنة في نظام الوثنية، إلى نظام معانٍ أكثر تقدمية. وسيدنا إبراهيم الذي شهد هذه المرحلة، سيضع لَبَنات دينه هو. من المحتمل أنه يرد على الصوت التقليدي المنبعث، لدى دخوله مرحلة الانزواء، أثناء تكاثف مشاكل الحياة وتزاحمها عليه. يقول إبراهيم: "من أنت!" ويجيب صاحب الصوت: "أنا ياه – واه Yah –weh". ومعناه "هو". تشير البحوثات المجراة على أصول اللغة العبرية إلى تأثرها البليغ باللغة الآرية، أساس اللغة الكردية. وإذا ما وضعنا نصب العين أن قوة إبراهيم تتأتى من تقاليد النبوة الوطيدة جداً في منطقة أورفا، والتي يمكننا القول بأنها مهد النبوة؛ سيُسلَّط الضوء بشكل أفضل على جذور هذا التطور الجاري. فهذه المحلة هي المنطقة التي شهدت تشابك وتداخل الثقافتين الآرية والسامية، بالأرجح. بالتالي، فالتداخل الساميّ والآريّ في اللغة العبرية قد انعكس على الثقافة الدينية المولودة حديثاً. من المعلوم أن كلمة (Yah –weh) تصبح "ياهوفا Yahova" لتغدو بعدئذ "ياهودي Yahudi". أما كلمتا "إسرائيل Israel" و"الله Allah"، فهما ثمرة انعكاس هذا التطور على الثقافة الساميّة.
الغرض من إيضاحنا الآنف الذكر بالتفصيل وبين قوسين، هو الإدراك الأفضل للتطور الحاصل في المجتمع المشاعي، عبر المثال الذي نعرفه جيداً. فلنُشِرْ إلى تَوَجُّهٍ سوسيولوجي مرتبط بالموضوع لدى مرورنا عليه، فيما يخص مسألة "الله". حيث تتوارى كلمة "أل" الساميّة في جذور هذا المصطلح الذي شغل الأفئدة والعقول طيلة قرون مديدة. وكلمة "أل" هي تَصَوُّر إلهي. ربما ابتُكرَت في أعوام الألفين قبل الميلاد، من جناح الكنعانيين لدى الساميين. فالقبائل الكنعانية كانت أدنى إلى مفهوم الإله المجرد في المرحلة البدوية التي تنقلت فيها ضمن المناطق شبه الصحراوية وشبه السهلية. إذ لا توجد أنهار أو جبال أو أراضٍ زراعية مستقرة تتحكم بحياة الجماعات الرُّحّل. بل تكون الطبيعة رتيبة وعلى نسق واحد. أما الأرض والسماء، فكأنهما فراغ فسيح مترامي الأطراف. وتغدو القبيلة في هذه الحالة كالكيان الواحد المرصوص.
وفيما يتعلق بالوضع الهرمي، فقد تطورت آنذاك مؤسسة الشيوخ. الشيخ هنا هو العالِم المسن في القبيلة. تسبق هذه المؤسسة في تكوينها مؤسسة النبوة. الشيخ هنا ضرب من الشامان الساميّ، وسَلَف النبي. ومع تطور نفوذه يكتسب احتراماً وقيمة مقدسة عظمى، وكأنه عقل القبيلة. وكلما حوَّل التقدير والقدسية إلى اصطلاحات ملموسة، كلما تحول إلى دين بحد ذاته. هنا يحرز مصطلح "السمو" تقدماً ملحوظاً، في مرحلة العبور من طوطمية القبيلة إلى الإله المجرد. ويظهر مقابل ذلك اصطلاح "أل". وكلمة "على" في اللغة العربية في راهننا، قريبة في معناها من العلو. لدى انتقال القبيلة العبرية في بلاد كنعان – أي أراضي فلسطين وإسرائيل اليوم – إلى الحياة المستقرة المستوطِنة، تتأثر بالثقافة المحلية الموجودة هناك. ويتم العبور من الإله "ياهوفا" المطوَّر مسبقاً، إلى مصطلح "ألوهيم" الذي يعود في أصله إلى "أل" المحاكي للمصطلح السابق له. ومع الزمن يحصل الانتقال من ألوهيم إلى مصطلح "الله". ومن "أل"، أي السمو، يتم العبور إلى اصطلاح محمَّل بمعاني مختلطة في عهد سيدنا محمد، حيث تضفى على "الله" تسع وتسعون صفة. من الصعب إيجاد أنموذج أو نظرية سوسيولوجية تصوِّر كافة الخصائص المقدسة الهامة للمؤسسات والمصطلحات الاجتماعية، وبشكل ملفت للنظر؛ أكثر مما هي في هذه الحالة.
لنُضِفْ على الفور أن تصوير "الله" كصورة لذاكرة التطور المجتمعي، وإنكاره بشكل فظ، إنما هو أمر خاطئ. بل على العكس من ذلك، فقد تطور هذا المصطلح في القبيلة العبرية ليحقق قفزة ملحوظة، بدءاً من تشريع قوانين المجتمع، وحتى القوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية؛ ليكتسب قوة معناه مع العلم في حاضرنا. هكذا تم الوصول إلى عالم الكوسموس والكوانتوم بعمقه وسموه. إننا على عتبة حل مسألة الجينات والخلايا الحية وبنائها. من هنا، فالحل الصحيح لمصطلح الله هو مقياس الألوهية الحقة. وطرْحُنا هذا المقياس بهذا الجلاء الساطع، إنما هو مثال ضارب للنظر بشأن كيفية تفسير الدين. فالقدسية الحقة تمر من التحليلات والمعالجات السوسيولوجية الصحيحة بصدد حاضرنا. وإلا، فتحفيز الحشود الشعبية على مناجاة "الله" باستظهارية غيبية محضة، ودون إفعامها بأي معنى؛ إنما هو استنكار لله، وبشكل أخطر من "وثنية" الماضي الغابر. ما يجب أن نتجاوزه في واقعنا الاجتماعي ونغدقه باللعنات، هو هذه "الوثنية التجريدية" المعتمدة على الحفظ الاستظهاري.
إن سوسيولوجية الدين بعيدة كل البعد عن عكس الواقع الاجتماعي. أما عقد الأواصر بكفاءة ومهارة بين فلسفة المعرفة (الأبيستَمولوجيا) والمجتمعية، فهو موضوع يتوجب تحليله. فالوضع الحالي للسوسيولوجيا يجبِر على تحليل حتى أبسط المواضيع.
إننا ننوه، وبإصرار، على استحالة تناولنا الصحيح للتطورات اللاحقة للمجتمع المشاعي، ما لم نحلل طبيعة هذا الأخير بشكل سليم. فكيفما أن تحليل أي عنصر لن يكون واقعياً بدون تحليل ذرة الهيدروجين (المكوَّنة من البروتون والإلكترون)، وهو اعتقاد صائب؛ فمن أجل البنية النواة للمجتمع أيضاً، نقول أنه يستحيل فهمنا لتنوع الظاهرة المجتمعية، دون استيعاب الجماعة المشاعية. وإلا، فسينجم لدينا شرح ناقص، وبالتالي علم خاطئ بشأن المجتمع. فالادعاء بأن الميثولوجيا والثيولوجيا أثمرتا عن مفهوم مجتمع وهمي، وإضافة السوسيولوجيا إليهما (كمثال البستان المرقع)؛ لا يذهب أبعد من تشويش العقول وإرهاقها. هذا ما ينم بدوره عن تصاعد السلطة بتهور وجنون. ذلك أنه لا يمكنك تحليل السلطة، ما لم تحلل المشاعية. فالأرضية التي نمت عليها سلطة الدولة والهرمية، هي المشاعية. والهرمية، كمصطلح، تعني إدارة المقدس، أو اكتساب العالِمُ المسن السلطةَ واستحواذه عليها. وقد كانت فاعليتها إيجابية في مرحلة ولادتها. فهداية الشبان، وتسويق شؤون المشاعة (الكلان) وإدارتها، هي مرحلة متقدمة من التطور. أما الفائدة التي يجنيها العالِم المسن من هذا العمل، فهي تخطي مصاعب الشيخوخة بسهولة. في حين أن الشبان الكفوءين من بين الملتمين حوله، كانوا مدركين إمكانية نجاحهم بشكل أفضل باستفادتهم من تجارب وخبرات ذلك العالِم. والشامان أيضاً – المثال الأول للتفسير الديني – يمكن أن يكون حليفاً مقرباً. وتحوُّل الشامان مع الزمن إلى ناطق باسم الدين، يعني في مضمونه التحول إلى الرهبانية. أما بالنسبة للشبان الذكور، فمهارتهم في الصيد تفضي بهم إلى أن يكونوا نموذجاً مصغراً عن حاشية عسكرية ملتفة حول الزعيم. يعبِّر تحالف "الراهب – الزعيم – العالِم" هنا عن الهرمية المتصاعدة. ولكن لم يُبلَغ بعد مؤسساتية الدولة. فالعلاقات ذات أبعاد شخصية. وفيما يخص القوة المحيطة بالأم الأهلية، فهي في تبعثر طردي.
تكافح الأم، القوةُ الخلاقة للمجتمع المشاعي، بلا هوادة إزاء هذا التحالف الثلاثي الجديد. فكل الآثار التاريخية المتبقية تشير إلى ضراوة هذه المرحلة. والعهد الأمومي الأهلي الذي بلغ أوجه في المجتمع النيوليتي فيما بين (10000 – 4000ق.م)، يتم تجاوزه مع تحالف الشامان – الزعيم – العالِم، والذي يمثل ولادة نظام السلطة الأبوية. وترمز ثنائيات إينانا – أنكي، ومردوخ – تيامات في الميثولوجيا السومرية إلى العصر السابق لهذا التاريخ. فالتفسير الميثولوجي العادي، يسلط الضوء على هذه الحقيقة. وإينانا هي رمز الأم المهيبة القوية فيما قبل التاريخ، حيث تنوه بلا كلل أو ملل إلى "ما"ءاتها المائة والأربع، والتي تعني أدوات الحضارة ومصطلحاتها وشرائعها. تشير إينانا إلى أن أنكي (أول تجريد للسلطة الأبوية) قد سرق منها قيمها الجوهرية التي خلقتها. وما ذهابها من مدينتها إلى مدينة أنكي، أي من أوروك إلى أريدو، لتستولي ثانية على "ما"ءاتها وتظفر بها بألف كدح وكدح (وهو الفصل الأكثر إثارة وحماسية في الملحمة)؛ سوى تصوير لهذا الكفاح العتيد. في حين أن التناحر المحتدم بين مردوخ وتيامات في الملحمة البابلية يعكس الصراع على السلطة بالأرجح. إن ما يُصوَّر هنا هو مدى ضراوة المرحلة الانتقالية من العهد الأمومي إلى العهد الأبوي، بلغة ميثولوجية. ويمكننا مشاهدة الصور المعدَّلة من هذه الملاحم في ثنائية إيزيس – أوزيريس في الحضارة المصرية، وثنائية زيوس – هرا في الحضارة الإغريقية، وفي ثنائيات مشابهة في الحضارتين الحثية والأورارتية.
يمكننا استنباط ما تعلمناه من الميثولوجيا من الأديان أيضاً، وخاصة من الأديان التوحيدية. فقسطاس موسى في تقاليد سيدنا إبراهيم هو تأديب المرأة وضبطها بشكل مطلق. لم تكن المرأة حُطَّت منزلتها كلياً لدى سيدنا إبراهيم. فثنائية إبراهيم – سارة أدنى إلى القوة المتكافئة. أما في ثنائية موسى – ماريام، فالأخت ماريام محكوم عليها بالفشل الذريع المؤلم، حيث تفتقر إلى بقايا قوتها المتبقية. وفيما يتعلق بسيدنا داوود وسيدنا سليمان، فالمرأة مادة شهوانية أحادية الجانب، وما من أمارة تدل على وجود سلطة لها. المرأة هنا مادة للّذة واللهو والغبطة بالنسبة للمَلَكليات المتصاعدة. وهي أداة لاستمرار النسل. ورغم ظهور بعض الشخصيات بين الفينة والفينة، مثل أستر ودليلة؛ إلا إنها لا تذهب أبعد من كونها أداة استثمار واستغلال. وفي ثنائية سيدنا عيسى – مريم لا نسمع مريم تتفوه ولو بكلمة واحدة. وكأن لسانها مبتور. تشكل الديانة المسيحية هنا خطوة عملاقة للوصول إلى المرأة الراهنة. أما في ثنائية سيدنا محمد – عائشة، فثمة مأساة تراجيدية. فعائشة الصغيرة السن تشكو بحدة من سلطة الإسلام الإقطاعي المتنامية. حيث ينقل المؤرخون عنها تذمرها قائلة: "يا رب، ليتك صنعتني قطعة حجر، عن أن تخلقني امرأة!". وهذه الجملة هي لعنة لُفِظَت بحنقة الإدراك باستحالة أخذ النتائج المرجوة، حتى لو كانت الزوجة الأحب إلى قلب النبي في لعبة السلطة.
يمكننا الملاحظة أن الهرمية استمدت قوتها أساساً من صراع مجتمع السلطة الأبوية مع القوة الأمومية، من خلال المجتمعات الإثنية التي لا تزال قائمة. ويشاهَد حدوث الانكسارات الكبرى في الشكل الاجتماعي للمرأة بعد تكبدها هذه الهزيمة. فبينما كانت هي المختارة والمنتقية في الماضي، بات يُنظَر إليها كمُلك في يومنا. ولم يتبقَّ من المرأة المنظِّمة للرجل من حولها، والمقاوِمة مدة طويلة كي لا تُنتَزَع سلطتُها منها؛ سوى عنصر أو هوية امرأة مفتقرة لإرادتها، وقانعة باختيارات الرجل وانتقاءاته. هذا وبمقدورنا ملاحظة عدم مرور هذه المرحلة بسهولة، من خلال مثال آخر؛ ألا وهو القرابين المقدمة في المراسيم المقدسة المقامة في كل ذكرى سنوية للزيجات المقدسة للرجال الملوك المرشحين للزواج من الإلهة الأم. ترمز هذه المراسيم، التي طالما صادفنا ذكراها في العديد من المجتمعات، إلى مقاومة المرأة الطويلة الأمد في سبيل عدم فقدانها سلطتها. فمراسيم تقديم القرابين تُرتِّب بشكل رمزي إعاقة حظي الرجل بالسلطة أو تَحَكُّمه بالمرأة. لكن الصراع المحتدم بين مردوخ وتيامات، في أعوام الألفين قبل الميلاد في المجتمع السومري، يصوِّر كيف انتهت هذه المرحلة على حساب المرأة. نصادف أمثلة مشابهة في السياق الحضاري لكافة المجتمعات ذات الأصول الشرق أوسطية، خلال المراحل اللاحقة لأعوام الألفين ما قبل الميلاد.
رغم لعب المجتمع الهرمي دوراً إيجابياً في التقدم في بداياته، إلا إنه غدا مع مرور الزمن وجهاً لوجه أمام خيارين: إما التبعثر أو التدوُّل. إنها مرحلة العبور بين المجتمع المشاعي البدائي والدولة. لكنها تستنهل قوتها من مجتمعيتها. وبعد مواجهة هذه المرحلة وتجذرها في غضون مدة طويلة، وصل هذا الشكل من السلطة ذروته، خاصة في المجموعات الإثنية. فالمجتمع الذكوري السلطوي والهرمي هو الذي حقق أساساً خنوع وإذلال النساء والشبيبة والأعضاء الآخرين من الإثنية. والأهم في الأمر هو طراز تحقُّق هذه السلطة. فالسلطة هنا لا تمارَس بالشرائع، بل بالأخلاق. والأخلاق تفيد بقوة الأحكام والقواعد التي يتوجب على المجتمع الامتثال لها. هذه القوة بدورها لا تُفرَض عنوة وإكراهاً، بل طواعيةً؛ انطلاقاً من دورها المصيري في تأمين سيرورة الوجود المجتمعي. أما وجه الخلاف فيها عن الدين، فينبع من الحاجة الدنيوية، عوضاً عن القدسية. لا شك في أن الدين أيضاً دنيوي، ولكن الجانب السحري للمصطلحات، وتكوينه الأقدم على الإطلاق، يحيطه بهالة من القدسية. وهو طقسي، وأكثر تجريداً. في حين أن الأخلاق تُشكِّل القواعد اليومية والدنيوية والعملية اللازمة. وإلى جانب التداخل والتشابك، فبينما تنظِّم الأخلاق إدارة الشؤون الدنيوية، يسعى الدين للتجاوب مع مستلزمات استيعاب العقائد والعوالم الأخرى. أي، بينما يكون الدين نظرية المجتمع البدائي، تصبح الأخلاق ممارسته العملية.
تفي هاتان المؤسستان بالغرض في إدارة شؤون المجتمع حتى مرحلة التدول. ويمكن تسمية هذه الحقبة بمرحلة تسيير المجتمع بالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد. إذ لا تزال السمة المشاعية، لا الشخصانية، هي الطاغية في المجتمع. والالتزام بالمشاعية يتحقق بالامتثال لبنيتها الدينية والأخلاقية بالأغلب. أما عدم الامتثال لها، فيعني الخلل والتشوش والأزمة. وهذا ما يعني التشتت والإبادة. من هنا، فالدين والأخلاق في هذه الحقبة عقيدة وممارسة وطيدتان للغاية. وأي شخص لا يمتثل للدين والأخلاق، يفيد بأنه يرتكب أفظع سوء بحق المجتمع القائم. ومن الصعب على المجتمع تحمل ذلك، بل هو مضطر لمواجهته بأشد أنواع العقاب. فإما أن يطرده خارج المجتمع، أو يُلحِقه بتدريب قاسٍ. المهم هنا هو عدم إفساد الخاصية المشاعية. ولا يزال اعتبار عدم تأدية بعض العبادات أو القواعد في الأديان أكبر ذنب على الإطلاق في راهننا، يعكس قوة المشاعية تلك. إنه يشيد بقدسية خاصية العلاقة المشاعية.
ثمة تقييم متعلق بالدين في يومنا الحاضر، ويُعمَل به بكثرة رغم خطئه. ألا وهو اعتبار الدين مسألة شخصية. فالدين ليس بمسألة شخصية، بل هو الشكل الاصطلاحي والأخلاقي والإداري الأول للظاهرة الاجتماعية. تعبِّر الهرمية عن هذه الحقيقة، باعتبارها إدارة المقدس.
الصراع دائمي بين المجتمع المشاعي والهرمية. تبدأ التفرعات والتشعبات بالظهور في القواعد الدينية والأخلاقية بشأن عودة القيم المادية والمعنوية المتراكمة إلى المجتمع ثانية أم احتكارها. فبينما يُشاهَد التطور قُدُماً صوب مصطلح الإله الواحد المجرد في الظاهرة الدينية المصوِّرة لقيم مجتمع النظام الأبوي؛ تقاوِم سلطة النظام الأمومي للمجتمع الطبيعي بمفهوم تعددية الإلهات الإناث. الشريعة الأساسية في نظام الأم الأهلي هي الكدح والإنتاج، ومنح ما هو ضروري لإحياء الجميع. وبينما ترى أخلاق النظام الأبوي السلطوي مسألة الادخار مشروعة، وتفتح الباب أمام المُلكية؛ تُعِيب أخلاق المجتمع المشاعي موضوع الادخار، وتنظر إليه بعين السوء، وتحفِّز على توزيعه. وهنا يكمن أصل مصطلح "الجود والسخاء" في هذه الظاهرة. حيث يُسعى لصون المُلكية الجماعية إزاء المُلكية الخاصة. لكن التواؤم والتناغم في المجتمع يفسد تدريجياً، ويزداد التوتر والاضطراب. ويُرى حل هذا التناقض إما في العودة إلى القيم القديمة، أو في تصعيد القوة في الداخل والخارج. وهكذا تتكون الأرضية الاجتماعية للعنف والحروب المرتكزة إلى القمع والاستعمار.
تباشر المجموعات الهرمية المتعاظمة حول القيم المادية والمعنوية بتقديس السلطة وبذل المحاولات المنظمة بصدد أحقية المُلكية، بكل دَأْب وغيرة؛ كي لا تتشتت. ومن الصعب على الجماعات الأصغر والأكثر تفككاً الصمود أمام هذه القوة. لم يتبقَّ أمام الكلانات والقبائل المسحوقة سوى صون وجودها الحر عبر الهجرات الدائمة. وتبدأ الجماعات النازحة بالتنقل في قلب البراري المجدبة والغابات الموحشة والجبال الشاهقة، لا بغرض الصيد أو جمع الثمار فحسب، بل كي لا تتهدم القيم المشاعية أو تنهار بالأغلب. وتخط بذلك مسار المسيرة التاريخية الكبرى. هذه المسيرة الدائمية المحتضنة بين طياتها حب الحرية وعشقها، تعد إحدى أهم الحركات في التاريخ. وانطلاقاً من ضرورة حماية الذات، تضطر الكلانات والقبائل للتحول إلى عشائر. فالعشيرة ليست مجرد تضخم بيولوجي فحسب، بل وضرب من ضروب المقاومة تجاه الهرمية أيضاً. كانت السلطة في بنية العشيرة تتميز بماهيتها الإيجابية في الفترات الأولى، لتُمدَح وتُمجَّد أخلاقياً، وبالملاحم والموسيقا. ورئيس العشيرة هو بمثابة رمز يشير إلى وجود العشيرة وحريتها، بحيث تتجسد في شخصيته ذهنيتها وكرامتها وأمنها واستقرارها.
المرحلة التي ستؤول إليها هذه الحقبة المليئة بالتناقضات، هي الدولة كسلطة مؤسساتية معتمدة على العنف الراسخ. تشكِّل ولادة الدولة المرحلة الثانية الكبرى في تاريخ المجتمعات، حيث تجلب التغييرات الجذرية للإنتاج والحياة الاجتماعية وبنى السلطة والبنية الذهنية برمتها. وبما أن الصراعات غير المنتظمة بين العشائر والقبائل أسفرت عن مضغ واستهلاك الادخار والمُلكية وتعريتهما باستمرار؛ فقد كان الحل مقابل ذلك هو تمأسس السلطة المرتكزة إلى القوة. وتَوَلَّد الراهب من الشامان، والمَلِك من العالِم، والمسؤول العسكري من الزعيم. الشخص في الظواهر الثلاث مؤقت، بينما المؤسسة راسخة دائمة. وبلغت مرحلة الاستقرار والاستيطان مستوى بناء المدينة، بتجاوزها نموذج القرية. كان النظام المشاعي هو الحاكم في البداية في مجتمع القرية. فالقرية هي موطن الحياة الأساسي للمجتمع النيوليتي. وهي الموطن المقدس للثورة الزراعية المستمرة في الفترة ما بين (11000 – 3000ق.م). علاوة على أنها تمثل تماشي المجتمعَين المشاعي والهرمي مع بعضهما مدة طويلة من الزمن. لم يكن ثمة آغاوية أو بيكاوية بعد. إنها الأثر الخالد المشرِّف الذي تتباهى به الأم الأهلية. ذلك أن كل القيم المعنية بالبيت تتمخض عن ذهنها هي. فالحيوانات التي تستأهلها من حولها، والنباتات التي تستنبتها، تمنح حياة معجزوية لا ند لها. والآلاف من الاكتشافات في هذه الحقبة هي من إيجاد المرأة. الحقبة هي "حقبة اكتشافات المرأة" التي لا أحد يعرف مَن أوجدها هي. ولكن المجموعات الهرمية الماكرة المعزِّزة من شأن ذاتها، ستطمع بهذه الاكتشافات وغنى المحاصيل، وستنهبها وتسلبها. وستولِّد الدولة لتوطيد مكانتها. تلك المرحلة التي لا تزال معاشة على الآلاف من النتوءات والتلال الموجودة على حواف سلسلة جبال طوروس وزاغروس، ترتقي بقرويتها لتؤسس المدن في السهول الخصيبة المروية بمياه أنهر دجلة والفرات والنيل والبينجاب من ناحية، ولتمهد السبيل لظهور نظام الدولة (البوليس) معها من ناحية أخرى.
لدى تشكُّل القرى والمدن تضاف ثنائية الترحال – الاستيطان كعنصر هام ثانٍ إلى الانقسام الحاصل في المجتمع. وبينما يكون الانقسام الهرمي عمودياً، فإن الترحال – الاستيطان ينقسم أفقياً. وتتشكل الأنظمة التاريخية للمجتمعات بعد ذلك وفقاً للتناقضات المتمخضة عن هذين الانقسامين.
تعكس الثورة الذهنية المبتدئة مع القرية، والمتجذرة مع المدينة، ذاتها في ثقافة المعتقدات الدينية أولاً. ويسعى النظام الإلهي إلى فصل نفسه تماماً، وبكل إصرار، عن نظام الطبيعة والإنسان. ويضفي الآلهة صفات خاصة على ذاتهم، من قبيل العمر المديد، السكن في كبد السماء، أو الارتداد أحياناً إلى جوف الأرض، وأنهم لا يُقحِمون الناسَ فيما بينهم، ويعاقِبون البشر إن شاؤوا. تتعدد هذه الصفات طردياً في الآلهة الميثولوجية السومرية. وتتكون جماعة (كوادر) غنية من الآلهة، بدءاً من الآلهة الحامية للمدن، وحتى آلهة النهر، الزرع، البحر، الجبل، السماء، وآلهة تحت الأرض. يمثل هذا النظام الاصطلاحي تداخل القوى الطبيعية مع القوة الطبقية المتنامية داخل المجتمع. تتسم هذه الصياغة الدينية وشبه الميثولوجية، المعتمدة أساساً على تقديس وتوطيد وجود الطبقات المهيمنة التي تتشاطر وجه البسيطة فيما بينها؛ بأهمية مصيرية من أجل مشروعية النظام الجديد المتأسس. ويبرز هذا التباين بالأغلب لدى الانتقال من النظام الديني الذي تغلب عليه الإلهات الإناث، إلى النظام الديني الذي تغلب عليه الآلهة الذكور. هنا تكمن أهمية مفارقة كل من إينانا – أنكي، ومردوخ – تيامات.
لا يمكن لأي ميثولوجيا أن تبلغ قدرة الشرح الشفاف والأصلي الشعري للتباين الطبقي البارز وتكوُّن الدولة، بقدر ما هي عليه الميثولوجيا السومرية. إننا وجهاً لوجه أمام سرد مذهل وخلاب. بالمقدور ملاحظة كل "البدايات" للمصطلحات والمؤسسات الدينية، الأدبية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع السومري. وبالمقدور القول أن هذه الأصالة تتصدر المستجدات التاريخية المكوِّنة بالأغلب لبنية المصطلحات والمؤسسات الأولية في المجتمع. من هنا، فحلول المجتمع السومري تتميز بمزاياها العالمية.
يُخَمَّن بأن تشكُّل المدينة والدولة قد تطور امتداداً للثورة الزراعية القروية الحاصلة على حواف جبال طوروس وزاغروس. ويتم نقل المصطلحات النظرية والوسائل العملية لهذه الثورة الأشمل والأطول في تاريخ البشرية، إلى ميزوبوتاميا السفلى، على يد الفئات الهرمية التي يغلب عليها الرهبان. من المحتمل بنسبة كبيرة أنهم أخذوا معهم التقنيات الجاهزة لزراعة الأراضي وحصدها، ولبناء المنازل وحياكة النسيج وتأمين الاتصال؛ وعلى رأسها نماذج من كل الحيوانات والبذور وأشجار الفواكه الضرورية. لكن، لا يمكنهم تأمين ذلك في شروط المناطق البرية المقحلة، ما لم يتم ريّها. تشير اللقى والآثار المعثور عليها إلى خارطة الطريق التي سلكتها الثقافة مع تلك الجماعات القادمة، بكل سطوع. وتمكنت هذه الجماعات النازحة حوالي (6000 – 5000ق.م) من تأليف وحدات القرى المحتوية على خمسة آلاف شخصاً، اعتباراً من أعوام 4000ق.م. ومدينة أوروك المشهورة في التاريخ، والتي بنتها الإلهة إينانا، تُكَرَّم إلى البشرية كدولة في أعوام 3200ق.م. وتدخل أوروك عالم الخلود – بما تستحق – مع ملحمة كلكامش، بعد أن كانت أول مثال مدوَّن عن ثورات المدينة؛ كهدية موهوبة من قِبَل الإلهة الأم. وكلمة كلكامش ذات أصل آري – حسب علم الصَّرف والاشتقاق – مثلما هي حال الكثير من الألفاظ السومرية. فحتى في لغتنا الكردية الراهنة: (كل = Gıl = Gır)، ومعناه "الكبير، الضخم، العملاق". أما (كامش = Gameş = Gamej)، فمعناه "الجاموس، كبير الثور". ولا يزال التشبيه "مثل الثور، مثل الجاموس" دارجاً في الثقافة المحلية في وصف الرجال الأقوياء الأشداء. في هذه الحالة، فكلمة "كلكامش" تعني "الجاموس العملاق" مشيرة بذلك إلى الرجل الأقوى والأشد بأساً. وتعريف كلكامش في الملحمة يتميز بماهية تصادق على هذا التوجه. وسيفيدنا اقتفاء أثر القيم التاريخية في خرائط طرق الكرد، في التعلم واستنباط الدروس المفيدة منها.
الحكاية المصوَّرة في ملحمة كلكامش، هي حكاية ولادة المَلَكية، وبالتالي الدولة. وباعتبارها الملحمة الأولى، فهي المصدر الأساسي القدوة. وبالإمكان القول أن الآثار التاريخية العظيمة قد حذت حذو هذا الأثر، بدءاً من "إلياذة" هوميروس وحتى "آينيسا" فيرغيليوس" ومن ملاحم المَلك أرتخور وحتى "الكوميديا الإلهية" لدانتيه. والله أعلم كم هي الملاحم الشهيرة البارزة في الثورة الزراعية الكبرى الأولى، والتي لم يتم تدوينها. يمكننا مصادفتها على شكل بقايا أثرية من خلال السرود المدوَّنة لدى السومريين والحثيين والإيونيين. كما بمقدورنا الإحساس بها من خلال ضوابط الموسيقا وآلاتها السائرة حتى يومنا هذا. إن القسم الأعظمي منها يصور ثقافة العشيرة. ولا يزال الشبه ضارباً للنظر بين قيم العشيرة الحية، والآثار الموجودة لدى السومريين.
لقد سردنا هذا التجوال التاريخي المقتضب بغرض التعرف عن كثب على النظام الاجتماعي الجديد. فقد اقتفينا أثر المجتمع الدولتي عبر التاريخ أيضاً، ولاحظنا كيف وُلِدَت مؤسسة الدولة والمدينة بشكل متداخل حول قوة المعبد الكبرى. وصار بالإمكان، من خلال المثال السومري، إعطاء تعريف للدين، أصح من ذاك الذي أفادت به الماركسية بأنه مؤسسة البنية الفوقية التي صوَّرت النظام الاقتصادي فيما بعد كبنية تحتية. فالمعبد بحد ذاته هو ساحة خلق مصطلحات الإله (الطابق العلوي للزقورة إلهي، والطابق السفلي بشري وإنتاجي) من ناحية، ومركز الإنتاج الاقتصادي من ناحية أخرى. فالطابق العلوي مؤلَّف من مجمَّع الآلهة، في حين أن الطابق السفلي معبَّأ بأدوات الإنتاج ومخزوناته. ويلعب دوراً أساسياً كمركز للذهنية الجديدة والإنتاج المادي في عهد الولادة. والمعطيات التي بحوزتنا تدل على صحة هذه المعالجة بكل جلاء.
علينا ألا نغفل عن أن مؤسِّس المعبد هو الراهب الشخص. حتى هذه الظاهرة تشير إلى أن الإنتاج أيضاً تضمَّن الذهنية أولاً في ثورة بنيته التحتية، بقدر ما هي عليه المدينة والدولة. فالمعبد مؤسسة تعتمد الذهنية أساساً. أي البراديغما الأساسية. وما هو ملفت للنظر أن الزقورات (المعابد السومرية) تحمل بين طياتها نموذجاً مصغراً عن المدينة التي ستتطور لاحقاً، باعتبارها مراكز نظرية وسياسية من جهة، وتقنية واقتصادية من الجهة الأخرى.
الزقورات بذرة المدينة والدولة. ففيها تتركب منافع المجتمع الهرمي، في عقل الراهب الذي يؤلف نموذجاً نظرياً لإحراز تطورات أعظم وأشمل، ليُدخِله حيز التنفيذ على أرض الواقع عبر الوسائل العملية الجاهزة. تتولد مدينة من المعبد، وحضارة من المدينة، ودولة من الحضارة، وإمبراطورية من الدولة، وعالَم بأكمله من الإمبراطورية. فهل ثمة معجزة أعظم من هذه؟! لم تُسَمَّ هذه الأراضي بـ"ديار المعجزات" هباء وعبثاً. التاريخ أيضاً يدوِّن أن الملوك الأوائل للمجتمع السومري، ترجع أصولهم إلى الرهبان. ومن المحال انتظار ورود نظرة أخرى في نظامنا التصوري. يُحَد من نطاق طاقة الراهب – المَلك الكامنة كلما تمأسست الدولة وطورت بيروقراطيتها. وتبرز السياسة، أي مشاكل إدارة شؤون المدينة المتعاظمة، إلى الأمام. وتحصل المستجدات بالانتقال من النوعية المقدسة للدولة نحو نوعيتها الدنيوية اللامبالية بالدين. فبينما ينهمك الراهب في الأعمال النظرية بالأغلب، ينشغل العنصر السياسي بالأشغال العملية. هذا الوضع المشحون بالتداخل الكثيف، سيُبرِز السياسي إلى المقدمة مع الزمن. فالمدينة المتعاظمة تعني سياسياً متعاظماً. وفي الخطوة اللاحقة، وخاصة عندما يكتسب الأمن الخارجي للمدينة أهميته؛ يبرز دور المسؤول العسكري إلى المقدمة. هكذا تغدو المَلكية مقتاتة من هذه المنابع الثلاثة. وثلاثتها تعتمد الألوهية أساساً. وما تطوَّر من حينها حتى الآن، ليس سوى تكاثر هذا النموذج، مع قليل من التعديل والتنويع. الخلية النواة للدولة هي المعبد. وما بعده تأتي الخلايا الجديدة والنسج والأعضاء والأجهزة والأنظمة. تماماً كالإنسان.
محصلة الكلام، كل هذا الكيان يعبِّر عن الدولة كبنية فوقية. تُشبَّه الدولة في الميثولوجيا، على الصعيد المؤسساتي، بالعرش الذهبي. ويتربع عليها الملوك كآلهة خالدة، ليفصلوا أنسابهم (طبقاتهم) عن بقية البشر، وكأنهم لن يغادروا هذه الحياة أبداً. يعلنون عن خلود أنسابهم، بما أنهم يواصلون شؤون الإدارة كسلالة. هكذا يعتلي الملوك القمم العليا في التاريخ كآلهة خالدة أبدية. الجانب الغريب في الأمر هو مشاهدتنا لبوادر كل الانقسامات اللاحقة من هذا الانقسام الاجتماعي بالذات. هكذا تظهر الأديان التوحيدية والأداب أولاً، وكافة الفنون والسياسات والانطلاقات الأصلية الأخرى، كمحطات أساسية في المسار؛ لتبرز على صحن التاريخ. وإذا ما تفحصنا منبع سلطة الدولة بإمعان، سندرك على نحو أفضل لماذا تتسم هي بالسيرورة الدائمة، ولماذا وجب أن تكون على نحو غامض مبهم.
شكَّل التضاد مع المجتمع المشاعي، نفسَه كمجتمع فوقي، في النظام التاريخي الجديد للمجتمع، وعظّم من عمقه ونقاط اختلافه. السؤال المصيري بالنسبة لموضوعنا هو: هل هذا التشكل ضرورة اضطرارية أم لا؟ هناك الكثير من النظريات الاجتماعية تَعتَبر ولادة المجتمع الطبقي شرطاً أولياً للتقدم. لكن، بالمستطاع تحليل الأجوبة الأقرب إلينا، عبر التمعن في ديناميكيات التطور. ففائض الإنتاج وعمليات الري المتطورة في أطراف المعبد، تربط الإنسان بالإنتاج أكثر فأكثر. والشروط مساعدة كي يعمل آلاف الأشخاص بعطاء أوفر. كذلك فضخامة أقنية الري، اتساع الأراضي ورحابتها، تصنيع الأدوات الحديدية من البرونز، والقنوات والسفن البحرية؛ كل ذلك يساعد على الإنتاج والتجارة بأبعاد شاسعة. واتحاد كل هذه العوامل يعني بدوره توطُّد المدينة.
كانت إدارات الرهبان في بداياتها شديدة القرب من الشيوعية البدائية. من هنا نستخلص أنها لا تستوجب بالضرورة دولة المدينة. حيث ستتشكل الدولة بطغيان الطابع السياسي والعسكري أساساً. السبب في ذلك هو مصاعب إدارة شؤون المدينة من جانب، وجعل الجماعات القبلية في البراري والجبال، من أمن المدينة وحمايتها، مشكلة هامة تفرض ذاتها من الجانب الآخر. هل يمكن ترسيخ شؤون الإدارة والأمن، بالنسبة لمجتمع ما، دون وجود شكل الدولة؟ يلاحَظ قدرة العديد من المدن – خاصة مثال أثينا – على إبدائها ممارسات عملية مظفرة بهذا الشأن، عبر الدفاع الذاتي؛ لا بالدولة، بل بالإدارة الديمقراطية. يصادَف هذا النموذج في بدايات نشوء المجتمع السومري. فبينما تتشكل الإدارة من المجلس المؤلف من زعماء القبائل البارزين، تتشكل بالمقابل مجموعات الحماية من شبان المدينة اليافعين، عندما تدعو الضرورة. ويُنتَخَب مسؤول عنهم حسب احتياجات المهام. نرى هذا التطور الحاصل بشكل مرئي وأكثر انتظاماً في مجتمع أثينا.
إذن، والحال هذه، لا يتوافق وضع ولادة الدولة في أساس التاريخ، كضرورة لا بد منها، مع الظواهر الواقعة. التعريف الأصح للدولة هو اعتبارها أداة إدارية وقمعية، وأداة للاستيلاء على إمكانيات فائض الإنتاج بالأرجح. وهي حينما تفعل ذلك، إنما تستخدم مسائل الإدارة العامة والأمن العام كأداة تمويه وترقية وتعزيز. وبما أنه من السهولة بمكان تأمين الإدارة العامة – المصالح المشتركة للمجتمع – والأمن العام عبر المجلس الديمقراطي؛ فإن التثبيت الهام الذي يواجهنا هنا هو النظر إلى مسألة استغلال هذه الفرصة بعين الاستيلاء والثورة المضادة، أكثر منه ضرورة لا غنى عنها. بالمقابل، فتعريف القوة الفارضة نفسها بالتذرع بأعمال الأمن والمصالح المشتركة للمدينة – والتي يمكن تلبيتها عبر الديمقراطية – بأنها قوة متزمتة ومستبدة ومستأسدة؛ إنما هو تعريف واقعي. حتى في راهننا، لا يذهب الساسة وقوى الأمن – الفائضون عن الحاجة – أبعد من اكتساب الخصائص الاستبدادية، نظراً لبطالتهم. من الجوهري تقييم هذه القوة بالعبء الزائد عن الحاجة، والمتربع على القيمة الزائدة. والمجريات الحاصلة في بداياتها ليست مختلفة كثيراً عن ذلك من حيث المضمون.
لكن المتعاظم على مر التاريخ لم يكن قوة الإدارة الديمقراطية، بل إدارة القوة الاستبدادية. وكل خطوة طورت الدولة كتراكم للقوة الاستبدادية، ناهيك عن كونها ضرورة لا بد منها للتطور؛ إنما تعبِّر عن فحوى التطورات الأكثر رجعية وتزمتاً وتحريفاً وتضليلاً في التاريخ. والنظر إلى السلطة والحرب بمعناهما الضيق على أنهما الشغف والهوس والعقل والإرادة الأساس لهذه التقاليد التي موَّهَت نفسها بحذاقة داخل الدولة؛ إنما هو تقرب هام وواقعي إلى أبعد الحدود. بهذا المعنى، يستلزم فصل فن السياسة والعسكرتارية عن ظاهرة الإدارة العامة والأمن العام. وكل من يتسم بحدس علمي وعملي، لا يمكنه التغاضي عن هذا الفصل بتاتاً. فالنتائج الناجمة عن عدم الفصل هذا في تحليلات الدولة، سلبية إلى أقصاها. بمعنى آخر، فالفصل بين الإدارة الديمقراطية والإدارة الاستبدادية (إدارة المصالح المزاجية والفردية) بأبعادهما النظرية والعملية على السواء؛ يجب أن يكون الأرضية الأس لتوجهاتنا التاريخية.
تتجسد الظاهرة السياسية الأولية داخل أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، في التناحر والتنافر الموجودين بين العضو الديمقراطي وبين الجناح الخفي للحرب والسلطة. إذ ثمة صراع دائمي بين العناصر الديمقراطية المعتمدة على كيفية وجود المجتمع (المشاعية) من جهة، ومجموعة الحرب والسلطة المتقمصة قناع الهرمية والدولة من الجهة الأخرى. من هنا، فالقوة المحركة للتاريخ ليست الصراع الطبقي، بل هي الصراع الكامن بين شكل وجود الديموس (الشعب demos) المتضمنة للصراع الطبقي، وبين جناح السلطة القتالية (الخفي) الساعية لتغذية ذاتها بالتحامل على ذاك الشكل. أما اكتساب الذهنية، خلق النفوذ وبسطه، النظام الاجتماعي، والوسائل الاقتصادية؛ فتُحدَّد جميعها وفاقاً لمستوى الصراع الناشب بين هاتين القوتين. وارتباطاً بمستوى الصراع ذاك، تبرز أمامنا ثلاث مستويّات متداخلة بالأغلب على مر التاريخ:
المستويّة الأولى هي حالة الفشل الذريع لجناح السلطة القتالية. فالفاتحون المدَّعون بأن انتصاراتهم العسكرية المبهرة حوادث تاريخية عظمى، وفرضهم إياها على هذه الشاكلة؛ إنما فرضوا نظاماً استعبادياً تاماً. وكل البشر، كل الأشياء يجب أن تكون في دائرة قوة القانون، مؤتمرة بإمرة مجموعة السلطة القتالية. لا مكان للاعتراض أو المعارضة. بل ولا يمكن التفكير بمناقضة الشكل المصوَّر المهيمن، حتى على الصعيد الذهني. فكيفما يُفرَض عليك، ستفكر وتعمل، وتموت! الأساس هنا هو النظام المهيمن الذي لا بديل له. تندرج كافة الممارسات التوتاليتارية، وبالأخص الإمبراطورية والفاشية، ضمن هذا المثال. والمونارشية المَلَكية أيضاً تهدف إلى هذا النظام. إنه أحد النظم الأكثر شيوعاً في التاريخ.
المستويّة الثانية، والمناقضة تماماً للأولى، هي نظام الحياة الحرة لمجتمع الجماعات المؤلفة من الشعوب والكلانات والقبائل والعشائر، المتسمة بلغاتها وثقافاتها المتشابهة، والمناهِضة لأوليغارشية السلطة القتالية المتقمصة لستار الهرمية والدولة. إنه نظام يعبِّر عن سلوك الشعب المقاوِم، الذي لم يُغلَب. كل أنواع الإثنيات المتواجدة في قلب الصحارى والجبال والأدغال، تقاوم الهجمات المحدقة بها. وكل المجموعات الدينية والفلسفية غير المرتكزة إلى الأوليغارشية، تمثل في الأساس شكل الحياة الاجتماعي ذاك. تتشكل القوة الأس للصراع الاجتماعي في سبيل الحرية والمساواة من الحياة المقاوِمة، ذات الذكاء العاطفي الذي يغلب عليه الجانب الفيزيائي الطبيعي للإثنيات من جهة، ومن الحياة المقاوِمة التي يطغى عليها الذكاء التحليلي للمجموعات الدينية والفلسفية من جهة ثانية. والتدفق الحر للتاريخ ليس سوى محصلة لحياة المقاومة. غالباً ما ترتبط المصطلحات والظواهر الهامة في المجتمع، من قبيل الفكر المبدع، الشرف والكرامة، العدالة، الفلسفة الإنسانية المثالية، الأخلاقية، الجمالية، والحب والود؛ بهذا الشكل من الحياة.
المستويّة الثالثة في نظام المجتمع هي طراز النظام المسمى بحالة "السلم والاستقرار". تتواجد في هذه المستويّة حالة من التوازن الذي تشكله كلتا القوتين فيما بينهما على مختلف المستويات. فحالة الحروب والاشتباكات والتوترات الدائمة، تُقحِم إمكانية سيرورة المجتمع في المخاطر. وقد لا ترى الأطراف المعنية في حالة المخاطر والحروب الدائمة ما يناسب مصالحها بشكل متبادل. فتتوجه فيما بينها نحو الوفاق بموجب معاهدة "السلم والاستقرار"، من خلال مختلف أنواع الاتفاقات المجمَع عليها. هكذا يسود الوفاق والتحالف، كشرط لا مفر منه، انطلاقاً من الشروط القائمة، وإن لم يكن حسب المستوّية التي يطمح إليها كل من الطرفين المعنيَّين. ويُدار الوضع على هذا المنوال حتى اندلاع حرب جديدة. إن النظام المسمى بالسلم والاستقرار يفيد أصلاً بحالة شبه الحرب بين قوة السلطة القتالية، وبين مقاوَمة الشعب وقوته غير المهزومة كلياً، والتي تقبع في قعر ذاك النظام.
من الأصح نعت حالة التوازن في ثنائية الحرب – السلم بـ"شبه الحرب".
أما المستويّة الرابعة الخالية من مشكلة "الحرب – السلم"، فلا تتكون إلا بزوال الشروط التي أبرزت الطرفين إلى الوسط. يمكن أن يتحقق السلم الدائمي في المجتمع المشاعي الناضج الذي، إما أنه لم يشهد مثل تلك الشروط والظروف أبداً، أو أنه تجاوز نظام ثنائية "الحرب – السلم" عبر نظام المجتمع الطبيعي المشاعي البدائي. في الحقيقة، لا مكان لمصطلحات من قبيل "الحرب، السلم" في مثل هذا المجتمع. فالنظام الذي تغيب فيه ظواهر الحرب والسلم، لا مكان لأفكارها ومصطلحاتها فيه. لدى سريان مفعول أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، يشهد التاريخ المستويّات الثلاث فيما بينها بشكل مختل ومضطرب. حيث لا يمكن لأي مستويّة بمفردها أن تكون فاعلة كنظام تاريخي بحد ذاته. وحينها، بالأصل، لا يكون التاريخ.
لنفكر في مستويّة "الهيمنة المطلقة" ومستويّة "الحرية والمساواة المطلقتَين" كنقطتَي ذروة، ولننظر إليهما كمستوى مثالي واصطلاحي بالأرجح. سنشهد حينها أن كلتا الذروتين لا يمكن أن تنشطا كلياً، في أي وقت من الأوقات، في حالة توازن المجتمع؛ مثلما هي في وضعية التوازن الطبيعي. فالمطلقية لا يمكن أن تسري في مضمون الطبيعة، إلا على المستوى الاصطلاحي، وفي غضون زمان ومكان محدودَين للغاية. وإلا، ففي حال العكس، لا يمكن أن يحيا النظام الكوني. إذا ما تخيلنا غياب مصطلحَي "التوازن" و"التناسق"، لرأينا أنه لا بد حينها من نهاية الكون بتدفقه الأحادي الجانب. وبما أن نهاية كهذه لم تتحقق، فهذا ما مؤداه أن "المطلقية" تواجدت في التفكير فحسب، وأنها غير دارجة في عالَم الظواهر. إن التدفق المستمر للثنائيات الجدلية القريبة من حالة التوازن، إما بزيادة غناها ووفرتها أو فقرها وجدبها؛ تشكل لغة ومنطق النظام الكوني، بما فيه المجتمع.
إن وضعية النظام المجتمعي الشائعة والمقبولة والمعقدة، هي وضعية "السلم والاستقرار"، كحالة من شبه الحرب والسلم، والتي تُعتبَر المستويّة الدارجة والناشطة في العديد من التجمعات. كافة القوى، الشعبية منها والسلطوية القتالية، تسعى بنضالاتها الأيديولوجية والعملية الدائمة، إلى تسخير هذه الوضعية لصالحها بالأغلب؛ لتُطَوِّر بذلك من وضعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والفنية والذهنية. والحرب هي الحالة الأكثر حرجاً وتوتراً في هذه المرحلة. تُفرَض الحرب أساساً من قِبَل السلطة القتالية. ذلك أنها تنفرد لذاتها بالمدخرات والتراكمات الموجودة في حوزة الشعب، عبر هذه الطريق المختزلة، باعتبارها – المدخرات – دافع وجودها وسببه. في حين أن الشعوب والطبقات ترد مرغمة على هذه الممارسات النهّابة بحرب المقاومة، كي تعيش وتصون وجودها. أي أن الحروب ليست من خيارات الشعوب، بل هي حالات إرغامية واضطرارية، تلجأ إليها لصون وجودها ومستويات حياتها الحرة وكرامتها وعزتها.
إن النظر إلى وضع الديمقراطية في الأنظمة التاريخية ضمن هذا الإطار، يلقننا دروساً تعليمية مهمة. كل بحوثات التاريخ المهيمن الموجودة حتى يومنا الراهن، هي من ترتيب براديغمائية مجموعة السلطة القتالية أساساً. حيث عُلِّقَت مقبضة الحرب المقدسة على كل أسفار المجازر، وبكل سهولة، بغرض النهب والسلب والغنائم الكبرى. وطُوِّرت مفاهيم "الإله الآمر بالحرب". وسُرِدَت الحروب كأبهى الظواهر وأعظمها. وساد موقف، وكأن كل شيء مستَحَق بالحروب؛ ليصير إلى يومنا هذا. بإيجاز، كل ما يُحظى به بالحرب مستحَق. إن ترسيخ مفهوم الحق والحقوق في أساس الحرب، هو ضرب من طرازات الوجود المهيمن للدول. بالتالي، غدا منطق "حقك بقدر حربك" أسلوباً عاماً متَّبَعاً. هذه الذهنية التي تفيد بأن "الباحث عن الحق فليحاربْ من أجله"، هي صُلب "فلسفة الحرب". قطعت هذه الذهنية أشواطاً ملحوظة من الرقي في كافة المدارس الدينية والفلسفية والفنية، لتبلغ نقطة نُعِتَت فيها عمليات حفنة من النهّابين المغتصِبين بأنها "العملية الأقدس على الإطلاق". وأضحت البطولة والقدسية عنواناً لعمليات النهب تلك. هكذا نُظِر إلى الحروب كأداة حل لجميع المشاكل الاجتماعية، بعد السمو بها إلى منزلة المفهوم المهيمن. وقُيِّد المجتمع بمفهوم أخلاقي كهذا، وكأن الحلول خارج نطاق الحرب مستحيلة، وحتى إن أمكنت فهي غير مجدية! المحصلة، العنف أسمى وسائل الحرب وأقدسها!
بدون تحطيم مفهوم التاريخ هذا، من العصيب تناول الظاهرة الاجتماعية بعين واقعية، أو البحث عن حلول لمشاكلها خارج دائرة الحرب. إن عدم صون أكثر الأيديولوجيات اتساماً بالسلم نفسَها من الحرب، يدل على مدى قوة هذه الذهنية. والبرهان الآخر على هذه الحقيقة هو عدم صون الأديان الكبرى المتطلعة دائماً إلى السلام, والحركات الطبقية والوطنية المعاصرة – أيضاً – نفسَها من الانجرار وراء الحرب حسب أساليب جناح السلطة القتالية.
السبيل الأكثر تأثيراً للتغلب على عقلية السلطة القتالية، هي بلوغ الشعوب أنموذج السلوك الديمقراطي. إننا لا نتكلم في هذا المصطلح عن مفهوم "العين بالعين والسن بالسن". فالحالة الديمقراطية، وإن امتلكت نظاماً دفاعياً يتضمن العنف، تعني بالأساس اكتساب ثقافة تكوين الذات بحرية؛ وبالذات عبر الصراع مع الذهنية الحاكمة. إننا نتطرق إلى موقف أبعد بكثير من حروب المقاومة والدفاع. إنه التعمق في مفهوم حياة غير متمحورة حول الدولة، وإدراجه حيز التنفيذ. فانتظار كل شيء من الدولة، أشبه بالتعلق بصنارة جناح السلطة القتالية. قد تمنحك طُعماً، ولكنْ بغرض اصطيادك، لا غير.
الخطوة الديمقراطية الأولى هي تنوير الشعوب في موضوع الدولة. والخطوات اللاحقة لها هي التنظيم الديمقراطي الشامل والعمليات المدنية. لا تُطرَح حروب الدفاع الديمقراطي في الميدان ضمن هذا الإطار، إلا عند الضرورة. أما الحرب دون خطو الخطوات الأولى، فتؤول في النهاية إلى التحول إلى آلة بيد حرب النهب والسلب؛ مثلما شوهد في الكثير من الأمثلة عبر التاريخ.
أحد أهم أهدافنا في التحليلات هو مرحلة تطور الوجود الديمقراطي ضمن سياق التاريخ. فنضال الدمقرطة الصحيح ممكن بالمفهوم التاريخي الصائب.
كنا قد نوهنا سابقاً إلى الوجود المجتمعي، الذي سعينا لتعريفه حتى المثال السومري، وتَقَمُّصه سمات متناقضة مع تداخُل ظواهر الهرمية والطبقية والمدينة والدولة. إنه مجتمع مختلِف كل الاختلاف، بدءاً من الاقتصاد وحتى الذهنية والخِصال. لقد برز جناح ملتحف بستار آلة الدولة، ومطوِّر نظامها عبر العنف والحروب الدائمة، بحيث جعل من الاستيلاء على الغنى الوفير المتراكم في الداخل والخارج فناً سياسياً أساسياً له. علاوة على أنه اعتمد أساساً على إقناع كافة شرائح المجتمع المعنية بأنه نظام إلهي راسخ من الأزل إلى الأبد، عبر ابتداعاته الذهنية والأدبية (الميثولوجيا) المقدِّسة للحرب. لكننا نلاحظ بوادر الاعتراض والمقاومة تجاه هذا النظام السائر بحالته النقية حتى الفترة المتراوحة بين (4000 – 2000ق.م). فمجالس المدن المؤلفة من الأعضاء البارزين في القبائل، أصرت على مواقفها الديمقراطية في بداية الأمر. حيث لم تتخلَّ بسهولة عن السلوك الديمقراطي إزاء جناح الراهب – المَلك – المسؤول العسكري. واحتملوا معاً مدة طويلة ضمن نظام مختلط من ثنائية الدولة – الديمقراطية. ومع الزمن يُسخَّر الكثير من الأشخاص كموظفين أو جنود أو عبيد عاملين داخل الإدارة أو داخل حياة المدينة الغنية والأكثر ملاءمة؛ حيث أُتي بهم إما من الخارج – نستذكر هنا أنكيدو (النائب المقرَّب إلى كلكامش) في ملحمة كلكامش، والمكتَسَب عن طريق المرأة. إنه أول مثال لعمالة المرأة – أو من الداخل، من الأناس المنقطعين، أو المقطوعين، من قبائلهم. لكن هذه التطورات تُفسِد توازن "الدولة – الديمقراطية" المعتمد على القبائل؛ لتنهيه على حساب مجلس المدينة، وتتم تصفيته وإفناؤه مع تقدم هذه المرحلة. تصادَف مثل هذه التطورات في العديد العديد من فترات تشكُّل الدول الحديثة العهد.
لقد انتهى الصراع في الداخل بهزيمة قوى الديمقراطية. رغم ذلك، لا يمكن تصفية توازن القبيلة داخل الدولة بشكل تام في أي وقت من الأوقات، حيث يصون وجوده ضمنها بنِسَب مختلفة. مقابل ذلك، يُطوَّق نظام المجتمع الدولتي بضغوطات كبرى من الخارج. إنها شروع حركة البدو الرحَّل في الحركة تجاه المستوطِنين. من المهم بمكان النظر بتكامل دياليكتيكي إلى هذه الحركات المنوَّه إليها بكثرة في الآداب الهيلينية والرومانية تحت اسم حركة "البرابرة". يُزيد المجتمع الاستيطاني على الدوام من استثمار كدح العبيد داخل المدينة، ومن الغنى في الخارج، عبر التجارة والقمع المختلَّين. إنه بذاته مَن يخلق التناقض. تماماً كتصنيف "الإمبريالية – البلدان المتخلفة" القائم في يومنا الراهن. إن المعتدي البربري هو المدينة، لا البدو الرحّل. لكن، كم هو مؤسف، وبسبب طغيان المدينة على نظامنا الاصطلاحي؛ أن تنعت المدينة نفسها بـ"المدنية، الحضرية"، بينما تصف من هو خارجها بالوحشيين، وتصرخ: إنهم "البرابرة"؛ وتكتسب المدينة بالتالي مشروعيتها.
بالإمكان تشبيه الحركة الكبرى للرحّل تجاه المدينة، بالحركات الوطنية الديمقراطية الراهنة. فبما أن شكل المجتمع البدوي يتألف من مختلف مراحل الإثنية، سيكون بالمقدور تناول الحركات التي خلقها بأنها – مضموناً – مقاومة وموقف وشكل وجود ديمقراطي. بيد أنه من الضروري البحث بكل دقة وعناية في مسألة "مَن اعتدى على مَن؟". فبما أن دولة المدينة (ومن بعدها الإمبراطورية)، صاحبة وسائل العنف والاستعمار والاستغلال الأقوى، هي التي اعتمدت التعاظم والاستيطان والتوسع أساساً؛ فالمعتدي إذاً، وموضوعياً، هو دولة المدينة بالذات. في حين يمكن نعت حالة الإثنية بالدفاع والمقاومة المناقضة لسالفتها كلياً. بمعنى آخر، يمكن تناول حالتها كمرحلة لحركة الحرية الأولى، تجاه الاستعباد الأول.
لقد بقي المجتمع السومري، وربما منذ تأسسه (المؤسسون أيضاً كانوا أتوا من الطريق ذاتها)، وجهاً لوجه أمام القبائل ذات الأصول الآرية القادمة من الجبال شمالاً وشرقاً من جهة، وأمام القبائل العمورية – ومن ثم العربية – ذات الأصول الساميّة القادمة من الصحارى جنوباً وغرباً من الجهة الثانية. بدأ نسج الأسوار وبناء القلاع المحصنة حول المدن في هذه المرحلة. واستمرت موجة من الاعتداءات والاعتداءات المضادة التي لا تعرف السكون أو الخمود، طيلة قرون مديدة. يبرز التاريخ من الحضارات المتطورة من هذه الثنائية الجدلية الأولى والأكبر على الإطلاق، ومن قوة الإثنيات المتعززة. ونرى أن هذه الثنائية المذهلة الناشئة والمستمرة حتى الآن على أرض العراق (بشكل مرئي)، قد تشكلت في الجماعات اللغوية والإثنية الأولى، ضمن الثورة الزراعية ومجتمعها الناشئ حوالي أعوام الألف العاشر (10000ق.م) قبل الميلاد، في أحشاء الثقافة الشرق أوسطية. نصادف أن الإثنية قد تغلفّت وتحصّنت جيداً مع حلول أعوام (4000ق.م)، لتعكس ذاتها في ثقافتها ولغتها الخاصة بها. بمستطاعنا التخمين بأن الحركة الإثنية كانت في صراعات ونزاعات متتالية، قبل ثورة المدينة، بغرض الاستحواذ على الأراضي الخصيبة والمعادن وموارد الحجر. وبينما برزت مجموعة الثقافة الآرية إلى المقدمة في سلسلة جبال طوروس وزاغروس، نرى في البلاد العربية – التي كانت أكثر ملاءمة آنذاك – بروز مجموعة الثقافة الساميّة إلى الأمام. والتّماسّ الحاصل بين هاتين المجموعتين الثقافيتين على تخوم الجبال والصحارى، تمخض عن أنظمة مزيجة، كالسومريين والعبريين والهيكسوسيين على سبيل المثال. أما العرب والكرد، فاستمروا في مواصلة وجودهم كمجموعتين شعبيتين جذريتين للثقافتين الساميّة والآرية. واضطرت الكثير من الجماعات الثقافية اللاحقة للانصهار والذوبان في بوتقة هاتين المجموعتين النواة. ونجد أن القوى المعنية بالعلاقات والتناقضات الكردية – العربية التي لا تزال قائمة في العراق اليوم، تسعى لتأسيس دولتين ثقافيتين مختلفتين، بنظام وترتيب ربما يماثل ما كان عليه أيام تأسيس دولة للسومريين.
يَعرِف السومريون كل المعرفة الجماعاتِ الساميّة الآتية من الجنوب والغرب، والآريين القادمين من الشمال والشرق. حيث نصادف إشارتهم إلى هاتين المجموعتين بكثرة في آدابهم وميثولوجياتهم. نستخلص هنا بطريق غير مباشرة، معرفتهم اليقينة لتلك الثقافتين. تشهد المرحلة المستمرة حتى غزو الإسكندر الكبير لبابل واحتلاله إياها في أعوام 330ق.م، انتشار الحضارة السومرية المدينية الأقوى آنذاك، داخل هاتين المجموعتين الثقافيتين، على نحو أساسي. بمعنى من المعاني، يتشكل التاريخ عبر التطور الدياليكتيكي الحاصل بين الاستيطانيين من تلك المجموعتين الثقافيتين من جهة، وبين البدو الرحّل منها من جهة أخرى. وتنتشر الاكتشافات والاختراعات على موجات متوالية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ومن براري الصحراء الكبرى إلى تخوم سيبيريا. وبقدر ما تُصدَّر حضارة المدينة صوب الخارج، يُستورَد المجتمع البدوي نحو الداخل. لهذا السبب بالذات، فالتقربات التاريخية المهمِّشة للبداوة والداحضة إياها، والمرتكزة فقط إلى المستوطِنين في المدينة؛ إنما تتضمن نواقص لا يستهان بها. وفي مرحلة الحضارة المستقرة يتماشى الموقف الديمقراطي مع تطور الدولة ويحاكيها فيه.
ومثلما سنتداول بشمولية في الفصل اللاحق؛ يتميز الاستيعاب الصحيح للعلاقة الكامنة بين الديمقراطية وظاهرة الدولة بأهمية قصوى. فالديمقراطية هي طراز إدارة الذات للشعب غير المتدوِّل، بل والمناهِض للتدوُّل. له علاقاته مع الدولة، ولكنه لا يذوب في هذه العلاقات، ولا ينكر ذاته بتاتاً. تتصدر مسألة الحدود الفاصلة بين الدولة والديمقراطية، قائمة المشاكل السياسية الأكثر حرجاً وحساسية. إن تعريف النقطة البينية التي لا تهمِّش فيها الدولةُ الديمقراطيةَ، ولا الديمقراطيةُ الدولةَ، هو أساس "السلم والاستقرار". فإنكار إحداهما للأخرى يعني الحرب. من هنا، فالكثير من المفاهيم المعاصرة التي ترى في الديمقراطية امتداداً أو غطاءً للدولة؛ إنما تسير وراء دراسات وتثبيتات خاطئة إلى أبعد الحدود.
إذن، والحال هذه، قد يُسأل "أين الديمقراطية في التاريخ؟". بالإمكان الرد على هذا السؤال بأنها موجودة أولاً في المقاومة والمواقف والسلوكيات التي اتبعتها الإثنية تجاه الدولة والحضارة، بغرض صون سماتها المشاعية والحفاظ على حريتها. وعجزُ السوسيولوجيين عن تحديد هذه الحقيقة، منوط بنضوجهم آلاف المرات داخل بوتقة ثقافة المدينة. فالعلماء هم الرهبان الحديثون للبورجوازية. وهم أكثر بكثير مما يُتَصوَّر. فهم متشبثون بقيم المدينة كالتشبث بالكتاب المقدس.
ما دام كيان الإثنية لم ينهزم، يمكننا تعريفه بأنه شبه ديمقراطية. هذا ويجب علاوة صفة "البدائية" عليه. أي، الإثنية ديمقراطية بدائية. فالالتزام بالقيم المشاعية في الداخل، ومقاومة الدولة الاستبدادية في الخارج، يحث مجموعات الشعب على سلوك علاقات ديمقراطية حرة ومتساوية. وبدون هذه السمات للعلاقات، لا يبقى أي معنى للمقاومة. ثمة خطأ فادح يُرتَكَب لدى تعريف الدمقرطة في الشرق الأوسط؛ وكأن الإثنية حجر عثرة أمام الديمقراطية.
إن الديمقراطية المرتكزة إلى الفرد في الحضارة الغربية، لا تفي بتحديد التعريف لوحدها. فإسناد الديمقراطية إلى الفرد فحسب، يحتوي أخطاء حقيقية، بقدر إسنادها إلى الدولة فحسب. الجماعة والفرد الحر في المجتمع هما من دواعي التعددية الديمقراطية. فمفهوم الأفراد المتماثلين والجماعات المتطابقة، لا هو ضروري من أجل الديمقراطيات، ولا هو ضمان لها. إن الامتياز والميزة الأساسية التي تتميز بها الديمقراطيات، هي بلوغ تركيبات (جميعات) جديدة بصون التعددية.
إن النظر إلى الجماعات الإثنية على أنها امتياز تتميز به الديمقراطية، منوط بتطبيقها العملي بحق. إذا اعتَبرَت إدارة الدولة أن اصطياد الأصوات وعمليات التصويت بموجب معاييرها هو سباق ديمقراطي؛ فالنظام الذي سينمّ عنها هو الديماغوجية. من المهم بمكان النظر إلى غنى الإثنية على أنه فرصة وحظ وفير للديمقراطية. والانطلاق من الفرد الحر يخدم الديمقراطية أكثر.
يندرج توحيد مواقف الشعب الهاضمة لثقافة المقاومة على مر آلاف السنين مع المقاييس الديمقراطية المعاصرة، ضمن أعمال الساسة الديمقراطيين اليومية. والخطأ يكمن في رؤية الطاقة الكامنة لديمقراطية المجتمع الشرق أوسطي بأنها حجر عثرة.
تجسدت صدارة قوة السلطة القتالية داخل بنية الدولة، في بداياتها، على شكل ملوك آلهة وأباطرة. وبتكاثفها يفقد الديموس، العضو الشعبي، ثقله. يُذكَر اسم سارغون، ذي الأصل العموري، في المجتمع السومري كأول إمبراطور عرفه التاريخ وشهد بسط نفوذه الممتد حتى داخل المناطق الجبلية بكل شهية ونهم. وكأنه رمز للالتزام في صمت الموت. تَفتَح هذه المرحلة المبتدئة في أعوام 1350ق.م البابَ أمام كل الإمبراطوريات التي ستحذو حذوها. فكل جديدة منها توسِّع حدود سابقتها. وإذا كان كلكامش رمز بداية المَلَكيات، فسارغون هو أب الأباطرة.
إذن، والحال هذه، سيكون تقييم كل موقف مناهض لهذه المرحلة المتعاظمة على حساب النظام المشاعي، بأنه تراكم ديمقراطي؛ أمراً في محله. فتَحَمُّل المجموعات الإثنية كل الصعاب، وكفاحها ضد المجاعة والأمراض الفتاكة والاعتداءات، ونجاحها في العيش في أجواف البراري والجبال والأدغال؛ إنما هو سلوك ديمقراطي عظيم باسم البشرية. فمَن ذا الذي كان سيصون غنى الثقافة وتعدديتها، لو لم تكن هذه المقاومات؟ وكيف كنا سنستطيع خلق الفنون الشعبية، لو لم تكن هذه الآثار الخالدة من تلك المقاومات على مر آلاف السنين؟ كيف كنا سنؤمِّن الآلاف من وسائل الإنتاج، المؤسسات الاجتماعية، الكرامة والعزة، الشغف بالحرية، وتعاضد البشر وتكاتفهم؟
لدى مرورنا من السلالة الأكادية إلى السلالات ذات الأصول البابلية والآشورية، نجد أن قوة الإمبراطورية تزايدت أكثر. كل واحدة منها تصعِّد من مستوى الخنوع، وكأنها تريد تحطيم الرقم القياسي فيه. وتسرد بكل فخر واعتزاز كيف بنت القلاع والأسوار من هياكل البشر. إذا لم ندوِّن في صفحات تاريخ الديمقراطية كافة الأزمنة التي قضتها المجموعات الشعبية في أعماق الجبال والأدغال والصحارى إزاء أسفار الإبادة تلك، والتي لا تأبه بأية حدود؛ فباسم من سندوِّنها إذن؟ وإلا، أسنتجاهلها ونعتبرها منفية؟ وهل سيجد التاريخ معناه هكذا؟ وحتى إذا وجده, أسيذهب أبعد من معاني الظلم والتَنَمُّر والغصب والسلب؟ وإذا ما حاولنا تَفَهُّم مقاومة عشيرة صغيرة الحجم، وكم غدت موضوعاً للملاحم والبطولات؛ فسندرك عندئذ، وبشكل أفضل، القيمة الديمقراطية للإثنية. إذا ما قُيِّم الإنسان الإثني بمنوال صحيح نسبة إلى الفرد "الحر" الذي خلقته الرأسمالية – حسب الزعم – وأفرغته من محتواه؛ فسنجد أنه يشكل قوة ديمقراطية تضاهي ما لدى الأخير بأضعاف مضاعفة.
تتواجد الطاقة الديمقراطية الكامنة الحقة، في المجتمعات الشرقية. من الجوهري المعرفة يقيناً أن الطاقة الديمقراطية الكامنة للمجتمع الغربي الهاضم لثقافة السلطة القتالية حتى رمقه الأخير، محدودة النطاق للغاية. والديمقراطية الموجودة فيه، ليست سوى غطاء تتدثر به الدولة التي تطغى عليها الطبقة البورجوازية المكبَّلة بألف غل وغل. وبسبب أشكال الحياة والنظريات المبتدَعة بغرض ازدراء مجتمعاتنا واستصغارنا إياها، بتنا لا نرى طاقة الديمقراطية العملاقة الكامنة في كل إنسان من أبناء شعوبنا الشرقية.
ينعت السومريون الهوريين – الشعب الأصلي ذي الجذور الآرية التي يتأتى منها شعبنا – بـ"الكورتيون = Kurti". كلمة "كور = Kur" وتعني "الجبل", و"تي = ti" ضمير متصل يدل على الانتماء. أي "شعب الجبل" (أو الجبليون). إنهم في وضعية المقاومة منذ نشوء الدولة السومرية. أما الكوتيون، الكاسيتيون، والنائيريون، فهي أسماء مختلفة مطلقة عليهم. تقاوم الدويلتان الأورارتية والميدية بأسمى آيات البسالة التي عرفها التاريخ، إزاء أباطرة الآشوريين. إن التغلب على هذه الإمبراطورية الأعتى في التاريخ، والإطاحة بها بعد حروب المقاومة التي دامت ثلاثة قرون بحالها؛ ترك أثره كعيد تحتفي به كل الشعوب، بما فيها الشعب الآشوري. فإذا لم ندوِّن هذه المقاومة في ثقافة الديمقراطية، أين سندونها إذن؟ إن كلمة "ميديا" المذكورة في مقولات "ثيسيوس" المنتمي إلى أثينا؛ هي في حقيقتها ذكرى تلك المقاومة. لا يمكن لديمقراطية أثينا، المبجَّل بها كثيراً في التاريخ، أن تتكلم عن "ميديا" المشؤومة هباء وعبثاً. فعندما شهد أبناء أثينا الديمقراطية، كانوا يَعتَبرون القرب من الميديين ضماناً أساسياً لهم. وأكثر المواضيع المتداوَلة في تاريخ هيرودوت هي الميديون.
يجب التبيان بكل صراحة أن الميديين قدموا أهم مساهماتهم في تاريخ الديمقراطية، والتي ربما لم تُكتَشَف حتى الآن، بنقلهم ثقافة المقاومة العظمى لشعوب الشرق الأوسط إلى أثينا. لم يُقِم الإسكندر المقدوني علاقات القرابة سدى مع الشعوب الميدية. إنه يدرك جيداً مكانتها في التاريخ الهيليني، ويتخذ منها قدوة. والإسكندر إمبراطور مشهور بكسحه للحضارة الشرقية كالأسطوانة الساحقة. لكنه بالمقابل يعرف كيف يتأثر بهذه الثقافة ليعيش بكل فخر واعتزاز. وقد قدمت التركيبة الثقافية الغربية – الشرقية التي كوَّنها أعظم مساهمة للديانة المسيحية، التي بدورها قدمت أعظم مساهماتها للحضارة الغربية. هذا ما مؤداه أن قنوات الإمبراطورية لا تخدم قوة السلطة القتالية فحسب، بل تتسرب ثقافات مقاومات الشعوب أيضاً من هذه القنوات. إنها تكتب تاريخ ديمقراطية الشعوب.
ربما كانت الإمبراطورية الرومانية الممثل الأقوى والأكثر تعزيزاً لثقافة السلطة القتالية. حيث أبرزت أعنفَ الأباطرة وأظلمهم، ونظمَت أفظع أشكال القتل إزاء البشرية، من قبيل الصَّلب، الإطعام لقمة سائغة للأسد. لكن، أَوَليست ثقافة الشرق الديمقراطية هي التي ابتدأت بحركاتها الإنسانية العظيمة وبحركات الفقراء إزاء هذه القوة؟ أوَليس سيدنا عيسى بذاته مَن ابتدأ بنقطة الصفر لميلاد تقاليد النبوة؟ إذن، والحال هذه، لا يمكننا إهمال تقاليد النبوة بجانبها الديمقراطي.
بينما نشط المجتمع البدوي كقوة هجوم ودفاع خارجية بالأغلب تجاه قوة السلطة القتالية، لعبت القوة، التي يمكننا تسميتها بتقاليد النبوة والرهبانية، دورها في خدمة قناة تطلعات الفقراء للمقاومة من الداخل. إنها حركة ذات طابع طبقي. برزت هذه التقاليد، التي ترجع في مصدرها إلى الثقافة الشرق أوسطية، من المجتمع السومري – مرة أخرى – مثلما هي حال الكثير من البدايات الأخرى. يمكننا مصادفة الآثار المتعلقة بسيدنا آدم (النبي الأول) وطرده من الجنة، في الثقافة السومرية. بالمقدور التخمين أن رفض كل من آدم وزوجته حواء الامتثالَ التام لنظام العبودية، تسبب في طردهم من الجنة (أي من حياة المجتمع الفوقي للدولة). ربما كان ذلك سرداً شبه ميثولوجي معتمداً على حرية الفرد. وبما أن تناقضاتهما علنية مع النظام القائم، فكأنهما مهّدا السبيل لتطورٍ من قبيل ظهور سلالة مقاوِمة ومتصدية، من خلال طردهما. وضعيتهما أدنى إلى المزارعين الأحرار وأرباب الحِرَفيين. سيكون من المنوِّر أكثر تقييم الشريحة الوسطى غير العبدة في المدينة، كأساس طبقي لهذه التقاليد.
أما النبي الثاني العظيم نوح، فقد برهن على حِرَفيته ببنائه السفينة. فإنشاء السفينة بكل تلك التجهيزات والمعدات في الطوفان، يشيد إلى قوة المهن اليدوية. فقول الإله أنكي له: "الطوفان آتٍ، أعددْ سفينتك بما يؤمِّن الحياة الجديدة"، وقيامه بذلك خِفيةً عن بقية الآلهة الآخرين؛ يسلط الضوء على السمات الطبقية. إذ من الطبيعي أن يكون الحِرَفيون، الذين يلعبون دوراً مصيرياً كنقل السفن، في صدارة الشرائح التي تتميز بمستوى علاقات مهمة – دون غيرها – مع الشريحة الإدارية. لربما كانت حكاية الطوفان تعبِّر عن الهجرة إلى ديار أخرى – مثلما هي حال آدم – بعد اندلاع حركة تمرد مشابهة على سخط الإداريين. يقال بأن سفينة نوح حطّت على سفوح جبل جودي. وكلمة "جودي Cudi" تعني في الكردية "وجد المكان". هذا ما يستذكرنا بدوره بعمليات النزوح من ميزوبوتاميا السفلى نحو الشمال للاستيطان فيه، لأسباب مختلفة، مثلما نشاهد حدوث ذلك بكثرة وقتذاك.
لقد شُيِّدَت أنظمة المدن السومرية بكثرة على الضفاف العليا لنهرَي دجلة والفرات في أعوام الألفين (2000ق.م) قبل الميلاد. وكانت أورفا من أهم المراكز آنذاك. وأورفا اسم هام من بين أسماء المدن السومرية البارزة، مثل أوروك وأور. وهي تعني "الاستيطان في التلال". وكأن أورفا، والمناطق المجاورة لها، كانت مركزاً لتقاليد النبوة. من هنا نفهم أن الضائقين ذرعاً بمدن الضفاف السفلى لنهرَي دجلة والفرات، والمتمردين هناك، والمتطلعين إلى الحرية والعدالة؛ وجَّهوا مراكزهم نحو أورفا. ثمة الكثير من المراكز الثقافية الشبيهة لها في التاريخ. أما بابل، الإسكندرية، وأنطاكية، فهي مراكز ظهرت في وقت لاحق.
كانت كل من باريس ولندن مركزاً للرأسمالية سابقاً. واليوم المركز هو نيويورك. ثمة احتمال كبير بأن أورفا كانت مركزاً تنويرياً شبيهاً في بدايات أعوام 2000ق.م على وجه التخمين. فمثال المعبد الأول المكتَشَف في "ديباكلي تبه Dibeklitepe"، والمشيَّد في 11000ق.م، يقع في منطقة مجاورة لأورفا. والتقاليد المهيمنة فيها حالياً تتناسب ومسارَ التاريخ هذا. كما لعبت دوراً مركزياً للثقافة الهيلينية والصابيين في القرن الثالث قبل الميلاد (300ق.م)، وللمسيحية في أعوام (100م). لقد كانت أورفا مهد الكثير الكثير من الأنبياء، وعلى رأسهم سيدنا أيوب وسيدنا إدريس، اللذان لا يزالان يُعتَبَران قوة يُعتقَد بها في أورفا. وتعبير "مدينة الأنبياء" بصددها هو تعبير صائب.
حكاية انطلاقة سيدنا إبراهيم، الذي يُخمَّن أنه عاش في أعوام 1700ق.م، أكثر تنويراً. فتحطيمه لأوثان مجمع الملوك الآلهة النماردة والآشوريين والبابليين، يشير إلى شروعه بثورة ذهنية. أما معاقبته الصارمة برميه في النار، فتعكس لنا وضعية التمرد كعادة تاريخية. وبحركته هذه يُضطر إلى التوجه صوب بلاد كنعان – أراضي إسرائيل ولبنان اليوم – كحركة هجرة ثانية كبرى. ويقدم مساهمات هامة لتقاليد النبوة في مرحلة حياته العصيبة بين أيدي الكنعانيين. ويبدي الجرأة والإدراك الكافي لوضع لَبنات مفهوم الدين التوحيدي المجرد.
سيدنا أيوب أيضاً، السابق لسيدنا إبراهيم، يعد ممثلاً تاريخياً في ثقافة المقاومة والتصدي. فلأول مرة يعلن عن اعتراضه التاريخي تجاه نمرود، بقوله ما مفاده "إنكم تجوِّعون البشر". موقف كهذا هو الأول من نوعه تجاه الملوك الآلهة، ويستلزم جرأة عظمى. أما الرد على فعلته هذه، فكان اهتراؤه في غياهب السجن حتى يعشش الدود في جسده. ومع ذلك يتحمل كتمثال الصبر. وممارسته هذه تفضي إلى نبوته.
إذا ما وضعنا نصب أعيننا مكانة ثورة الدين التوحيدي في حضارتنا الراهنة، سندرك على نحو أفضل أهمية التفسير الصحيح لتقاليد سيدنا إبراهيم، الذي يتسم بسمة أخرى، ألا وهي مهارته في تكوين التعبير المزيج للثقافتين الآرية والساميّة. فعيش سيدنا إبراهيم في كلا الوسطين، يمَكِّننا من تفسير خاصيته المختلطة هذه كتركيبة جديدة. إنها تركيبة تُشرِع الأبواب أمام الخلاقية، تماماً كالتركيبة الشرقية – الغربية.
تتجسد الخاصية الثالثة المهمة لقوة سيدنا إبراهيم في تمثيله أول سلطة إنسان كرسول للإله، تجاه نظام الملوك الآلهة، سواء السومريين – نمرود – أو المصريين – فرعون – على السواء. إن خيار سيدنا إبراهيم انطلاقة عظمى وبديل عظيم، في مرحلة تاريخية شهدت العبودية بأغور أشكالها، مثلما شهدت نشوء التطلعات الأولى إلى الحرية. وكونه رد على الطموحات الجذرية للبشرية، مهَّدَ السبيل لحركية اجتماعية، هي الأهم من نوعها في التاريخ. فمهما أبدت الجماعات الإثنية مقاومات باسلة إزاء كلا النظامين من الخارج، إلا إن وجود مقاومة داخلية في الحركات الاجتماعية أيضاً يتسم بخصائص بالغة الأهمية وفائقة الحل.
إن التمرد على قوة المَلك الإله، والحكم على البشر باستحالة أن يصيروا آلهة؛ هو حقاً ثورة اجتماعية عظمى. فنظام العبودية بذلك يتلقى الضربة من أقوى دعائمه الأيديولوجية. فالحث على التفكير بالملوك الآلهة كبشر عاديين، يعني المآل لحدوث أكبر الشروخات والتصدعات في البنية الميثولوجية السومرية والمصرية. هذا ما يعني بدوره تشكُّل التيار الاجتماعي المسمى بالدين "التوحيدي" ذي الإله الواحد. ليس مصادفة أبداً الإصرار على البدء بالحلقة من آدم. إنه بذلك يبرهن على أن هذه التقاليد جذرية ومتسلسلة، وأن الأنبياء العظام هم محطاتها التاريخية؛ تماماً كأنبياء الماركسية والليبرالية.
العنصر الذي فتح سبيلاً منهاجياً آخر في هذه التقاليد هو سيدنا موسى. فسيدنا موسى، الذي عاش في أعوام 1300ق.م، وتمتد شجرة نسبه إلى سيدنا إبراهيم؛ يحقق انطلاقته في مصر بريادته لتمرد مشابه. فاستخدامه القبيلة العبرية التابعة للفرعون بعبودية تامة، وتجرؤه على التمرد بها، بعد تعرفه على الثقافة المصرية؛ يشير إلى أنه شخصية قيادية ذات دعائم اجتماعية وتحررية. له صلات قرابة مع تقاليد القبيلة العبرية. ودين القبيلة مغاير لدين مصر. ورغم ما يقال بأن سيدنا موسى أعلن الفرعون أخناتون كأعظم آله، وأنه تأثر بشبه الإله الواحد؛ إلا إنه في الأساس رسخ ركائز تقاليد ديانة سيدنا إبراهيم. فالكتاب المقدس يشير إلى مسيرته في صحراء سيناء الشهيرة، وتأثره بالجبل الناري (البركاني)، وإلى موقفه تجاه الوثنية، وتعاليمه العشر (الأوامر العشرة). إن سيدنا موسى يخوض الصراع الأكبر للدين الجديد، مجسَّداً في القبيلة العبرية. وهذه الحرب الأيديولوجية ستنقذ القبيلة العبرية من التبعثر، وستوصلها إلى "الأراضي المقدسة" الموعودة. يُعتبَر هذا التصلب الأيديولوجي أحد أهم الخطوات المخطوة في التاريخ العبري. وثقافة الدين العبري التي خطت خطوات مشابهة حتى يومنا الراهن، تشيد بالمثال الضارب للنظر في تأثير الأقلية على الأكثرية.
لا يمكن جعل حركة النبوة مُلكاً للعبريين وحِكراً عليهم فحسب. ذلك أن هذه التقاليد تلعب دورها على الصعيد الكوني (العالمي) مع سيدنا عيسى الأقرب إلى الآراميين، ومع سيدنا محمد المنتمي إلى العرب.
بإيجاز، إن حركة النبوة المتطورة كتقاليد اجتماعية داخلية تجاه قوة السلطة القتالية، أقرب في موضعها إلى الموقف الديمقراطي؛ سواء في التاريخ البشري عموماً، أو في النظام التاريخي للمجتمع الشرق أوسطي على وجه التخصيص. وإذا ما أضفنا إليها بُعد الفقر والعَوَز، فإنها عندئذ تكاد تمثل أول حركة "اجتماعية ديمقراطية" في التاريخ. في الحقيقة، يمكن إقامة تشابه بين الأسس الطبقية لأولئك الأنبياء (الطبقة الوسطى: الحِرَفيّ، التاجر، المزارع، القبيلة) من جهة، وبين الحركات الاجتماعية الديمقراطية الراهنة من جهة أخرى. يمكننا التقدم بهذا التشابه أكثر. فكيفما أن الاجتماعيين الديمقراطيين – ورغم تمرينهم للنظام قليلاً – لم ينجوا من أن يكونوا قوة احتياطية للنظام القائم؛ فالاجتماعية الديمقراطية للأنبياء أيضاً، لم تنجُ من التمحور حول أنظمة المجتمع الطبقي المشيدة، ومن تأسيس نموذج مشابه لها، عاجلاً أم آجلاً. فالنظام الذي أسفروا عنه تجاه عبودية العصور القديمة القاسية، هو إقطاعية العصور الوسطى. لا شك في أن سبيلهم لم تكن بحثاً واعياً ومقصوداً عن النظام الإقطاعي، حيث طالبوا ونادوا بالسلام والعدالة للبشرية جمعاء. لكن القوة المحوِّلة (التحويلية) الكبرى للنظام المهيمن، لم تسنح بأن تكون دولة الأنبياء الإلهية مختلفة كثيراً عن نظامها الأصلي.
إن لفظ الثيولوجيا المفتقر للسرد السوسيولوجي، لا يسلط الضوء على الحقيقة المجتمعية لمؤسسة النبوة التي أثرت في التاريخ البشري أكثر من غيرها؛ رغم استحواذه على شمولية (مجموع الآثار) كبرى بين يديه. وإلى جانب التعبير عن لغة تلك المرحلة وذهنيتها، فإذا لم يُترجَم ذلك إلى واقعنا الراهن، فإنه لن يذهب أبعد من كونه سرداً استظهارياً مزعجاً ومخمِداً للعقول. في الحقيقة، ثمة أهمية قصوى للتعريف الصحيح للمؤسسة المتخذة من الجانب الاجتماعي والتحرري الفردي والعادل أساساً لها إزاء العبودية الغائرة في القِدَم في سومر ومصر. حيث أنها تعكس النضالات الاجتماعية الكبرى للشعوب، بمظهر الدين الذي يشكل البنية الذهنية لتلك الحقبة.
النبوة هي أول مؤسسة اجتماعية قيادية كبرى. فقيام الأنبياء بتركيب المصطلحات والأفكار (القوالب الذهنية العامة الدارجة والمهيمنة على وجهة النظر العالمية في تلك الأزمان) التي استخدموها، ليحققوا وثباتهم نحو مرحلة أرقى؛ إنما يفيد باكتسابهم النبوة. وبقدر انقطاعهم عن الميثولوجيا والدين العبودي الرسمي، أدوا دوراً اجتماعياً وتحررياً. لا شك أنه – مثلما شوهد بكثرة في كل مرحلة – وكما حصلت الانقطاعات الراديكالية عن النظام السائد؛ فالوفاق معه أمر وارد أيضاً.
ما هو منتَظَر من التاريخ السوسيولوجي للدين، هو تحليل كل نبي – المهمون منهم – ضمن الوسط الثقافي للمرحلة التي عاش فيها، وبالأخص بجوانبه الذهنية والسلطوية والاجتماعية والاقتصادية. سيكتسب سرد التاريخ بموجب ذلك تكاملاً مهماً. فإخراج هذا التاريخ من كونه مجرد حكايات عن السلطنة والبطولة (نهب الغنائم)، سيفضي إلى كتابة تاريخ أكثر واقعية، ذي أبعاد اجتماعية وشعبية وإثنية. بهذا الشكل ستكتسب الجدالات الراهنة الدائرة حول العلمانية معناها. علاوة على أنه من الواجب الإدراك الحسَن لمسألة: فيمَ خدَم مئات الآلاف من الكوادر والميزانيات؟
ستستمر مرحلة مشابهة في فاعليتها في إمبراطورية روما. فالتيارات الدينية ذات النوعية الاجتماعية في الداخل، والحركات البدوية ذات النوعية الإثنية في الخارج، ستحيط بقوة السلطة القتالية المعروفة بأنها الأعظم تكاثفاً حتى تلك المرحلة من التاريخ، وستحاصرها منذ نشوئها (50ق.م - 0م). والمسيحية، في مراحل نشوئها وتطورها، هي حركة حزب مؤلف من الفقراء (القبيلة، العائلة وغيرها من الاتحادات النَّسَبية). حيث يتسم بالكونية من كافة الزوايا، بقدر روما على الأقل. إنه أول حزب اجتماعي كوني للفقراء. وكيفما أَعَدَّت روما جناحها الخفي كقوة عظمى للسلطة القتالية في تلك المرحلة، فالديانة المسيحية أيضاً حذت حذوها في إعدادها حركة الفقراء. وسنشهد تكاثفاً طبقياً شبيهاً في المرحلة الرأسمالية أيضاً. فبنية الدولة الأكثر قمعاً واستعماراً، وبنى الكادحين الأكثر متانة وتماسكاً، ليستا إلا امتداداً للثنائية الدياليكتيكية.
لكلا التيارَين تاريخ مديد من التعرض للكبت الحاد في مقاوماتهما تجاه روما. يجب اعتبار النظرة إلى التاريخ على أنه حكاية إمبراطورية روما فقط، بأنها تحريف وتضليل على يد المؤرخ الرسمي، لا غير. فكما أن قوة السلطة القتالية المتراكمة كالكرة النارية والكرة الثلجية، هي مختزل التاريخ القمعي والاستعماري، فالإثنية البدوية والتيارات الاجتماعية والدينية أيضاً، هي خلاصة المشاعية، وبنفس النسبة. لم يدوَّن تاريخ الشعوب بالثقل اللازم، كواقع اجتماعي وإثني. ولربما كان الدور الأكبر لتدوين التاريخ بالسمات الطبقية المهيمنة، هو تحريف الظاهرة المجتمعية، والتغاضي عن عناصرها الأصلية. فالسبيل الأكثر قدرة على الاستيلاء على ذهن الإنسان وسلبه، هو عدم السماح بكتابة التاريخ الحقيقي، بل وتحريفه بشكل شاذ.
تضطر المجتمعات المنقطعة عن الوعي التاريخي، للعيش في ظروفٍ تفُوق في سوئها مراحل الإبادة، كالافتقار إلى معناها والتجرد من هويتها. وسيكون من السهل، ولأبعد الحدود، تحميل المجتمعات المنقادة للتآلف مع هكذا شروط، أيَّ عبء، ومهما كان. من هذه الزاوية أيضاً تبرز أهمية تقاليد الأديان التوحيدية. إنها كذاكرة الواقع الاجتماعي. فمقابل تأصل السلطنة، يكون تأصل النبي كبديل للأول. تكاد الديانة المسيحية تحاكي تقاليد أباطرة روما بمؤسستها الأسقفية. وينشط تطور مشابه بالنسبة للقيادة الإثنية أيضاً. فتَشَبُّه كلا التيارين بالإمبراطور يمهد السبيل لكليهما للوفاق مع النظام القائم، والذوبان التام في بوتقته حيناً، والتحول إلى بنى مجتمعية يمكن تأمين استمراريتها بمستوى أعلى في أحيان أخر.
وإذا ما أريدَ رسم جدول تاريخي للإثنية بخطوطه العريضة، فسيكون من المفضَّل الابتداء فيه بولادة الثقافة الزراعية وتمأسسها في الأعوام ما بين (15000 – 10000ق.م).
كل المعطيات الآركولوجية (علم الآثار القديمة) والأتيمولوجية (علم الاشتقاق والصرف)، تشير إلى أن الإثنية تشكلت لأول مرة في تلك التواريخ، في الحوض الداخلي لسلسلة جبال طوروس وزاغروس. فالثورة الزراعية شرط مصيري من أجل الحركة الإثنية. وإلا، فلن تنجو من البقاء في حالة المجتمع الكلاني. أما المجتمع الكلاني، فلا يذهب أبعد من كونه مجموعة عائلة واسعة، في أي زمن من الأزمان. تقنية الإنتاج هي التي تحدد هذه الحدود. بالتالي، لا يمكن لمجتمع كهذا بلوغ مستوى المجموعات اللغوية الكبيرة، بأنظمته الصوتية المحدودة للغاية. والجماعات اللغوية المعروفة، يبدأ تاريخها اعتباراً من أعوام 20000ق.م. هذا علاوة على بعض الأسباب الشبيهة الموجودة في نفس الجغرافيا، والتي تلعب دورها في ذلك. يفتح تَوَطُّدُ اللغة المجالَ لتطور الإنتاج، الذي يثب بدوره بالمجتمعية إلى مستوى أعلى. وقد أجمع كل علماء الآثار البارزين، من أمثال "غوردون جيلد Gordon childe" و"فانيلور Vanilor"، على الدلائل المشيرة إلى تكوُّن المجموعة اللغوية الآرية البدائية في الحوض الآنف الذكر. والمجموعة اللغوية الآرية هي أثر المجموعات المشاعية البدائية المحقِّقة للثورة الزراعية.
يمكن مصادفة أقدم الألفاظ ذات الأصول الزراعية، في كافة الأقوام المتشاطرة لهذه البنية اللغوية. يُجمَع عموماً على أن هذه المرحلة الأولى للتكون الإثني انعكست على كافة القارات على شكل انتشار ثقافي أكثر منه جسدي. بل وحتى أن الحقيقة الأخرى المُجمَع عليها هي انتشارها في أعوام 11000ق.م، من مضيق برينغ في آسيا صوب القارة الأمريكية، على يد الهنود الحمر.
أبدت هذه الثقافة الإثنية تطوراً ملحوظاً في مركزها الأم، على الحواف المنفصلة عن سلسلة الجبال فيما بين دجلة والفرات، حتى تكوُّن الحضارة السومرية. أي حتى عام 3500ق.م على وجه التقريب. والبقايا المتبقية من أقدم مواطن الاستيطان تدل على أن تلك المرحلة شهدت العديد العديد من العناصر، التي لا تزال تنبض بالحياة حتى يومنا الحاضر. نخص بالذكر هنا مرحلة ما بين 6000 – 4000ق.م، من حيث أهميتها ببلوغها إثنية راسخة وذات هوية بيِّنة. وكأن كل الاختراعات والاكتشافات والمعلومات الأولية الممهدة لابتداء التاريخ – الحضارة – قد خُلِقَت في هذه المرحلة الملتحمة مع العصور الكالكوليتية (عصر الحجر النحاسي – المَلَكيت)، حيث تشكلت مؤسسات الفن والدين والهرمية الأساسية فيها. ويتضح أن الهوريين – أقدم مجموعة آرية – هم أقدم أسلاف الكرد الحاليين، في مركز ولادة هذه الثقافة. (أور = ur: تعني التلال، أي أهالي التلال العالية). ومعلوم أنهم تميزوا بحياة فعالة منذ أعوام 6000ق.م، كمجموعة تنتمي إلى ذات الشعب في تلك المنطقة. وكانت لهم صلات القربى مع السومريين في فترة التكون، كما كانوا مجاورين لهم. وما "الكوتيون، الكاسيتيون، اللوريون، النائيريون، الأورارتيون، والميديون" سوى أسماء أطلقها السومريون والآشوريون على التوالي على المجموعات المتشاطرة للثقافة الشبيهة لهم.
انتشرت موجة الثقافة الآرية في أعوام 9000ق.م صوب بلاد الأناضول، وفي 6000ق.م نحو قفقاسيا وأفريقيا الشمالية وإيران، وفي 5000 – 4000ق.م باتجاه داخل الصين وسيبيريا الجنوبية وأوروبا. تشير هذه التواريخ إلى انتشار الثقافة الزراعية في كافة أرجاء العالم. والبدو الآريون الذين انتشروا جسدياً أيضاً، تسربوا وتغلغلوا في 3000 – 2000ق.م حتى أشباه الجزر في القارات، الهند، إنكلترا، اليونان، إيطاليا، شبه جزيرة إيباريك، وأوروبا الشمالية. ويُخمَّن أنهم توجهوا صوب الهند، إيران، بلاد الأناضول، ومصر في أعوام 2000ق.م، وفقاً للمستجدات الحاصلة آنذاك، لينضموا فيها إلى المراحل الحضارية البارزة. وهي ذاتها المناطق التي أغنتها الحضارة السومرية، والتي شكلت حركة مضادة للأخيرة. إنها مرحلة مفعمة بالنشاط والحيوية بأقصى حدودها. فالحضارة السومرية تجذب إليها كل البدو الرحل والجماعات القروية المجاورة لها، بتأثير واضح أشبه بما تتميز به أمريكا اليوم. تُعَدُّ حركات الهجرة الكبرى في أعوام 2000ق.م، مرحلة شهدت أوسع أشكال الانتشارات والاستيطانات في تاريخ الإثنية، والتي شكلت الأرضية الخصبة لنشوء الحضارات الصينية، الهندية، الخلاصية، الأناضولية والإيرانية. إنها أشبه بالحملة الثانية الكبرى للتمدن – الدولة – بعد ميزوبوتاميا، باقتفاء الأثر السومري. مع ذلك، فالمدن الحضارية في تلك الأعوام، كانت أشبه بالجزر العائمة وسط البحر البدوي المتنقل. فالذي يقوم بالعملية أساساً هو البدو الرحل. ومع وصولنا أعوام 1000ق.م، تبدأ الحملة الثالثة الكبرى من النزوح. فالهجرات المتدفقة من أوروبا وقفقاسيا وآسيا الوسطى نحو المناطق الحضارية في الجنوب، تشرع في احتلال مكانها بدل أنظمة السلالات والبيكاوية. إنها المرحلة الحضارية الأولى. والمجموعات الإثنية الكبرى الشهيرة في هذه المرحلة هي، الدوريون في اليونان، الفريغيون في بلاد الأناضول، الميديون في تقاطع سلسلة جبال طوروس وزاغروس، والأتروسكيون في إيطاليا.
تلعب هذه المجموعات دوراً عظيماً في التطور الحضاري بين صفوف الدولة الرومانية في أعوام 1000ق.م. والحضارات الإغريقية، الفريغية، الأورارتية، الميدية، والأتروسكية، هي حضارات شُيِّدت على يد أهم المجموعات الإثنية في تلك المرحلة.
لا تتعدى الحركة الإثنية المستوى الهرمي من حيث التنظيم. وإذا لم تنحل وتتفكك في هذه الحدود من الداخل أو الخارج، تبقى حينئذ وجهاً لوجه أمام مشكلة التدول. والتدولات المشابهة للأنموذج السومري، دارجة بالنسبة للمجموعات التي تخطت هذه المراحل بتفوق. إنها بالأغلب تقلد النماذج الحضارية التي تكون على تماس معها. إذ ما من طاقة بنيوية كامنة أخرى بالنسبة للبنية الهرمية. وفي هذه الحالة يحصل التمايز الطبقي. حيث تبقى الشرائح السفلية في المناطق الجبلية بأوضاعها السابقة نسبياً، في حين إما أن تصبح الشرائح المتوجهة صوب المدينة عبيداً، أو جنوداً، أو تسعى لإكمال المجتمع الطبقي بالانخراط في صفوف الشرائح المستوطنة هناك. تعني الإثنية على الدوام الدم الطازج بالنسبة للمجتمع الطبقي. فما تمثله القروية بالنسبة للرأسمالية، تؤديه الإثنية بنحو مشابه بالنسبة للحضارات القديمة. وإذا ما حاولنا إقامة تشبيه مع حاضرنا، تكون التدولات المعتمدة على القاعدة الإثنية الموجودة على شكل مقاومات إثنية وإمارات في الحضارات القديمة، مقابلة للمقاومة الوطنية والدولة القومية المؤسسة من بعدها، تجاه التوسع الرأسمالي في يومنا الحالي.
تجد الحركات الدينية والنبوية – التي عرَّفناها بأنها ضرب من ضروب الصراع الطبقي في العصور الأولى – مصدرَها في مراحل نضوج الحضارات وانتعاشها. إنها مدينية الأصل. وتتسم بطابع الطبقة الوسطى. لقد أبدت جسارتها في التصريح بمنافاة النظام العبودي الأول للعقل والمنطق. إنها الحركات الانتقادية الأولى، والتمردات الاجتماعية الأولى. علاوة على أنها تأثرت بتقاليد الشامانية والمشيخة القديمة، التي لم يكن لها حضور يُذكر في المؤسسات المَلَكية. هذا ويجب النظر إلى التجريد الموجود في مفاهيم الدين والإله، ومناهضة عبادة الأوثان، بعين الاختلاف في الذهنية. وأهم معتقداتها هي استحالة أن يكون الملوك البشر آلهة. فمزاعم ومعتقدات المَلك الإله من جهة، وعدم إيمان الناس العاقلين بها من جهة ثانية؛ إنما يصور في حقيقته التناقضات والصراعات الكائنة بين الطبقة الإدارية وأهالي المدينة. فاستيعاب الفرق الكامن بين الشرائعية القائمة في مجتمع المدينة، وبين الروحانية الطبيعية، يمهد السبيل لارتجاج عقيدة المَلك الإله. يتطور اختلاف الذهنية بسرعة أكبر في أوساط المدينة، ليؤمِّن الأجواء المساعدة على البحث عن تطلعات وأفكار ومصطلحات جديدة. فنظام تبادل البضائع والسلع يُنَشِّط الذهن أكثر فأكثر، لتزداد معه الوضعية الإدارية للذكاء التحليلي. تفضي المعلومات والاصطلاحات التجريدية المتزايدة بعد مرحلة معينة إلى تعرية وإفناء الأيديولوجية الرسمية، أي الميثولوجيات المعتقد بها. ومع البحوثات الأيديولوجية الجديدة، تُشرَع الأبواب أمام مرحلة المثالية النبوية.
من المخمَّن أن هذه المرحلة المبتدئة منذ أعوام 3000ق.م، وحتى عهد سيدنا إبراهيم، قد ابتدأت بالأغلب في مدن المتروبولات السومرية. وعندما لم تستطع إيواءها، ينتقلون إلى المناطق الموجودة في الأقاصي، وإلى الأجواء الحرة نسبياً. من الصحيح تسمية المرحلة الممتدة من سيدنا آدم وحتى سيدنا إدريس وأيوب، بمرحلة النبوة السابقة لأورفا. يمكننا طرح الاعتقاد القائل بأن عهد أورفا الممتد من 2000ق.م وحتى 1000ق.م قد لعب دوراً مركزياً. من المحتمل أن تقاليد النبوة قد نضجت في تشكلها في هذه المرحلة، واكتسبت أرضية مؤسساتية متينة. كما وصدَّرت الكثير من الأنبياء إلى الأطراف المجاورة لها، وعلى رأسهم سيدنا إبراهيم. والعديد من الأقاويل تؤكد صحة هذه الفرضية.
الفرضية الثانية التي يمكننا طرحها هي، بروز القدس إلى الأمام، كمركز نبوي ثانٍ، منذ أعوام 1000ق.م، حتى انهيار روما. يحتوي الكتاب المقدس لائحة شاملة بأسماء أنبياء تلك المرحلة. تلك المواد التي تتميز بسرد وفير الغنى ومتين البنيان بشأن عهد الأنبياء، والمبتدئ بـ"ساول Saul"، وحتى داوود وسليمان؛ يمكن تقييمها بالحنين إلى المَلَكية، وشرح قواعد الأخلاق المنظِّمة للحياة الاجتماعية بالأغلب. إنها تتطرق بقدرة وكفاءة إلى المجتمعية. وما منْع عبادة الأوثان، والارتباط بالرب في مضمونه، سوى سرد ديني معني بصون القبيلة العبرية من التشتت والتفكك، وتكوُّنها كمَلَكية. كيفما تكون الميثولوجيات السومرية حكايات أسطورية للملوك الآلهة، فالكتاب المقدس هو الحكاية الدينية لتكوين المَلَكية من أحشاء القبيلة. فالآداب والبنية الذهنية التي كانت مهيمنة في تلك الحقبة، كانت تستلزم لغة كتاب مقدس كهذا. من المهم تلمس الجوهر المستتر تحت تنميق الشكل ذاك. بيد أن مأرب سيدنا عيسى، في النهاية، كان أن يصبح مَلكاً على القدس، التي أسماها "بنت الصهيون"، فدفع حياته ثمناً لها.
كانت المرحلة الثالثة والأخيرة من النبوة في الفترة المتراوحة ما بين (0م – 632م)، حيث تبدأ بميلاد سيدنا عيسى، لتمتد حتى سيدنا محمد. وبينما تندرج القبيلة العبرية بعد هذه المرحلة في عهد الكُتّاب المعروفين بـ"الكتّاب الصفاريون"، تُحَقِّق المسيحية انفتاحات كبرى بين صفوف الشعب، عبر الحواريين أولاً، ومن ثم الكهنة القِسّيسين والأساقفة (المطارنة).
مهّدت ترجمة الآداب النبوية – وعلى رأسها الإنجيل – إلى اللغة الإغريقية واللاتينية لحصول تحولات جذرية في البنية العقلية للحضارة الغربية. حيث تُنتَزَع مزاعم الألوهية من أيدي الأباطرة الهيلينيين والرومانيين شبه الآلهة، عبر الصراع المخاض تجاههم. يعد قبول قسطنطين الأكبر الديانة المسيحية واعترافه بها في عام 312م، ومن ثم إعلانه إياها ديانة رسمية؛ الخطوة الأخيرة لمرحلة تاريخية مهمة. هذا ما مؤداه انتصار المعتقدات القائلة باستحالة أن يكون الإنسان إلهاً، والمبتدئة من أول الأنبياء؛ وإنْ كانت فقدت الكثير من مضمونها. بالأصل، يعلن الجناح البارز على شكل الديانة الإسلامية بقيادة سيدنا محمد، منذ البداية أنه – أي النبي – رسول الإله وظله على وجه الأرض. وبرفضه ثالوث "الأب – الابن – الروح القدس" الذي نادى به سيدنا عيسى، ينزل الوحي بحكمه في أن البشر لا يمكن أن يكونوا إلا عبيداً للإله، كآية قرآنية أساسية. إلا أن مفهوم عبد الإله، يشير مرة أخرى إلى التأثر بثقافة المَلك الإله. حيث يوضع "الله" مكان المَلك الإله. مع ذلك، فهو مثال ضارب للنظر من حيث إشادته بالمسافة الشاسعة المقطوعة في صراع الذهنية. كما ويبرهن على استمرار صراع البشر مع الملوك الآلهة على مر آلاف من السنين. بالإضافة إلى تنويهه إلى عدم سهولة الخلاص من العبودية الثقيلة الوطأة.
تنتهي هذه المرحلة كلياً مع سيدنا محمد، لدى تخطي عهد الملوك الآلهة مع حلول نهايات عهد الإمبراطورية الرومانية. حيث يَتَّخِذ معتقد النبوة الأولي من استحالة إعلان البشر ذاتهم كآلهة، أساساً له. إنه أشبه بمنهاج حزبي مؤلف من مادة واحدة فقط، بحيث يفقد معنى مواصلة وجوده لدى تأدية مستلزماتها؛ فلا يتبقى منه سوى الأثر، الحكاية، والظل.
الثمرة الأساسية للأديان التوحيدية الشرق أوسطية، هي الدولة الإقطاعية للعصور الوسطى. فعبودية "القن،" التي تعتبر أكثر مرونة من العبودية الكلاسيكية، هي بمعنى آخر، عبودية مطوَّرة أكثر. أي، الصعود درجة أخرى على سلم العبودية. تحصل التطورات في العبودية الخالية من الأقنان أيضاً. فقوة السلطان والسلطة القتالية، تُعتَبَر ظل الإله على الأرض. ويجب اعتبارها كامتداد لقوة المَلك الإله.
مع ذلك، يجب عدم الاستهانة بمنزلة كلتا الحركتين في تاريخ البشرية، من حيث مواقفهما الديمقراطية، وخصائصهما المشاعية، وتطلعاتهما إلى الحرية والعدالة.
أحرزت تقاليد المقاومة المستمرة على مر آلاف السنين، مكتسبات مهمة في الميادين الذهنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إزاء عبودية العصور الأولى والكلاسيكية. وما من شائبة في حقيقة هذه المكتسبات، رغم عدم فرز التاريخ المكتوب إياها. وقد تغذت الثقافة الإنسانية من هذين الجناحين المقاوِمين بنسبة كبرى، حيث أضحيا في مقدمة المواضيع المتداوَلة في كافة أنواع الفنون. حيث وصلت النُّصُب التذكارية في المعابد إلى يومنا الراهن بكل أبهتها وعظمتها. وإذا كانت ثمة أجزاء متبقية من الأخلاق المجتمعية، فذلك بباعث من هذه التقاليد بالتأكيد. فالملاحم الخالدة، القدِّيسون، وقصص الأنبياء التاريخية، إنما تصور المواقف الإنسانية العظيمة. وأصحاب هذه التقاليد هم الذين انزووا بذواتهم عشرات السنين، واهترأت أجسادهم في غياهب السجون، صُلِبوا وربُّوا أنفسهم بكِسرة خبز وحبة زيتون وعنب وتمر، شعروا بآلام الإنسان، وأولوا أسمى القيم للحكمة والعلم. هذه التقاليد هي التي أولَت قيمة مدرسية مكملة للحياة المشاعية بدل الفردية، ولنظام الدير، وادخار المعرفة والمعلومات، وتطوُّر الفن والحِرفة. وقنوات هذه التقاليد النبيلة هي أيضاً التي حثت الإنسانية على التفكير بالسلم والأمن، مقابل جناح السلطة القتالية التي لم تمنحها سوى فرصة القتل والاقتتال. وهي أيضاً التي صانت كرامة الإنسان واعتمدت التعاون والتكاتف أساساً، ونوَّهت إلى الأخوّة ونادت بها، وحققت الانفتاح نحو الكونية. إنها عجزت عن ولادة المجتمع الطبقي. بل ولم تنجُ أيضاً من الذوبان بالأرجح في بوتقة النظام الاجتماعي السائد. بل وحتى أصبح المنادون بها هرميين ودولتيين – أحياناً – بقدر الأسياد القدامى. إلا إنه، وإذا كانت ثمة بضعة متبقية من القيم الإنسانية حتى يومنا الحالي، فإن التفكير في نصيب هذه الحركات في ذلك، يكافئ إعطاء الحقيقة مستحقها. إذ من غير الممكن تعليل المواقف الديمقراطية، التطلعات إلى الحرية والمساواة، البحث عن بيئة طبيعية، حقوق الإنسان، والهويات الثقافية القائمة في راهننا؛ من دون التفكير في مساهمات كلا التيارين التقليديين العظيمين فيها. إذا ما نظرنا إلى الساحة العامة، والتي تعتبر أرضية لا غنى عنها من أجل الديمقراطية – بقدر الفردانية على الأقل – بأنها الميراث الأولي المتأتي من هاتين الحركتين العظيمتين؛ فسيُدرَك التأثير الإيجابي للتقاليد، بشكل أكثر واقعية وقدرة على الحل.
يساعدنا إطار السرد المطروح بصدد مخطط الموقف الديمقراطي والمشاعية على استيعابنا الأفضل لمجتمع الإمبراطورية الرومانية. وروما أيضاً، مثلما هي حال سابقاتها جميعاً، انهارت في نهاية المطاف، بعد عدة قرون من حركات الدفاع والهجوم للحركة الاجتماعية المشاعية القادمة من الداخل من جهة، وللجماعات المنفتحة للمجتمع الإثني والطبيعي، والآتية من الشمال من جهة أخرى. انهيار روما، وتحطم القسم الباقي منها في أواخر القرن الرابع الميلادي، يعني الانتصار الموحد للإثنية والمشاعية الدينية، والعلاقات القائمة بينهما؛ وإن بشكل ملتوٍ. إنه الانتصار العظيم للشعوب والنظام المشاعي، وإن بشكل مختلط. لا شك في أن الذهنية الدولتية والقوة لم تتحطما. فحتى لو تمزقتا كالكرة الثلجية، إلا إنهما لم تتورعا، ولو لحظة واحدة، عن تكوين ذاتيهما في العديد من المناطق، دون أن تذوبا. مرة أخرى نلاحظ أن السلطة القتالية لا تحتمل التمزق الطويل المدى. بل، وكما حلقات السلسلة، ستستمر في وجودها بإضافة أجزاء أخرى، وبإكثار حلقاتها. وستستمر بيزنطة في الشرق، وفرانك، وشارلمان، وإمبراطورية روما المقدسة في وجودها بأشكال جديدة مغايرة.
مَن دك دعائم روما بالأساس هم أنساب الجرمان ذوي الأصول الثقافية الآرية. فالخونيون القادمون من آسيا الوسطى، أحاطوا بهذه البنية مرة أخرى، وبقوا كذلك لعشرات السنين. لا يمكن التفكير في شل روما وماكينتها الحربية الكبرى، دون وضع قوة الإثنية في الحسبان. إن التعبير عن ذلك بمقولة "الانهيار الحزين للحضارة الرومانية تحت وطأة اعتداءات البرابرة"، لا يمكن أن يكون لغة الحقيقة، مثلما هو ليس لغة المجتمعيين الديمقراطيين. فإذا ما أخذنا نصب أعيننا سلسلة الأباطرة، سنستوعب بنحو أفضل مدى فظاعة قوة السلطة القتالية. ولن يصدنا أي اعتراض عن النظر إلى تحطيم البرابرة – الذين هم قوى شعبية تحررية – لتلك القوة، بأنه من أعظم خطوات الحرية.
ما يُبرهَن على صحته مرة أخرى في انهيار روما، هو أن مسار التاريخ يحدده – بالأساس – الصراع الكائن بين مَن يجعلون مِن الحرب والعنف مصدراً للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية من جانب، ومن يصرون ويقاومون ويصمدون في سبيل المواقف الديمقراطية والحياة الحرة المتساوية المشاعية من جانب آخر. وإذا لم نغض الطرف عن أن حالة الحرب الدائمة هذه هي المتوارية تحت النظام المسمى بـ"السلم والاستقرار"؛ فسنستوعب الحقيقة المجتمعية حينئذ على نحو أفضل.
يكمن وراء دخول أوروبا في العصور الوسطى خلال المدة الممتدة بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديَّين، تاريخٌ كذاك الذي حاولنا رسم مخططه سابقاً. من المهم الإدراك أنه لولا هذا التاريخ، دعك من أن تصنع أوروبا الحضارة، بل لعجزت حتى عن تعلم نقطة "الصفر". وبدون التفكير بهذا التاريخ، لا يمكن حتى تصوُّر شروعها بمحاولة المعرفة واكتساب الذهنية الجديدة، بكل ما لديها من قدرة، بعد سبات عميق قضته في مرحلة الحضانة الإقطاعية. فتوجُّه أوروبا اللاحق نحو العلم والتاريخ، بما تستحقه فعلاً، سيمدها بالقوة والطاقة اللازمتين، لتصنع مرحلة عظمى تليق بقدرها في الحضارة، عبر هاتين القوتين. أي عبر سلوك أسلوب العلم والتاريخ الصحيح.
مشاركة الديانة المسيحية في العصور الوسطى محدودة النطاق. حيث سعت بالأرجح لإعاقة الولادة الجديدة، عبر محاكمها التفتيشية. فبينما سعت للتخلص من الهراطقة (مذهب المنشقين) والساحرات الجنّيّات (بقايا المرأة الحرة) والكيميائيين (رواد العلم) – باعتبارهم أجنحة إيجابية متأتية من الماضي – بحرقهم في النار؛ تحطمت إرادتها – بالمقابل – عبر الميول المعتادة على الحياة الطبيعية المرتكزة إلى الذكريات الغضة للإثنية، وعبر البروتستانتية؛ لتتعزز بالتالي ذهنية وإرادة الحضارة الجديدة بسطوع أكبر. وبينما تم تخطي التزمُّت المتجذر في الدين منذ زمن غابر، عبر البروتستانتية، شُرِعَت الأبواب أمام التحول الوطني بالاستناد إلى ثقافة الإثنية.
ما من دليل يمكنه الإشارة أو الزعم بأن الهدف من هذه التطورات التاريخية العظمى، كان التطوير المخطط والمدروس للنظام الرأسمالي. بل ثمة دلائل أكثر في حوزتنا تشير إلى أن ما يجب أن يتطور أساساً هو الحضارة الديمقراطية.
لقد قام نظام العصور الوسطى الإقطاعي، في التاريخ الحضاري، بالحد من نطاق الماهية الدوغمائية لعبودية العصور الأولى القديمة، ومن ثم إطراء التغييرات عليها ومواصلتها. فالسلطنة التي هي ظل الإله، والتي حلت محل الملوك الآلهة؛ إنما هي تغيير في شكل الدوغمائية. أما مضمونها فهو مصون. عززت بنية السلطة القتالية من قوتها أكثر بتوسعها في عموم أوروبا ومناطق آسيا الشاسعة. وبدلاً من الإمبراطوريتين الرومانية والبرسية المرهقتين، شُيِّدَت الأنظمة العربية – الإسلامية، الجرمانية – المسيحية الكاثوليكية، السلافية – المسيحية الأرثوذكسية؛ والتي تميزت بكونها الدم الطازج. وقامت الأنظمة التركية – الإسلامية، والمغولية – الإسلامية بمواصلة المرحلة عينها بشكل متأخر. المهم هنا في هذه الأشكال الجديدة للإمبراطوريات، هو إضافة العناصر الثقافية الجديدة إلى بناها كدم طازج يجري فيها. ورغم أنها استمدت قوتها من محاكاتها للإمبراطوريتين الرومانية والبرسية وحذوِها حذوَهما، إلا أن البنية الذهنية الإيمانية الأقوى التي جلبها الإسلام والمسيحية، قد أمدّت بغناها الوفير قوة السلطة القتالية بالوقود والطاقة اللازمين، لتطيل من عمرها مدة طويلة. من جانب آخر، فالقوات الهرمية العربية والجرمانية والتركية والمغولية، المعتادة على حياة النزوح والهجرة الأكبر والأطول في التاريخ؛ كانت في حالة تخولها لجمع الجنود الأشاوس وذوي الإيمان الصارم، من مجموعات الأقوام التي ترتكز إليها، وبالقدر الذي تشاء. هذا وكانت حياة المدينة الأكثر راحة ورفاهية وغنى، تتميز بجاذبية تؤهلها للانتشار في المناطق التي تتكاثف فيها الأقوام الجديدة.
في الحقيقة، كانت القاعدة الأرضية للإثنية من جهة، والديانة الإسلامية وأديرة الفقراء المتطلعة إلى الخلاص في المسيحية، والشرائح الطرائقية من جهة أخرى؛ تتطلع وتهدف إلى عالم وحياة مختلفين. كانوا ناقمين ومشمئزين من قمع الدولة والهرمية واستغلالهما. لهذا الغرض كانوا انخرطوا في حركية عظمى. التفسير الأكثر صواباً بالنسبة لآمالهم وطموحاتهم هو، الديمقراطية الإنسانية المثالية العالمية، كتركيبة جديدة من كل من الدير والطرائقية والحياة المشاعية الطبيعية القديمة.
ثمة حيز واسع في كلتا الديانتين لسيدنا "مولانا" وغيره، والذي يعد الذهنية والفؤاد الكونيَّين لتلك المرحلة. فالموقف الذي يمكننا اختزاله في التعبير: " تعال، حتى لو كنتَ من اثنين وسبعين أُمّة. تعال، مهما يكن لك من ذنوب في الماضي"؛ إنما يتضمن ديمقراطية عالمية بأقصى حدودها. إنه يستذكرنا بديمقراطية العصور الوسطى وتيار الكونية فيها.
إن التقرب من تيارات الدير والتصوف الشائعة جداً في تلك المرحلة، ضمن هذا الإطار، يوسع الآفاق. فبينما تصبح الشريحة العليا للإثنية والدين قوة الدولة الإقطاعية؛ تعيش الشرائح السفلى الفقيرة كقوة للنظام المشاعي في الأديرة – تقابلها في الإسلام البؤر الطرائقية – وأديرة الدراويش المنتشرة في مساحات واسعة للغاية. إنه انقسام ذو معنى طبقي عميق. وهو، بمعنى من المعاني، يشيد بالتباين والصراع الحاصل بين قوة السلطة القتالية الخاصة بالعصور الوسطى (بالاشتراك مع الشرائح المتواطئة معها والمرتكزة إليها) من جهة، وبين الشعب الديمقراطي المشاعي من جهة أخرى. يعكس التناقض الباطني – السنّي في العالم الإسلامي، والكاثوليكي – الهرطقي في الديانة المسيحية، هذه الحقيقة بوضوح. ونشاهد حدوث تمايزات مشابهة في بنية الأقوام أيضاً. فالتناقضات السلجوقية – العثمانية – التركمانية، كذلك تناقضات العرب – الخوارج، وغيرها؛ تشير إلى الصراعات والتناقضات الطبقية الموجودة داخل القوم ذاته. وقد نجحت بعض حركات الفقراء في تحقيق تسيُّسها بمستوى متقدم. فالقرامطة، الحشاشيون، الفاطميون، والعلويون؛ هم تعابير عن ردات فعل الشرائح الشعبية الفقيرة إزاء التمايز الطبقي، وأمثلة عن الديمقراطية البدائية للعصور الوسطى. إلا أن مفهوم السلطنة المهيمن على النظام الاجتماعي، لن يفسح المجال لتأسيس كيان ديمقراطي أكثر تقدمية في هذه الحركات. حيث ستفقد فاعليتها ونشاطها، وتتم تصفيتها عبر حركات القمع الخارجية والتردي والانحطاط الداخلي. أما الكيانات التي يمكننا تسميتها بأنها ضرب من ثقافة الكنائس، والتي خلقت تأثيرات راسخة في أوروبا وآسيا الوسطى؛ فقد عرفت كيف تعيش على المدى الطويل. وقد لعبت الكنائس أدواراً مهمة في العلم وتقنيات الإنتاج أيضاً. لقد كانت القوة الذاتية للعلم والحياة. وتَمُتُّ ولادة المدارس والجامعات في العصور الوسطى بِصِلة كثيبة بأنشطة الكنائس والأديرة.
نجحت مجموعات السلطة القتالية في أن تكون قوة مهيمنة في النظام، حصيلة كفاحات ومنازعات مضنية. لعبت القوة الكلاسيكية لظاهرة الدولة، كذهنية ومؤسسة، دوراً معيِّناً في ذلك. فطرازها التنظيمي والإداري يتسم بالكفاءة التي تمكِّنها من عدم إفساح المجال لظهور كيانات بدائية وشبه ديمقراطية. الأهم من كل ذلك، هو خط مسار التاريخ في هذا الاتجاه بكفاحات ونزاعات مريرة متداخلة، أكثر من كونها مهيمنة وحاكمة.
ليست "السلطنة العليا، ظل الله" التي تم الإقناع بها عبر الدعايات المفرطة، سوى عنصراً جديداً مموَّهاً بألف مكياج، في الدولة المغطاة من أعلاها إلى أدناها بستار من الدسائس والمكائد والاستبداد والسلب والنهب. فقوة السلطة القتالية في الديانتين الإسلامية والمسيحية، والموروثة من الروم والبرسيين، والتي شبّهناها بالكرة الثلجية والكرة النارية؛ تقمصت الثياب الدينية في إقطاعية العصور الوسطى، لترسخ ذاتها، بحيث – وعلى عكس ما تزعم هي – خلَّفت الإمبراطوريتين الرومانية والبرسية وراءها كثيراً في الظلم والسلب والنهب الذي اتسمت به. مقابل ذلك، ورغم خيانة هرمياتها إياها، إلا أن حركات الإثنيات الفقيرة والكنائس والطرائق والمذاهب المنشقة، والمُبقى عليها في الأسفل والوراء؛ تمثل وتعنى بحقيقة الشعب والمجتمع ذي الروح الديمقراطية والمشاعية، أكثر مما يُظَن.
لأجل تفهم حاضرنا، علينا استيعاب حقيقة العصور الوسطى بقدر سابقاتها؛ ولكن ليس بالقلوب الصفيحية (التنكية) ولا بنظارات الأحصنة الموضوعة على عيوننا من قِبَل الحكام المهيمنين منذ آلاف السنين. بل يجب تفهمه والإصغاء إليه وفق هذه التعريفات. لهذا السلوك أهمية كبرى من أجل روح الحرية ووعيها. فمن لا يحيا التاريخ بشكل صحيح في روحه ووعيه، محال أن يطمح إلى الحرية والمساواة، أو أن يكون ديمقراطياً.
إن حضارة العصور الوسطى في أوروبا، والتي فلحت في أخذ كل ما هو لازم لها من الميراث الإيجابي للمجتمعات الشرقية – دور حركة الأديرة هنا معيِّن ومصيري – اعتباراً من القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد؛ مرغمة على إعداد النهضة بخطى سريعة، وبخلاقية طراوتها. إذ من المهم إدراك دوافع عدم استمرار الإقطاعية مدة طويلة بشكلها الكلاسيكي، عن كثب أكبر. فبقاء المجتمع الطبقي بعبودية العصور القديمة أطول مدة على الإطلاق – من 4000ق.م حتى 500م – قد كشف الستار عن طاقته الكامنة بنسبة ملحوظة لا يستهان بها، وأظهر ما بمقدوره إظهاره. إذا كان التمايز الطبقي الإقطاعي ساهم بحدود في هذه المرحلة، فلضُعف طاقته الكامنة دوره العلني في ذلك. حيث إنه ليس في وضع يخوله للمشاركة كثيراً في النظام الاجتماعي. بالأصل، كانت مآرب الحركتين الإثنية والدينية على السواء، تتطلب تخطي هذا النظام جذرياً. فمحاكاة الهرميات للإمبراطورية وتقليدها إياها، لم يكن الهدف الأساسي. ذلك أنها كانت استثمرت الثورة الاجتماعية للدين، والثورة القوموية للإثنية في الوصول إلى السلطة القتالية الجديدة. فعلى راية المقاومة والصمود للجماهير الفقيرة، كان كُتِب "المساواة، الأخوّة، السلام" قبل اندلاع الثورة الفرنسية بكثير. وقد حصل ذلك في ظل السلطنة الإلهية المعمِّرة ألف عام، وخُلِّدَت طوباوياتها عبر "يوم الحشر والجنة". وكانت الهرمية الخبيرة في تقاليدها الطويلة العمر في المكائد والاستبداد في ظل سلطنة النهب، قرأت ما حفظته، وطبقته بالخداع والزيف، وبالقمع والكبت.
لعبت القوة التنويرية الحقة للكنائس – بقيت هذه القوة تحت تأثير السلطنة بنسبة زائدة في الديانة الإسلامية – من جهة، وروح المجتمع الطبيعي الطريّة للإثنية – وخاصة لدى الجرمانيين – من جهة ثانية؛ دوراً بارزاً في استمرار تلك المرحلة مدة طويلة في أوروبا الغربية. فهاتان القوتان، كانتا تواظبان على الاستمرار في حرية الوعي والإرادة، مثلما هما في كافة فترات التاريخ. كانتا ترفعان راية العلم والحرية بكل شغف وعنفوان، لترفرف فوق أراضي أوروبا الغربية الخصيبة المعطاءة. فلا أمراء وملوك العصور الوسطى المستنسَخون من الإمبراطورية الرومانية، ولا محاكم التفتيش الكنائسية التي كانت تمثل أرواحهم؛ كانوا قادرين على قطع الطريق عليهما. وبما أنهما تكونتا من أناس ذوي أفكار عظيمة وأرواح حرة، فإبداء الاحترام والحساسية إزاء مرحلة التكوين هذه، يحظى بأهمية بالغة من حيث تعلم حقيقة الحضارة الغربية الحالية. فالقيم المخلوقة لها معانٍ سامية، بمثل ما هي عليه قيم الثورة النيوليتية القروية الزراعية والثورة المدينية الحضارية، بأقل تقدير. إنها تعني استمرار وجود وعينا وروحنا الحرة الخلاقة، التي تتجه صوب الخمود في الشرق. فالوعي والحرية المتعاظمة على يد الإنسان الأوروبي، ما هما إلا حكمة وروح المجتمع الطبيعي، اللتين تحلينا بهما لآلاف من السنين، وكنا روادهما. إنها ليست غريبة عنا، بل هي حقيقتنا.
في الحقيقة، إن أب وأم الحركة النهضوية – الميلاد الجديد – المبتدئة في القرن الخامس عشر، هما النسل الأخير للسلالة الشرقية المعمِّرة آلافاً من السنين. أما الظن بأنها وُلِدَت من آدم وحواء أوروبا، فهو مغالطة كبرى. لربما كانت الطفل الشرقي المنفي أيضاً. جلي أن النهضة هي امتداد متسارع طردياً لأحداث القرنين الثالث عشر والرابع عشر. والأرضية التي ترعرعت عليها، ليست سرايا الملوك والأسقفيات المستنسَخات من روما؛ بل أديرة المناطق الجبلية وجامعات المدن المتنامية حديثاً. لا القوة السياسية – العسكرية، ولا القوة الاقتصادية التجارية – الإقطاعية، مصيريتان في هذه الانطلاقة. فأديرة الأرياف والأقفار، وجامعات المدن المقتاتة على كدحها هي؛ تمثل مراكز النشاطات المستقلة التي غذّاها الشعب، وعقد آماله عليها، وآزرها لتعلو فيها راية الحرية والوعي. سأنوِّه بأهمية بالغة إلى أن الطريق المفضية إلى النهضة تمر أساساً من المدارس المشاعية للشعوب، لا من سرايا الملوك والكنائس الفخمة. إنها ليست الطريق التي رسمتها الطبقة الإقطاعية، ولا الطبقة البورجوازية التي لم تكن موجودة آنذاك.
إذا ما كان لازماً تحديد زمانها ومكانها، من حيث تدفق نهر الحضارة؛ فسيكون الانطلاق من المنبع السومري – مرة أخرى – معلِّماً ومفيداً. ينتشر الكيان المتواجد في أطراف مدينتي أوروك وأور في الفترة ما بين 3500 – 2500ق.م صوب شمالي نهرَي دجلة والفرات، على موجات متتالية، مروراً بمراكز نيبور، بابل، ونينوى. والمراحل المتشكلة في أطراف هذه المراكز، هي: (2500 – 2000ق.م) في نيبور، (2000 – 1300ق.م) في بابل – وهي المرحلة القديمة والوسطى – و(1300 – 600ق.م) في آشور، و(600 – 300ق.م) هي مرحلة بابل الأخيرة. وبرزت حضارات الحثيين الأناضوليين في (1700 – 1200ق.م)، وفي ميديا (900 – 550ق.م)، وفي برسيا (550 – 300ق.م)؛ والتي تأثرت – عدا ميزوبوتاميا – مباشرة بالسومريين.
يمكننا تناول الحضارتين الإغريقية والرومانية الكلاسيكيتين ارتباطاً بالثورة الذهنية الثانية الكبرى. إنها حضارات المرحلة العبودية المتوجهة من الفكر الميثولوجي صوب الفكر الفلسفي. وقد بدأت بالتطور بعد اقتحام طروادة، الممثلة العظمى والأخيرة للشرق في الغرب. أما الخلاّصيون (Hellas) والأتروسكيون، فمختلفون. حيث عجزوا عن إحداث تطور خاص بهم، بسبب عدم قدرتهم على تجاوز وضعية النزوحات التقليدية في الانتشار. في حين أن الحضارتين الإغريقية والإيطالية الناشئتين في أعوام 1000ق.م، تمكّنتا من الانتقال إلى حضارة لها خاصيتها، مع تطور الفكر الفلسفي في أعوام 500ق.م. في الحقيقة لقد اكتسبتا خاصياتهما من تغذيهما مدة طويلة على الآثار الحضارية السومرية والمصرية، ومن اتحادهما مع الهجرات القادمة من الشمال، بالإضافة إلى تأثير الخصائص الجغرافية أيضاً.
إن التطورات الحاصلة لدى الإغريق وشبه الجزيرة الإيطالية، هي امتداد للحضارة الحثية في بلاد الأناضول. وإذا ما أضفنا إليها المساهمات الكثيفة للفينيقيين في مصر وشرقي البحر الأبيض المتوسط، سندرك عندئذ ركائز التطور الخاص بها على نحو أفضل. يتوقف توسع الحلقة الإغريقية – الرومانية الحاصل فيما بين 1000ق.م و500م، عند تخوم أوروبا وشواطئ المحيط الأطلسي. فالظروف الزمانية والجغرافية المختلفة تكوِّن شروط ظهور الشكل الثالث الكبير منها. ولدى ارتطام نهرنا الحضاري بصخور أوروبا الغربية، يبلغ مرحلة أخرى من العطاء الأوفر. إنها الثورة الحضارية الثالثة الكبرى، المبتدئة في أعوام 1500م. وإذا ما ربطنا النهضة بسلسلة الحضارة العالمية، فسيكون التدفق في هذا المنحى واقعياً.
التعريف الأصح للنهضة هو الثورة الذهنية. فالثورة جذرية في عدة ميادين. أولها هي الولادة الجديدة للفرد الذي يكاد يُهمّش باسم الألوهية على يد الفكر الديني. لقد وصلت النظرية اللاهوتية المسيحية ذروة المرحلة السِكولاستية* في أعوام 1250م، مع ظهور تركيبة أرسطو الجديدة. ويمكن نعتها أيضاً بالحالة الأرقى للميتافيزيقيا. وكأن الإنسان قد نُسي، ومُحي من الحياة، بحيث لن يكون بمقدوره حتى أن يكون عبد الإله. ووصل الأمر حداً مفرطاً من الشكل المجتمعي المستند إلى الدين. من الصعب على الإنسان تحمل هذا الشكل غير المتناغم إطلاقاً مع الحياة المرئية العملية، لمدة طويلة. فالمحاولات الهرطقية (المذهبية المنشقة) والساحرات الجنّيّات (نساء المجتمع الطبيعي اللواتي لم يعتنقن المسيحية) والكيميائيون (تكوين الذهب من العناصر الطبيعية، البحوثات العلمية)؛ إنما تمثل المقاومة الذهنية الخاصة تجاه دوغمائية المسيحية.
ما أرادت محاكم التفتيش إعاقته هو التطورات التي قد تمهد لظهور الفرد الحر. فالمثال الأكثر لفتاً للنظر لمن انقطع عن دوغمائية المسيحية وحقق وثبة نحو فكر الطبيعة الحرة، هو "جيوردانو برونو". فـ"برونو" الشغوف كلياً بالطبيعة، لا يميز بينها وبين الإله. وكأنه ثمِل بمفهوم "الطبيعة – الكون" الحيوي. لقد كان معجباً ومذهولاً بآليتها، لدرجة أن هذا الرائد الحماسي النهضوي أُعدِم حياً بالنار تأكله ألسنتها، في عام 1600م في روما، وبشكل يليق حقاً بذكرى "سبارتاكوس" و"سانت بولس Saint Paul"**.
النتيجة الأخرى الهامة والمتمخضة من التوجه نحو الطبيعة بوجهة النظر المنقطعة عن الدوغمائية، هي تطور الأسلوب العلمي. لقد عرف الأسلوب التصوري الميتافيزيقي، الذي فصل ذهنية الإنسان عن الواقع الطبيعي، كيف يتجه صوب الطبيعة مجدداً بتغيير الأسلوب. فـ"روغر Roger" و"فرانسيس بايكون Francis Bocon"*** و"غاليليو غاليلي Galileo Galilei"، الذين يعدون كأنبياء الأسلوب العلمي؛ فرضوا المراقبة والتجربة والقياس على الطبيعة، ليُشرِعوا الأبواب على مصاريعها أمام درب العلم.
تطوُّر الذهنية العلمية تصاعدياً منوط عن كثب بهذا الأسلوب المتبع. فبينما التوجه الفلسفي يعني التقرب بأمل من الطبيعة، فهذا الأمل من أجل الأسلوب أيضاً يعني تحوله إلى حقيقة واقعة. إذ، وبينما تنوِّر الرؤى المستقبلية والفرضيات الفلسفية الساحاتِ العلمية وظواهرَها؛ تحقق المراقبة والتجريب والقياس البرهان العلمي فيها. وبدون وجود التجربة والقياس، لا يمكن الإفادة من الطبيعة بالفرضيات الفلسفية. لا يمكن إدراك ما سيتمخض من كل ظاهرة متداوَلة، دون اللجوء إلى التجريب والقياس. وإن كانت الخطوات المخطوة في هذا الاتجاه في العالم الإسلامي قد أسفرت عن بعض النتائج؛ إلا أنها بقيت محدودة في مساهماتها في المعلومات العلمية، بسبب عدم ارتكازها إلى أسلوب منتظم. لم تدخل المعلومة العلمية – الدعامة الأساسية للحضارة الغربية – مرحلة التطور السريع، إلا بعد تحليل وحل مشكلة الأسلوب الرئيسية. فحل مشكلة الأسلوب مهّد السبيل للثورة العلمية. هذا ولعبت البحوثات في الأساليب العلمية المتحققة مع النهضة، دوراً ملحوظاً في تطور المدارس الفلسفية الحديثة. كما فتح تقارُب الفلسفة والعلم وارتباطهما ببعضهما البعض، المجالَ أمام مرحلة من التطور العلمي الأكثر عطاء، وأدى إلى ظهور البنى الفلسفية المتطورة ارتباطاً بالعلم.
هذا الفكر والموقف المنقطعان كلياً عن الإله، واللذان يمكننا نعتهما بدعامة النهضة؛ يمثلان تغييراً عظيماً في البراديغما. من الجوهري عدم النظر بعين اعتيادية للثورة الذهنية المتحققة. إنها من أصعب ضروب الثورات الحاصلة. فالتخلص من الدوغمائية الدينية، وإيلاء المعنى للحياة بقوة العاطفة والفكر، هما من أهم مكاسب الحضارة الغربية. والطبيعة النابضة بالحياة والحركة، المزهوة بالألوان، الباعثة على النشوة والحماس بكل ما فيها، والمحمَّلة في ثناياها بالطاقات الكامنة العظمى؛ إنما تَعِدُنا بآمال عظيمة. إن عودة الإنسان إلى الطبيعة بعد مرور آلاف من السنين، وبتراكم وعي هام؛ هي مصدر كافة التطورات الأخرى.
التغيير العظيم الثاني هو الإصلاح الحاصل في الدين. إذ كان لا مفر من ردة الفعل تجاه الدوغمائية المسيحية المناقضة بمغالاة وإفراط لمفهوم المجتمع الطبيعي. تُشكِّل تقاليد المجتمع الطبيعي لدى الجرمانيين، وتَعَرُّفهم الحديث العهد على الدين؛ شروط انبثاق الإصلاح من هذه الثقافة. والبروتستانتية في حقيقتها هي التفسير المسيحي للشعب الجرماني. وهي تمثل التنقيح والإصلاح الأكثر مرونة للدوغمائية، والذي لا يعيق العمل والنشاط، والمنفتح أمام العلم. إنها ضرب من ردة الفعل إزاء السلطنة الدينية. وهي الضربة النازلة على التزمُّت الصارم للدين المسيَّس بإفراط، والذي يشكل عائقاً أمام التطورات العملية، ولا يعترف بخاصية وحرية الشعوب. كما أنها انعكاس للثورة الذهنية بمعناها اللاهوتي.
وبتحطم القوالب الدوغمائية، ولج الفكر الفلسفي مرحلة من التطور السريع. فكيفما فُتِحَت درب المرحلة الفلسفية التاريخية في بلاد الأناضول الغربية مع تجاوز الفكر الميثولوجي في أعوام 600ق.م، فقد بُلِغ عصر فلسفة أرقى مع تجاوز الدوغمائية الدينية في منطقة أوروبا الغربية. وكأن الفلسفة، التي هي الساحة الأرقى للثورة الذهنية، قد وجدت أنبياءها ممثَّلين في شخص "سبينوزا Baruch Spinoza"* وديكارت.
التطور الثالث المتولد مع النهضة هو شكل الحياة المتمركزة حول الإنسان. فالمفهوم القائل بأن الإنسان يجب أن يكون مُلك الإله بكل ما فيه، هو صياغة مختلفة للذهنية العبودية. إنه صياغة فكر ميثولوجي تسرب من ثقافة المَلك الإله إلى الأديان التوحيدية، وكأنه محى الفرد من الحياة. وهو من بقايا كون العبد – بكل ما فيه – أداة بيد سيده. إن إفناء الفرد لهذه الدرجة في هوية السيد والإله، يعني أيضاً عدم وجود حياة يمتلكها. إذ، ليس الإله مُلكاً له، بل هو مُلك للإله. إذا ما ترجمنا ذلك، فهو يفيد بالتبعية المفرطة لهرمية البشرية الدينية المتدوِّلة. تتواجد عبودية الدين المستترة بهذا النحو في كل الأديان لصالح الطبقة المهيمنة. إن إنعاش النهضة تقديرَ الإنسان واحترامَه، مناسب أيضاً لتعريفها بأنها الطراز الوجودي الذي يضفي فيه المجتمع معاني أكثر على حياة الفرد. فأينما يُفنِد الوجودُ المجتمعي الجانبَ الفردي، تكون ثمة عبودية وطيدة.
ما تَحَقَّق في اشتراكية السوفييتات، هو عينه – مضموناً – ما تَحَقَّق في اشتراكية دولة الرهبان السومريين. فعندما يُصهَر الفرد ويُذاب، أياً كانت الذرائع، وباسم أيٍّ كان؛ فإن ذلك يسمى بالعبودية. كانت هذه المصطلحات الأساسية في الأديان الطوطمية والمتعددة الآلهة في الكلانات والعصور القديمة، والتي هي ضرب من أشكال انعكاس المجتمع؛ تمنح الفرد القوة والقدرة. يمثل المفهوم الديني للعصور الوسطى ضلالاً حقيقياً عن المجتمعية الأصلية، من حيث محوه الفرد وتهميشه إياه.
بجذب الفلسفة الإنسانية المثالية والفردانية والإصلاح للإنسان إلى مركز الحياة؛ أبدت موقفاً جدياً تجاه الانحراف البارز على شكل الوجود الاجتماعي. تعد النهضة، بجانبها هذا، من أهم المراحل الذهنية في التاريخ، وأهم الخطوات اللازمة من أجل خلاقية الإنسان وطبيعته. إنها تعني الولوج في درب أو أرضية يمكن للمجتمع الأيكولوجي الارتكاز إليها. إلا أن تطوير ذهنية الرأسمالية لنفوذها فيما بعد، ومرورها من الفردانية إلى الفردية، آل إلى استيلائها على كافة المكتسبات، وفتحها الأبواب على مصاريعها أمام أكبر تضليل أيكولوجي في التاريخ. أي أن مصدر الكوارث الأيكولوجية ليس ذهنية النهضة، بل تحريفها بالرأسمالية، وإفراغها من محتواها، وفصلها عن حالة الوجود الاجتماعي بشكل معاكس لها. وبالتضليل الذي قامت به الدوغمائية الميثولوجية والدينية في واقع الوجود الاجتماعي على شكل "مجتمع الإله"؛ عملت الرأسمالية على محو المجتمعية لصالح الفردية، وتطبيقها بشكل معاكس. وبقولنا بأن إحدى أهم المشاكل القائمة في يومنا الراهن هي الضلال الأيكولوجي، سندنو من الموضوع ونغوص فيه أكثر.
كشفت مرحلةُ النهضة – صاحبة الميراث المتراكم طيلة ثلاثة قرون تقريباً (1400 – 1700م) – النقابَ أساساً عن نوع التفكير في الحضارة الغربية. فإعادة إدراجها ذهنية الإنسان المبتورة من الطبيعة والمجتمع، في درب فلسفية وعلمية أكثر عمقاً، فتحت المجال أمام الدرب اللازم سلوكها حتى النهاية من أجل الحضارة الجديدة. ثمة مشكلة أسلوب منوطة بهذا التطور، ويجب تداولها معه.
نخص بالذكر هنا الخطأ الأكبر المرتكَب في التفسير المادي المغالى فيه بشأن مفهوم التاريخ في الماركسية؛ والذي يشرح الصياغات المجتمعية على نحو خط مستقيم. فالمفهوم الذي ينظر إلى تطور الرأسمالية وتمأسسها كنظام، وكأنه ضرورة لا بد منها؛ لربما قدم أكبر الخدمات للرأسمالية، بما يعجز عنه أي أيديولوجي رأسمالي. بل وفعل ذلك باسم مناهضة الرأسمالية. قد يبدو في الأمر تناقض. ولكن، إذا ما نظرنا إلى الوراء، لأدركنا على نحو أفضل أن أي أيديولوجي رأسمالي لم يخدم نظامه، بقدر ما فعل الماديون الفظون ذوو الأصول الماركسية.
إلى جانب اعتبار النهضة إحدى أهم الثورات الذهنية، فالمشكلة الأهم هنا تتمثل في تحديد ماهية النظام الاجتماعي الذي ترتبط به النهضة؟ فمفاهيم التاريخ الكلاسيكي تَعتَبِر نظام المجتمع الرأسمالي تجهيزاً للذهنية. في حين ينظر المفهوم الماركسي في التاريخ إلى ولادة ذاك النظام وكأنها أمر إلهي. وكل هذه الآراء هي ثمرة الحياة التابعة للرأسمالية بالذات.
ثمة تراكم لرأس المال في كل فترة من فترات التاريخ، قليلاً كان أم كثيراً. حيث نشاهد تراكم الثروة ورأس المال بكثافة منذ عهد السومريين، وخاصة مع تطور التجارة. نَمّ ذلك عن بروز الأغنياء الاقتصاديين. واليهود مشهورون في هذا الخصوص تاريخياً. إلا إنهم، مع ذلك، لم يقدروا أن يصبحوا نظاماً مهيمناً. كل من جماعة الدولة العليا والجماعات المشاعية السفلى، رأت في التراكم خطراً، ونظرت إليه بعين الريبة والشك. بل ووضعت نصب عينيها على الدوام احتمال احتضانه السيئات الكبرى في أحشائه. والعامل المؤثر والهام هنا، هو القلق من تمزق نسيج الأخلاق الاجتماعية. فحتى السلطة القتالية، لا تجرؤ على تمزيق أخلاق المجتمع وتشتيتها، مهما استمرت في بسط نفوذها عليه. فوجودها بحماية الظاهرة الاجتماعية المرتكزة إليها كتمأسس للهرمية؛ هو شرط أولي. وحتى لو أبادتها جسدياً، فهي تقوم بذلك ضمن أصوله. فتجريد مجتمع ما من تقاليده الأخلاقية الأولية، يعني تعريته وتجريده من وسائل الدفاع، وجعله منفتحاً أمام كل أنواع المهالك. وبلوغ رأس المال الرأسمالي إلى مستوى النظام، منوط عن كثب بحله الأخلاق، وبالتالي المجتمع. الأمر هكذا، ولا علاقة له بإرادتها. فبدون حل المجتمعية، لن ينبثق أي نظام من الرأسمالي. وحتى إذا اتجه صوب تشكيل النظام، فإنه يكون مدمِّراً فظيعاً حينها.
يتطرق كل من ماركس وأنجلز إلى هذه المرحلة بأسلوب ملفت للنظر في البيان الشيوعي. إنهما مذهولان نوعاً ما إزاءه. ورغم إناطتهما الرأسماليةَ بالدور الثوري، إلا أنهما ينوّهان – وبكل إصرار – إلى تدميراتها وإجحافها، وإلى ضرورة تخطيها بأقصى سرعة. فالرأسمالية ليست أي نظام اجتماعي آخر. إنها ضرب من النظام السرطاني للمجتمع. إن التمحيص في الحضارة كمجتمع طبقي على وجه العموم، وفي الحضارة الرأسمالية كمرض اجتماعي على وجه التخصيص، والتقرب منها بموجب ذلك؛ يتحلى بأهمية بالغة. فالسرطان ليس مرضاً وراثياً. بل هو مرض يبرز مع إرهاق الجسد وخور قواه، وفقدانه مناعته. وما يُعاش في الظاهرة المجتمعية شبيه بهذا. يصاب المجتمع المرهَق في الأنظمة الحضارية بمرض السرطان في كافة أنسجته – أي مؤسساته – لدى تسرب رأس المال إليها. ويصبح عرضة للمؤثرات المميتة، إما بنسبة قليلة أو كثيرة، حسب نوع السرطان. وحل مسألة الحروب المندلعة في القرن العشرين لوحده، سيلقي الضوء على هذه الحقيقة، بكثير من جوانبها. علينا رؤية كل من الرقابة المفرطة، الربح، الربح الأعظمي، فرض البطالة، المجاعة، الفقر والعَوَز، العرقية، القوموية، الفاشية، التوتاليتارية، فن الديماغوجية، الدمار الأيكولوجي، التمويل المفرط، الشخصيات الأغنى من الدولة ذاتها، القنبلة الذرّية، الأسلحة البيولوجية والكيميائية، والفردية المفرطة؛ بأنها ضروب من سرطان النظام الرأسمالي.
لقد قمنا بسرد هذا التعريف الموجز للرأسمالية، في سبيل إدراك أواصرها مع النهضة بنحو صحيح. يتجسد مضمون تعريف النهضة – بشكله المجمَع عليه – في الاعتماد أساساً على استيعاب الطبيعة والمجتمع والفرد بدرجة الشغف، وبشكل بعيد عن كل أنواع الدوغمائيات. إنها العودة إلى قدسية الطبيعة والفرد. والحُكم المشترك هنا هو أن هذا الفرد ليس فرداً رأسمالياً، بل إنه معبأ بوعي الطبيعة والفن والفلسفة، يهرب من الحرب ويفندها، ويتطلع إلى بناء مجتمع طبيعي حر وعادل متساوٍ.
اليوتوبيات النهضوية مشاعية، لا رأسمالية. إذ ما من بحث مقنع يشير إلى أن النظام الاجتماعي الجديد البارز هو الرأسمالية. فالحياة الدارجة في الأديرة هي المشاعية. والروح السائدة في المدن الحديثة العهد، أقرب إلى الديمقراطية. كذلك، فرجالات العلم المعنيون بالفلسفة والآداب، والمنهمكون بالفن؛ كلهم أناس كادحون يقتطعون لقمة عيشهم بصعوبة ومشقة. أما المنشغلون بتراكم رأس المال، فهم محدودون، ويستحقون إلحاقهم بالقضاء، بسبب مُراباتهم (عيشهم على الربا) خصيصاً؛ باعتبارهم فئة قد جمعت النقمة الاجتماعية عليها. تُشكِّل الأرستقراطية الإقطاعية، بالاشتراك مع الطبقات الشعبية كقومية ناشئة حديثاً، نظاماً مختلطاً حتى فترة قيام الثورة الصناعية.
هذه المعالجة المقتضبة كافية للإشارة إلى استحالة الحديث عن نظام المجتمع الرأسمالي حتى القرن التاسع عشر. إذن، والحال هذه، فالنظر إلى النهضة كفترة تمهيدية للرأسمالية، أو كمرحلة ذهنية لها؛ يعتبر خطأ فادحاً. والصحيح هو أنها مساحة بينية للفوضى، منفتحة لكل احتمالات التطور. إنها مرحلة بينية تَشَتَّتَ فيها نظام المجتمع الإقطاعي وانهار. لكن المجتمع الجديد لم ينشأ فيها بعد، بل تشهد مخاضات ولادته. ومثلما قد تستعيد الإقطاعية قوتها وتخرج منها، فقد ينشأ عنها أيضاً نظام رأسمالي فردي. وقد تشهد تطوراً صوب نشوء مجتمع ديمقراطي متساوٍ وحر يتمتع بشروط البنية التحتية الوطيدة. تماماً مثلما هي إمكانية ولادة العديد من النظم – على الصعيد النظري – المنوطة بالكفاءات والقدرات الواعية والسياسية للمحاربين في سبيل النظام. بيد أن الموالين للمجتمع الأكثر مساواة وحرية كانوا يخوضون صراعاً محتدماً مع المجتمع الرأسمالي، حتى نهايات الثورة الفرنسية. في حين أن الثورة الإنكليزية المندلعة في 1640 تتسم بخاصية ديمقراطية ساحقة، بحيث يمكن مصادفة المفاهيم الشخصية والجماعية الوطيدة والمتنوعة، بصدد المساواة والحرية. إنها ثورة شعبية أكثر منها بورجوازية. ومشاعيو مدن إسبانيا في القرن السادس عشر، ذوو طابع ديمقراطي. وماهية الثورة الأمريكية أيضاً تحررية وديمقراطية بكل سطوع. كما وثمة العديد من الألوان والطوابع في الثورة الفرنسية 1789، بما فيها الشيوعيون.
باختصار، فميول المجتمع الحر المتساوي والديمقراطي محظوظة في الخروج من الفوضى الاجتماعية السائدة في مرحلة النهضة تساوي الميول الرأسمالية الفردية، بأقل تقدير. فالرأسمالية لم تحقق تفوقها إلا في الحرب الاجتماعية الناشبة مع قيام الثورة الصناعية. والقرن التاسع عشر هو المرحلة التي تصاعد فيها نفوذ الرأسمالية في كل الميادين، مع نشوب الثورة الصناعية. حيث نشاهد، ولأول مرة، أن نظامها أكمل توسعه بخطوطه العامة على الصعيد العالمي، مع حلول نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. في حين أن صراع المجتمع المتساوي الحر والديمقراطي، يفقد فرصته في التحول إلى نظام اجتماعي حاكم، منذ هزيمة الثورات فيما بين 1848 و1871.
لإكمال تعريف المرحلة، من المهم دراسة موضوع الأمة والدولة القومية، بشكل متداخل مع النظام الاجتماعي الناشئ حديثاً.
من الضروري الإدراك بأن تشكُّل المجتمعات كظواهر قومية، ليس ثمرة مباشرة للرأسمالية. فالزعم، في هذا الموضوع أيضاً، بأن الرأسمالية تخلق الأمة، خطأ حقيقي. وللماركسية أيضاً نصيبها في هذا الخطأ. فالمرحلة البارزة في المجتمعات على شكل كلان، قبيلة، عشيرة، قومية، وأمة؛ لها جدليتها الخاصة بها. وهي لا تتولد كثمرة للمجتمع الطبقي. إذ يمكن تكوُّن الأمة دون وجود الرأسمالية. فاللغة والثقافة والتاريخ والقوة السياسية تلعب دوراً مصيرياً أكبر في تشكل الأمة. وبإمكان الأمم المستاوية الحرة والديمقراطية أن تتطور بسلامة أفضل في البنى الاجتماعية. نلاحظ أن الأمم تشكلت في أوروبا الغربية منذ القرن الثاني عشر.
لم يتبين أيٌ من تلك الأنظمة الموجودة ستسود بين الأمم، إلا في أواخر القرن الثامن عشر، مع انتصار البورجوازية. وانتصار الرأسمالية بين الأمم يتماشى وإحلالها القوموية محل الدين، كأيديولوجية حاكمة. فتطوير السوق داخلياً، والانفتاح نحو الخارج، منوطان عن كثب بوجود قوموية راسخة. وخاصية القوموية الوطيدة هذه تفضي إلى الدولة القومية. تتطور الدولة القومية بعد تجاوز الستار الأيديولوجي الديني، عبر العلمانية. إن القول بدولة الأمم، أمر خاطئ في مضمونه كلياً. فقد يعكس الحديث عن قومية المجتمع وتكامله القومي نسبة من الحقيقة القائمة، أما قومية الدولة فهي حُكم أيديولوجي، وليست واقعاً اجتماعياً قائماً. لا وجود لأصحاب دولة اجتماعية بالكامل. فالدولة دائماً في إمرة وخدمة أقلية قومية. وما تفعله الدولة هو تحويل الظاهرة القومية إلى ظاهرة أيديولوجية، لتأمين أسس مشروعيتها؛ تماماً كما هي الحال في الظاهرة الدينية. فكل قومويات القرنين التاسع عشر والعشرين مرتبطة بالطموح إلى تأمين المشروعية الاجتماعية. والقوموية تلعب دوراً بارزاً في مواراة التناقضات الطبقية في الداخل، والتحفيز على الاعتداءات صوب الخارج. من المهم فهم القوموية كسلاح أيديولوجي للدولة الرأسمالية، من حيث الاستيعاب الصحيح لمراحل توسعها وانتشارها.
تُزيد القوموية من تعزيز المركزية داخل الدولة، في الوقت ذاته. وتنزلق قوموية الدولة نحو البنى المركزية الأحادية، إزاء البنى الإقطاعية الأكثر ديمقراطية. من هنا يتم العبور نحو مفهوم الدولة الفاشية والتوتاليتارية. يتماشى تحول المرض الاجتماعي إلى حالة الهيستريا جنباً إلى جنب مع توجه النظام الرأسمالي نحو شكل الدولة الفاشية والتوتاليتارية. والمحصلة تكون انتحار الرأسمالية. من هذا المنطلق، يمكن التفكير في الحربين العالميتين الأولى والثانية بأنهما عمليتان انتحاريتان للنظام المتولد من الاستخدام المفرط لعيار (دوزاج) القوموية. إنها مرحلة ولوج الرأسمالية – التي تُعتَبَر أزمة الحضارة – أشمل وأعمق مراحل الأزمة والفوضى.
إذا ما نُظِر إلى نظام المجتمع الرأسمالي بإرشادات نظرية أكثر شمولية وتكاملاً، سيُرى أنه مُجَمَّع العناصر الأكثر استغلالاً، والمتسربة داخل صفوف مجتمع الإنسان. يمكن تناول الاستغلالية كالانتهازية (النفعية) التي تحوِّل كل شيء لمنفعتها على الفور. إنها تطوير للنفعية على الصعيد الفني. وهدفها أولاً هو القيم المادية. لكنها تتوجه نحو القيم الفكرية والعقائدية والفنية، والتي يمكننا تسميتها بالقيم المعنوية؛ بالتكافؤ مع نسبة خدمتها للتطور المادي. فلسفتها الأساسية هي انتظار الربح المنفعي من كل ما هو موجود باسم الظاهرة الاجتماعية. إنها لا تميز في الاستغلال بين القيم الطبيعية المشاعية، وقيم الدولة الهرمية. المهم هنا أن تكون معطاءة ومثمرة. وتشبيهها بالدود المعشش داخل البنية، أو بجرثوم السرطان، مرتبط بنوعيتها هذه. وهي تذكرنا أيضاً بالتشبيه القائل: دود الشجرة من الشجرة.
لنبيِّنْ مرة أخرى اعتماداً على تلك التشبيهات، أن الظواهر المعنية يمكنها مواصلة وجودها تحت المراقبة والعناية، ما لم يتغلغل الدود داخل كل السرب، أو يحيط الجرثوم بكامل البنية، أو ينخر الدود الشجرة حتى يقلبها. تُعتَبَر الرأسمالية في أخطر مراحلها لدى تحولها إلى نظام مهيمن، وانزلاقها معه نحو أشكال مفرطة. هذا أمر وارد في طبيعتها. هذه هي الظاهرة المسماة بالفاشية والتوتاليتارية. في هذه الحالة تُشاهَد حالة من الحرب الدائمية داخل المجتمع. وهي ليست مجرد حروب عسكرية عالمية رسمية، كالحربين العالميتين، بل وتعاش الحروب الأخطر والأضرس داخل المجتمع، في كافة مؤسساته وعلاقاته. ويبدأ المنطق الذي مفاده: "الإنسان ذئب الإنسان" بالفاعلية كلياً. وتتفشى الحروب حتى بين الأزواج والأطفال، وفي البيئة الطبيعية برمتها. وما القنبلة الذرّية سوى تعبير رمزي عن هذه الحقيقة. حيث تعاش حالة من القنبلة الذرّية داخل عموم المجتمع، بشكل دائمي، ولكن تدريجي وبطيء.
إذا ما نظرنا إلى مرحلة الدولة القومية والعولمة، نجد أن الوضع مرئي بشكل أوضح. إذ، وبعد الإفراط في الظاهرة القومية والاستيلاء كلياً على الدولة، يكاد الفرد المعزَّز بالقوة سابقاً، يدخل مرحلة "التَنَمُّل" (التحول إلى نملة). ويغدو الفرد والإنسانية المثالية المتعاظمان مع النهضة، موضوعاً لمرحلة معكوسة؛ وكأنهما أضحيا هدف الهجومات والتهكمات. هذه الحقيقة لوحدها كافية ووافية للإشادة بمدى التضاد والتباين بين الرأسمالية وقيم النهضة. فبينما يتضخم الرأسمالي، يتقزم الفرد. ويتحول مضمون الإنسانية المثالية إلى مصطلح أجوف، أو مصطلح يبعث على الحياء، تجاه حروب الفتح الضارية الناشبة بين الشركات العملاقة تحت اسم العولمة. أما تذويب كافة المؤسسات – عدا الدولة القومية – واستعمارها؛ فيغدو ظاهرة ضرورية لا بد منها. وبإيصال مبدأ "ما من قيمة أثمن وأسمى من الدولة القومية" إلى حالة كهذه، تتقمص الدولة درع الحصانة بما لم تبلغه في أي من العصور الأخرى. كل شيء من أجل الدولة المللية. وفي الحقيقة، كل شيء من أجل الرأسمالي، لكنْ تحت رداء أو مكر الدولة المللية. فالدولة، وخاصة القومية منها، مستحوذة على سحرِ جلْب المنفعة والربح الأعظمي عبر الطريق المختزلة، لدرجة يُعلى من شأن القوموية، كأيديولوجية للدولة القومية، لتضحي تياراً عقائدياً وإيمانياً بنسبة وبأبعاد تعجز عن بلوغها كل الإدراكات الميثولوجية والفلسفية والدينية، وتكاد تُعمي كافة الأبصار والأفئدة المعنية.
هكذا لا يبقى لأية قيمة معناها، فيما عدا عناصر الواقع المللي المبالَغ فيها. فالقدسية مخفية، فقط وفقط، في عناصر القيم المللية المبالَغ فيها. مقابل ذلك، يسعى الفرد كمواطن، إلى التمسك بـ"طرائقية الدولة"، وكأنه يُعَد ويُجهَّز لعضوية طرائق العصور الوسطى.
حقيقة المواطَنة هي مصطلح يستلزم التحليل على نحو كامل الحسن. حيث حلَّت علاقةُ الفرد – الدولة فيها محلَ علاقة القن – العبد بالدولة، والتي كانت سائدة في العصور الأولى والوسطى. إنها تعبِّر عن ضرب من التحول إلى علاقة البورجوازية (الدولة) والعبودية. فمواطَنة الدولة تعني إعداد الشكل الحديث للعبد من أجل النظام القائم. إنه الفرد المُعَدّ بحالة تفيد أغراض الطبقة البورجوازية، حيث يحتل مكانه في العديد من المواضيع، وفي مقدمتها التجنيد والضرائب. إنهم يوَلِّدون القوة المحتاجة للدولة والطبقة الحاكمة. في حين أن إنجاب الأطفال أضحى عملاً بلا مصاريف أو أجر. ومهما يكثر الحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إلا أن المنتفع منها مضموناً، وبشكل ساحق، هو الطبقة المهيمنة.
أما تدخل الرأسمالية في العلم والفن والاستفراد بهما، فيسفر عن نتائج أكثر ترويعاً. حيث بات العلم والفن عموماً آلة بيد سلطة الدولة. ومع الرأسمالية تصل مسألة السلطة والمعرفة أبعاداً لا نظير لها بقوة الثورة العلمية. يؤول احتكار العلم والفن إلى بروز قوة فظيعة من الهيمنة والاستعمار، بحيث تزوِّد بإمكانية تشكيل الفرد والانتفاع منها كما تشاء. وهي لا تقف عند حد تحويل البنية الذهنية والبراديغمائيات الأساسية بما يتوافق وعالَمها الخاص؛ بل وتقوم بصنع الفرد صاحب "نظارة الحصان والقلب الصفيحة". وبهذه العيون والأفئدة يُبلَغ بالناس إلى موجودات في حالة قصوى من الضحالة والسطحية، المنفعية، الأنانية، اللامبالاة، الظلم، اللاإحساس، التجريد، والآلية الروبوتية.
هكذا تَترُك وجهة نظر العالَم (والإنسان) النابض بالحيوية والقداسة، مكانَها لوسط اجتماعي وعالَم باهت رمادي اللون، جامد، مفتقر لقدسيته، لا يبعث على النشوة والفضول، متوتر، سئم، ومرهق. أما الشرائح الكادحة المأجورة في المجتمع، فكأنها تحولت إلى دجاجة تفقيس. ويُلَقَّن الجميع بأن المعنى الوحيد للحياة يكون بالأجر الطُّعم، الذي يكاد يسد الرمق. ويصبح نمط الإنسان الاقتصادي يتخيل كل شيء لديه بناء على إشباع بطنه وإملائها. الأنكى من كل ذلك هو مهارة النظام في تفشي البطالة الأكبر على مر التاريخ. حيث يُضخَّم من كمّ جيوش العاطلين عن العمل، وتكون دوماً على أهبة الاستعداد، من أجل الحظي بعامل رخيص. وتُقحَم العلاقة بين البورجوازية والعامل في حالة بحيث يصبح العمال المتمردون في البداية سرباً من القطيع تابعاً لها، بما يضاهي تبعية القن لسيده في العصور الوسطى. ويخرج العامل من كونه طبقة أقيمت من أجلها الثورة، ليتحول إلى شخصية زائفة خاصةٍ بالعبيد التابعين لأربابهم، تجاه مخاطر البطالة المروعة أو الأجر الأرخص. لا يغدو العامل في هذه الحالة قيمة بحد ذاتها، بل هو ملحق بمؤسسته أو برب عمله. ومثلما يكونان هما، يكون هو.
أما المرأة والطفل والعجوز، وهم من الشرائح التي تعاني أفظع الحالات؛ فيغدون في حالة أشد سوءاً وإجحافاً. فالمرأة التي لا تنفك تئن تحت وطأة القوة الفظة والبلادة والشهوانية النهِمة الشبع للرجل الحاكم عليها منذ تأسيس الهرمية؛ تُكبَّل بالسلاسل والأكبال بألف مِثْل في ظل النظام الرأسمالي. المرأة هنا هي الموجود الذي ابتدع الرجل بحقه الكذب والرياء بالأكثر. يقال بأنه حتى فرويد، الذي مارس أكثر النشاطات شمولية بصدد الجنسية، تلفظ بآخر جملة وهو على فراش الموت قائلاً: "ماذا تعني المرأة؟". هذا أمر غير اعتيادي. إنه الوضع الذي أحاطته الأيديولوجية الذكورية المهيمنة المريعة حول المرأة. فالرجل الحاكم، الذي لا يود معرفة المرأة إطلاقاً، يلجأ إلى أحد أهم أسلحته التمويهية، ألا وهو آداب العشق المزيفة. العشق بالنسبة للرجل الحاكم يساوي مواراة الكذب والرياء، اللااحترام المستتر، عمى الوعي والبصيرة، واكتساب المساحة والديمومة في الغرائز الشهوانية العمياء. وإيصال المرأة إلى النقطة التي تبلع فيها ذلك وتهضمه، منوط بمدى غور العقم واللاحل تحت وطأة الكبت والقمع. لقد فُصِلَت عن شروط الحياة المادية والمعنوية بنسبة، غدت فيها بائسة يائسة في قبول أكثر ألفاظ الرجل انحطاطاً وتهكماً واعتداءاً، بأنها حقه المشروع.
وبالنسبة لي شخصياً، فإني مذهول دوماً من قبول المرأة على ذاتها بالحياة في ظل "الوضع القائم" الذي أُقحِمَت فيه. لكن، عليّ الاعتراف بحدسي الذي مفاده أنه عندما يجلب القصّابًُ الشاةَ للذبح، فإن الشاة تدرك ذلك، فترتعد أفصادها خوفاً وهلعاً. وموقف المرأة إزاء الرجل يذكّرني دائماً بتلك الرعشة. فالرجل لا يرتاح له بال، ما لم ترتجف المرأة أمامه. هذا هو الشرط الأولي لهيمنته. لكن القصّاب يذبح الشاة لمرة واحدة، في حين أن الرجل يذبح المرأة طيلة العمر. هذه هي الحقيقة الواجب الإفشاء بها. أما مواراة ذلك بأغاني العشق، فهو استحقار وازدراء دانٍ. فأكثر المواد والمصطلحات افتقاداً للمعنى في ظل الحضارة، هي تلك المُقالة في العشق. فما لم يفلح فيه أي رجل، ولم يرغب الفلاح فيه بتاتاً، هو إبداء القدرة على التقرب من المرأة بطبيعته العادية الموجودة. وأنا مضطر شخصياً لاعتبار كل رجل قادر على إبداء هذه القدرة بأنه بطل حقيقي. الفرق هنا لا ينجم عن ضعف بسيط أو اختلاف جنسي بيولوجي. بل إنه يصدر من توطين المجتمع الهرمي الدولتي للمرأة في أسفل القاع، باعتبارها مادة الطبقة السفلية الأولى. وينبع كونها أعمق مشكلة في المجتمع من خصائص الوضع القائم المترسخ فيه. واهتمام السوسيولوجيا بمحدودية, وفي وقت متأخر، بهذا الموضوع، منوط بمرحلة أزمة الرأسمالية.
لدى انكشاف النقاب عن كل شيء، من المنتَظَر أن تتبدى الأمور بجميع أبعادها في ظاهرة المرأة أيضاً. من الضروري الإدراك الشامل لعناصر القمع والاستغلال لدى الرجل، إزاء ظاهرة الأنوثة في النظام الرأسمالي. فالمرأة، حسب الزعم، أثمن سلعة. وما من نظام بَضَّع المرأة بهذه النسبة. فعبودية المرأة، التي هي جزء من العبودية العامة السائدة في العصور الأولى والوسطى؛ لم تكن تختلف حينها عن كونها جارية بالنسبة للنظام القائم. إذ لم يكن ثمة تبضيع أو عبودية خاصة بالمرأة. كان ثمة حَرَم رجالي أيضاً، وكان هناك الرجال الخَدَم، وكان لهم أولادهم المخصيون.
تضع الرأسماليةُ الفرقَ الأكبر بالنسبة لمفهوم الجنسية في النظام، بحيث يكاد لا يبقى أي عضو في المرأة إلا ويُبَضَّع. وهي تقوم بزخرفته بغطاء من الفن، عبر الآداب والروايات. لكن المرأة تُقحَم في وضعية تجتر فيها النصيب الأعظمي من وطأة عبء النظام الثقيلة، كآلية أساسية في هذه الفنون. فبينما يُحدَّد الأجر لكل عمل، أياً كان؛ نجد أن أكثر الأعمال وطأة، أي الحمل، تنشئة الطفل، ومختلف أنواع العمل المنزلية؛ تكون بلا أجر. بل ولا أجر لأن تكون المرأة عبدة شهوات الرجل الجنسية. فحتى الأجر المتعاطى في بيوت الدعارة، لا يقابله إبداء أية قيمة للمرأة في المنازل الخاصة.
ما يسمى بشرف الزواج وكرامته، ليس في حقيقته سوى تحمل بلاء "الإمبراطور الصغير" برمته. فكيفما إذا حصل شيء لأملاك الدولة، التي يَعتَبِرها الإمبراطور الكبير شرفه، فإنه يَعتَبِره دافعاً للحرب؛ فالإمبراطور الصغير أيضاً، إذا ما حصل شيء للمرأة، شرفه ومُلكه، فإنه يُعِدّ ذلك مسألة شرف كبرى، أي سبباً للمنازعة والشجار. الأغرب في الأمر هو إفراغ المرأة كلياً كروح، والوصول بها شكلياً إلى حالة أنثوية مفرطة أشبه بـ"العصفور في القفص" ذي اللون الزاهي والصوت الباهي. فنظام الصوت والمكياج يتطلب حالة من إنكار هوية المرأة الذاتية بشكل ساحق، وقتل شخصيتها رغماً عنها. الأنوثة هنا تعني تجريد المرأة من شخصيتها بشكل خاص. إنها من ابتكار الرجل وفروضاته. ورغم أن الأمر كذلك، فهو لا يتوانى عن اتهامها؛ وكأن هذا هو موقفها الطبيعي.
رغم أن النظام السائد هو المسؤول بالذات عن استخدام المرأة كأداة دعاية وتشهير وإظهار؛ فإنه يقترب منها وكأن كل ذلك لائق بجوهرها الطبيعي. لقد قبع شرف المرأة في أسفل القعر مع ظهور الرأسمالية. ولكن ما يُضرَب بالقاع ويُسقَط فيه ممثَّلاً في هوية المرأة هو أصلاً – وفي الوقت نفسه – قِيَم المجتمع المشاعي. فمنطق النظام محتاج لذلك، لأنه أمر مصيري معيِّن.
لقد أُسقِط جنس المرأة المجرَّد من كل قدسياته عبر الإباحية في الرأسمالية، إلى مستوى فصيلة الثدييات البدائية في التاريخ. بقدر ما يرتبط محو المرأة من المجتمع، بالتطورات الهرمية والطبقية الحاصلة طيلة التاريخ الحضاري؛ فهو منوط أيضاً بإعلاء الرجل من مرتبة المجتمع الذكوري المهيمن. من جانب آخر، بقدر ما تفقد المرأة تأثيرها في المجتمع، تغدو بعيدة بنفس النسبة عن قيمها المشاعية. طبيعة المرأة أدنى إلى قيم المجتمع المشاعي. وبما أن ذكاءها أكثر حساسية وواقعية إزاء خصائص الطبيعة، فالذكاء العاطفي لديها في المقدمة. في حين تكون أواصر الذكاء التحليلي لديها محدودة مع الحياة لكونه تصوري بالأرجح. أما تطوُّر الذكاء التحليلي لدى الرجل، فمتعلق بعناصر سماته الماكرة والقمعية في منزلته الاجتماعية.
تعكِس شدة وطأة النظام على دنيا الأطفال، الحالةَ العامةَ السائدة. فالأطفال السابحون في عالم الخيال، مناقضون جذرياً لعالَم النظام القائم في الحسابات الجليدية. لا تتوافق الطفولة والرأسمالية إطلاقاً. والعجوز كالطفل المسن. لكن العالِم الحكيم المقدس، الذي كان يُكَنُّ له الاحترام سابقاً، غدا اليوم عبئاً ثقيلاً في الإنتاج الرأسمالي، ومادة لا نفع منها. أما الأطفال، فيمكن الانتفاع منهم عندما يكبرون، في حين أن العجائز لا يعبِّرون عن أية قيمة، لأنهم سيموتون. يُجرَّد المجتمع من سموه وقدسيته تماماً، ممثَّلاً في شخص العجوز. فإذا ما تُرِك في دار العجزة، يُبدي النظام إجحافه وصورته القبيحة بكل أبعادها. حتى مشكلة الشيخوخة مليئة بالتساؤلات التي بمقدورها البرهنة على عدم جدوى النظام القائم من أجل المجتمع، من كثير من النواحي.
نجد الإنسان البيئي يتخبط في المجاعة والعَوَز من جميع الجهات، مقابل الناس المشبَعين من كل شيء في متروبولات الرأسمالية. إن خاصية الربح والمنفعة المغالى فيها في النظام تُجَسِّد – وبكل جلاء – العلاقةَ الجدلية القائمة بين الإنسان البدين، والإنسان الهزيل الذي تكاد تخرج أفصاده من بين ضلوعه. وكأنه لم يتبقَّ لبنية المجتمع الداخلية أي طاقة تؤهلها لتطوير التناقضات أكثر من ذلك. وكأن التكرار المفرط، أو التساقطات والطروحات الجارية في بعض المؤسسات، برهان قاطع على سيرورة الأزمة والفوضى المولج فيها. نحن على مشارف اللحظة التي تتحطم فيها الحلقة، مثلما شوهد في سلسلة كافة الأحداث الطبيعية. فالتشريع القديم يفقد مفعوله. والبنى القائمة لا معنى لها، لافتقادها آلياتها. لذا نَعتَبِر أننا على عتبة سن قوانين المعاني الجديدة، وتأسيس البنى اللازمة لها.
وهنا تبدأ مشكلة الأيكولوجيا الاجتماعية بالأرجح. المجتمع الطبيعي، بجانب من جوانبه، مجتمع أيكولوجي. والقوة التي تبتر المجتمع داخلياً، تبتر أواصر معانيها مع الطبيعة أيضاً. فبدون وجود بتْر داخلي، لا تتولد أي مشكلة أيكولوجية غير اعتيادية. لكنَّ الغير مألوف هو افتقاد المجتمع الحضاري للمعاني المعاشة في كافة المراحل الطبيعية. وتنجم حالة أشبه بفصل الوليد عن ثدي أمه. وتُمحى أبهة الذكاء التحليلي رويداً رويداً. في حين أن الذكاء التحليلي المبتعد بكثافة عن لغة الضمير والطبيعة، يطوِّر من تناقضاته مع البيئة تصاعدياً، داخل عالَمه المزيف الذي صوَّره. ويكتنف الضباب الأواصرَ القائمة بين الحياة والطبيعة، لتحل محلها الأفكار التجريدية والآلهة المجردة. وتتخلى الطبيعة الخلاقة عن مكانها للإله الخلاق. وتُطبَع الطبيعة بطابع الظلم، بدلاً من اعتبارها كحنان الأم ورأفتها. هكذا يغدو التحامل على الطبيعة الخرساء الظالمة، بطولةً للإنسان. وتصبح كافة أشكال الإبادة المختلة للحيوانات والنباتات عادةً مألوفة، وكأنها حق أساسي لمجتمع الإنسان. وتُعتَّم البيئة الطبيعية وتُعمى، لتغدو مساحة حياة ميتة، مؤقتة، ولا أمل منها. وباتت الطبيعة الحية – مصدر الآمال التي لا تعرف النضوب – ركاماً من المواد العمياء الفظة، التي لا مفهوم لها.
لكن مفهوم الطبيعة هذا، والمتحطم مع النهضة، أضحى موضوع استثمار واستغلال لا أبعاد له في النظام الرأسمالي، مثلما هي الحال بالنسبة للمجتمع. حيث يسعى لإتمام فتح البشرية العالمية بفتح الطبيعة. ويَعتَبِر ممارسة كل أنواع الاستثمار التي يشاؤها بشأنها، حقاً له وكفاءة منه. المحصلة المتمخضة من الثورة الصناعية وما بعدها، هي وضع الضمان على البيئة الطبيعية، كشرط حيوي لا غنى عنه بالنسبة للمجتمع. لقد أُدرِك أن غير العاقل هو النظام بعينه، لا الطبيعة. ولكن بعد فوات الأوان. فالبيئة تعطي إشارات الإغاثة على الدوام. إنها تصرخ بأعلى صوتها قائلة أنها لن تطيق تحمّل النظام الاجتماعي القائم. وكأن أزمة النظام، بجانبها هذا، قد ولجت مساحة الفوضى البينية. ولن يسعفه الحظ في الخروج من الفوضى، ما لم تحلِّل وتَحُل النقاشاتُ الأيكولوجية الدائرة، حقيقةَ المجتمع الأيكولوجي، من حيث المعنى والبنية.
يجب عدم الوقوع في التعميم المفرط أثناء دراسة النظام الاجتماعي. على سبيل المثال، فالمآل إلى نتيجة، وكأن الرأسمالية كل شيء بالنسبة للمجتمع، أو حتى أنها المجتمع ذاته لدى تعريفها؛ هو أمر خاطئ إلى أبعد الحدود. إذ، ما من نظام مهيمن يشكل كل المجتمع. وهذا أمر منافٍ لحقيقة الثنائية الجدلية أيضاً. فالتطورات الأحادية الجانب، والتي لا تطوِّر مضاداتها؛ ليست سوى تقرباً مثالياً، لا حقيقة ظاهراتية له. وعلى خلاف ما يُظَن، ثمة مساحة اجتماعية شاسعة خارج إطار النظم الحاكمة. وهي تحتوي على حيثيات النظم العتيقة ومضادات النظام الحاكم وبدائله المستقبلية بشكل متداخل. فالمجتمع يتميز في داخله بآلية قصوى من الحيوية، بحيث يؤمِّن سيرورة تغيره بتطويره القوانين الكثيفة على التوالي. إن تمثيل النظم بخطوط بيانية، يفيد في تسهيل المعاني، ولكنه قد يتسبب أيضاً في إبداء العديد من المواقف الدوغمائية المشحونة بمخاطر عدم وضع كافة الحقائق في أمكنتها المناسبة. بالتالي، من اللازم مطابَقة التمثيل البياني مع بنية الحقيقة القائمة، والمعقدة إلى أبعد الحدود.
ما هو معمول به بالنسبة للرأسمالية أيضاً، ليس سوى رسماً بيانياً، فيه العديد من النقاط البعيدة كل البعد عن تكامل الحقيقة. وقد يكون ثمة جوانب مبالَغ فيها ضمنه. لهذا الغرض ركّزنا بكثافة على مسألة التعريف. من المهم الانتباه إلى عدم دراسة مراحل تطور النظام بشكل كثير النقصان، ولا كثير المبالغة؛ من أجل الحصول على معالجات موضوعية. فمثلما أن نموذج التطور بالقدرية أمر غير صحيح، فمن غير الممكن أيضاً الجزم بالمستقبل عبر التكهن بنتائج، وكأنه لا مفر منها.
المساحة البينية للقوانين الاجتماعية قصيرة. ومن الممكن حصول تغيُّر المعاني، وبالتالي ظهور البنى بكثافة فيها. علاوة على ذلك، فتناول النظم ضمن ديناميكياتها الذاتية دون اللجوء إلى القدرية أو الكهانة، وتحديد معانيها بناء على الواقع الملموس؛ إنما هو مزية المعلومة العلمية، ومن أفضلياتها. لكن، ربما تساهم الفلسفة، بالاشتراك مع الميثولوجيا، في إغناء المعاني أيضاً. جلي جلاء النهار عدم قدرتنا على تعريف ظاهرة – كالمجتمع – محمَّلة في أحشائها بمسار التطور الطبيعي برمته بأنها مجرد قوانين فيزيائية. ولكوننا جزء قريب من هذه الظاهرة، فعدم قدرتنا على التهرب من الكثير من الغموض، هو حقيقة أثبتتها فيزياء الكوانتوم أيضاً.
لم تؤخذ القيم الحاملة للنظام الرأسمالي فحسب من دائرة النهضة البينية. بل ومن بين الاحتمالات الواردة أيضاً العثور على قوة المعنى اللازمة من أجل بنى المجتمع الجماعي، من بين لوازمها الشديدة الغنى. فالطوباويون الأوائل، من أمثال "كامبانيلله Campanella" توماس مور Thomas Moore"*، و"فرانسيس باكوين Francis Bacon" ومن بعدهم "فوريير Fourier"، و"روبرت أووين Robert Owen"**، و"برودون Proudhon"؛ كانوا يرسمون المخططات لأعداد كثيرة من النظم الاجتماعية المشاعية. بل ويحاولون تنظيمها في بعض الأحيان. بالإضافة إلى أن العديد من الفلاسفة في المرحلة التنويرية، يُرهِقون عقولهم في تحديد نوعيات المجتمع الجديد المرتقَب بناؤه. والثورات المتصدرة في القائمة، كانت تتميز دوماً بجانب منفتح لليسار، وغير متناهٍ.
أما النظام الرأسمالي بحالته الراسخة، فلم يتكون كموضوع تخطيطي لأي من المفكرين البارزين. فاليوتوبيات الاجتماعية التي هرع المفكرون الجديون وراءها، ذات سمات جماعية، وتولي الأخلاق دوراً بارزاً فيها. مع ذلك، فقد أثرت العديد من الدوافع الموضوعية في نجاح الرأسمالية وانتصارها، من قبيل قوة قدرة الدولة، الوزن الثقيل للأرستقراطية القديمة، وتطور الطبقة البورجوازية بما يناقض ماهيتها بالأكثر.
من هنا يمكن تفهم الاستثمار السهل للمنشغلين الجدد بأمور المجتمع، والمشحونين بكثافة ملحوظة بآثار المجتمع الحاكم القديم. فأي صراع تجاه السلطة، إذا لم يحتوِ برنامجاً منهجياً بنّاءاً، وقوة فكرية قادرة على تخطي نظام سلطة الدولة؛ لن يعبِّر عن شيء أكثر من كونه انتزاع زاوية منها وفق منطق "أنا بدلاً منك". أهم العناصر الأساسية التي حوَّلت الربح وتراكم رأس المال الموجودَين أصلاً في جوهر النظام القائم، إلى ركائز هيمنة للنظام؛ كانت الهرع وراء الغنائم ذات الأسس التاريخية، الثروات العظمى التي أمَّنتها الاكتشافات الجغرافية، العبور من المانيفاكتورة إلى الثورة الصناعية عبر الاختراعات العلمية، الصعود من الثورة السياسية إلى عرش السلطة، والتحول من الدولتية المَركَنْتِلِيّة* (التجارية) إلى التربع في مركز قوة الدولة القومية. إن تنسيق وتنظيم رأس المال بالثورة الصناعية، والذي خَيَّب آمال الطوباويين في القرن التاسع عشر، كان يستدعي الحاجة لكفاح سياسي وانطلاقة نظرية أكثر رسوخاً ومعقولية. في هذه الفترة تبدأ نبوة كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز بالظهور.
يمكن نعت القرن التاسع عشر الذي حسمت فيه الرأسمالية انتصارها في النظام الحضاري، بمرحلة تطور الفكرة المضادة لها أيضاً، وتحولها إلى عملية سياسية. وفي أساس كلا الحركتين تكمن النهضة والتنوير والثورة الصناعية. لقد فقدت وجهة النظر الدينية حاكميتها، واكتسب الرأي العالمي العلماني ثقله. أما تيارات الثورة العلمية والفن الحديث، فكانت مؤهلة، وبكل سهولة، للاستلهام من المقاييس والإرشادات اللازمة لإحداث مثل تلك التطورات.
كانت الماركسية تياراً متصاعداً طردياً من داخل الأفكار المناوئة للنظام. لقد كان كارل ماركس وفريدريك أنجلز يُسمِّيان أصحاب التيارات المعارضة السابقة لبنيتهما الفكرية بـ"الاشتراكيين الخياليين". ويبينان أن عدم وصول الرأسمالية نقطة الشكل الإنتاجي المهيمن، لعب دوراً أساسياً في ذلك. ويوضحان الفارق الكامن بين نظاميهما الفكري وأنظمة الآخرين ارتباطاً بالنظرية الحتمية** الاقتصادية الصلبة. وإلى جانب اعتمادهما نظام "هيغل" في الفكر الدياليكتيكي، إلا إنهما يزعمان أنهما أوقفاه على قدميه، بعد أن كان واقفاً على رأسه. ويحدِّدان السياسة الاقتصادية الإنكليزية والاشتراكية الطوباوية الفرنسية كمصدرين إلهاميين أساسيين آخرين لهما. وبالطبع، كان الإلهام الفلسفي من نصيب ألمانيا. ساطع كلياً أنهما توصلا إلى تركيبة جديدة وطيدة من أجل زمانهما. فتكوين معارضة منتظمة ومنظمة لهذه الدرجة، في الحين الذي شهد فيه المجتمع المنظم مقابلهم أيام نصره وظفره؛ إنما ينمّ عن رؤية مستقبلية ثاقبة ونشاط مفعم بروح المسؤولية الحقة. وأول ثمرة لنشاطاتهما هو "البيان الشيوعي" الأشبه بالمنهاج الحزبي. ويُعلَن عنه خلال فترة وجيزة كبرنامج للشيوعية (لحزبها). ولأجل تمييز كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز عن غيرهما من الاشتراكيين، يتم نعتهما بـ"الاشتراكيين العلميين".
جلي تماماً أنهما أبديا أكثر المواقف واقعية في زمانهما، بشأن تعريف الرأسمالية. وبالإمكان اعتبار "الرأسمال" – الأثر الأولي لماركس – بأنه تعريف للرأسمالية العملاقة. وفي أثر "أصول العائلة، المُلكية الخاصة والدولة" أيضاً يقوم فريدريك أنجلز بالتحليل التاريخي للمجتمع بأوسع أبعاده، سعياً منه لإتمام النظم الفكرية. إن نتائج الاشتراكية ذات الجذور الماركسية، ومنذ عام 1850 تقريبياً وحتى يومنا الراهن؛ كشفت النقاب بما فيه الكفاية عن إيجابيات تحليل النظام، إلى جانب أخطائه ونواقصه.
للوصول إلى تعريف أمثل لتحليلات النظام الاجتماعي، سيكون من المفيد قياسها بشبيهاتها التاريخية. فأول مانيفستو، حسب ما تَمكَّنا من معرفته من المصادر المكتوبة، هو نظام "الأوامر العشر". إنه يصوغ خروج سيدنا موسى من النظام العبودي المصري في العصور الأولى. من المعلوم إنه تأثر بـ"اليهوذاوية Yah – Weh" (نسبة إلى يهوذا) دين الأسلاف، بقدر استيحائه من مذهب الإله الواحد للفرعون أخناتون (إله الشمس). ويسعى إلى إمداد مجتمعه – القبيلة العبرية – بالنظام عبر الأوامر العشر. معروف مدى التأثرات الكبرى الحاصلة من هذا المانيفستو – حتى يومنا الراهن – الذي يُعتَقَد بأنه أُعلِن في أعوام 1300ق.م. والفصل الأول من الكتاب المقدس "العهد القديم" إنما هو شمولية كلية متطورة مع الأوامر العشر. يصل هذا "العهد القديم" (الذي يمكن تقسيم مضمونه إلى عدة فصول بينية) بشكل كلي خلال الأوقات الحرجة مع بيانات (مانيفستو) الأنبياء الظاهرين طبعاً، حتى يصل عهد سيدنا عيسى.
بمستطاعنا تناول "الإنجيل" كمانيفستو ثانٍ أكبر. فهذه التقاليد المرتكزة إلى سيدنا عيسى، هي في مضمونها وثيقة منشورة – مطوَّرة – باسم كافة الفقراء والعاطلين عن العمل، إزاء روما العبودية التي أبقت عليهم تحت القمع والكبت. ولربما كان الإنجيل أول وثيقة تُنشَر باسم المسحوقين. النتائج التي نمَّت عنها المسيحية – باسمها العام – ذات تأثير بيِّن في راهننا، مثلما كانت عليه عبر التاريخ بأقل تقدير. إنها تحتوي تقاليد "القدّيسين والقدّيسات" بقدر تقاليد الأنبياء. ثمة العديد العديد من الدروس التي يمكن تلقُّنها من القديسين والقديسات، بقدر أولياء الإسلام.
المانيسفتو الثالث الأكبر هو "القرآن". هذا الأثر المنبثق من توحيد ملاحظات سيدنا محمد بصدد المجتمع العربي العشائري والقبلي في تلك الأزمان، مع كتاب "العهد القديم" وتفسير "الإنجيل"؛ إنما هو ضرب من بيان "شروط" المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى. وبينما تتشارط أوروبا بالإنجيل، يسعى الشرق الأوسط للاشتراط بالقرآن. من الواقعي تعريف هذه الأمثلة بالحلول والمانيفستوهات الاجتماعية، رغم كونها ذات حِبكة (ذهنية) دينية.
النقطة الأهم الممكن سؤالها بشأن كتاب "الرأسمال" هي السؤال: هل حطّم هذا الأثر الرأسماليةَ أم عزَّزها؟. السؤال سارٍ على مانيفستوهات النظم المشابهة أيضاً. ولأجل إنارة الموضوع أكثر، من الضروري إيضاح مرحلة الأطروحة والأطروحة المضادة والتركيبة الجديدة، التي هي دعامة الفكر الدياليكتيكي. فمثلما بيَّنْتُ في البداية، فالخاصية الثنائية في النظام الكوني هي انشطار الواحد إلى اثنين. وكأن الواحد (1) في علاقة الطاقة – المادة أمر مبرهَن. والمعادلة "E=mc2"* تدلنا على الطريق بشكل مكمل. حيث تحدِّد الطاقة كعنصر محرِّك ومغيِّر للمادة. ويمكن تعريفها بالجوهر الأكثر طلاقة. و"الفوتون" – جزيء المادة في حالة سرعة الضوء – هو في مضمونه طاقة منقطعة من المادة. وتَحَوُّل كل المادة إلى "فوتونات" يعني تحولها إلى حالة الضوء. والنشاط الإشعاعي (الفاعلية الإشعاعية radioactivity) يمثل هذه المرحلة. لكن، ومع ذلك، فثنائية الطاقة – المادة حقيقة واقعة. والتطابق في المضمون لا يعيق التحول إلى ثنائية. لكن اللغز الأصلي هنا هو: لماذا، أو كيف دُفِع الواحد (1) إلى الانشطار وتكوين الثنائية؟ وما هي ميول "التثنية" بحد ذاتها، وكيف تتكون؟ الاحتمال الأكبر هو أن ما يجري داخل الذرّة هو الذي يصبغ شكل كافة التنوعات والتحركات. يتبين من البحوثات المجراة مؤخراً أن تكوُّن وتحوُّل الجزيء خلال مدة صغيرة للغاية وسريعة للغاية وقصيرة للغاية – والتي يستعصي على المرء حتى التفكير فيها – هو الذي يحدِّد مرحلة التحول إلى ذرّة. وأنه قد برزت إلى الميدان جزيئات الذرّات، واتحادات (مجمَّعات) الجزيئات، وبالتالي العناصر المختلفة واتحاداتها. ويُخمَّن أن الأوساط المغناطيسية المختلفة أيضاً تلعب دورها في ذلك.
لا مناص من تطبيق هذه المرحلة القائمة في الطبيعة على المجتمع، وأقلمتها معه. فإلى جانب كون شرائع المجتمع شديدة الاختلاف، إلا أنه من المنتظَر إلحاقها بذات النظام. فنحن على علم بأن تحولات النظام الاجتماعي أيضاً تكاثرت، بخطوطها العريضة، من الواحد (1)، أي من الكلان. ونحن على علم تام أيضاً بأن المجتمع الهرمي انبثق من الكلان، ومنه انبثق المجتمع الدولتي الذي أفضى إلى الرأسمالية، وهكذا برزت بعض الأشكال المألوفة.
إذا ما فسرنا مصطلح التضاد في الدياليكتيك بأنه تحميل أحد عنصرَي الثنائية للعنصر الآخر، وتحولهما بالتالي إلى كيان أرقى مختلف؛ بدلاً من تفسيره بأنه إفناء أحد العنصرَين العنصرَ الأخر؛ فستزداد إمكانيات فهمنا للظواهر بشكل ملحوظ. لكن الأهم في هذا الموضوع هو حقيقة أن التحول لا يتم على خط مستقيم. فتحول المتضادات ليس كمعادلة (ب×حـ = ب حـ). قد تكون معادلة المنطق الكلاسيكي هذه سارية في مساحة بينية محدودة للغاية. فالتحول الجاري في عالم الظواهر هو بالأرجح متعرج، حلزوني، متحول، سريع حيناً وبطيء أحياناً أخر. وقد يتسم بخصائص من قبيل الآنية – اللانهاية، أكثر من كونه لا بداية له ولا نهاية. ويمكن الافتراض باحتوائه خاصيات مختلفة حسب المساحات البينية للفوضى، بدءاً من الاستقامة وحتى الكروية.
إذن، والحال هذه، إذا ما بانَ مضاد الرأسمالية، فإن إفناده إياها ضمن خط مستقيم، ليصل بالتالي إلى المجتمع المصوَّر – أي الاشتراكية – قد يكون افتراضاً تجريدياً لا غير. أما الحقيقة ذاتها، فهي شديدة الاختلاف. وتكويناتها تجري على خلاف أكبر من ذلك. قد يذوِّب النظام الرئيسي ضده ويصهره. قد يَستعمِره، أو يشاركه بالتكافؤ. أو قد يُحدِث تطوراً طبيعياً بخسران كمٍّ ضئيل من الطاقة، وعبر تحول طويل المدد. وقد يصبح لازمة للنظام الجديد بتعرضه لانكسار قاسٍ.
الخاصية الهامة الممكن ذكرها بشأن التطورات ضمن المسار الماركسي، هي أن النظرية والعملية لم تنجوَا من الذوبان في بوتقة الرأسمالية. والذوبان حصل من ثلاثة سبل: الديمقراطية الاجتماعية، الاشتراكية المشيدة، والتحرر الوطني. لا يمكن القول بأن الرأسمالية لم تتغير إطلاقاً من هذه السبل أو الظواهر الثلاث. بل حدثت متغيرات مهمة، حيث شوهدت تغيرات ليبرالية كثيفة. لكن النظام فلح في إطالة عمره أكثر، بفضل هذه السبل الثلاثة. إن تعليل ذلك بالثورات المضادة لا يروي الظمأ. فالموضوع أكثر غوراً من ذلك. وهو منوط بالماهيات الأساسية الموجودة في مفهوم الاشتراكية المقبول به.
يكمن التفريق بين الرأسمالي والعامل في أساس الأخطاء والنواقص المرتكَبة. فهذا التفريق لا يختلف، من حيث المضمون، عن التفريق بين السيد والعبد، الذي كان سائداً في الأراضي الحرة لروما العبودية. والتشبيه سارٍ على علاقة القن والآغا أيضاً. إذا ما قابلنا بين شكل تنظيم الرجل ومقوماته في عائلة أبوية ما، وبين شكل تنظيم المرأة التابعة ومقوماتها؛ فالغالب في أي صراع هو أمر بيِّن منذ البداية. وفيما عدا الحالات الاستثنائية، فالرجل الغالب في شجار ما، يواصل وجوده أكثر تعززاً من المرأة المُساء معاملتها، لتغدو المرأة مُلكاً له بدرجة أكبر. التناقض موجود مرة أخرى. لكنه، وبقدر تحوله، يذوب خطوة أخرى داخل النظام الذكوري الحاكم. يمكننا تعميم هذا المثال على كافة النظام الاجتماعي. فصياغة نظرية ما، ورسم خطها العملي بما يتواءم والشروط التي تعاني خلالها المرأة من هيمنة الرجل وتقييده إياها بألف غِل وغِل ضمن حضارة المجتمع الطبقي – بل وما قبلها، أي داخل المجتمع الهرمي – ومن ثم انتظار التحرر منها؛ إنما هو أبعد من الخيالية، ولا يُشيد بأي شيء سوى بالقول للمرأة "تَلَقِّ الضرب أكثر، تقيَّدي أكثر". ومنذ اللحظة التي تقبل فيها المرأةُ الأنوثةَ الزائفة، تكون قد أُودِعَت بالأصل للخسران والهزيمة. كَم ستفلح الشاة التي بين يدي القصّاب، في إنقاذ نفسها إذا ما كَدَّت؟ إن فرصة الشاة في الحياة منوطة بإنصاف القصّاب ورحمته، وبمنفعته. قد ينتفع من حليبها وصوفها، وقد يذبحها أيضاً.
على عكس ما يُظَن، فالعامل مقابل الرأسمالي، لا يندرج ضمن التناقض المسمى بالخصم. وإذا ما نظرنا إلى الرأسمالية الراهنة، نجد أن العامل المتميز بعمل حسن وأجر جيد، يُدرَج في شريحة عصارة المجتمع وخُلاصته. في حين أن المتلقين الضربةَ الحقيقيةَ من النظام، هم الجيش المتعاظم من العاطلين عن العمل، الشعوب المستعمَرة، المجموعات الإثنية والدينية، وقطاع المرأة الساحق. هذا علاوة على أن حالة الأطفال والشباب، الشيخوخة، التناقضات الداخلية لنظام البيئة الأيكولوجية، التناقضات المتدرجة في شِبَاك المنفعة داخل المجتمع الرأسمالي، القرية – المدينة، المدينة العملاقة – المدينة الصغيرة، العلم – السلطة، الأخلاق – النظام السائد، الجندي – السياسة، وغيرها من المئات من بؤر التناقض؛ هي جميعها التي تحدِّد النظام. وفي حال لم نعتمد كل هذه الظواهر أساساً، فسيمكن لنا أن نميز عبر مفهوم مجتمعٍ عميق، أنه ما من فرصة أمام نظرية الثورة والتغيير المعتمدة على العامل ذي الامتيازات. حيث بإمكان النظام القائم أن يوجهها كما يشاء، وبكل سهولة.
ثمة نواقص أكثر أولوية في التوجه الماركسي. حيث إنه لم يحلل الحضارة ككل متكامل. فتجربة أنجلز محدودة للغاية. وهو يَعتَبِر أن التناقض الأولي الكامن بين المجتمع الطبقي والمجتمع الطبيعي الجماعي قد تم تخطيه منذ زمن غابر، ويَعُدُّه شكلاً متخلفاً أيضاً. بيد أن تعريفنا التاريخي الشامل أظهر أنه ثمة صراع دائم وشامل بين الموقف المشاعي الديمقراطي والموقف الهرمي الدولتي. ناهيك عن أن تكون القيم المشاعية الديمقراطية رجعية أو فانية، بل تتميز بدور "ديناميكي" بارز في كافة تكوينات النظام القائم، بما فيها الرأسمالية. فالتناقضات الأكثر فاعلية في نشوء وتطور النظام الرأسمالي، وفي أزمة انهياره، هي تلك المتعلقة بالقيم المشاعية الديمقراطية. قد يُبقي النظام على الكثير من الشرائح داخله – كالعامل والقروي وغيرهما – ويدير شؤونها. بل وحتى قد يجعلها حليفاً حسناً له. وقد يواري إدارته أكثر باستثارة الفردية، ليؤمِّن سيرورته. لكنه لا يستطيع بتاتاً إخراج المجتمع ذاته من كونه مجتمعاً. فالمجتمع بالأساس مشاعي وديمقراطي. ولأن الرأسمالية تعي ذلك، فإنها تقوم بإنعاش الفردية على حساب المجتمع، وتؤجج الغرائز وتحرضها. هذا وتُحَوِّل المجتمع البشري، وبحالة معكوسة، إلى مجتمع من الثدييات البدائية _ أي تحويل المجتمع إلى مجتمع قِرَدة – في كثير من النواحي. ولدى مقاومة المجتمع، ومآله إلى الانهيار كلياً في آخر المطاف؛ تتولد فرصة بروز مجتمع جديد إلى الميدان. لا يمكن أن تحظى مشروعات التحول الاجتماعي بفرصة النجاح، إلا إذا انتبهت أولاً إلى هذه الجوانب الأساسية في التناقضات الموجودة.
ارتباطاً بذلك، إنْ لم تؤخذ الحِبكة الأخلاقية، التي دمرتها الرأسمالية بشكل منظم، أساساً؛ فلن يجد أي تناقض فرصته في الحل من الجهة التقنية. فبدون الأخلاق الاجتماعية لن يكون بمقدور أية أساليب قانونية أو سياسية أو فنية أو اقتصادية، أن تدير شؤون أي مجتمع كان، أو تغير أحواله. يجب إدراك الأخلاق بأنها شكل الوجود التلقائي للمجتمع. إنني لا أتكلم هنا عن الأخلاق التقليدية الضيقة، بل أُعرِّفها بأنها ضمير وفؤاد تسيير المجتمع لذاته. فالمجتمع المفتقد لضميره مجتمع فانٍ ومنتهٍ. ثمة معنى لكون الرأسمالية هي النظام المخرب للأخلاق بأعمق الأشكال. فكونها النظام الأخير يجعلنا نعي دوافع إفسادها للضمير الاجتماعي. التعبير المرئي لفناء الطاقة الكامنة لنظام القمع والاستعمار، إنما يعني إفساد الأخلاق بشكل منظم. إذن، والحال هذه، فالصراع مع الرأسمالية يستدعي نضالاً وكفاحاً أخلاقياً واعياً، كضرورة لا مهرب منها. والصراع المفتقر إلى ذلك هو صراع فاشل منذ بدايته.
تَعتَبر الماركسية أن الشخصية تعيش داخل قيم الحياة الرأسمالية ككل متكامل. وتغلب عليها المدينية. الإيجاز الغالب على طراز حياة المدينة يربط الفرد بالنظام الرأسمالي بألف قيد وقيد. ومن الضروري الإدراك أن ماركس بذاته كان يعيش ضمن النظام القائم مكبَّلاً بآلاف القيود. فحتى أولئك الأشخاص الذين انقطعوا عن النظام السائد، وانزووا على أنفسهم عشرات من السنين في الأديرة والكنائس في الديانتين الإسلامية والمسيحية؛ لم يتمخض انزواؤهم ذاك سوى عن تأثير محدود. وأغلبية الناشطين الماركسيين لم يكونوا متيقظين حتى لوجود كيان أخلاقي في هذا الاتجاه. بل كانوا يعتقدون أنهم سيظفرون بالنتائج المرجوة بالعيش بهذا الشكل أو ذاك من أشكال الرأسمالية، والصراع تجاهها نظرياً وعملياً.
أما أطروحات النظرية الماركسية بشأن الثورة السياسية وما بعدها، فهي تتسم بخصائص هرمية ودولتية أكثر خطورة. وتكاد تكون الحرب، ديكتاتورية البروليتاريا، والدولتية مصطلحات مقدسة. مع أن السلطة والاقتدار، الحرب والجيش ليست سوى ثمار حضارة المجتمع الطبقي، وأجهزة مصيرية مطلقة لا غنى عنها بالنسبة للشريحة الاستعمارية المهيمنة. ووضع هذه الوسائل في حوزة البروليتاريا يعني تقرير التشبه بتلك الشريحة منذ البداية. بيد أن كل هذه الوسائل استُخدِمت على أكمل وجه في الاشتراكية المشيدة. وحازت على النصر. لكن، وبعد مرور سبعين عاماً، أُدرِك أن ما تم تشييده هو الشكل النهّاب والسلاّب للرأسمالية، وكأن رأسمالية أوروبا الغربية – قياساً به – قد طُهِّرت بسبعة مياه. إنه الشكل الرأسمالي الأكثر توتاليتارية ومناهضة للديمقراطية. يكمن مفهوم الدولة خلف هذه الظاهرة. فالدولة التي قال أنجلز بصددها "يجب إخمادها رويداً رويداً"، بلغت أقوى مراحلها وأوطدها مع الاشتراكية المشيدة. لا معنى للبحث هنا عن النوايا الضامرة أو الثورة المضادة. فالوسائل المتبعة تفضي إلى الرأسمالية، لا الاشتراكية؛ حتى ولو استُولِي على الدولة بكل كمال. تستلزم الاشتراكيةُ الوسائلَ الاشتراكية، التي هي بدورها – من أولها إلى آخرها – آليات للديمقراطية، وحركة البيئة، وحركة المرأة، وحقوق الإنسان، والدفاع الذاتي عن المجتمع.
انطلاقاً من ذلك، سيكون بالمقدور إضافة الحزب، النقابة، السلام، حركات جبهة التحرير الوطنية، السياسة، وغيرها من العديد من الظواهر التي لم يتم تخطي النظام الرسمي فيها؛ كمؤثرات في حدوث الفشل. وبسبب عدم النظر إلى هذه الوسائل بعين ديمقراطية وأيكولوجية ضمن مسار استراتيجي وفلسفي عام، فلن تنجو من اللحاق بالنظام القائم في آخر المطاف، مهما استُخدِمت كوسائل نضالية في الصراع.
الانتقاد الآخر الذي يمكن توجيهه إلى الماركسية معني بالأزمة القائمة آنذاك. فالرأسمالية شهدت مرحلة النضوج في عهد ماركس. لكن النتيجة التي خَلُص إليها ماركس وأنجلز من ذلك هي أنه لا مفر من الرأسمالية. وكأن الرأسمالية تلعب دور جرَّافة تشق الطريق أمام الاشتراكية. وإذا ما عمّمنا أكثر، فإنهما يريان في حضارة المجتمع الطبقي تقدماً لا مناص منه، ويؤمنان بضرورة المرور بهذه المراحل، من أجل تأسيس نظامهما الذي يرميان إليه.
كنا قد وضحنا سابقاً ضرورة النظر إلى ذلك بأنه خطأ جذري. فالطبقات وجميع كيانات وتكوينات ومؤسسات الدولة (كأداة هيمنة إدارية) – فيما عدا الأمن الضروري (الذي لا غنى للمجتمع عنه) والإدارة العامة – ليست عديمة النفع وحسب، بل ومتزمتة وحجر عثرة. إن الهيمنة الداخلية والخارجية المفرطة، والتي تُضخِّم البيروقراطية (وعلى رأسها رأسمالية الدولة)، والعديد من المؤسسات من قبيل الدولة الاجتماعية؛ هي عراقيل حقيقية على درب البيئة والديمقراطية الاجتماعية الحقة. وعلى الصعيد الأخلاقي أيضاً، تُعتَبَر الحرب والجيش مؤسستان يتوجب رفضهما ودحضهما، فيما عدا الدفاع الديمقراطي الاضطراري. فلدى إشادة ماركس بذاته بالقول "لقد استلهمنا نظرية الصراع الطبقي من المؤرخين الفرنسيين"، إنما يتداول نوعية الوسيلة التي لجأ إليها كمعطاة طبيعية. كما أنه يقبل بأسلوب حرب الطبقات المهيمنة كمؤسسة، كما هي عليه. والأمر سيان في مصطلح ديكتاتورية البروليتاريا أيضاً. إذ لا يرى مانعاً من أخذ الممارسات الديكتاتورية المطبقة في التاريخ، كما هي.
تأخذ الديكتاتورية الموجودة في عهد لينين وستالين حالة الدولة على الدوام. ويتم التنكر للديمقراطية حتى قبل تطبيقها. بيد أن لينين كان أقرب إلى الصواب حينما قال "لا يمكن الوصول إلى الاشتراكية، إلا من الديمقراطية". لكن طراز الطبقة الحاكمة وسياساتها تتمركز أكثر فأكثر في المراحل اللاحقة. ويتولد تكافؤ الدولة والحزب. ويتحول الحزب كلياً إلى مؤسسة مناهضة للديمقراطية، داخلياً وخارجياً. بالتالي، غدت سياسات الحرب والسلم داخل النظام السائد عاجزة عن القيام بشيء، سوى حمل المياه إلى رحى الرأسمالية. لكن مثل هذه الأخطاء والنواقص التي يمكننا الإكثار من سردها، لم تتح المجال لأية تغييرات جذرية. ولم تسمح سوى بالوصول إلى النتيجة الطبيعية المرتقبة، ألا وهي إنتاج الرأسمالية وتعزيزها أكثر.
مع ذلك، لا جدال في كون الماركسية تجربة عظيمة وتاريخية في سياق نضال الحرية والمساواة، ومساهمة غنية في الكفاح الاجتماعي. حيث حمَّلَت علمَ المجتمع بالاقتصاد والثقل الطبقي، وأرغمت البورجوازية على تلطيف أشكالها في مواضيع التحرر الوطني وحقوق الإنسان والدولة الاجتماعية. إلا إن موقفها التكتيكي البالغ الضيق من الديمقراطية، وعدم اختلافها عن الرأسمالية في نظرتها إلى الأيكولوجيا وحرية المرأة، وعدم تخطيها القوالب البورجوازية كبراديغما أساسية في الحياة؛ كل ذلك أدى إلى إلحاقها بالنظام بسهولة أكبر. في حين أن نضالات الديمقراطية الاجتماعية والتحرر الوطني المستلهمة من الماركسية، والمحرزة نجاحها بتأثر من الاشتراكية المشيدة، وغيرها من الأشكال الاشتراكية الأوهن منها؛ لم تنقطع أصلاً عن الرأسمالية. والشرائح التي تضمنتها كانت على الأرجح موالية للتطور الرأسمالي. لذا، لم تكن تمنح قواعدها فرصة حياة مختلفة، بل كانت تمدها بالصراع من أجل الانتفاع من الحياة الموجودة بالأغلب.
التنمية والتقسيم مشاكل منوطة تماماً بقانون النظام السائد. في الحقيقة، سيكون من الموضوعي أكثر النظر إلى كل من الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، التحرر الوطني، الليبرالية، والمحافظية؛ بأنها أكبر مذاهب الرأسمالية. وبقدر اختلاف مذاهب الإسلام والمسيحية واليهودية عن الظواهر الأساسية، فتلك المذاهب المنبثقة من الرأسمالية مختلفة هي أيضاً – وبالمثل – عن الرأسمالية الجذرية. أو بالأحرى، يُقَدَّر الفرق بقدر تنوع أشكال العائلة أو الفصيلة الواحدة. فاستمرار الدين بشكل محدود النطاق لا يعني أكثر من الهامشية، كما هي حال التيارات الفوضوية داخل الرأسمالية.
لم تَدُم أجواء الانتصارات "المناهضة للفاشية" بعد الحرب العالمية الثانية طويلاً. نمَّت الحركات الشبيبية والإرشادات الثورية الصادرة عام 1968 عن متغيرات براديغمائية مهمة. وتطورت النقمة والحنقة تجاه النظام السائد كلياً. وأُدرِك مدى عجز الاشتراكية المشيدة والتحرر الوطني والديمقراطية الاجتماعية عن تلبية الآمال المرتقبة. فالعالَم الموعود ليس أفضل حالاً من سابقه. بالمقدور القول أن أعوام السبعينات كانت مرحلة شهدت افتقاد الكثير من التيارات الثقافية العقلية المرتبطة بالماركسية قوتها وطاقتها منذ ثورة 1848. كما تَعرَّفت على الكثير من التيارات الجديدة، وعلى رأسها الحركات النسائية والأيكولوجية واليسارية الجديدة. وحدثت الانفتاحات الواسعة نحو الفامينية والأيكولوجيا والأتنولوجيا* مع ارتجاج الثقة الغائرة إزاء الاشتراكية المشيدة – بقدر الرأسمالية – وأشكالها، وقيام الثورة العلمية الثانية الكبرى فيما بعد الخمسينات، وظهور المستجدات الجديدة في ميادين علم الاجتماع والثقافة.
لم يكن انهيار الاشتراكية المشيدة في عام 1989 لصالح الرأسمالية. بل، وعلى عكس ما يُظَن، كان تطوراً على حسابها. لقد كان يعني انقطاع إحدى أهم حلقات سلسلة النظام القائم. ما انهار أصلاً كان النظام الذي يمسك بقاعدته الجماهيرية ويضبطها عبر الحرب الباردة، ويسوِّف ويُمهِل الحشود الشعبية الأخرى في العالم، عن طريق دول الاشتراكية المشيدة والدول التحررية الوطنية. ونجمت – لأول مرة – براهين جذرية تشير إلى البرود الحاصل إزاء المجتمع الدولتي على الصعيد العالمي، وإلى استحالة كونه أداة للحل. وخسرت الدولة القومية والقوموية أيضاً مهاراتها التسويفية والإمهالية بنسبة ملحوظة. كذلك فقدت دولة الرفاه الاجتماعي في البلدان الرأسمالية المتقدمة، تأثيرها في الكثير من البلاد، فيما عدا فترة وجيزة. وولج النظام طَوراً جديداً من جميع الجهات.
إذا ما تمعنا في تاريخ الرأسمالية، سنرى أن النهضة كانت إحدى الأنظمة الاجتماعية القادرة على تحقيق القفزة الكاملة للملمة الأشلاء وجمعها. حيث استفادت من الثورات السياسية بكل كفاءة وحذاقة. وبلغت ذروة نضوجها مع الثورة الصناعية. لقد كانت أول نظام يُكمِل توسعه على الصعيد العالمي. ومع اندلاع الحربين العالميتين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، غدت وجهاً لوجه أمام المآزق الجذرية لحل تناقضاتها. وفي الحقيقة، فقد سادت أزمة الرأسمالية العامة كافة القرن العشرين. ففترة الحربين العالميتين، وما بينهما، وقُبَيلهما وبُعيدهما؛ كانت تشير إلى أن النظام الموجود لن يقدر على الصمود والثبات إلا بالحروب. وبزيادة الاشتراكية المشيدة وأشكالها الأخرى من التقطب، تحولت نوعية الحرب من الساخنة إلى الباردة. ولدى استحواذ انهيار عام 1989 على هذه الإمكانية وأخذها من يدها، بات النظام يرى نفسه وكأنه يسبح في الفراغ. حيث لم يعد يجد طرفاً يهاجم. لذا كان بحاجة لخلق خصوم جدد. وكان سيجد ذلك في الديانة الإسلامية ذات الأصول الشرق أوسطية.
كثيراً ما نصادف مصطلحات من قبيل "العولمة" و"الإمبراطورية الأمريكية" في المصطلحات الفنية للمرحلة الجديدة. والعولمة تعني ظاهرة توسُّع النظم. أي، ما من جانب جديد فيها. فكل الأنظمة عالمية، منذ أيام الكلانات البدائية وحتى يومنا هذا. وكل نظام ناجح، يتسم بفرصة التوسع، قليلاً كان أم كثيراً.
الإمبراطورية أيضاً من المصطلحات القديمة. فمع تكاثر مدائن الدول، ومع تحول الدولة أيضاً إلى دولة كافة المدائن، تكون ظروف الإمبراطورية قد ولدت. وبما أن المدن تكاثرت على الدوام، كان لا مفر من التوسعات في الإمبراطورية، لتتولد المساحات والطرازات البارزة لها. وقد تطورت تقاليد إمبراطورية "سارغون" طرداً منذ الاستيلاء الأكادي على مراكز المدن السومرية. وإمبراطورية روما العبودية كانت أوسع وأقوى الإمبراطوريات التي عرفها العالم حتى ذاك الوقت. والإمبراطوريتان البيزنطية والعثمانية الإقطاعيتان اللتان حلتا محلها، حذتا حذو تلك التقاليد. وأُسِّست شبيهاتها في الصين والهند. أما الرأسمالية، فحملت راية هذه التقاليد منذ فترة تأسسها، عبر الإمبراطورية البرتغالية أولاً، ومن ثم الإسبانية، ومن بعدها الإمبراطورية الإنكليزية التي لا تغرب الشمس عنها؛ لتستمر بها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وفيما بعد الحرب، فإن ثنائية الإمبراطورية الأمريكية والإمبراطورية الروسية السوفييتية، التي عانت من التوتر والاضطراب؛ صارت أحادية لصالح الأولى في عام 1989. هكذا لم يَعد هناك أي عائق على درب روما الرأسمالية.
ثمة مزية بارزة للإمبراطوريات: إنها تعتمد التقسيمات الولاياتية أساساً أكثر من اعتمادها البنية المركزية الأحادية. ولقبولها بالعديد من تقاليد الدول القديمة، والمتبقية من العهود السابقة؛ كثيراً ما تلاحَظ لديها الميول نحو الفيدراليات الرخوة. وبقدر ما تُدرِج قوى أكثر تحت هيمنتها في الخارج، بقدر ما تزداد حالات الولايات والأقاليم والدول التابعة لها في الداخل. ومع التوسع على الصعيد العالمي، تزداد هذه العادة وتتكرر.
يواجه عهد الإمبراطورية الأمريكية حالة من العوائق الثنائية المشابهة داخلياً وخارجياً. النقطة المهمة الواجب استيعابها هي أن أمريكا لا تؤسس إمبراطورية من نقطة الصفر، بل تواصل عادة موجودة منذ آلاف السنين. وهي مرغمة على ذلك، لأن النظام الدولي العالمي لا يكون بلا إمبراطوريات. أما حالة الدول المستقلة كلياً عن بعضها، فهي مجرد فرضية لا وجود لها على أرض الواقع. فما هو ساري المفعول ودارج، هو حالات تبعية الدول إزاء بعضها البعض. تتحول هذه التبعيات الموجودة داخل النظام السائد (من أقوى الدول إلى أهزلها) لدى بعض المجموعات إلى إمبراطورية تكون هي الأقوى نظاماً من دون الآخرين، والقوة ذات الكلمة الفصل كأكبر إمبراطورية. وما استلمته أمريكاً مؤخراً من الإمبراطوريتين الإنكليزية والروسية السوفييتية، هو هذه التقاليد. فهي مضطرة لتوسيع وبسط نفوذها عمقاً واتساعاً، وعلى جميع المستويات، في أراضٍ جغرافية شاسعة تحتضن بين طياتها المئات من اللغات والثقافات والكيانات السياسية والأشكال الاقتصادية. لكن الربح وتكديس رأس المال الأعظمي للنظام، يضيِّق الخناق على هذه المرحلة دائماً. فالتحكم بتوازنات الربح منوط بالتوسع. وتتوتر العلاقات بسبب تضارب منافع الكثير الكثير من القوى. لكن، وبسبب سيادة قاعدة الأقوى، لا يمنح هذا التوتر فرصة لتشكُّل قطب ثانٍ. فهذا منافٍ لمنطق النظام السائد.
ضمن هذا الإطار تبحث العولمة والإمبراطورية الأمريكية عن التوازنات فيما بعد التسعينات. فـ"فوضى النظام" التي تشهدها الرأسمالية تشيد باستحالة تجاوز الأزمة بالأشكال القديمة. بالتالي، ستستمر عولمة المرحلة في أجواء متأزمة. ومع استمرار وجود المؤثرات المكثِّفة للأزمة، والمتأتية من المراحل القديمة؛ تجنح إلى زيادة حدتها أكثر فأكثر. أما قانون الربح المتناقص رغم كل الإجراءات والتدابير، ارتفاع الأسعار بسبب الضرائب، تلوث البيئة، المصاريف الناجمة عن ممارسات الدولة الاجتماعية، والمعارضة الديمقراطية المتسعة والمتزايدة؛ فكل ذلك يَحُدُّ من نسبة تكدس رأس مال النظام. ويقل الفارق بين المصطلحات الداخلية والخارجية بنسبة ملحوظة. وتكاد العولمة تفرض التحرك كدولة واحدة. وفي هذه المرحلة يغدو لا مناص من الترتيبات الجديدة بين النظام وحلفائه.
لقد باتت الدولة القومية، التي كانت تتميز بنوعية مستقلة محدودة في أيام نشوء ونضوج الرأسمالية، تشكل حجر عثرة. فسواء الجنوح إلى تكوين أعظم قوة على الإطلاق، أو السمات الاقتصادية للعولمة؛ كلاهما لا يطيقان تحمل القوموية والدولة القومية القديمة.
نخص بالذكر هنا المضايقات الأكثر التي تعانيها التقاليد الجمهورياتية التابعة لتقاليد الثورة الفرنسية. حيث تصبح مثالاً جديداً للتزمت (المقاومة). يستمد التناقض الأمريكي – الأوروبي مصدره من هذه الحقيقة. فجمهورياتية أوروبا وديمقراطيتها غيورة على استقلاليتها القديمة. هذا وتذكِّرنا أيضاً بالكولونيالية (الاستعمارية) القديمة، حيث لا تغفل أبداً عن كون الرأسمالية كَعبَتها. من هنا، فالتوتر والحزازيات الأمريكية – الأوروبية حقيقة واقعة. فإلى جانب كون حقيقة الصين الباسيفيكية واليابان – والتي يُنظَر إليها كمناطق جديدة لنمو الرأسمالية – تتحلى بطاقة كامنة تخولها لتكون البؤرة الثالثة؛ إلا إنها لا تستطيع سوى الحفاظ على استقلالية نسبية. والمندرجون ضمن هذه المجموعة ماهرون في التقليد، سواء كانت نظمهم أحادية أو معقدة. والبلدان المشابهة، كروسيا والبرازيل، مرغمة على الرضا والاكتفاء باستقلال محدود. فمنطق القوة في النظام السائد يستدعي ذلك. أما البلدان التائهة في الوسط – مثل تركيا – فستعاني مصاعب أكبر.
أما بالنسبة لمجموع البلدان التي لا تدخل المستوى المرسوم لها، والمسماة بالعاصية الثائرة أو المهذارة (المتشردة)، فيُأتى بها إلى النقطة المرادة لها بقوة النظام العسكرية والاقتصادية والثقافية. في حين أن منطقة الشرق الأوسط – التقاليد الحضارية الوطيدة، الإسلاموية، المشاكل الاقتصادية المتفاقمة – البعيدة عن الصهر الكلي إزاء النظام الموجود؛ تشكل موقفاً ثائراً ومتمرداً بشكل كلي. لقد تركت "شيوعية" الحرب الباردة مكانها لـ"السلطة الخضراء" لمنطقة الشرق الأوسط. والبنى المتزمتة والسلطوية الكبيرة، والمتخفية تحت رداء إسلامي؛ مرغمة على التمزق. أما فيما يتعلق باللوبي اليهودي – القبيلة العبرية – المؤثر في القوة العالمية؛ فهو مرغم على رؤية حساباته وطموحاته وخيالاته الممتدة على مر آلاف السنين، بسبب مسألة إسرائيل. ومنطق النظام الحاكم لن يطيق بحالته الراهنة تحمُّل الشرق الأوسط. والمرحلة الجديدة المبتدئة بالهجوم الحاصل على البرجين التوأمين في حادثة 11 أيلول 2001 المعقدة والتآمرية، هي الآن وجهاً لوجه أمام الديناميكيات التي ستحدد من جديد، ليس مصير الشرق الأوسط وحسب، بل ومصير النظام السائد أيضاً. في الحقيقة، وكأن تَقابُل وتَواجُه الأكثر قِدَماً والأكثر حداثة على أرض مهد الحضارة وميلادها، مشحون بالمفاجآت التي ستعيِّن التشكيلة الجديدة التي ستأخذها الحضارة من الآن فصاعداً.

B – أفكار تخطيطية بصدد المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي


لقد ولج نظام المجتمع العالمي مساحة الفوضى البينية اللازمة للتغيير، حصيلة انهيار الاشتراكية المشيدة في 1989 لأسباب بنيوية. ثمة فوارق نوعية بين أزمة النظام الرأسمالي السابقة، وبين أزمته الحالية التي يمكننا تسميتها بالفوضى البينية. لا تحصل التغييرات الجذرية في المجتمعات نتيجة أي نوع من الأزمات، بل حصيلة الأزمات ذات النوعية المتسمة بالفوضى. ففرصة النظم في ترميم ذاتها – أي إعادة بناء نفسها على الأسس عينها – لتأمين استمرارها، تكون كبيرة في مراحل الأزمات العادية. بيد أن النظام الرأسمالي عرف كيف يرمم ذاته ويعززها أكثر في مراحل الأزمتين العامتين الأولى والثانية، اللتين مر بهما بُعَيد الحرب. والسبب الموضوعي المهم الذي مكَّنه من تذويب – حتى – الاشتراكية المشيدة في بوتقته، منوط بنوعية الأزمة آنذاك. ورغم أن عجز التوجهات الماركسية اللينينية عن الانقطاع التام عن القيم المهيمنة للمجتمع الطبقي يُعد عاملاً مؤثراً ومهماً؛ إلا أن أزمات النظام الذي ارتكزت إليه الاشتراكية المشيدة، كانت ذات نوعية يمكن تخطيها بالجهود والمساعي الذاتية. ولو لم يكن المؤثر الموضوعي المحقِّق للانهيار بهذه النوعية، لما جرى هذا الاستسلام الذي يكاد يكون الأسوأ من نوعه. بل وإنها انتظرت الخلاص من النظام الحاكم ذاته. إن البلدان الرأسمالية المتقدمة هي التي أعاقت حدوث النتانة والاهتراء الأسوأ.
حتى هذه الحقيقة المعاشة كافية لتلقيننا الكثير من الدروس في إيضاح تأثير الاشتراكية المشيدة الضارب للنظر في تخطي النظام القائم أزمته، وانتهائه بالفوضى، على حد سواء. لو لم تنقسم الرأسمالية إلى مذاهب، نتيجة ثورات عام 1848، لربما كانت دخلت مرحلة الفوضى مبكراً. لقد تخطت القرن العشرين على وجه الخصوص عبر ثلاثة مذاهب. فمذاهب الاشتراكية المشيدة والديمقراطية الاجتماعية والتحرر الوطني، ساعدت على تأخير ولوج النظام القائم مرحلة الفوضى قرناً كاملاً على أقل تقدير. ولو أن الحال استمرت حينها دون تغيير، لكان اضطر النظام لدخول الفوضى البينية ذات أزمات التحولات الجذرية، في بدايات القرن العشرين. يجب النظر إلى تسليط النظام الحروبَ المروعة – بما فيها الذرّة – على رأس البشرية، وخلقه الوحوش الاستعمارية، القوموية، الفاشية والتوتاليتارية، وقيامه مقابل ذلك بإناطة التحرر الوطني والاشتراكية المشيدة والديمقراطية الاجتماعية بدور الحل؛ على أنه ليس سوى مناورات تاريخية وسياسية وعسكرية لإطالة عمره، لا غير.
تعبِّر الفوضى البينية عن التعقيد والاختلاط اللازم من أجل التغييرات في بنى الظواهر، من قبيل الشكل، النوع، والبنية الجديدة. حينها تكون الجوانب المتضاربة في ظاهرة ما قد وصلت حالة لا يمكنها فيها الاستمرار في علاقاتها مع بعضها البعض، ولا مواصلة بناها الموجودة. والشكل عندئذ لن يصون المضمون، بل سيكون ناقصاً، ضيقاً، ومخرِّباً. في هذه الحالة تبدأ التساقطات، ويتولد الشغب (الفوضى). لقد أنقذ المضمون نفسَه من الشكل. لكنه لم يبلغ بعد شكله الجديد. والشكل القديم المتمزق لا يجدي نفعاً سوى في كونه لازمة تُستَخدَم من أجل الأشكال الجديدة. وكأن مبدأً كونياً يعمل في هذه المساحة البينية. تنتقل أجزاء بنية الكون إلى تسْويات جديدة، عبر التغيرات السريعة أثناء الفوضى المبلوغة. وإذا كانت تسوية الشكل الجديد مناسبة للإمساك بالأجزاء، فإنها تتحول إلى بنية ثابتة راسخة، يتولد في أطرافها نظام جديد.
لنوضح الأمر في عالَم الظواهر المادية البسيطة: إن جزيء (H2O) هو شكل معين. ويقال لهذا الشكل "الماء". فعندما يتحد جزيء الهيدروجين (H2) – الذي يشكل أحد عنصرَي الماء – مع ذرّة الأوكسجين (O)، يتشكل الماء. علاقة الفعل ورد الفعل القائمة بين نظام الجزيئيات الأصغر من الذرّة، والموجودة في العنصرَين، وبين جزيء الماء؛ تؤمِّن الحالة السائلة المتدفقة والمنسابة إلى أبعد الحدود. أما حالة التمزق، فتعني بداية الفوضى. فإذا ما بقيت كل ذرّات الهيدروجين (H) والأوكسجين (O) طليقة، وإذا ما دخل بينها عناصر غريبة كالكربون أو الكبريت (على سبيل المثال)؛ فستظهر بعد ارتكاس وجيز اتحادات كثيرة جديدة إلى الميدان. إنه يعني البناء الجديد. حيث تتشكل العديد من الغازات والسوائل السامة عوضاً عن الماء، مثل (CO2 CO,، وحمض – قاعدة).
تسري قاعدة الهيكلية الكونية هذه على المجتمعات أيضاً. فتَبعثُر البنية القديمة ضرورة لا بد منها من أجل البنى الجديدة. لكن، لا يمكن وضع التبعثر والاختلاط بمفردهما مكان البنية. إنه ضرب من العجينة، أو شيء أشبه بالحساء، يتطلب عجنه وإعطاءه شكلاً معيناً. فلنعطِ مثالاً هنا من المجتمع: كان النظام (والذهنية) الإقطاعي قد تبعثر في أواخر القرن الخامس. وكانت الطبقات الجديدة والبرابرة متخذة أشكال عديدة من التكوينات الإقطاعية قبل اعتناقها المسيحية. في حين أنها، وبعد انهيار الإقطاعية تقمصت الكثير من الأشكال الديمقراطية والرأسمالية البيروقراطية.
كثيرة هي طروحات المعطيات المشيرة إلى تبعثر المضادات مع النظام الرأسمالي في أعوام التسعينات. وأولى تلك الإشارات هي التكاثف الأكبر لعولمة رأس المال في الميدان التمويلي. والنظام التمويلي يعني إتيان المال بالمال. بمعنى آخر، فقد بلغ حالة القِمار. ولن يكون ذلك إلا عنصراً للتبعثر والتناثر. إن التمويل يبعثر البنى الراسخة للرأسمالي كما يتناثر قطن الحلاّج. ولا تقف المؤسسات القومية عندئذ على أرجلها بإرادتها الذاتية، بدءاً من الدول وحتى الأيديولوجيات، ومن الاقتصاد وحتى الفن. لكن، كلما عَكَسَت عولمة القوة والإمبراطورية الأمريكية عدمَ جدوى القيم والبنى القديمة الموجودة على الصعيد العالمي بالنسبة إليها؛ تفسح المجال بذلك إلى بروز الأزمات والمآزق والانقلابات والصراعات الإثنية والدينية الدموية، في الكثير من مناطق العالم والدول القومية.
يعجز النظام القائم عن تخطي توتراته الداخلية، أياً كانت الوسائل. وتعاش حالة دائمة من الحزازيات والاضطرابات والخلل، وفي مقدمتها فيما بين أمريكا – الاتحاد الأوروبي، أمريكا – اليابان – الصين، والاتحاد الأوروبي – اليابان – الصين. أما الصراع المسمى بالتناقض الشمالي – الجنوبي، فيستمر متجذراً على شكل انقسام بين الدول الأكثر فقراً – الدول الأكثر غنى. وما يشاهد في كلا الظاهرتين يتسم بماهية من الأزمة المتفاقمة والفوضى الدائمة. ويتعمق انقطاع الشعوب عن مؤسسات الدولة تصاعدياً. وتتطور عزلة الظاهرة المسماة بالدولة يوماً بعد يوم، كلما تم الاستيعاب بأنها تواري في مضمونها قوة السلطة القتالية، وتشكل مصدر الاستعمار والقمع والعنف؛ بعد أن كان يُعتَرَف بها سابقاً – وعلى مر آلاف السنين – بأنها المَلك الإله أو الإله الظل أو الإله ذاته (والذي يمثل الدولة البورجوازية لدى هيغل). لقد باشرت الشعوب ترى الدولة على حقيقتها المعرّاة من كل ستار، كمثال الطفل الذي يرى المَلك عارياً فيصرخ منادياً "أمي، انظري. إن المَلك عارٍ". إنها بداية مهمة للفوضى.
الموضوع الآخر البالغ الأهمية هو حالة البطالة. حيث تزداد البطالة ذات الخصائص البنيوية، كلما استمر النظام السائد. فالنظام بحد ذاته يعني زيادة البطالة كالسيل الجارف. حيث لم يسقط السكان والأهالي في مثل هذه الحالة في أي نظام آخر للمجتمع. من هنا، فالبطالة هي أُولى الظواهر القادرة على الإفصاح عن ماهية الفوضى للأزمة المعاشة، وبأفضل الأشكال. فأينما تكون البطالة كثيفة ومركَّزة، تكون هناك حالة متطورة من الفوضى. والبطالة، إلى جانب العديد من السلبيات، تفيد بحالة الخروج من المجتمعية. إنها ضرب من دفع المجتمع إلى الإفلاس.
من جانب آخر، لا يتم تَشَرُّب أو امتصاص زيادة العرض مع التقنيات الإنتاجية المذهلة. المسألة ليست مسألة عَوَز أو فاقة. بل على العكس، فمن جهة ثمة حشد غفير من السكان المعانين من مجاعة أنكى من الفاقة، ومن الجهة الأخرى ثمة كل شيء من زيادة العرض المتكدسة كالجبال. لا يمكن أن تتشكل ماهية فوضى أكثر لفتاً للأنظار من هذه.
هذا وثمة تمدن متعاظم ومنتشر كما السرطان. وتعاظم المدينة هو أحد أكثر الأمثلة سطوعاً عن السَّرْطَنَة (أي الإصابة بعدوى السرطان) الاجتماعية، والتي لا علاقة لها بالمدينة بالمعنى السوسيولوجي للأمر. فالمدن تخرج من كونها مدناً، بتعاظمها بما لا معنى له، وبتحولها القروي أيضاً على حد سواء. تعاش الفوضى في المدينة على نحو أكثر كثافة. إذ يتم تبضيع المجتمع برمته، بحيث لا تبقى فيه قيمة، إلا وتكون موضوعاً للبيع والشراء. ويتحول كل شيء إلى سلعة: القدسية، التاريخ، الثقافة، والطبيعة وكل شيء. هذه الحقيقة ليست سوى سَرطَنة اجتماعية تقود بدورها إلى الفوضى.
أما تلوث البيئة ودمارها، فيبرهن بشكل قاطع على إحاطة خاصية الفوضى بكل البيئة، كمحصلة لجميع ماهياتها الأخرى. وما داء الصَّرَع، انشقاق طبقة الأوزون، تلوث المياه والهواء، والانقراض المفرط للكائنات الحية؛ سوى رموز منفردة بذاتها تدل على ذلك. أما الظاهرة الأيكولوجية الحقيقية، فهي تحول العلاقة الكامنة بين المجتمع والطبيعة إلى هوّة شاسعة. وإذا لم تُغلَق هذه الهوّة قبل لحظة، فستكون النتيجة هي التحول إلى ديناصور اجتماعي.
من الضروري رؤية الانفجار السكاني أيضاً كحصيلة لبنية النظام القائم التناقضية العامة. فسياسة النسل لدى الرأسمالية ترتكز إلى مبدأ "كلما قَلَّت قيمة الإنسان، كلما تكاثر وكثر". وكلما بقيت الرأسمالية موجودة، فستستمر مشكلة التضخم السكاني في تفاقمها طرداً. تأتي مسألة الانفجار السكاني في صدارة الخصائص المضخِّمة للفوضى والمفاقِمة إياها.
تشهد بنى المجتمع الموجودة في القطب المضاد للنظام السائد حالة مشابهة من التساقط والتشوش. وقبل كل شيء، تعيش العائلة التبعثر الأكثر كثافة في تاريخها المديد. فقرابة نصف الزيجات تبطل وتفسد، مما تقود إلى تعاظم العلاقات الجنسية غير المضبوطة واللاأخلاقية، كالسيل الجارف. وكأن عمر "الزواج المقدس" قد انتهى.
أما الأطفال، العجائز، وعلاقات الوالدين، فقد وقعوا في حالة نتنة فاسدة لا معنى لها من الناحية الاجتماعية، باعتبارهم الضحية المؤسفة للتبعثر ارتباطاً بوضع العائلة. كلما انسدل الستار عن الممارسات القمعية والاستغلالية المطبقة على المرأة منذ القديم الغابر، كلما تحولت قضية المرأة إلى أزمة متفاقمة، بكل ما للكلمة من معنى. وكلما تعرفت المرأة على ذاتها، كلما تحولت إلى العنصر الأكثر تأثيراً في علاقة الفوضى التامة، بما يختلجها من نقمة ونفور على إقحامها في وضع السقوط والتردي. إن انهيار المرأة يؤول إلى انهيار المجتمع. وانهيار المجتمع يفضي إلى انهيار النظام القائم أيضاً.
الحالة النادرة جداً للأخلاق الاجتماعية مؤشر آخر على اللاأخلاقية العامة. فحالة الأخلاق المستهلَكة تكاد تؤدي إلى فردية محرَّرة من قيودها وضوابطها، وإلى فساد ودمار القيم الاجتماعية. توضَع الأخلاقية بالنسبة للرأسمالية في كفة مساوية لـ"الحماقة والسذاجة". إن مجتمعاً مفتقداً لمقوماته الأخلاقية (أي ضميره)، لا يعني سوى حالة من الفوضى. ولا يمكن تعريفه على نحو آخر. إن المشاكل الاجتماعية التي تسعى الدولة لإعاقتها عبر سياساتها الاجتماعية، عاجزة عن العثور على حل لها. بل وتتفاقم أكثر بسبب ندرة الموارد، وبسبب البنية العامة للرأسمالية.
أما "المنفعة العامة", والتي تعتبر النشاط الوحيد المفعم بالمعاني للدولة، فهي تفقد مضمونها كلياً. و"الأمن العام" للمجتمع أيضاً يعاني من مهالك مشابهة. فتقرب الرأسمالية على أساس "جعل كل واحد ذئبَ الآخر" يقود إلى بروز مشكلة أمنية عامة. فالأمن الاجتماعي لا يُفسَد من الخارج فحسب، أي من الأشقياء أو من الجرائم التي تنص عليها القوانين؛ بل إن ما أدى إليه النظام يجلب معه الدوافع الأساسية للأمن، وعلى رأسها المجاعة والبطالة.
ميدان التعليم والصحة أيضاً عاجز عن العثور على حلول لذاته، بسبب ارتفاع الأسعار من جانب، والتزايد السكاني من جانب آخر. وتتكاثر أمراض متسمة بالفوضى، وعلى رأسها داء السرطان، الأيدز، والأرق والإجهاد. والمجتمع الذي بات وجهاً لوجه أمام الانقطاع عن كافة أنواع عناصر الحياة التي لا غنى عنها، وفي مقدمتها البيئة، السكن، الصحة، التعليم، العمل، والأمن؛ أصبح – ولأول مرة في التاريخ – منتبهاً إلى عجزه عن إيجاد الحلول الجذرية لمشاكله، أي إلى ولوجه في مكبس الفوضى. إنها مرحلة تدوخ فيها العقول وتصاب بالدوار بسبب عقم الحل.
إن الآليات الدفاعية، الفن، العلم والتقنية عاجزة عن لعب دورها بسبب الاحتكار المفرط للسلطة الرسمية إياها؛ رغم أنه من الواجب أن تؤدي وظائفها أكثر من غيرها في مثل هذه المراحل داخل أنظمة المجتمع التاريخية. وكلما انهار التعاضد المشاعي، كلما خارت قوة الدفاع التقليدي، لتتخلى عن مكانها للعنف الفردي والعنف العصاباتي. فمقابل إرهاب السلطة، يؤجَّج إرهاب القبيلة والعشيرة. وكلما تَعرَّت قوة السلطة القتالية في بنية الدولة، كلما تولَّدت حالة من الدفاع المشروع للمجتمع. من جانب آخر، كلما غاب تطبيق قواعد المساواة بأعم أشكالها في دولة القانون، وكلما فُرِض الطوق والحصار على حقوق الإنسان وأساليب التعبير الديمقراطي عن الذات؛ فستتشكل بالضرورة قوى الدفاع عن الحقوق. مما ينمّ ذلك عن إقحام الأجواء في قوقعة العنف المتبادل الحلزونية. سيساهم ذلك في زيادة حدة الأزمة، عوضاً عن الخروج منها. ولدى التصعيد المفرط من قوموية الدولة، ستتطور القوموية الإثنية. هذا بالذات ما يشكل قناة أخرى للعنف.
بدلاً من أن تُعبَّأ النشاطات المؤسساتية – كالرياضة والفن – وتُشحَن بآلياتها للمساهمة في العثور على الحلول وتلطيف وتطويع العلاقات والتناقضات المادية وإيضاحها؛ تتحول، وعلى النقيض من ذلك، إلى وسائل مخدِّرة، لتشارك في التمخض عن حالة من الزيف والرياء. هذا وتُشحَن الأديان والمذاهب والطرائق بآليات وفاعليات مشابهة، لتشكل عائقاً أمام رؤية حقيقة المجتمع القائمة، وتُقحَم في وضعية معيقة على درب الحل الحقيقي؛ عبر تشكيل الجماعات المتزمتة فيها، إلى جانب مفهوم "العوالم الأخرى". وبفصل الرياضة والفن والدين عن جواهرها الاجتماعية التاريخية، تسود النظرة بعينٍ تضع أمام بصرها "منظار الحصان"، وتنظر إلى الأمور بفؤاد صفيحي. هكذا تعم البلادة واللامبالاة. وبخلق البراديغما المزيفة والخيالية، يُفرَض العقم على المجتمع، وكأنه قدر محتوم. لكن مقاومات من هذا القبيل تجاه الفوضى، ستنمّ عن نتائج معاكسة، لتتجذر الفوضى أكثر فأكثر.
أما فيما يتعلق بالعلم والتقنية، فلا يتم عكسهما على الحل الاجتماعي المرتقَب، بسبب الاحتكار المريع للسلطة إياهما؛ بدلاً من أن يلعبا دورهما المنوط بهما في مثل هذه الأوقات، في التنوير والإرشاد والتوجيه في عملية إعادة البناء، وإفساح المجال لتأمين كل ذلك. يُناط تعريف الفيل بوبره، بدور مشابه لسحق الفأرة بالفيل. علاوة على أن فرص الحل العظمى تُوجَّه صوب حروب وتسلح لا معنى لهما، وصوب الحظي بنتاجات تستهدف الربح المحض؛ مما ينافي احتياجات المجتمع الأولية. وهذا بدوره ما يفتح الطريق أمام السلبيات، ويُستخدَم بالتالي في تطوير الفوضى.
بالمقدور التوسع أكثر في تعريفنا للفوضى التي مهّد لها النظام بإلحاقه المجتمع برمته بها. لكن هذا التعريف كافٍ ووافٍ لتلبية ما نرمي إليه هنا. بدون إيضاح حالة الفوضى بشكل مفهوم، بل والتفكير والتصرف وكأننا نعيش في نظام اعتيادي مألوف؛ لن ننجو من الوقوع في أخطاء أساسية، وبالتالي من معاناة تكرار العقم واللاحل، عوضاً عن الحل. ثمة حاجة ضرورية للمساعي التثقيفية والعقلية الشاملة في هذه المرحلة، بما يضاهي سابقاتها بأضعاف المرات. نخص بالذكر هنا زيادة قيمتها التنويرية بحق، بسبب ما يسفر عنه سوء فهم المجريات من حولنا – عوضاً عن فهمها – بوساطة البنى العلمية القديمة كالجامعات والدين. فالعلم والدين المرتبطان بالسلطة، يصبحان فعّالان إلى أقصى حد في إظهار الوسط على نحو مشوه ومنحرف، وفي طرح البراديغمائيات الزائفة.
علينا في هذه المراحل أن نرى على نحو أفضل، الدور الذي يؤديه العلم والدين والفن والرياضة كثورة مضادة. تتزايد الحاجة بنسبة كبرى للعلم والبنى العلمية – مدارس وأكاديميات علم الاجتماع – غير المخادعة، والمتقدمة إلى المجتمع بمخططات ومشاريع وبراديغمائيات حقيقية. علينا كسب الصراع أولاً في الميدان التثقيفي العقلي، أي في الميدان الذهني. إننا في مرحلة اكتسبت فيها الثورة الذهنية أهمية مصيرية.
يجب أن يكون الصراع الذهني متماشياً مع القيم المعنوية. فإذا ما لم تُكتَسَب المعنويات والأخلاق مع الذهنية، سيكون ثمة شكوك وريبة في الحصول على النتائج، أو تأمين ديمومتها. إذا ما وضعنا نصب العين حقيقة النظام القائم في تجريده المروِّع المجتمعَ من الأخلاق، سنجد أنه من الضروري أن تمثل السلوكيات والشخصيات والمؤسسات الأخلاقية الكافية والضرورية ذاتَها في المجتمع. فأي تواجُه مع الفوضى يكون مفتقراً إلى الأخلاق، قد ينتهي بابتلاع الفرد والمجتمع على السواء. على الأخلاق ألا تتغاضى إطلاقاً عن التقاليد الاجتماعية، بل أن تضيف أخلاق المجتمع الجديد بما يتناغم معها. من الضروري بعد الآن إيلاء أهمية خاصة للسياسات والوسائل اللازمة في عملية إعادة بناء المجتمع أثناء مرحلة الفوضى، تجاه مؤسسات ووسائل السياسة المقحَمة في حالة أداة ديماغوجية على يد النظام المهيمن.
على الأحزاب والانتخابات والمجالس والإدارات المحلية أن تتداول المشاكل العالقة شكلاً ومضموناً، وأن تجد وسائل الحل اللازمة لها، باعتبارها مؤسسات سياسية قادرة على لعب دورها المنوط بها في تحقيق بناء المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي. يجب أن تكون أواصر التنظيم السياسي والعملية السياسية على قدر من الكفاءة والكفاية مع المجتمع الديمقراطي والمشاعي والبيئي. ثمة حاجة ماسة لتجسيد هذه التوجهات العامة بشكل ملموس، إزاء مرحلة الفوضى. يمكن أن تجري عمليات خروج النظام والشعب من الفوضى في حال امتلاكها القُدُرات التحولية. فقد تسفر المداخلات الصغيرة عن نتائج مهمة. وقد تكون مرحلة الخروج من الفوضى قصيرة أو طويلة المدى (بشرط ألا تقل عن عشر سنين، وألا تزيد عن خمسين سنة).
إذا ما حاولنا إسقاط احتمالات الحل للأطراف المعنية ضمن هذا الإطار، فسنجد أنها ستحدَّد وفقاً للصراع القائم بين القدرات التحولية لقوى النظام المهيمن في الخروج من الأزمة والفوضى بالزعامة الأمريكية من جهة، وبين قدرات الشعوب التحولية في الخروج منها من جهة ثانية. فالأزمة لا تجلب معها الانهيار التلقائي للأنظمة الموجودة وتأسُّس الجديدة منها. بيد أن الانهيار أو التحطم ذو معنى نسبي. فالتقييمات الباطلة التي سادت الآداب الاشتراكية في الماضي، من قبيل "الرأسمالية الزائلة"، و"الإمبريالية أسَدٌ من ورق"، و"لن تخرج من الأزمة والوهم مرة ثانية"؛ لا تذهب أبعد من كونها قيمة دعائية. من جانب آخر، فالتقربات المشحونة بالإيمان بـ"إمكانية الانتقال إلى أشكال أكثر تقدمية" كضرورة لا بد منها، محدودة في سريانها. فالانحسار والتقهقر أيضاً ممكن، وبكل سهولة. علاوة على أن تحديد مدى تقدمية الرأسمالية ككل متكامل، لا يزال موضوع جدالات محتدمة. وقوى النظام المهيمن، نسبةً إلى قوى المجتمع، تعد أكثر تزوداً وتسلحاً بالمعلومات، ومعبأة بالجيش والسلطة، ومتميزة بالتجربة والخبرة. كما أنها تستحوذ على ثروات وفيرة بين يديها. ثمة مجالات واسعة النطاق لتأسيس النظام الجديد، أو لقمع النظم المعادية؛ وإلا فشراء ذمتها، أو الوفاق معها.
ثمة نقطة أخرى مهمة تستدعي تنويرها، ألا وهي أن انتقاد الرأسمالية لا يعني تعتيمها من الجذور. وأن كل الرأسماليين – كأفراد – ليسوا متساوين كأسنان المشط. فقد يقوم النظام الرأسمالي بالانطلاقات على مختلف أنواعها:
أولاً؛ بإمكانه ترميم ذاته. بيد أنه فلح في ذلك بُعَيد الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذا وقام بالترميم أيضاً بعد حروب عدة بلدان أخرى. ثانياً؛ بإمكانه تحديث مذاهبه التي جرَّبها سابقاً، ليحقق انطلاقته. هذا وبالمقدور تسيير التسلسل المحافِظ الاجتماعي المجرَّب بكثرة، ضمن أشكال أكثر جذرية. فالنظام يمتلك قدرات تحولية واسعة النطاق. وهو خبير في تطوير النماذج. ثالثاً؛ بإمكانه عقد وفاق واسع الإطار مع القوة المناهضة له، كطريق وسط، لدى رؤيته أنه سيتكبد خسائر فادحة. رابعاً؛ من المحتمل أن يرى مناسباً القيام بتغييرات كبرى، عوضاً عن فقدان كل شيء. وقد قامت النظم الحاكمة على مر التاريخ بالعديد من التغييرات المشابهة في أوقات الأزمة الحرجة. كما وأُحدِثَت تغييرات على هذه الشاكلة، وبكثافة، في تاريخ الرأسمالية أيضاً.
المفهوم القديم القائل بأن "النظام صلب. فإذا ما ولج الأزمة، سيصعب عليه الخروج منها"، ليس واقعياً كثيراً. ومثل هذه المفاهيم يمينية الفحوى، رغم مظهرها اليساري. حيث تسفر عن حالة من الانتظار الفارغ للانهيار التلقائي، وكأنها تود التربع على ما هو جاهز. فحتى الفاكهة المستوية لا تؤكل ما لم تُقطَف. الأنكى من ذلك، أنه عندما لم يتحطم النظام كما كان منتظَراً، بات أصحاب تلك المفاهيم يشككون في أفكارهم وعقائدهم؛ مع أن ما جرى هو تعريف خاطئ للنظام، وعدم صياغة فرضيات صحيحة لتغيرات النظم وتحولاتها.
إن مساعي النظام الأمريكي في إدارة ذاته داخل الأزمة واضحة للعيان تماماً. فهو متنبه لمسؤولياته كي لا يصاب فيها بجرح بليغ. وفيما يتعلق بذلك، تعد التقييمات المفرطة القائلة بتوسيعه إمبراطوريته ناقصة الفحوى. إذ لا جدال في أن النظام يشير إلى الكثير من الأمارات التي شوهدت لدى انهيار الإمبراطورية الرومانية، ويقوم مثلها بالعديد من الترميمات والتحديثات. من الجلي أن التقطب الأحادي لقوة النظام الإمبراطورية بحاجة ماسة لجهود إضافية. فالتوسع الحاصل بعد انهيار السوفييتات عام 1990، كاد يكون تلقائياً، مهما كان. لكن على النظام الاعتراف بأن هذا التوسع لا ينبع من قوته، بل من عدم قبوله أي فراغ.
علينا التبيان بأهمية بارزة، بأن الإمبراطورية ليست نظاماً ابتكرته أمريكا، بل إنها لاقت أمريكا مع اتخاذها شكلها الأخير مع الرأسمالية، بعد تاريخ مديد طيلة النظم البارزة. إنها مجرد استلام من الإنكليز. والإمبراطورية هي التي وجدت أمريكا، لا أمريكا هي التي وجدتها. لربما كانت أمريكا القوة الأسهل تحولاً إلى الإمبراطورية، في العالم أجمع. وقد جرى توسع الإمبراطورية بغير رغبة منها نسبياً من جهة، وكضرورة فرضت ذاتها عليها نسبياً من الجهة الثانية. لكنه لن يقود إلى خروجها من الأزمة. بل على النقيض، سيساهم في غرقها فيها أكثر فأكثر. فالمناطق التي تم التوسع فيها، تتميز بفوضاها العميقة. والأزمات الإضافية التي ستتسبب فيها كل من العراق وأفغانستان لوحدها، ساطعة أمام الأنظار.
خلاصة، لا مفر لأمريكا في أعوام الألفين من تكوين أشكالها الجديدة اللازمة، كقوة تُعتَبَر هي الأدنى إلى الإمبراطورية. وهذا ما لا يتوافق وحقيقة السلطة القتالية. إذ ليس بمقدورها التراجع إلى الخلف بالقوة العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية المحدودة التي بحوزتها. تتمثل وظيفتها الأولى في إدارة شؤون النظام داخل الأزمة. هذا ما مؤداه إدارة التوترات والحزازيات الموجودة – دون أي صراع – ضمن علاقات ودية قريبة مع كل من الاتحاد الأوروبي واليابان والصين وروسيا وغيرها من الدول المشابهة. أي، عدم تكرار الدخول في صراعات مع قوى النظام، مثلما جرى في الحربين العالميتين. إضافة إلى عدم الدخول في حروب ملتوية مع بعض القوى بما يشابه حرب فييتنام. بل، وعلى العكس، السعي لتأمين مشاركات تلك الدول في تشاطر عبء النظام العام. لهذا الغرض يتوجب عليها القيام باستخدام الأجهزة الإقليمية والدولية، من قبيل صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، والمنظمة التجارية العالمية. من هنا، فستتوخى الحساسية الفائقة لإبعاد أمريكا اللاتينية وأفريقيا عن سلوك أية مواقف قد تجذِّر أزمة النظام فتحرجه. وكذلك الانتباه لعدم السماح بأية انقطاعات راديكالية من حلقاتها الضعيفة. وما برز للوسط في كل من كوبا، فنزويلا، هاييتي، وليبيريا، وغيرها من البلدان؛ ليس سوى فرض الرقابة على القوى المناهضة للنظام، والمحتمل ظهورها، بل وحتى سحقها إن تولدت الظروف الملائمة.
يتم إعداد مشروع جديد على الصعيد الجيوبوليتيكي بالنسبة لأمريكا، في البلدان الإسلامية الواقعة في منطقة الشرق الأوسط المترامية الأطراف، والمسماة بالمنطقة الأعمق في أزمتها؛ بحيث يكون هذا المشروع أشبه بمخطط مارشال الثاني للنظام الرأسمالي. يبدو أن هذه المحاولة المسماة بـ"مشروع الشرق الأوسط الكبير" ضرورة لا بد منها كي يتمكن النظام من الخروج من الأزمة، قبل تلقيه الضربة القاضية. وبدون إلحاق هذه المنطقة بالنظام السائد، فإن مصادر الطاقة الأولية من جهة، والظواهر الاجتماعية الثقافية والدينية من جهة ثانية؛ ستُقحِم أمريكا في حالة لن يهدأ لها بال فيها. ولن تقف القوى المتميزة بمرتبة الإمبراطورية مكتوفة الأيدي إزاء هذه الحقائق. لذا، بُذِلَت المساعي لإدارة المنطقة بشكل استعماري وشبه استعماري رأسمالي، خلال القرنين الأخيرين. وكُبِتَت أنفاس شعوب المنطقة بالاعتماد على بنى الدولة الاستبدادية. لكن – ومع ذلك – لم يحصل إلحاقٌ ذو معنى بالرأسمالية. وتجذَّرَ الصراع العربي – الإسرائيلي الاستراتيجي أكثر فأكثر. وتحامل الإسلام الراديكالي على خالقتِه أمريكا. أما أنموذج الدول القومية المؤسَّس ضمن حدود مرسومة ومُقاسة بالمسطرة؛ فأسفر عن انغلاق قالبي ورجعي. في حين أن القوموية والديانوية والدولتية كادت تخنق مجتمعات الشرق الأوسط كدرع محصن لا مثيل له في العالم. من هنا، ثمة حاجة لفكرة المشروع الجديد. المهم هنا هو؛ كيف، ومع أي من القوى سيرى هذا المشروع النور؟ وأي نظام سياسي واقتصادي سيتخذه أساساً؟ وكيف ستردُّ شعوب المنطقة عليه؟
هذه هي المسألة الأساسية، وبالتالي التناقض الأولي، على الصعيد الجيوبوليتيكي، بالنسبة للنظام بالزعامة الأمريكية، سواء بحلفه الناتو، أو بهيئته للأمم المتحدة. فالهدف المستهدَف الآن هو "الإسلام الصلب" أو "فاشية الإسلام" (عوضاً عن الفاشية والشيوعية سابقاً). إن قوى النظام وأذياله يشعرون بالضيق والسخط من موجة "العولمة" التي يتم إعلاؤها بالزعامة الأمريكية. نخص بالذكر هنا تزايد ردود فعل الجمهوريات والديمقراطيات الأوروبية مع مرور الأيام. حيث تولي العناية الفائقة لعدم السماح بسحق الدول القومية وجهازها العلوي (الاتحاد الأوروبي). وتُبذَل المساعي على قدم وساق لتجربة البدائل المتمثلة في حقوق الإنسان والبورجوازية الديمقراطية تحت ظل ترسانة (مِجَنّة) الاتحاد الأوروبي. والتوازن الأمريكي هو السياسة الأساسية المتبعة. هذا وتصب جهود روسيا والصين واليابان والبرازيل في نفس المصب.
بشكل عام، تشكِّل الدولةُ القومية المؤسسةَ الأكثر ملاقاة للمصاعب تجاه الميول الإمبراطورية الأمريكية. في الحقيقة، فالدول المتوسطة الحجم – والأصغر منها – والتي كان من الواجب أن تصبح دولة ولاياتية واحدة منذ زمن بعيد؛ تشبه في مساعيها – نوعاً ما – التجذيف عبثاً بعكس وجهة التيار. من المحتمل أن تعترف أغلبية تلك الدول – وبكل صدق – بتبعيتها من جوانب عديدة، وأن تتخلى عن غرورها القوموي القديم، لتمتثل لقواعد العولمة الجديدة. ما من خيار آخر أمامها، حيث تكاد تنعدم الظروف الداخلية والخارجية المساعدة على المواجهة والتحدي اعتماداً على خوض تجربة "سوفييتية" ثانية، وعلى الاستمرار في صون استقلاليتها المحدودة. فأحلام اليقظة للثورة القديمة لم تعد تمثل "التقدمية" إزاء النظام القائم، بل تمثل التزمت والتعصب. وكأن البيروقراطية المتزمتة لن تقدر على الحصول على قسط وافٍ من التأمين والضمان من التحرر الوطني التقدمي. حيث لا النظام الموجود، ولا أمريكا، ولا حتى الشعوب القابعة في الأسفل؛ قادرة على بلع ذلك وهضمه. ومرحلة الاستبداد والتنمُّر والأوليغارشيات القومية المعتمدة على التوازن الأمريكي – السوفييتي قد أُوصِدَت أبوابها.
إلى جانب تمتع النظام القائم بأفق يمكِّنه من توسيع إطار العلم والتكنولوجيا أكثر، إلا أن الشروط الاجتماعية تشكل عائقاً حقيقياً أمامه. فزيادة العرض على الطلب تُبقي العلم والتكنولوجيا غير فعالين من حيث التجديدات. مع ذلك، بمقدورهما لعب دورهما في حل مشاكل الحشود الغفيرة من الشعوب. هذا بدوره غير ممكن إلا بالمجتمع الديمقراطي والأيكولوجي.
إنْ نظرنا إلى مستقبل النظام بالزعامة الأمريكية خلال ربع وحتى نصف القرن الآتي، فمن المحتمل ولوجه في مرحلة الجزر، لا المد. فكل الدلائل تشير إلى أن عناصر الجَزْر تضاهي بفارق ملحوظ عناصر الصمود أو الاستمرار كما هو عليه. وحتى إذا شاء مواصلة وجوده الحالي، فلن يمكنه ذلك إلا بتقوضه وتقزمه، لا تعاظمه. لأجل ذلك، سيستمر في التقوض في كيانه العسكري البالغ أبعاده العملاقة، تجاه الاتحاد السوفييتي والحركات التحررية الوطنية، وسينتقل إلى زمن الجيوش التقنية الأصغر حجماً.
رغم ما يقال بأن الهدف هو البؤر الإرهابية والمخدِّرة من جهة، والأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية التي تصنِّعها الدول الطائشة من جهة ثانية؛ إلا أن خطر انكسار النظام وانقصام ظهره، يكمن أساساً في المستجدات العليا الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط. والاحتمال الأقوى هو أن تكون هذه المستجدات متخطية للإمبريالية والاستبدادية، ودانية أكثر إلى النظم الديمقراطية والمشاعية؛ عوضاً عن أن تكون ذات نوعية إسلامية راديكالية كما يُظَن. فإذا ما لم يوضع الشرق الأوسط تحت المراقبة والضبط عبر الأنظمة الاستبدادية والقوموية والديانوية والدولتية؛ فقد تقوم البنى الجديدة بدور ريادي للأمثلة الحلاّلة في الخروج من الفوضى. فالتحركات الاجتماعية المبتدئة في أفغانستان والعراق، والتي ستستمر في موضوع إسرائيل وفلسطين أولاً، لتتجذر أكثر في كردستان؛ إما أنها مضطرة للعثور على أمثلتها الحلاّلة، أو أنها ستلعب دورها في تجذير الفوضى الموجودة أكثر فأكثر.
بالتالي، فالقوة العسكرية للنظام الحالي، وفي مقدمتها حلف الناتو والائتلاف الموجود في العراق وهيئة الأمم المتحدة ككل متكامل؛ سوف تبحث عن الحل في هذه الأرضية الجيوبوليتيكية.
تتطلب طبيعة التناقضات في المنطقة أساليب اقتصادية وديمقراطية أكثر منها عسكرية. فإن حصلت المساندة الاقتصادية والديمقراطية بالأرجح، والمداخلة العسكرية بأقل تقدير، وحققت خروج منطقة الشرق الأوسط من الأزمة التي هي فيها؛ فسيتبين لحد ما، نموذج العالم خلال الخمسين سنة القادمة كتقدير أوسطي. يتمثل مضمون هذا الأنموذج في "النظام الاقتصادي والديمقراطي المتعاظم، مع دول وجيوش محَجَّمة". إذ من غير الوارد احتمال خروج النظام من الأزمة، ما لم تُحجَّم الدول من جانبها الذي تكون فيه كمستودعات للمصاريف الهائلة (الأزمات المالية، الخلل في الميزانيات). وكأن التقدم على خلفية مجتمع المعلوماتية واقتصاد الشركات المتعددة القوميات، وتطوير الإدارات المحلية العامة، وتخطي الدول القومية المتبقية من القرن التاسع عشر؛ يمثل المنهاج المشترك للنظام بزعامة أمريكا. وقد تبرز اتحادات استبدادية إقليمية أوسع نطاقاً من صنف الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل – كجزم نظري مسبق – بروز اتحادات عالمية وإقليمية، في حين لا يُنتظَر اندلاع حروب عالمية جديدة. وقد تتخلى الدول والشركات والقوميات والأيديولوجيات المتبقية من القرن التاسع عشر عن مكانها، لتحل محلها الكيانات السياسية (شبة الدولة، شبه الديمقراطية)، والاتحادات الاقتصادية الفَوقومية (فوق القومية)، والمجموعات الثقافية الإقليمية، والذهنيات والسلوكيات الفلسفية الاجتماعية التي تضع الأخلاق في المقدمة.
مر النظام الرأسمالي بحروب كبرى في القرن العشرين، بعد أن كان يوجِّه العالم برمته بإرادة أحادية – تقريباً – حتى أواخر القرن التاسع عشر. وأهم نتيجة نمَّت عنها الحروب هي العجز عن إدارتها العالم رغماً عن إرادة الشعوب. فالشعوب، ورغم عجزها حتى الآن عن تأسيس نظمها الذاتية؛ إلا إنها بلغت الوضعية التي تخولها للإعراب عن إرادتها الديمقراطية إزاء سلطة الدولة والسياسة. الاحتمال الأكبر هو أن تشهد المرحلة المقبلة، خلال ربع وحتى نصف القرن، نشاطاً فعالاً في وجهة أنظمة الشعوب الديمقراطية. الاحتمال الآخر هو انتعاش ثقافاتها، التي هي بمثابة أثمن خزينة افتقدتها، في هذه المرحلة؛ وعودتها ثانية إلى حياتها وأوساطها الخاصة بها. ففصلُ الشعوب عن حقائقها الثقافية، ولَّد معه نتائج أشد حدة من المجازر الجسدية أو الاقتصادية، ومن عمليات النهب والسلب.
خلاصة الكلام؛ الاحتمال الأقوى هو أن المرحلة المقبلة قد فات الأوان فيها على زمان الإرادة الأحادية للرأسمالية، وأن ما ينتظرنا فيها هو تجاوز الشعوب للشوفينية والحروب المشحونة بالنعرات القوموية، وفرضها دمقرطة ذاتها وسلامها، والتحامها بحقيقتها الثقافية والمحلية. ما يندرج ضمن هذا الاحتمال هو عدم قيام الشعوب بذلك بمفردها، بل بالاشتراك مع النظام ذي الدولة النواة – ولكن ببناها المحجَّمة والمقوَّضة – وعلى خلفية مبادئ واضحة. وبدلاً من البنية الطبقية والجنسية والإثنية والثقافية السلطوية لحضارتنا، ستتحول خلال فترة تاريخية مصيرية إلى "حضارة عالمية ديمقراطية" تعترف بقيم الشعوب الديمقراطية والمشاعية، ومنفتحة نحو الحرية الجنسية، ومتخطية للقمع الإثني والقومي، ومعتمدة أساساً على التعاضد الثقافي.

shiyar
04/04/2007, 10:11 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان
++++++++++++++++++++++++++++++++
الفـصـل الثـانـي

A – الخُلاصة التاريخية للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع


يتجسد أحد أهم النواقص الأساسية لعلم الاجتماع في عدم إشارته إلى الذروة الأخرى (القرين، الشريك) للمجتمعات الهرمية والمنوطة بالدولة، والتي يجب أن تمر بثنائية جدلية بطبيعة الحال على مر التاريخ. وكأن التاريخ عبارة عن سياق تطور خالٍ من التناقضات، ويتقدم على الخط المستقيم للنظام الاجتماعي المهيمن. فمثلما شوهد في كل تطور ظاهراتي، يتطور المجتمع الهرمي والدولتي أيضاً ضمن تناقض مع القيم المجتمعية الطبيعية، التي تلعب دور النقيض. وهو ينمو ويتطور ويتنوع بالتغذي عليها. من الضروري عدم الاستهانة بقوة المجتمع الطبيعي. ذلك أنه يلعب دور الخلية النواة الأم. ومثلما تُولَد جميع خلايا النسيج من الخلية النواة، تتولد المؤسسات المشكِّلة لنسيج المجتمع الطبيعي، منه أيضاً. وكما تُولََد الأعضاء والأجهزة والنظم من النسج، تولد الأجهزة والنظم المجتمعية المتطورة الأخرى من المؤسسات البدائية (المؤسسات الهرمية البدائية) للمجتمع الطبيعي. قد يُكبَت المجتمع الطبيعي، ويُحسَر ويُقحَم في الشرك ويطوَّق. ولكن، لا يمكن إفناؤه أبداً. ذلك أنه يخرج حينها من كونه مجتمعاً. وعجزُ علم الاجتماع عن تثبيت هذه الواقعة، نقصان هام لا يُغتفَر. ما يغذي الهرمية والدولة، هو حقيقة تكوُّن المجتمعات الطبيعية على مر ملايين السنين. وإلا، فكيف بإمكان الثنائية الدياليكتيكية أن تتولد؟ إن القيام بالتحليلات المجتمعية بوسائل طبقية أو اقتصادية ضيقة، يعني ترك أصل الحقيقة وعضوها الأولي على الهامش منذ البداية. هذا هو الخطأ والغلط الفادح المرتَكَب. هذا وناهيك عن نظرة مدرسة الماركسية، ذات التَّوَجُّه الطَّموح إلى المجتمع الطبيعي الذي سمَّته بالمشاعي، وكأنه نظام انتهى عمره وزال من الوجود منذ آلاف السنين؛ والتي أثارت هذا الموقف السلبي وأججته أكثر.
لم ينتهِ المجتمع الطبيعي في أي وقت من الأوقات، ولم يَنفُذ رغم تغذيته لمضاداته. بل تمكّن من إيجاد نفسه على الدوام. ورغم كل التخريبات، لم يُنقِص من وجوده كإثنية، كركيزة صلبة للعبيد والأقنان، كأرضية خصبة لتجاوز التمايز الطبقي العمالي وتنامي المجتمع الجديد، كمجتمع بدوي متنقل بين البراري والأدغال، كعائلة قروية حرة، أو كأسرة بكيان الأم، وكأخلاق نابضة بالحياة في المجتمع. وعلى عكس ما يُظَن، فالقوة الدافعة لتَقَدم المجتمع ليست النضال الطبقي الضيق فحسب، بل والمقاومة العظمى للقيم المشاعية المجتمعية. من غير الصحيح إنكار النضال الطبقي، ولكنه ليس سوى أحد ديناميكيات التاريخ. أما الدور الرئيس، فمنوط دائماً بالرُّحَّل المتنقلين بين الغابات والجبال والبراري المجدبة، والذين عاشوا على شكل حركات إثنية أو قَبَلية، أو شعبية. فالإثنية هي قوة الصمود والتحمل على مدى آلاف من السنين، رغم كافة أنواع الهجمات الضروس، والمصاعب الطبيعية. وما خلقَته كان عبارة عن المقاومة والصمود، بثقافتها وملاحمها ولغاتها، وبقيمها وأخلاقها الإنسانية الشفافة والأصيلة.
من أكثر المشاكل التي يدور حولها الجدل، هي احتمالات الأنظمة الممكن ظهورها من أزمة الرأسمالية. لقد سادت أزمة ملحوظة بعد الحرب العالمية الأولى. وقيام الثورة البلشفية منوط عن كثب بتحليلات لينين بهذا الصدد. كان اندلاع الحرب العالمية الثانية يشير إلى أن الأزمة لم تنتهِ بعد، بل تتسم بالسيرورة. ولملمت الرأسمالية قواها، لتقوم بقفزة بارزة مع الثورة العلمية التقنية الكبرى الثانية. لكن هذه الحملات القصيرة المدى، بقيت عاجزة عن تحقيق تَشَعُّب وتوسُّع تصدعات الأزمة في النظام السائد. ومع انهيار السوفييتات بعد السبعينات، ناهيك عن تخفيف أزمة النظام، بل زادت تعقيداً ووطأة. وبذلك بُرهِن على أن التجربة السوفييتية قد خففت عبء النظام، موضوعياً.
وانتعشت الحلول المناوئة للنظام السائد، والتعاليل الليبرالية الحديثة لحلول الأزمة، مرة أخرى في هذه المرحلة. فهل الليبرالية الحديثة، حقاً، كاريكاتور للماضي؟ أم أنها، مثلما زعمت، حداثة حقيقية باسم "العولمة"؟ بينما يدور الجدل بأقصى سرعته بهذا الصدد، فرضَت البدائل التي طرحتها الشعوب، نفسَها أكثر فأكثر، بُعَيد أزمة الاشتراكية المشيدة. إلى أين كان يؤول النظام المنحصر بين أمريكا – أوروبا – اليابان؟ وإلى أين كانت تُفضي التقطبات المجتمعية المتزايدة، والصراع الشمالي – الجنوبي؟ كانت التيارات البيئوية والفامينية، والثقافية الطابع بالأغلب، تبرز كعناصر جديدة. وكانت حقوق الإنسان وقيم الحل للمجتمع المدني تتزايد وتتزايد، في حين كان اليسار منهمكاً في تحديث ذاته. كيف كانت الجدالات الدائرة ترتأي العالم المرتقب، سواء نقاشات "منتديات (كلوبات) أغنياء دافوش"، أو "نقاشات منتديات (كلوبات) فقراء بروتو – آللاغرا"؟ إن المستوى الضحل لتلك الجدالات لم يذهب أبعد من إنقاذ اليوم المُعاش، ذلك أن الرؤية المستقبلية النظرية والمنتظمة كانت غائبة في كلا الطرفين على السواء. لقد كانت الحركة المنهاجية والمخططة محدودة النطاق.
باختصار، لم تكن معلومات الموالين للحرية والمساواة من أجل المجتمع، ولا بُناهم، تشير إلى القدر الكافي للنفاذ من الأزمة بنجاح. كان من الضروري عدم الوقوع في أخطاء مشابهة، هذه المرة، إذا كان لا يُراد – حسب الزعم – الاختناق في مياه التيار الجديد المسمى بالليبرالية الحديثة، بعد أن تمكنت الليبرالية من امتصاص وجذب موجات العديد من الثورات المندلعة إلى مياهها، وفي مقدمتها ثورات 1848، 1871، 1917، والتي شهدها التاريخ الحديث باسم الكادحين والشعوب. ما هو مطلوب ولازم، كان عبارة عن قدرة اكتساب المعلومات الصحيحة، إعادة إعمار المجتمع، وإيجاد الصياغات الناجحة لذلك. نخص بالذكر هنا خيارات الشعوب، التي كان يجب أن تجد معناها، وأن تنوَّر بنيتها في منطقة الشرق الأوسط التي تكاثفت فيها التناقضات مع مرور الأيام، وشهدت الأزمات والاشتباكات الطائشة والمتهورة. كان على الشعوب إعداد خياراتها إزاء الحملة الأمريكية الجديدة، المسماة بأزمة 11 أيلول، والمتسمة بماهية تآمرية غائرة الأعماق. كان يجب أن تكون خيارات تجعلها لا تقع مرة أخرى في الأخطاء والمغالطات الجذرية، ولا تصبح رقعة لبنى النظام المهترئ. لقد كان التاريخ ينتظر منها رداً متواضعاً، ولكن جدياً وغيرَ مخادع في نفس الوقت. حيث كان يوصد أبوابه كلياً أمام التكرارات المجرَّبة التي لا أمل منها.
لقد اعتَبَرتُ الرد على هذه الأسئلة، التي طالما بحثتُ عن أجوبة لها، واجباً أساسياً ملقى على عاتقي في مرافعتي هذه. كما أنها في الوقت ذاته، كانت تحتِّم عليّ إيجاد الجواب المرتجى لوقائع الحياة الساحقة التي يعاني منها الشعب الكردي المتطلع دوماً إلى الحل الكفؤ الممكن التطبيق، واللائق به من جهة، وإلى إيجاد قوة المعنى المرتقبة، والوسائل البنّاءة من أجل حل مظفر للمشاكل التي عانتها حركة PKK، التي ترى نفسها مسؤولة عن لعب دورها الريادي من جهة ثانية. وبينما أجد هذه المسؤولية في ذاتي، فإنني متيقظ كلياً ومدرك لضرورة التحرك باسم خيار كافة الشعوب الفَوْقَومية (فوق قومية)، ممثَّلاً في شعبنا. واتخذتُ من وجهة النظر الإنسانية المثالية، والطبيعية البيئوية، والمتخطية لمفهوم "الوطنية والأممية" القديم الضيق؛ محوراً أساسياً لجميع تقرباتي. لهذا الغرض قمتُ بطرح أفكاري بصدد المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي، للنقاش والمعالجة.
السؤال الواجب طرحه والرد عليه أولاً هو، كيف يجب أن يكون إطارنا النظري؟ عَمَّ يمكن أن يتمخض البقاء بلا نظرية؟ إلى أين تؤول بنا النظريات الخاطئة والناقصة؟ كيف يجب أن تكون مزايا الإطار النظري القدير والمناسب للأهداف المرجوة؟
إلى جانب كون "الموضة" لفظاً متداوَلاً، إلا أن الصحيح جوهرياً هو ما يقال بأننا في عصر "مجتمع المعلومات". ما يُقصَد بهذا اللفظ هو أنه من الصعب إيجاد الحلول لأبسط الظواهر، وإدارة شؤونها، بدون قوة المعلومات. فما بالك بالظواهر ذات المشاكل الشاملة من حيث المعنى والبناء، من قبيل التحول المجتمعي! أما محصلة السير بحفنة من الحلول البسيطة، فهي الخسران بالأرجح. في حين أن الانتصار التصادفي يتضمن في كل لحظة مهالك المآل بصاحبه إلى الهزيمة والفشل، عاجلاً كان أم آجلاً. وبالنسبة للحياة والمسير المألوفين، فلا يفيدان سوى باضمحلال معنى الحياة الحقة، وزواله تدريجياً. فالحياة الحقة ليست مجرد السير، بل والسير الدؤوب الأقصى.
من هنا، فعدم تنوير مساعي التحول الأساسية أو توجيهها بإرشادات نظرية قديرة ومناسبة للأهداف، في مجتمعات الأزمة؛ سيُصعِّد من احتمال ذهابها هباء أو تمخضها عن نتائج معاكسة، بنسبة كبيرة. تتأتى مشاهدتنا للتكاثفات الفكرية العظيمة في مثل هذه المراحل من التاريخ، من مثل تلك الخصائص للواقع المعاش. وللسبب ذاته نشهد بروز المدارس الفكرية والعقائدية العظيمة لدى ظهور الحضارات، أو قُبَيل وبُعَيد تشكُّل الأنظمة الجديدة.
من المهم بمكان التركيز، وبكثافة، على الفلسفة الماركسية اللينينية، باعتبارها طبعت تقاليد المعارضات بطابعها في القرن العشرين. وبالنسبة لي شخصياً، كان من الواجب إدراك مدى استحالة قطع المسافة، دون وضع اليد على الخطأ الأساسي لهذا المفهوم – الذي أثر عليّ شخصياً أكثر من غيره من المفاهيم – قبل مرور سبعين عاماً عليه.
إنني أنظر إلى تشكيل مفهومي بصدد النظام، الذي سعيت لاصطلاحه بـ"المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي"، خارج نطاق سلطة الدولة أساساً؛ بأنه خُلاصة سلوكي النظري. ويتجسد مضمون إرشاداتي النظرية في البحث عن الحل خارج نطاق كافة سلطات الدولة الهرمية الكلاسيكية المتواجدة في المجتمعات الدولتية، وليس خارج دائرة مفهوم سلطة النظام الرأسمالي وحسب. وكونه سلوك نظري مرتبط بالواقع المجتمعي لأبعد الحدود، وليس سلوكاً خيالياً أو طوباوياً مثلما يُظّن؛ فإنني أعتبره أهم مكسب لي في كفاحي. إلى جانب دور أرضيتي الشخصية والمجتمعية في بلوغي القوة والكفاءة النظرية، إلا إن المؤثر الأساسي هو قدرتي على تفهم المجتمع التاريخي ضمن كافة البنى النظامية. أما ما يستتر وراء فهمي هذا، فهو خصائص النضال والكفاح الذي خضته، ونجاحي في التحلي بروح المسؤولية.
لا جدال حول مكانة فترات الانزواء والسجون والخيانات والمخاضات المستمرة لمدة عشرات السنين، في تشكُّل الأديان الكبرى والمدارس الفكرية العظيمة. ولقيم المجتمع الطبيعي والإثنيات وصراع الفقراء من أجل الوجود أيضاً، مكانة لا غنى عنها في بنية التفكير هذه. ساطع سطوع النهار أن أساسنا التاريخي لن يكون بفهم التاريخ بأنه تَأَصُّل الأحداث الهامة وتجذُّرها حول السلطة السياسية. لكن هذا السلوك قد يتسم بقيمة معينة في استيعاب النظام القائم ككل متكامل، واستنباط الدروس منه.
التاريخ الذي يجب اعتماده أساساً، هو تاريخ كل ما يشهد التقطبات المتضادة ضمن سياق التطور المجتمعي الهرمي والطبقي. كل التواريخ السياسية الرسمية، إما أنها لا تتطرق أبداًَ لوجود هذا التاريخ، أو أنها تراه تاريخ مجموعة فوضوية ضيقة النطاق، أو محشر لا حِكمة فيه، أو سرب قطيع يليق استثماره واستغلاله من أجل مآربها هي. بقدر ما يُعَد هذا التاريخ – الرسمي السياسي – جافاً ومجدباً وتجريدياً ومثالياً، فهو أيضاً مفهوم ظالم في عاطفيته. لذا، لن يجد تاريخنا معناه إلا بابتدائه من المجتمع الطبيعي، وارتكازه إلى كافة أنواع أفكار وعمليات المحكومين، من إثنيات وطبقات وجنسيات، إزاء الهرمية والسلطة السياسية.
بينما نعرِّف دعامةَ نظريتنا التاريخية على هذا النحو، فهي ببُعدها الآخر – وبطبيعة الحال – تشمل أعلى حد لقوة المعرفة في المجتمع. ذلك أنه إذا لم نستطع لحم مفهومنا التاريخي الصحيح بالحدود القصوى للمعرفة، فلن نقدر حينئذ على تحديد كفاءتنا في المعنى وطرازنا في البناء بشكل كفء بصدد المستقبل الآتي. علينا الإدراك تماماً بأن أي نظرية لا تستوعب نطاق المعرفة لدى النظام بأكمله، ضمن أفقها المعرفي؛ إنما هي ناقصة، ولن تنجو من الذوبان في آفاق النظريات المضادة. إنها حقيقة النضال الأيديولوجي الأولية.
إن رسم الإطار النظري لنظام المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي على هذه الشاكله، هو الخطوة الأولى. فبمقدار ما نعبئ فحواها ونطور من تطبيقها العملي، سيكون النظام المتطور لدينا حراً ومتساوياً بنفس القدر. يمكننا الرؤية مسبقاً بأن نظاماً متطوراً في هذا الاتجاه ليس نظاماً هرمياً أو دولتياً كلاسيكياً كالقديم، ولا نظاماً عبودياً للمجتمع المهزوم والمسحوق والمستعمَر. إنه نظام أخلاقي مقيم لعلاقته الدياليكتيكية السائرة مع الطبيعة، غير معتمد في داخله على التسلط والحاكمية، ومحدِّد للمنافع المشتركة مع الديمقراطية مباشرة.
تُعنى الماهية المشاعية في تكوُّن الوجود المجتمعي بالمضمون، لا بالشكل. وهي تبرهن على سيرورة وجود المجتمع عبر الطراز المشاعي وحسب. أما الافتقار إلى الماهية المشاعية، فيكافئ تماماً الخروج من كونه مجتمعاً. كل تطور يحصل على حساب القيم المشاعية، يعني خسران بضعة من القيم داخل المجتمع. من هنا، فاعتبار الحياة بحالتها المشاعية شكلاً أساسياً للحياة هو أمر واقعي. ولا يمكن للجنس البشري أن يواصل وجوده دون توفر هذا الشكل من الحياة. إننا ننوه بإصرار إلى هذه الحقيقة بهدف إدراك القناعات الخاطئة الآتية: إن الهرمية والسلطة اللتين تُحييان المجتمع وتسموان به قيِّمتان – حسب التعبير الحضاري – وما يتبقى هو سرب قطيع يجب رعايته وسَوقه.
يمكننا القول أنه بقدر قِدَم هذا المفهوم، فهو أول كذب ورياء منظم وكبير احتل الأذهان بالأكثر. وبقدر إقناع المجتمع بهذه المزاعم، أُضفيت المشروعية على المرحلة المتطورة على حسابه. إنها قناعة وطيدة بحيث يكاد لا يوجد من لا يقتنع أو لا يؤمن بها. إن إرجاع القيم المحيية للمجتمع والسامية به، إلى القوة الهرمية وقوة السلطة، رغم كون النظام المشاعي هو نمط وجود وتكون الجتمع؛ إنما يتصدر قائمة التناقضات الواجب تحليلها وحلها. هذه المقولة المؤمِّنة لتحريف وتشويه التاريخ المجتمعي، هي معيار المفهوم الأساسي لكافة البنى الفوقية، وعلى رأسها التاريخ والآداب والسياسة. وهكذا يتحول طراز الوجود الحقيقي للمجتمع إلى مادة خرساء، لا قول لها ولا لفظ.
من دون التخلص من تسمية المجتمع البدائي بـ"البدائي"، لن ينجو علم الاجتماع من بناء كافة تثبيتاته على أرضية خاطئة. علينا مرة أخرى اللجوء إلى التشبيه بالخلية النواة. قد تكون الخلية الأم بدائية نسبةً لكافة الخلايا المتميزة بالتنوع. لكن هذه البدائية ليست ببدائية أو رجعية يتوجب تخطيها، بل إنها تعني المبدأ الأس. ومن دون النظر إلى قيم المجتمع المشاعي من هذه الزاوية، فستُقيَّم وتُدرَس كافة المؤسسات الأخرى بشكل لا جذور له، ويفتقر إلى المعاني الحقيقية بشكل منفرد.
إذن، إن كنا نود أن نكون مبدئيين في النضال المجتمعي، علينا أولاً أن نُكِنّ الاحترام والتقدير لطراز وجود المجتمع، والنظر إليه بعين واقعية. إذ ثمة هروب من المشاعية، حتى لدى أكثر المجتمعيين المعاصرين راديكالية، ليس بتحليلاتهم وحسب، بل وفي تطبيقاتهم العملية أيضاً. أما القول بأنه خاص ولكن أفكاره مشاعية، فهو مغالطة حقيقية. وهو محصلة لإبقاء النظام الرأسمالي المجتمعَ مجرداً من الأخلاق ومفتقراً إليها. فعندما نصل نهايات القرن العشرين، نكاد نرى أن الإثنية، القبيلة، العشيرة، والشعب هي مصطلحات بقيت على هامش علم الاجتماع. لكن، بدون إيلاء القيمة اللازمة للإثنية، بقدر السلطة السياسية على الأقل؛ فمن غير المحتمل إيلاء المعنى اللازم للمشاكل المجتمعية أو البلوغ بها إلى تحليلات سليمة وصحيحة. يُعبِّر المضمون المشاعي عن ذاته في الإثنية بأكثر الأشكال كثافة. ماذا سيتبقى من المجتمع في حال قضائنا على الإثنية؟ فحتى البارحة كانت كل المدارس الفكرية المعاصرة، بما فيها الماركسية، ترى الإثنية شكلاً بِدْئياً وبدائياً، لا فاعلية له. أما مضمونها المشاعي، فهو أكثر مؤقتية، وخاص بالرجعية والتخلف، حسب ما صورته تلك المدارس. هكذا اعتُبِرَت الفردية مشرِّفة وهامة بمقدار ما تبرز إلى الأمام وتهيمن على القيم المجتمعية. من هنا، فعندما نقول أن علماء الاجتماع سيئون جداً نسبةً إلى الرهبان، إنما نتكلم حينها عن نقطة بالغة الأهمية. فالراهب، الذي يبرز في المجتمع كأكثر الشاعرين به، يعيش مع المجتمع ومن أجله حسبما يعتقد ويفكر. في حين أن صحة معلوماته ليست بالقسطاس الأساسي. بل إن القسطاس الأساسي هو ارتباطه بمشاعية المجتمع. أما "عالِم الاجتماع"، فأياً كانت صحة معلوماته، فهو لا يعتمد المشاعية المجتمعية أساساً، بل يتقرب كعضو تكنيكي. وهكذا تبدأ الكوارث.
من هنا، إن لم يدرك كافة العلماء عموماً، وعلماء الاجتماع على وجه الخصوص، قدسية مشاعية المجتمع، وإن لم يلتزموا بها حتى الموت؛ فلن ينجوا وقتئذ من تسميتهم – بحق – باسم "طبقة اللاأخلاقيين الكبار". فلو أن الالتزام بمشاعية المجتمع، والارتباط بها كان موجوداً، لما وصلت الحروب والسلطة، والاستعمار والاستغلال، إلى هذه الأبعاد المعاشة. وإلا، فبأي مجتمعية يمكننا تعليل القنبلة الذرّية؟
أكثر مراحل تطور المجتمع المشاعي حرجاً هي العتبة التي بلغها بتعرضه للبنيوية الهرمية. فالخبرات والتجارب المجتمعية المتراكمة تتجه صوب غنى المعاني، وبالتالي صوب تكوين اللغة وترميز الأشياء. وتُقدَّس هذه المرحلة مع ظهور الديانة الطوطمية. تتأتى أهمية الدين من لعبه دور الهوية الأولى الخاصة بالمجتمع. إنها حالة الوعي البدائية. تنبع قدسية الوعي بشكله هذا من الحياة المجتمعية ذاتها. فالانقطاع عن حياة فصيلة الثدييات البدائية الحيوانية، يجلب معه أول فارق هام في المعنى. وحداثة هذا الفارق مؤثرة ومُرعِشة، حيث تحتوي في ثناياها خصائص كونها الأولى (البدائية). والممارسة العملية المجتمعية تنمُّ عن مستجداث باعثة على الغبطة والنشوة في كل خُطاها الهامة. هذا الوضع هو الوعي المتزايد. ومرحلة اكتساب الوعي تسفر عن بث الأصوات على شكل لغة، واللغة تؤدي إلى التسمية، والتسمية إلى الترميز. تتميز مرحلة اكتساب الوعي بأهمية مصيرية بالنسبة للإثمار والإنتاج العملي. ومع الزمن يغدو الصمود والثبات صعباً من دونها. حينها يُدرَك مدى بُخس نوعية الحياة اللاواعية. وتحصل التطورات النوعية بالتوازي مع اختلاف الوعي وتنوعه. تنهل الظاهرة الدينية كامل أهميتها وقدسيتها من هذه الدورة الحرجة للحياة، لتحتضن التناقض بين طياتها منذ البداية. حيث باتت الحياة عصيبة من دونها، لأنها أضحت تعبر عن الوعي والهوية الأولى للمجتمعية. لكنها بوجهها الآخر متزمتة إزاء المستقبل، لاحتوائها سلسلة من القواعد والأحكام بشأن القدسية والتابو (المحرَّمات، عدم اللمس، عدم الدنو، المنطقة المحظورة). إنها منغلقة أمام عناصر الوعي الجديدة. وهي بخاصيتها هذه تُطلي التطور بطلاء من النشاء. ولأجل هذا السبب، تصبح التعددية الدينية ضرورة لا مفر منها، منذ بداياتها. فالتعددية الدينية وتعددية الآلهة تعبران عن زيادة الاختلاف والتباين في الوعي. إنه أمر إيجابي. إن تعليل كل شيء بالأرواح (الأرواحية) في بدايات الدين هو ثمرة البراديغما الاجتماعية السائدة آنذاك. وهو أمر إيجابي. ومع الزمن تبرز الروح الكبرى التي يتم المرور منها إلى القدسية، كترميز للتكاثف الحاصل في اكتساب الهوية وخاصية المجتمع. فالجماعة بحد ذاتها كانت إلهاً في البداية.
حكاية سيدنا إبراهيم غريبة الأطوار بإلهامها الإلهي. فمثلما هو معلوم، يَرُود سيدنا إبراهيم إحدى أكثر الثورات الذهنية تأثيراً في التاريخ، بتمرده على مجموعة الآلهة الملوك النماردة البابليين والآشوريين، وتحطيمه أوثانهم. لكن القبيلة العبرية (كلمة عبرية هي من بقايا اللقب المطلق عليها فيما بعد في عهد المصريين، وتعني "الأناس المُغْبَرّون") لا يمكن أن تبقى يوماً واحداً دون إله. لكن هذا الإله من المحال أن يكون طوطم المرحلة البدائية أيضاً. ذلك أنه حصل تمرد ثوري على الوثنية. في حين أنه من العصيب خلق تصوُّر جديد، لأنه يستدعي الغنى في المعاني الجديدة. باقتضاب، يستلزم الأمر تغييراً دينياً راديكالياً. حيث لا بد من التأثر بالنظام الديني والإلهي لتلك الحقبة. لكن، ثمة ضرورة قصوى للتجديد وللحرية التي يحتضنها هذا التجديد بين أحشائه.
تهدف مرحلة الانزواء، التي تعتبر وقفة تقليدية في نظام النبوة، إلى بلوغ تكاثف المعاني. تسمى الأفكار الجديدة المنتعشة في الذهن خلالها بمصطلحاتها وأشكالها، باسم الإلهام والوحي. الوحي هو بالأرجح صوت الإله المجرد. والتجريدية هنا تشير إلى الانتقال من نظام المعاني المتخلفة الكائنة في نظام الوثنية، إلى نظام معانٍ أكثر تقدمية. وسيدنا إبراهيم الذي شهد هذه المرحلة، سيضع لَبَنات دينه هو. من المحتمل أنه يرد على الصوت التقليدي المنبعث، لدى دخوله مرحلة الانزواء، أثناء تكاثف مشاكل الحياة وتزاحمها عليه. يقول إبراهيم: "من أنت!" ويجيب صاحب الصوت: "أنا ياه – واه Yah –weh". ومعناه "هو". تشير البحوثات المجراة على أصول اللغة العبرية إلى تأثرها البليغ باللغة الآرية، أساس اللغة الكردية. وإذا ما وضعنا نصب العين أن قوة إبراهيم تتأتى من تقاليد النبوة الوطيدة جداً في منطقة أورفا، والتي يمكننا القول بأنها مهد النبوة؛ سيُسلَّط الضوء بشكل أفضل على جذور هذا التطور الجاري. فهذه المحلة هي المنطقة التي شهدت تشابك وتداخل الثقافتين الآرية والسامية، بالأرجح. بالتالي، فالتداخل الساميّ والآريّ في اللغة العبرية قد انعكس على الثقافة الدينية المولودة حديثاً. من المعلوم أن كلمة (Yah –weh) تصبح "ياهوفا Yahova" لتغدو بعدئذ "ياهودي Yahudi". أما كلمتا "إسرائيل Israel" و"الله Allah"، فهما ثمرة انعكاس هذا التطور على الثقافة الساميّة.
الغرض من إيضاحنا الآنف الذكر بالتفصيل وبين قوسين، هو الإدراك الأفضل للتطور الحاصل في المجتمع المشاعي، عبر المثال الذي نعرفه جيداً. فلنُشِرْ إلى تَوَجُّهٍ سوسيولوجي مرتبط بالموضوع لدى مرورنا عليه، فيما يخص مسألة "الله". حيث تتوارى كلمة "أل" الساميّة في جذور هذا المصطلح الذي شغل الأفئدة والعقول طيلة قرون مديدة. وكلمة "أل" هي تَصَوُّر إلهي. ربما ابتُكرَت في أعوام الألفين قبل الميلاد، من جناح الكنعانيين لدى الساميين. فالقبائل الكنعانية كانت أدنى إلى مفهوم الإله المجرد في المرحلة البدوية التي تنقلت فيها ضمن المناطق شبه الصحراوية وشبه السهلية. إذ لا توجد أنهار أو جبال أو أراضٍ زراعية مستقرة تتحكم بحياة الجماعات الرُّحّل. بل تكون الطبيعة رتيبة وعلى نسق واحد. أما الأرض والسماء، فكأنهما فراغ فسيح مترامي الأطراف. وتغدو القبيلة في هذه الحالة كالكيان الواحد المرصوص.
وفيما يتعلق بالوضع الهرمي، فقد تطورت آنذاك مؤسسة الشيوخ. الشيخ هنا هو العالِم المسن في القبيلة. تسبق هذه المؤسسة في تكوينها مؤسسة النبوة. الشيخ هنا ضرب من الشامان الساميّ، وسَلَف النبي. ومع تطور نفوذه يكتسب احتراماً وقيمة مقدسة عظمى، وكأنه عقل القبيلة. وكلما حوَّل التقدير والقدسية إلى اصطلاحات ملموسة، كلما تحول إلى دين بحد ذاته. هنا يحرز مصطلح "السمو" تقدماً ملحوظاً، في مرحلة العبور من طوطمية القبيلة إلى الإله المجرد. ويظهر مقابل ذلك اصطلاح "أل". وكلمة "على" في اللغة العربية في راهننا، قريبة في معناها من العلو. لدى انتقال القبيلة العبرية في بلاد كنعان – أي أراضي فلسطين وإسرائيل اليوم – إلى الحياة المستقرة المستوطِنة، تتأثر بالثقافة المحلية الموجودة هناك. ويتم العبور من الإله "ياهوفا" المطوَّر مسبقاً، إلى مصطلح "ألوهيم" الذي يعود في أصله إلى "أل" المحاكي للمصطلح السابق له. ومع الزمن يحصل الانتقال من ألوهيم إلى مصطلح "الله". ومن "أل"، أي السمو، يتم العبور إلى اصطلاح محمَّل بمعاني مختلطة في عهد سيدنا محمد، حيث تضفى على "الله" تسع وتسعون صفة. من الصعب إيجاد أنموذج أو نظرية سوسيولوجية تصوِّر كافة الخصائص المقدسة الهامة للمؤسسات والمصطلحات الاجتماعية، وبشكل ملفت للنظر؛ أكثر مما هي في هذه الحالة.
لنُضِفْ على الفور أن تصوير "الله" كصورة لذاكرة التطور المجتمعي، وإنكاره بشكل فظ، إنما هو أمر خاطئ. بل على العكس من ذلك، فقد تطور هذا المصطلح في القبيلة العبرية ليحقق قفزة ملحوظة، بدءاً من تشريع قوانين المجتمع، وحتى القوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية؛ ليكتسب قوة معناه مع العلم في حاضرنا. هكذا تم الوصول إلى عالم الكوسموس والكوانتوم بعمقه وسموه. إننا على عتبة حل مسألة الجينات والخلايا الحية وبنائها. من هنا، فالحل الصحيح لمصطلح الله هو مقياس الألوهية الحقة. وطرْحُنا هذا المقياس بهذا الجلاء الساطع، إنما هو مثال ضارب للنظر بشأن كيفية تفسير الدين. فالقدسية الحقة تمر من التحليلات والمعالجات السوسيولوجية الصحيحة بصدد حاضرنا. وإلا، فتحفيز الحشود الشعبية على مناجاة "الله" باستظهارية غيبية محضة، ودون إفعامها بأي معنى؛ إنما هو استنكار لله، وبشكل أخطر من "وثنية" الماضي الغابر. ما يجب أن نتجاوزه في واقعنا الاجتماعي ونغدقه باللعنات، هو هذه "الوثنية التجريدية" المعتمدة على الحفظ الاستظهاري.
إن سوسيولوجية الدين بعيدة كل البعد عن عكس الواقع الاجتماعي. أما عقد الأواصر بكفاءة ومهارة بين فلسفة المعرفة (الأبيستَمولوجيا) والمجتمعية، فهو موضوع يتوجب تحليله. فالوضع الحالي للسوسيولوجيا يجبِر على تحليل حتى أبسط المواضيع.
إننا ننوه، وبإصرار، على استحالة تناولنا الصحيح للتطورات اللاحقة للمجتمع المشاعي، ما لم نحلل طبيعة هذا الأخير بشكل سليم. فكيفما أن تحليل أي عنصر لن يكون واقعياً بدون تحليل ذرة الهيدروجين (المكوَّنة من البروتون والإلكترون)، وهو اعتقاد صائب؛ فمن أجل البنية النواة للمجتمع أيضاً، نقول أنه يستحيل فهمنا لتنوع الظاهرة المجتمعية، دون استيعاب الجماعة المشاعية. وإلا، فسينجم لدينا شرح ناقص، وبالتالي علم خاطئ بشأن المجتمع. فالادعاء بأن الميثولوجيا والثيولوجيا أثمرتا عن مفهوم مجتمع وهمي، وإضافة السوسيولوجيا إليهما (كمثال البستان المرقع)؛ لا يذهب أبعد من تشويش العقول وإرهاقها. هذا ما ينم بدوره عن تصاعد السلطة بتهور وجنون. ذلك أنه لا يمكنك تحليل السلطة، ما لم تحلل المشاعية. فالأرضية التي نمت عليها سلطة الدولة والهرمية، هي المشاعية. والهرمية، كمصطلح، تعني إدارة المقدس، أو اكتساب العالِمُ المسن السلطةَ واستحواذه عليها. وقد كانت فاعليتها إيجابية في مرحلة ولادتها. فهداية الشبان، وتسويق شؤون المشاعة (الكلان) وإدارتها، هي مرحلة متقدمة من التطور. أما الفائدة التي يجنيها العالِم المسن من هذا العمل، فهي تخطي مصاعب الشيخوخة بسهولة. في حين أن الشبان الكفوءين من بين الملتمين حوله، كانوا مدركين إمكانية نجاحهم بشكل أفضل باستفادتهم من تجارب وخبرات ذلك العالِم. والشامان أيضاً – المثال الأول للتفسير الديني – يمكن أن يكون حليفاً مقرباً. وتحوُّل الشامان مع الزمن إلى ناطق باسم الدين، يعني في مضمونه التحول إلى الرهبانية. أما بالنسبة للشبان الذكور، فمهارتهم في الصيد تفضي بهم إلى أن يكونوا نموذجاً مصغراً عن حاشية عسكرية ملتفة حول الزعيم. يعبِّر تحالف "الراهب – الزعيم – العالِم" هنا عن الهرمية المتصاعدة. ولكن لم يُبلَغ بعد مؤسساتية الدولة. فالعلاقات ذات أبعاد شخصية. وفيما يخص القوة المحيطة بالأم الأهلية، فهي في تبعثر طردي.
تكافح الأم، القوةُ الخلاقة للمجتمع المشاعي، بلا هوادة إزاء هذا التحالف الثلاثي الجديد. فكل الآثار التاريخية المتبقية تشير إلى ضراوة هذه المرحلة. والعهد الأمومي الأهلي الذي بلغ أوجه في المجتمع النيوليتي فيما بين (10000 – 4000ق.م)، يتم تجاوزه مع تحالف الشامان – الزعيم – العالِم، والذي يمثل ولادة نظام السلطة الأبوية. وترمز ثنائيات إينانا – أنكي، ومردوخ – تيامات في الميثولوجيا السومرية إلى العصر السابق لهذا التاريخ. فالتفسير الميثولوجي العادي، يسلط الضوء على هذه الحقيقة. وإينانا هي رمز الأم المهيبة القوية فيما قبل التاريخ، حيث تنوه بلا كلل أو ملل إلى "ما"ءاتها المائة والأربع، والتي تعني أدوات الحضارة ومصطلحاتها وشرائعها. تشير إينانا إلى أن أنكي (أول تجريد للسلطة الأبوية) قد سرق منها قيمها الجوهرية التي خلقتها. وما ذهابها من مدينتها إلى مدينة أنكي، أي من أوروك إلى أريدو، لتستولي ثانية على "ما"ءاتها وتظفر بها بألف كدح وكدح (وهو الفصل الأكثر إثارة وحماسية في الملحمة)؛ سوى تصوير لهذا الكفاح العتيد. في حين أن التناحر المحتدم بين مردوخ وتيامات في الملحمة البابلية يعكس الصراع على السلطة بالأرجح. إن ما يُصوَّر هنا هو مدى ضراوة المرحلة الانتقالية من العهد الأمومي إلى العهد الأبوي، بلغة ميثولوجية. ويمكننا مشاهدة الصور المعدَّلة من هذه الملاحم في ثنائية إيزيس – أوزيريس في الحضارة المصرية، وثنائية زيوس – هرا في الحضارة الإغريقية، وفي ثنائيات مشابهة في الحضارتين الحثية والأورارتية.
يمكننا استنباط ما تعلمناه من الميثولوجيا من الأديان أيضاً، وخاصة من الأديان التوحيدية. فقسطاس موسى في تقاليد سيدنا إبراهيم هو تأديب المرأة وضبطها بشكل مطلق. لم تكن المرأة حُطَّت منزلتها كلياً لدى سيدنا إبراهيم. فثنائية إبراهيم – سارة أدنى إلى القوة المتكافئة. أما في ثنائية موسى – ماريام، فالأخت ماريام محكوم عليها بالفشل الذريع المؤلم، حيث تفتقر إلى بقايا قوتها المتبقية. وفيما يتعلق بسيدنا داوود وسيدنا سليمان، فالمرأة مادة شهوانية أحادية الجانب، وما من أمارة تدل على وجود سلطة لها. المرأة هنا مادة للّذة واللهو والغبطة بالنسبة للمَلَكليات المتصاعدة. وهي أداة لاستمرار النسل. ورغم ظهور بعض الشخصيات بين الفينة والفينة، مثل أستر ودليلة؛ إلا إنها لا تذهب أبعد من كونها أداة استثمار واستغلال. وفي ثنائية سيدنا عيسى – مريم لا نسمع مريم تتفوه ولو بكلمة واحدة. وكأن لسانها مبتور. تشكل الديانة المسيحية هنا خطوة عملاقة للوصول إلى المرأة الراهنة. أما في ثنائية سيدنا محمد – عائشة، فثمة مأساة تراجيدية. فعائشة الصغيرة السن تشكو بحدة من سلطة الإسلام الإقطاعي المتنامية. حيث ينقل المؤرخون عنها تذمرها قائلة: "يا رب، ليتك صنعتني قطعة حجر، عن أن تخلقني امرأة!". وهذه الجملة هي لعنة لُفِظَت بحنقة الإدراك باستحالة أخذ النتائج المرجوة، حتى لو كانت الزوجة الأحب إلى قلب النبي في لعبة السلطة.
يمكننا الملاحظة أن الهرمية استمدت قوتها أساساً من صراع مجتمع السلطة الأبوية مع القوة الأمومية، من خلال المجتمعات الإثنية التي لا تزال قائمة. ويشاهَد حدوث الانكسارات الكبرى في الشكل الاجتماعي للمرأة بعد تكبدها هذه الهزيمة. فبينما كانت هي المختارة والمنتقية في الماضي، بات يُنظَر إليها كمُلك في يومنا. ولم يتبقَّ من المرأة المنظِّمة للرجل من حولها، والمقاوِمة مدة طويلة كي لا تُنتَزَع سلطتُها منها؛ سوى عنصر أو هوية امرأة مفتقرة لإرادتها، وقانعة باختيارات الرجل وانتقاءاته. هذا وبمقدورنا ملاحظة عدم مرور هذه المرحلة بسهولة، من خلال مثال آخر؛ ألا وهو القرابين المقدمة في المراسيم المقدسة المقامة في كل ذكرى سنوية للزيجات المقدسة للرجال الملوك المرشحين للزواج من الإلهة الأم. ترمز هذه المراسيم، التي طالما صادفنا ذكراها في العديد من المجتمعات، إلى مقاومة المرأة الطويلة الأمد في سبيل عدم فقدانها سلطتها. فمراسيم تقديم القرابين تُرتِّب بشكل رمزي إعاقة حظي الرجل بالسلطة أو تَحَكُّمه بالمرأة. لكن الصراع المحتدم بين مردوخ وتيامات، في أعوام الألفين قبل الميلاد في المجتمع السومري، يصوِّر كيف انتهت هذه المرحلة على حساب المرأة. نصادف أمثلة مشابهة في السياق الحضاري لكافة المجتمعات ذات الأصول الشرق أوسطية، خلال المراحل اللاحقة لأعوام الألفين ما قبل الميلاد.
رغم لعب المجتمع الهرمي دوراً إيجابياً في التقدم في بداياته، إلا إنه غدا مع مرور الزمن وجهاً لوجه أمام خيارين: إما التبعثر أو التدوُّل. إنها مرحلة العبور بين المجتمع المشاعي البدائي والدولة. لكنها تستنهل قوتها من مجتمعيتها. وبعد مواجهة هذه المرحلة وتجذرها في غضون مدة طويلة، وصل هذا الشكل من السلطة ذروته، خاصة في المجموعات الإثنية. فالمجتمع الذكوري السلطوي والهرمي هو الذي حقق أساساً خنوع وإذلال النساء والشبيبة والأعضاء الآخرين من الإثنية. والأهم في الأمر هو طراز تحقُّق هذه السلطة. فالسلطة هنا لا تمارَس بالشرائع، بل بالأخلاق. والأخلاق تفيد بقوة الأحكام والقواعد التي يتوجب على المجتمع الامتثال لها. هذه القوة بدورها لا تُفرَض عنوة وإكراهاً، بل طواعيةً؛ انطلاقاً من دورها المصيري في تأمين سيرورة الوجود المجتمعي. أما وجه الخلاف فيها عن الدين، فينبع من الحاجة الدنيوية، عوضاً عن القدسية. لا شك في أن الدين أيضاً دنيوي، ولكن الجانب السحري للمصطلحات، وتكوينه الأقدم على الإطلاق، يحيطه بهالة من القدسية. وهو طقسي، وأكثر تجريداً. في حين أن الأخلاق تُشكِّل القواعد اليومية والدنيوية والعملية اللازمة. وإلى جانب التداخل والتشابك، فبينما تنظِّم الأخلاق إدارة الشؤون الدنيوية، يسعى الدين للتجاوب مع مستلزمات استيعاب العقائد والعوالم الأخرى. أي، بينما يكون الدين نظرية المجتمع البدائي، تصبح الأخلاق ممارسته العملية.
تفي هاتان المؤسستان بالغرض في إدارة شؤون المجتمع حتى مرحلة التدول. ويمكن تسمية هذه الحقبة بمرحلة تسيير المجتمع بالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد. إذ لا تزال السمة المشاعية، لا الشخصانية، هي الطاغية في المجتمع. والالتزام بالمشاعية يتحقق بالامتثال لبنيتها الدينية والأخلاقية بالأغلب. أما عدم الامتثال لها، فيعني الخلل والتشوش والأزمة. وهذا ما يعني التشتت والإبادة. من هنا، فالدين والأخلاق في هذه الحقبة عقيدة وممارسة وطيدتان للغاية. وأي شخص لا يمتثل للدين والأخلاق، يفيد بأنه يرتكب أفظع سوء بحق المجتمع القائم. ومن الصعب على المجتمع تحمل ذلك، بل هو مضطر لمواجهته بأشد أنواع العقاب. فإما أن يطرده خارج المجتمع، أو يُلحِقه بتدريب قاسٍ. المهم هنا هو عدم إفساد الخاصية المشاعية. ولا يزال اعتبار عدم تأدية بعض العبادات أو القواعد في الأديان أكبر ذنب على الإطلاق في راهننا، يعكس قوة المشاعية تلك. إنه يشيد بقدسية خاصية العلاقة المشاعية.
ثمة تقييم متعلق بالدين في يومنا الحاضر، ويُعمَل به بكثرة رغم خطئه. ألا وهو اعتبار الدين مسألة شخصية. فالدين ليس بمسألة شخصية، بل هو الشكل الاصطلاحي والأخلاقي والإداري الأول للظاهرة الاجتماعية. تعبِّر الهرمية عن هذه الحقيقة، باعتبارها إدارة المقدس.
الصراع دائمي بين المجتمع المشاعي والهرمية. تبدأ التفرعات والتشعبات بالظهور في القواعد الدينية والأخلاقية بشأن عودة القيم المادية والمعنوية المتراكمة إلى المجتمع ثانية أم احتكارها. فبينما يُشاهَد التطور قُدُماً صوب مصطلح الإله الواحد المجرد في الظاهرة الدينية المصوِّرة لقيم مجتمع النظام الأبوي؛ تقاوِم سلطة النظام الأمومي للمجتمع الطبيعي بمفهوم تعددية الإلهات الإناث. الشريعة الأساسية في نظام الأم الأهلي هي الكدح والإنتاج، ومنح ما هو ضروري لإحياء الجميع. وبينما ترى أخلاق النظام الأبوي السلطوي مسألة الادخار مشروعة، وتفتح الباب أمام المُلكية؛ تُعِيب أخلاق المجتمع المشاعي موضوع الادخار، وتنظر إليه بعين السوء، وتحفِّز على توزيعه. وهنا يكمن أصل مصطلح "الجود والسخاء" في هذه الظاهرة. حيث يُسعى لصون المُلكية الجماعية إزاء المُلكية الخاصة. لكن التواؤم والتناغم في المجتمع يفسد تدريجياً، ويزداد التوتر والاضطراب. ويُرى حل هذا التناقض إما في العودة إلى القيم القديمة، أو في تصعيد القوة في الداخل والخارج. وهكذا تتكون الأرضية الاجتماعية للعنف والحروب المرتكزة إلى القمع والاستعمار.
تباشر المجموعات الهرمية المتعاظمة حول القيم المادية والمعنوية بتقديس السلطة وبذل المحاولات المنظمة بصدد أحقية المُلكية، بكل دَأْب وغيرة؛ كي لا تتشتت. ومن الصعب على الجماعات الأصغر والأكثر تفككاً الصمود أمام هذه القوة. لم يتبقَّ أمام الكلانات والقبائل المسحوقة سوى صون وجودها الحر عبر الهجرات الدائمة. وتبدأ الجماعات النازحة بالتنقل في قلب البراري المجدبة والغابات الموحشة والجبال الشاهقة، لا بغرض الصيد أو جمع الثمار فحسب، بل كي لا تتهدم القيم المشاعية أو تنهار بالأغلب. وتخط بذلك مسار المسيرة التاريخية الكبرى. هذه المسيرة الدائمية المحتضنة بين طياتها حب الحرية وعشقها، تعد إحدى أهم الحركات في التاريخ. وانطلاقاً من ضرورة حماية الذات، تضطر الكلانات والقبائل للتحول إلى عشائر. فالعشيرة ليست مجرد تضخم بيولوجي فحسب، بل وضرب من ضروب المقاومة تجاه الهرمية أيضاً. كانت السلطة في بنية العشيرة تتميز بماهيتها الإيجابية في الفترات الأولى، لتُمدَح وتُمجَّد أخلاقياً، وبالملاحم والموسيقا. ورئيس العشيرة هو بمثابة رمز يشير إلى وجود العشيرة وحريتها، بحيث تتجسد في شخصيته ذهنيتها وكرامتها وأمنها واستقرارها.
المرحلة التي ستؤول إليها هذه الحقبة المليئة بالتناقضات، هي الدولة كسلطة مؤسساتية معتمدة على العنف الراسخ. تشكِّل ولادة الدولة المرحلة الثانية الكبرى في تاريخ المجتمعات، حيث تجلب التغييرات الجذرية للإنتاج والحياة الاجتماعية وبنى السلطة والبنية الذهنية برمتها. وبما أن الصراعات غير المنتظمة بين العشائر والقبائل أسفرت عن مضغ واستهلاك الادخار والمُلكية وتعريتهما باستمرار؛ فقد كان الحل مقابل ذلك هو تمأسس السلطة المرتكزة إلى القوة. وتَوَلَّد الراهب من الشامان، والمَلِك من العالِم، والمسؤول العسكري من الزعيم. الشخص في الظواهر الثلاث مؤقت، بينما المؤسسة راسخة دائمة. وبلغت مرحلة الاستقرار والاستيطان مستوى بناء المدينة، بتجاوزها نموذج القرية. كان النظام المشاعي هو الحاكم في البداية في مجتمع القرية. فالقرية هي موطن الحياة الأساسي للمجتمع النيوليتي. وهي الموطن المقدس للثورة الزراعية المستمرة في الفترة ما بين (11000 – 3000ق.م). علاوة على أنها تمثل تماشي المجتمعَين المشاعي والهرمي مع بعضهما مدة طويلة من الزمن. لم يكن ثمة آغاوية أو بيكاوية بعد. إنها الأثر الخالد المشرِّف الذي تتباهى به الأم الأهلية. ذلك أن كل القيم المعنية بالبيت تتمخض عن ذهنها هي. فالحيوانات التي تستأهلها من حولها، والنباتات التي تستنبتها، تمنح حياة معجزوية لا ند لها. والآلاف من الاكتشافات في هذه الحقبة هي من إيجاد المرأة. الحقبة هي "حقبة اكتشافات المرأة" التي لا أحد يعرف مَن أوجدها هي. ولكن المجموعات الهرمية الماكرة المعزِّزة من شأن ذاتها، ستطمع بهذه الاكتشافات وغنى المحاصيل، وستنهبها وتسلبها. وستولِّد الدولة لتوطيد مكانتها. تلك المرحلة التي لا تزال معاشة على الآلاف من النتوءات والتلال الموجودة على حواف سلسلة جبال طوروس وزاغروس، ترتقي بقرويتها لتؤسس المدن في السهول الخصيبة المروية بمياه أنهر دجلة والفرات والنيل والبينجاب من ناحية، ولتمهد السبيل لظهور نظام الدولة (البوليس) معها من ناحية أخرى.
لدى تشكُّل القرى والمدن تضاف ثنائية الترحال – الاستيطان كعنصر هام ثانٍ إلى الانقسام الحاصل في المجتمع. وبينما يكون الانقسام الهرمي عمودياً، فإن الترحال – الاستيطان ينقسم أفقياً. وتتشكل الأنظمة التاريخية للمجتمعات بعد ذلك وفقاً للتناقضات المتمخضة عن هذين الانقسامين.
تعكس الثورة الذهنية المبتدئة مع القرية، والمتجذرة مع المدينة، ذاتها في ثقافة المعتقدات الدينية أولاً. ويسعى النظام الإلهي إلى فصل نفسه تماماً، وبكل إصرار، عن نظام الطبيعة والإنسان. ويضفي الآلهة صفات خاصة على ذاتهم، من قبيل العمر المديد، السكن في كبد السماء، أو الارتداد أحياناً إلى جوف الأرض، وأنهم لا يُقحِمون الناسَ فيما بينهم، ويعاقِبون البشر إن شاؤوا. تتعدد هذه الصفات طردياً في الآلهة الميثولوجية السومرية. وتتكون جماعة (كوادر) غنية من الآلهة، بدءاً من الآلهة الحامية للمدن، وحتى آلهة النهر، الزرع، البحر، الجبل، السماء، وآلهة تحت الأرض. يمثل هذا النظام الاصطلاحي تداخل القوى الطبيعية مع القوة الطبقية المتنامية داخل المجتمع. تتسم هذه الصياغة الدينية وشبه الميثولوجية، المعتمدة أساساً على تقديس وتوطيد وجود الطبقات المهيمنة التي تتشاطر وجه البسيطة فيما بينها؛ بأهمية مصيرية من أجل مشروعية النظام الجديد المتأسس. ويبرز هذا التباين بالأغلب لدى الانتقال من النظام الديني الذي تغلب عليه الإلهات الإناث، إلى النظام الديني الذي تغلب عليه الآلهة الذكور. هنا تكمن أهمية مفارقة كل من إينانا – أنكي، ومردوخ – تيامات.
لا يمكن لأي ميثولوجيا أن تبلغ قدرة الشرح الشفاف والأصلي الشعري للتباين الطبقي البارز وتكوُّن الدولة، بقدر ما هي عليه الميثولوجيا السومرية. إننا وجهاً لوجه أمام سرد مذهل وخلاب. بالمقدور ملاحظة كل "البدايات" للمصطلحات والمؤسسات الدينية، الأدبية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع السومري. وبالمقدور القول أن هذه الأصالة تتصدر المستجدات التاريخية المكوِّنة بالأغلب لبنية المصطلحات والمؤسسات الأولية في المجتمع. من هنا، فحلول المجتمع السومري تتميز بمزاياها العالمية.
يُخَمَّن بأن تشكُّل المدينة والدولة قد تطور امتداداً للثورة الزراعية القروية الحاصلة على حواف جبال طوروس وزاغروس. ويتم نقل المصطلحات النظرية والوسائل العملية لهذه الثورة الأشمل والأطول في تاريخ البشرية، إلى ميزوبوتاميا السفلى، على يد الفئات الهرمية التي يغلب عليها الرهبان. من المحتمل بنسبة كبيرة أنهم أخذوا معهم التقنيات الجاهزة لزراعة الأراضي وحصدها، ولبناء المنازل وحياكة النسيج وتأمين الاتصال؛ وعلى رأسها نماذج من كل الحيوانات والبذور وأشجار الفواكه الضرورية. لكن، لا يمكنهم تأمين ذلك في شروط المناطق البرية المقحلة، ما لم يتم ريّها. تشير اللقى والآثار المعثور عليها إلى خارطة الطريق التي سلكتها الثقافة مع تلك الجماعات القادمة، بكل سطوع. وتمكنت هذه الجماعات النازحة حوالي (6000 – 5000ق.م) من تأليف وحدات القرى المحتوية على خمسة آلاف شخصاً، اعتباراً من أعوام 4000ق.م. ومدينة أوروك المشهورة في التاريخ، والتي بنتها الإلهة إينانا، تُكَرَّم إلى البشرية كدولة في أعوام 3200ق.م. وتدخل أوروك عالم الخلود – بما تستحق – مع ملحمة كلكامش، بعد أن كانت أول مثال مدوَّن عن ثورات المدينة؛ كهدية موهوبة من قِبَل الإلهة الأم. وكلمة كلكامش ذات أصل آري – حسب علم الصَّرف والاشتقاق – مثلما هي حال الكثير من الألفاظ السومرية. فحتى في لغتنا الكردية الراهنة: (كل = Gıl = Gır)، ومعناه "الكبير، الضخم، العملاق". أما (كامش = Gameş = Gamej)، فمعناه "الجاموس، كبير الثور". ولا يزال التشبيه "مثل الثور، مثل الجاموس" دارجاً في الثقافة المحلية في وصف الرجال الأقوياء الأشداء. في هذه الحالة، فكلمة "كلكامش" تعني "الجاموس العملاق" مشيرة بذلك إلى الرجل الأقوى والأشد بأساً. وتعريف كلكامش في الملحمة يتميز بماهية تصادق على هذا التوجه. وسيفيدنا اقتفاء أثر القيم التاريخية في خرائط طرق الكرد، في التعلم واستنباط الدروس المفيدة منها.
الحكاية المصوَّرة في ملحمة كلكامش، هي حكاية ولادة المَلَكية، وبالتالي الدولة. وباعتبارها الملحمة الأولى، فهي المصدر الأساسي القدوة. وبالإمكان القول أن الآثار التاريخية العظيمة قد حذت حذو هذا الأثر، بدءاً من "إلياذة" هوميروس وحتى "آينيسا" فيرغيليوس" ومن ملاحم المَلك أرتخور وحتى "الكوميديا الإلهية" لدانتيه. والله أعلم كم هي الملاحم الشهيرة البارزة في الثورة الزراعية الكبرى الأولى، والتي لم يتم تدوينها. يمكننا مصادفتها على شكل بقايا أثرية من خلال السرود المدوَّنة لدى السومريين والحثيين والإيونيين. كما بمقدورنا الإحساس بها من خلال ضوابط الموسيقا وآلاتها السائرة حتى يومنا هذا. إن القسم الأعظمي منها يصور ثقافة العشيرة. ولا يزال الشبه ضارباً للنظر بين قيم العشيرة الحية، والآثار الموجودة لدى السومريين.
لقد سردنا هذا التجوال التاريخي المقتضب بغرض التعرف عن كثب على النظام الاجتماعي الجديد. فقد اقتفينا أثر المجتمع الدولتي عبر التاريخ أيضاً، ولاحظنا كيف وُلِدَت مؤسسة الدولة والمدينة بشكل متداخل حول قوة المعبد الكبرى. وصار بالإمكان، من خلال المثال السومري، إعطاء تعريف للدين، أصح من ذاك الذي أفادت به الماركسية بأنه مؤسسة البنية الفوقية التي صوَّرت النظام الاقتصادي فيما بعد كبنية تحتية. فالمعبد بحد ذاته هو ساحة خلق مصطلحات الإله (الطابق العلوي للزقورة إلهي، والطابق السفلي بشري وإنتاجي) من ناحية، ومركز الإنتاج الاقتصادي من ناحية أخرى. فالطابق العلوي مؤلَّف من مجمَّع الآلهة، في حين أن الطابق السفلي معبَّأ بأدوات الإنتاج ومخزوناته. ويلعب دوراً أساسياً كمركز للذهنية الجديدة والإنتاج المادي في عهد الولادة. والمعطيات التي بحوزتنا تدل على صحة هذه المعالجة بكل جلاء.
علينا ألا نغفل عن أن مؤسِّس المعبد هو الراهب الشخص. حتى هذه الظاهرة تشير إلى أن الإنتاج أيضاً تضمَّن الذهنية أولاً في ثورة بنيته التحتية، بقدر ما هي عليه المدينة والدولة. فالمعبد مؤسسة تعتمد الذهنية أساساً. أي البراديغما الأساسية. وما هو ملفت للنظر أن الزقورات (المعابد السومرية) تحمل بين طياتها نموذجاً مصغراً عن المدينة التي ستتطور لاحقاً، باعتبارها مراكز نظرية وسياسية من جهة، وتقنية واقتصادية من الجهة الأخرى.
الزقورات بذرة المدينة والدولة. ففيها تتركب منافع المجتمع الهرمي، في عقل الراهب الذي يؤلف نموذجاً نظرياً لإحراز تطورات أعظم وأشمل، ليُدخِله حيز التنفيذ على أرض الواقع عبر الوسائل العملية الجاهزة. تتولد مدينة من المعبد، وحضارة من المدينة، ودولة من الحضارة، وإمبراطورية من الدولة، وعالَم بأكمله من الإمبراطورية. فهل ثمة معجزة أعظم من هذه؟! لم تُسَمَّ هذه الأراضي بـ"ديار المعجزات" هباء وعبثاً. التاريخ أيضاً يدوِّن أن الملوك الأوائل للمجتمع السومري، ترجع أصولهم إلى الرهبان. ومن المحال انتظار ورود نظرة أخرى في نظامنا التصوري. يُحَد من نطاق طاقة الراهب – المَلك الكامنة كلما تمأسست الدولة وطورت بيروقراطيتها. وتبرز السياسة، أي مشاكل إدارة شؤون المدينة المتعاظمة، إلى الأمام. وتحصل المستجدات بالانتقال من النوعية المقدسة للدولة نحو نوعيتها الدنيوية اللامبالية بالدين. فبينما ينهمك الراهب في الأعمال النظرية بالأغلب، ينشغل العنصر السياسي بالأشغال العملية. هذا الوضع المشحون بالتداخل الكثيف، سيُبرِز السياسي إلى المقدمة مع الزمن. فالمدينة المتعاظمة تعني سياسياً متعاظماً. وفي الخطوة اللاحقة، وخاصة عندما يكتسب الأمن الخارجي للمدينة أهميته؛ يبرز دور المسؤول العسكري إلى المقدمة. هكذا تغدو المَلكية مقتاتة من هذه المنابع الثلاثة. وثلاثتها تعتمد الألوهية أساساً. وما تطوَّر من حينها حتى الآن، ليس سوى تكاثر هذا النموذج، مع قليل من التعديل والتنويع. الخلية النواة للدولة هي المعبد. وما بعده تأتي الخلايا الجديدة والنسج والأعضاء والأجهزة والأنظمة. تماماً كالإنسان.
محصلة الكلام، كل هذا الكيان يعبِّر عن الدولة كبنية فوقية. تُشبَّه الدولة في الميثولوجيا، على الصعيد المؤسساتي، بالعرش الذهبي. ويتربع عليها الملوك كآلهة خالدة، ليفصلوا أنسابهم (طبقاتهم) عن بقية البشر، وكأنهم لن يغادروا هذه الحياة أبداً. يعلنون عن خلود أنسابهم، بما أنهم يواصلون شؤون الإدارة كسلالة. هكذا يعتلي الملوك القمم العليا في التاريخ كآلهة خالدة أبدية. الجانب الغريب في الأمر هو مشاهدتنا لبوادر كل الانقسامات اللاحقة من هذا الانقسام الاجتماعي بالذات. هكذا تظهر الأديان التوحيدية والأداب أولاً، وكافة الفنون والسياسات والانطلاقات الأصلية الأخرى، كمحطات أساسية في المسار؛ لتبرز على صحن التاريخ. وإذا ما تفحصنا منبع سلطة الدولة بإمعان، سندرك على نحو أفضل لماذا تتسم هي بالسيرورة الدائمة، ولماذا وجب أن تكون على نحو غامض مبهم.
شكَّل التضاد مع المجتمع المشاعي، نفسَه كمجتمع فوقي، في النظام التاريخي الجديد للمجتمع، وعظّم من عمقه ونقاط اختلافه. السؤال المصيري بالنسبة لموضوعنا هو: هل هذا التشكل ضرورة اضطرارية أم لا؟ هناك الكثير من النظريات الاجتماعية تَعتَبر ولادة المجتمع الطبقي شرطاً أولياً للتقدم. لكن، بالمستطاع تحليل الأجوبة الأقرب إلينا، عبر التمعن في ديناميكيات التطور. ففائض الإنتاج وعمليات الري المتطورة في أطراف المعبد، تربط الإنسان بالإنتاج أكثر فأكثر. والشروط مساعدة كي يعمل آلاف الأشخاص بعطاء أوفر. كذلك فضخامة أقنية الري، اتساع الأراضي ورحابتها، تصنيع الأدوات الحديدية من البرونز، والقنوات والسفن البحرية؛ كل ذلك يساعد على الإنتاج والتجارة بأبعاد شاسعة. واتحاد كل هذه العوامل يعني بدوره توطُّد المدينة.
كانت إدارات الرهبان في بداياتها شديدة القرب من الشيوعية البدائية. من هنا نستخلص أنها لا تستوجب بالضرورة دولة المدينة. حيث ستتشكل الدولة بطغيان الطابع السياسي والعسكري أساساً. السبب في ذلك هو مصاعب إدارة شؤون المدينة من جانب، وجعل الجماعات القبلية في البراري والجبال، من أمن المدينة وحمايتها، مشكلة هامة تفرض ذاتها من الجانب الآخر. هل يمكن ترسيخ شؤون الإدارة والأمن، بالنسبة لمجتمع ما، دون وجود شكل الدولة؟ يلاحَظ قدرة العديد من المدن – خاصة مثال أثينا – على إبدائها ممارسات عملية مظفرة بهذا الشأن، عبر الدفاع الذاتي؛ لا بالدولة، بل بالإدارة الديمقراطية. يصادَف هذا النموذج في بدايات نشوء المجتمع السومري. فبينما تتشكل الإدارة من المجلس المؤلف من زعماء القبائل البارزين، تتشكل بالمقابل مجموعات الحماية من شبان المدينة اليافعين، عندما تدعو الضرورة. ويُنتَخَب مسؤول عنهم حسب احتياجات المهام. نرى هذا التطور الحاصل بشكل مرئي وأكثر انتظاماً في مجتمع أثينا.
إذن، والحال هذه، لا يتوافق وضع ولادة الدولة في أساس التاريخ، كضرورة لا بد منها، مع الظواهر الواقعة. التعريف الأصح للدولة هو اعتبارها أداة إدارية وقمعية، وأداة للاستيلاء على إمكانيات فائض الإنتاج بالأرجح. وهي حينما تفعل ذلك، إنما تستخدم مسائل الإدارة العامة والأمن العام كأداة تمويه وترقية وتعزيز. وبما أنه من السهولة بمكان تأمين الإدارة العامة – المصالح المشتركة للمجتمع – والأمن العام عبر المجلس الديمقراطي؛ فإن التثبيت الهام الذي يواجهنا هنا هو النظر إلى مسألة استغلال هذه الفرصة بعين الاستيلاء والثورة المضادة، أكثر منه ضرورة لا غنى عنها. بالمقابل، فتعريف القوة الفارضة نفسها بالتذرع بأعمال الأمن والمصالح المشتركة للمدينة – والتي يمكن تلبيتها عبر الديمقراطية – بأنها قوة متزمتة ومستبدة ومستأسدة؛ إنما هو تعريف واقعي. حتى في راهننا، لا يذهب الساسة وقوى الأمن – الفائضون عن الحاجة – أبعد من اكتساب الخصائص الاستبدادية، نظراً لبطالتهم. من الجوهري تقييم هذه القوة بالعبء الزائد عن الحاجة، والمتربع على القيمة الزائدة. والمجريات الحاصلة في بداياتها ليست مختلفة كثيراً عن ذلك من حيث المضمون.
لكن المتعاظم على مر التاريخ لم يكن قوة الإدارة الديمقراطية، بل إدارة القوة الاستبدادية. وكل خطوة طورت الدولة كتراكم للقوة الاستبدادية، ناهيك عن كونها ضرورة لا بد منها للتطور؛ إنما تعبِّر عن فحوى التطورات الأكثر رجعية وتزمتاً وتحريفاً وتضليلاً في التاريخ. والنظر إلى السلطة والحرب بمعناهما الضيق على أنهما الشغف والهوس والعقل والإرادة الأساس لهذه التقاليد التي موَّهَت نفسها بحذاقة داخل الدولة؛ إنما هو تقرب هام وواقعي إلى أبعد الحدود. بهذا المعنى، يستلزم فصل فن السياسة والعسكرتارية عن ظاهرة الإدارة العامة والأمن العام. وكل من يتسم بحدس علمي وعملي، لا يمكنه التغاضي عن هذا الفصل بتاتاً. فالنتائج الناجمة عن عدم الفصل هذا في تحليلات الدولة، سلبية إلى أقصاها. بمعنى آخر، فالفصل بين الإدارة الديمقراطية والإدارة الاستبدادية (إدارة المصالح المزاجية والفردية) بأبعادهما النظرية والعملية على السواء؛ يجب أن يكون الأرضية الأس لتوجهاتنا التاريخية.
تتجسد الظاهرة السياسية الأولية داخل أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، في التناحر والتنافر الموجودين بين العضو الديمقراطي وبين الجناح الخفي للحرب والسلطة. إذ ثمة صراع دائمي بين العناصر الديمقراطية المعتمدة على كيفية وجود المجتمع (المشاعية) من جهة، ومجموعة الحرب والسلطة المتقمصة قناع الهرمية والدولة من الجهة الأخرى. من هنا، فالقوة المحركة للتاريخ ليست الصراع الطبقي، بل هي الصراع الكامن بين شكل وجود الديموس (الشعب demos) المتضمنة للصراع الطبقي، وبين جناح السلطة القتالية (الخفي) الساعية لتغذية ذاتها بالتحامل على ذاك الشكل. أما اكتساب الذهنية، خلق النفوذ وبسطه، النظام الاجتماعي، والوسائل الاقتصادية؛ فتُحدَّد جميعها وفاقاً لمستوى الصراع الناشب بين هاتين القوتين. وارتباطاً بمستوى الصراع ذاك، تبرز أمامنا ثلاث مستويّات متداخلة بالأغلب على مر التاريخ:
المستويّة الأولى هي حالة الفشل الذريع لجناح السلطة القتالية. فالفاتحون المدَّعون بأن انتصاراتهم العسكرية المبهرة حوادث تاريخية عظمى، وفرضهم إياها على هذه الشاكلة؛ إنما فرضوا نظاماً استعبادياً تاماً. وكل البشر، كل الأشياء يجب أن تكون في دائرة قوة القانون، مؤتمرة بإمرة مجموعة السلطة القتالية. لا مكان للاعتراض أو المعارضة. بل ولا يمكن التفكير بمناقضة الشكل المصوَّر المهيمن، حتى على الصعيد الذهني. فكيفما يُفرَض عليك، ستفكر وتعمل، وتموت! الأساس هنا هو النظام المهيمن الذي لا بديل له. تندرج كافة الممارسات التوتاليتارية، وبالأخص الإمبراطورية والفاشية، ضمن هذا المثال. والمونارشية المَلَكية أيضاً تهدف إلى هذا النظام. إنه أحد النظم الأكثر شيوعاً في التاريخ.
المستويّة الثانية، والمناقضة تماماً للأولى، هي نظام الحياة الحرة لمجتمع الجماعات المؤلفة من الشعوب والكلانات والقبائل والعشائر، المتسمة بلغاتها وثقافاتها المتشابهة، والمناهِضة لأوليغارشية السلطة القتالية المتقمصة لستار الهرمية والدولة. إنه نظام يعبِّر عن سلوك الشعب المقاوِم، الذي لم يُغلَب. كل أنواع الإثنيات المتواجدة في قلب الصحارى والجبال والأدغال، تقاوم الهجمات المحدقة بها. وكل المجموعات الدينية والفلسفية غير المرتكزة إلى الأوليغارشية، تمثل في الأساس شكل الحياة الاجتماعي ذاك. تتشكل القوة الأس للصراع الاجتماعي في سبيل الحرية والمساواة من الحياة المقاوِمة، ذات الذكاء العاطفي الذي يغلب عليه الجانب الفيزيائي الطبيعي للإثنيات من جهة، ومن الحياة المقاوِمة التي يطغى عليها الذكاء التحليلي للمجموعات الدينية والفلسفية من جهة ثانية. والتدفق الحر للتاريخ ليس سوى محصلة لحياة المقاومة. غالباً ما ترتبط المصطلحات والظواهر الهامة في المجتمع، من قبيل الفكر المبدع، الشرف والكرامة، العدالة، الفلسفة الإنسانية المثالية، الأخلاقية، الجمالية، والحب والود؛ بهذا الشكل من الحياة.
المستويّة الثالثة في نظام المجتمع هي طراز النظام المسمى بحالة "السلم والاستقرار". تتواجد في هذه المستويّة حالة من التوازن الذي تشكله كلتا القوتين فيما بينهما على مختلف المستويات. فحالة الحروب والاشتباكات والتوترات الدائمة، تُقحِم إمكانية سيرورة المجتمع في المخاطر. وقد لا ترى الأطراف المعنية في حالة المخاطر والحروب الدائمة ما يناسب مصالحها بشكل متبادل. فتتوجه فيما بينها نحو الوفاق بموجب معاهدة "السلم والاستقرار"، من خلال مختلف أنواع الاتفاقات المجمَع عليها. هكذا يسود الوفاق والتحالف، كشرط لا مفر منه، انطلاقاً من الشروط القائمة، وإن لم يكن حسب المستوّية التي يطمح إليها كل من الطرفين المعنيَّين. ويُدار الوضع على هذا المنوال حتى اندلاع حرب جديدة. إن النظام المسمى بالسلم والاستقرار يفيد أصلاً بحالة شبه الحرب بين قوة السلطة القتالية، وبين مقاوَمة الشعب وقوته غير المهزومة كلياً، والتي تقبع في قعر ذاك النظام.
من الأصح نعت حالة التوازن في ثنائية الحرب – السلم بـ"شبه الحرب".
أما المستويّة الرابعة الخالية من مشكلة "الحرب – السلم"، فلا تتكون إلا بزوال الشروط التي أبرزت الطرفين إلى الوسط. يمكن أن يتحقق السلم الدائمي في المجتمع المشاعي الناضج الذي، إما أنه لم يشهد مثل تلك الشروط والظروف أبداً، أو أنه تجاوز نظام ثنائية "الحرب – السلم" عبر نظام المجتمع الطبيعي المشاعي البدائي. في الحقيقة، لا مكان لمصطلحات من قبيل "الحرب، السلم" في مثل هذا المجتمع. فالنظام الذي تغيب فيه ظواهر الحرب والسلم، لا مكان لأفكارها ومصطلحاتها فيه. لدى سريان مفعول أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، يشهد التاريخ المستويّات الثلاث فيما بينها بشكل مختل ومضطرب. حيث لا يمكن لأي مستويّة بمفردها أن تكون فاعلة كنظام تاريخي بحد ذاته. وحينها، بالأصل، لا يكون التاريخ.
لنفكر في مستويّة "الهيمنة المطلقة" ومستويّة "الحرية والمساواة المطلقتَين" كنقطتَي ذروة، ولننظر إليهما كمستوى مثالي واصطلاحي بالأرجح. سنشهد حينها أن كلتا الذروتين لا يمكن أن تنشطا كلياً، في أي وقت من الأوقات، في حالة توازن المجتمع؛ مثلما هي في وضعية التوازن الطبيعي. فالمطلقية لا يمكن أن تسري في مضمون الطبيعة، إلا على المستوى الاصطلاحي، وفي غضون زمان ومكان محدودَين للغاية. وإلا، ففي حال العكس، لا يمكن أن يحيا النظام الكوني. إذا ما تخيلنا غياب مصطلحَي "التوازن" و"التناسق"، لرأينا أنه لا بد حينها من نهاية الكون بتدفقه الأحادي الجانب. وبما أن نهاية كهذه لم تتحقق، فهذا ما مؤداه أن "المطلقية" تواجدت في التفكير فحسب، وأنها غير دارجة في عالَم الظواهر. إن التدفق المستمر للثنائيات الجدلية القريبة من حالة التوازن، إما بزيادة غناها ووفرتها أو فقرها وجدبها؛ تشكل لغة ومنطق النظام الكوني، بما فيه المجتمع.
إن وضعية النظام المجتمعي الشائعة والمقبولة والمعقدة، هي وضعية "السلم والاستقرار"، كحالة من شبه الحرب والسلم، والتي تُعتبَر المستويّة الدارجة والناشطة في العديد من التجمعات. كافة القوى، الشعبية منها والسلطوية القتالية، تسعى بنضالاتها الأيديولوجية والعملية الدائمة، إلى تسخير هذه الوضعية لصالحها بالأغلب؛ لتُطَوِّر بذلك من وضعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والفنية والذهنية. والحرب هي الحالة الأكثر حرجاً وتوتراً في هذه المرحلة. تُفرَض الحرب أساساً من قِبَل السلطة القتالية. ذلك أنها تنفرد لذاتها بالمدخرات والتراكمات الموجودة في حوزة الشعب، عبر هذه الطريق المختزلة، باعتبارها – المدخرات – دافع وجودها وسببه. في حين أن الشعوب والطبقات ترد مرغمة على هذه الممارسات النهّابة بحرب المقاومة، كي تعيش وتصون وجودها. أي أن الحروب ليست من خيارات الشعوب، بل هي حالات إرغامية واضطرارية، تلجأ إليها لصون وجودها ومستويات حياتها الحرة وكرامتها وعزتها.
إن النظر إلى وضع الديمقراطية في الأنظمة التاريخية ضمن هذا الإطار، يلقننا دروساً تعليمية مهمة. كل بحوثات التاريخ المهيمن الموجودة حتى يومنا الراهن، هي من ترتيب براديغمائية مجموعة السلطة القتالية أساساً. حيث عُلِّقَت مقبضة الحرب المقدسة على كل أسفار المجازر، وبكل سهولة، بغرض النهب والسلب والغنائم الكبرى. وطُوِّرت مفاهيم "الإله الآمر بالحرب". وسُرِدَت الحروب كأبهى الظواهر وأعظمها. وساد موقف، وكأن كل شيء مستَحَق بالحروب؛ ليصير إلى يومنا هذا. بإيجاز، كل ما يُحظى به بالحرب مستحَق. إن ترسيخ مفهوم الحق والحقوق في أساس الحرب، هو ضرب من طرازات الوجود المهيمن للدول. بالتالي، غدا منطق "حقك بقدر حربك" أسلوباً عاماً متَّبَعاً. هذه الذهنية التي تفيد بأن "الباحث عن الحق فليحاربْ من أجله"، هي صُلب "فلسفة الحرب". قطعت هذه الذهنية أشواطاً ملحوظة من الرقي في كافة المدارس الدينية والفلسفية والفنية، لتبلغ نقطة نُعِتَت فيها عمليات حفنة من النهّابين المغتصِبين بأنها "العملية الأقدس على الإطلاق". وأضحت البطولة والقدسية عنواناً لعمليات النهب تلك. هكذا نُظِر إلى الحروب كأداة حل لجميع المشاكل الاجتماعية، بعد السمو بها إلى منزلة المفهوم المهيمن. وقُيِّد المجتمع بمفهوم أخلاقي كهذا، وكأن الحلول خارج نطاق الحرب مستحيلة، وحتى إن أمكنت فهي غير مجدية! المحصلة، العنف أسمى وسائل الحرب وأقدسها!
بدون تحطيم مفهوم التاريخ هذا، من العصيب تناول الظاهرة الاجتماعية بعين واقعية، أو البحث عن حلول لمشاكلها خارج دائرة الحرب. إن عدم صون أكثر الأيديولوجيات اتساماً بالسلم نفسَها من الحرب، يدل على مدى قوة هذه الذهنية. والبرهان الآخر على هذه الحقيقة هو عدم صون الأديان الكبرى المتطلعة دائماً إلى السلام, والحركات الطبقية والوطنية المعاصرة – أيضاً – نفسَها من الانجرار وراء الحرب حسب أساليب جناح السلطة القتالية.
السبيل الأكثر تأثيراً للتغلب على عقلية السلطة القتالية، هي بلوغ الشعوب أنموذج السلوك الديمقراطي. إننا لا نتكلم في هذا المصطلح عن مفهوم "العين بالعين والسن بالسن". فالحالة الديمقراطية، وإن امتلكت نظاماً دفاعياً يتضمن العنف، تعني بالأساس اكتساب ثقافة تكوين الذات بحرية؛ وبالذات عبر الصراع مع الذهنية الحاكمة. إننا نتطرق إلى موقف أبعد بكثير من حروب المقاومة والدفاع. إنه التعمق في مفهوم حياة غير متمحورة حول الدولة، وإدراجه حيز التنفيذ. فانتظار كل شيء من الدولة، أشبه بالتعلق بصنارة جناح السلطة القتالية. قد تمنحك طُعماً، ولكنْ بغرض اصطيادك، لا غير.
الخطوة الديمقراطية الأولى هي تنوير الشعوب في موضوع الدولة. والخطوات اللاحقة لها هي التنظيم الديمقراطي الشامل والعمليات المدنية. لا تُطرَح حروب الدفاع الديمقراطي في الميدان ضمن هذا الإطار، إلا عند الضرورة. أما الحرب دون خطو الخطوات الأولى، فتؤول في النهاية إلى التحول إلى آلة بيد حرب النهب والسلب؛ مثلما شوهد في الكثير من الأمثلة عبر التاريخ.
أحد أهم أهدافنا في التحليلات هو مرحلة تطور الوجود الديمقراطي ضمن سياق التاريخ. فنضال الدمقرطة الصحيح ممكن بالمفهوم التاريخي الصائب.
كنا قد نوهنا سابقاً إلى الوجود المجتمعي، الذي سعينا لتعريفه حتى المثال السومري، وتَقَمُّصه سمات متناقضة مع تداخُل ظواهر الهرمية والطبقية والمدينة والدولة. إنه مجتمع مختلِف كل الاختلاف، بدءاً من الاقتصاد وحتى الذهنية والخِصال. لقد برز جناح ملتحف بستار آلة الدولة، ومطوِّر نظامها عبر العنف والحروب الدائمة، بحيث جعل من الاستيلاء على الغنى الوفير المتراكم في الداخل والخارج فناً سياسياً أساسياً له. علاوة على أنه اعتمد أساساً على إقناع كافة شرائح المجتمع المعنية بأنه نظام إلهي راسخ من الأزل إلى الأبد، عبر ابتداعاته الذهنية والأدبية (الميثولوجيا) المقدِّسة للحرب. لكننا نلاحظ بوادر الاعتراض والمقاومة تجاه هذا النظام السائر بحالته النقية حتى الفترة المتراوحة بين (4000 – 2000ق.م). فمجالس المدن المؤلفة من الأعضاء البارزين في القبائل، أصرت على مواقفها الديمقراطية في بداية الأمر. حيث لم تتخلَّ بسهولة عن السلوك الديمقراطي إزاء جناح الراهب – المَلك – المسؤول العسكري. واحتملوا معاً مدة طويلة ضمن نظام مختلط من ثنائية الدولة – الديمقراطية. ومع الزمن يُسخَّر الكثير من الأشخاص كموظفين أو جنود أو عبيد عاملين داخل الإدارة أو داخل حياة المدينة الغنية والأكثر ملاءمة؛ حيث أُتي بهم إما من الخارج – نستذكر هنا أنكيدو (النائب المقرَّب إلى كلكامش) في ملحمة كلكامش، والمكتَسَب عن طريق المرأة. إنه أول مثال لعمالة المرأة – أو من الداخل، من الأناس المنقطعين، أو المقطوعين، من قبائلهم. لكن هذه التطورات تُفسِد توازن "الدولة – الديمقراطية" المعتمد على القبائل؛ لتنهيه على حساب مجلس المدينة، وتتم تصفيته وإفناؤه مع تقدم هذه المرحلة. تصادَف مثل هذه التطورات في العديد العديد من فترات تشكُّل الدول الحديثة العهد.
لقد انتهى الصراع في الداخل بهزيمة قوى الديمقراطية. رغم ذلك، لا يمكن تصفية توازن القبيلة داخل الدولة بشكل تام في أي وقت من الأوقات، حيث يصون وجوده ضمنها بنِسَب مختلفة. مقابل ذلك، يُطوَّق نظام المجتمع الدولتي بضغوطات كبرى من الخارج. إنها شروع حركة البدو الرحَّل في الحركة تجاه المستوطِنين. من المهم بمكان النظر بتكامل دياليكتيكي إلى هذه الحركات المنوَّه إليها بكثرة في الآداب الهيلينية والرومانية تحت اسم حركة "البرابرة". يُزيد المجتمع الاستيطاني على الدوام من استثمار كدح العبيد داخل المدينة، ومن الغنى في الخارج، عبر التجارة والقمع المختلَّين. إنه بذاته مَن يخلق التناقض. تماماً كتصنيف "الإمبريالية – البلدان المتخلفة" القائم في يومنا الراهن. إن المعتدي البربري هو المدينة، لا البدو الرحّل. لكن، كم هو مؤسف، وبسبب طغيان المدينة على نظامنا الاصطلاحي؛ أن تنعت المدينة نفسها بـ"المدنية، الحضرية"، بينما تصف من هو خارجها بالوحشيين، وتصرخ: إنهم "البرابرة"؛ وتكتسب المدينة بالتالي مشروعيتها.
بالإمكان تشبيه الحركة الكبرى للرحّل تجاه المدينة، بالحركات الوطنية الديمقراطية الراهنة. فبما أن شكل المجتمع البدوي يتألف من مختلف مراحل الإثنية، سيكون بالمقدور تناول الحركات التي خلقها بأنها – مضموناً – مقاومة وموقف وشكل وجود ديمقراطي. بيد أنه من الضروري البحث بكل دقة وعناية في مسألة "مَن اعتدى على مَن؟". فبما أن دولة المدينة (ومن بعدها الإمبراطورية)، صاحبة وسائل العنف والاستعمار والاستغلال الأقوى، هي التي اعتمدت التعاظم والاستيطان والتوسع أساساً؛ فالمعتدي إذاً، وموضوعياً، هو دولة المدينة بالذات. في حين يمكن نعت حالة الإثنية بالدفاع والمقاومة المناقضة لسالفتها كلياً. بمعنى آخر، يمكن تناول حالتها كمرحلة لحركة الحرية الأولى، تجاه الاستعباد الأول.
لقد بقي المجتمع السومري، وربما منذ تأسسه (المؤسسون أيضاً كانوا أتوا من الطريق ذاتها)، وجهاً لوجه أمام القبائل ذات الأصول الآرية القادمة من الجبال شمالاً وشرقاً من جهة، وأمام القبائل العمورية – ومن ثم العربية – ذات الأصول الساميّة القادمة من الصحارى جنوباً وغرباً من الجهة الثانية. بدأ نسج الأسوار وبناء القلاع المحصنة حول المدن في هذه المرحلة. واستمرت موجة من الاعتداءات والاعتداءات المضادة التي لا تعرف السكون أو الخمود، طيلة قرون مديدة. يبرز التاريخ من الحضارات المتطورة من هذه الثنائية الجدلية الأولى والأكبر على الإطلاق، ومن قوة الإثنيات المتعززة. ونرى أن هذه الثنائية المذهلة الناشئة والمستمرة حتى الآن على أرض العراق (بشكل مرئي)، قد تشكلت في الجماعات اللغوية والإثنية الأولى، ضمن الثورة الزراعية ومجتمعها الناشئ حوالي أعوام الألف العاشر (10000ق.م) قبل الميلاد، في أحشاء الثقافة الشرق أوسطية. نصادف أن الإثنية قد تغلفّت وتحصّنت جيداً مع حلول أعوام (4000ق.م)، لتعكس ذاتها في ثقافتها ولغتها الخاصة بها. بمستطاعنا التخمين بأن الحركة الإثنية كانت في صراعات ونزاعات متتالية، قبل ثورة المدينة، بغرض الاستحواذ على الأراضي الخصيبة والمعادن وموارد الحجر. وبينما برزت مجموعة الثقافة الآرية إلى المقدمة في سلسلة جبال طوروس وزاغروس، نرى في البلاد العربية – التي كانت أكثر ملاءمة آنذاك – بروز مجموعة الثقافة الساميّة إلى الأمام. والتّماسّ الحاصل بين هاتين المجموعتين الثقافيتين على تخوم الجبال والصحارى، تمخض عن أنظمة مزيجة، كالسومريين والعبريين والهيكسوسيين على سبيل المثال. أما العرب والكرد، فاستمروا في مواصلة وجودهم كمجموعتين شعبيتين جذريتين للثقافتين الساميّة والآرية. واضطرت الكثير من الجماعات الثقافية اللاحقة للانصهار والذوبان في بوتقة هاتين المجموعتين النواة. ونجد أن القوى المعنية بالعلاقات والتناقضات الكردية – العربية التي لا تزال قائمة في العراق اليوم، تسعى لتأسيس دولتين ثقافيتين مختلفتين، بنظام وترتيب ربما يماثل ما كان عليه أيام تأسيس دولة للسومريين.
يَعرِف السومريون كل المعرفة الجماعاتِ الساميّة الآتية من الجنوب والغرب، والآريين القادمين من الشمال والشرق. حيث نصادف إشارتهم إلى هاتين المجموعتين بكثرة في آدابهم وميثولوجياتهم. نستخلص هنا بطريق غير مباشرة، معرفتهم اليقينة لتلك الثقافتين. تشهد المرحلة المستمرة حتى غزو الإسكندر الكبير لبابل واحتلاله إياها في أعوام 330ق.م، انتشار الحضارة السومرية المدينية الأقوى آنذاك، داخل هاتين المجموعتين الثقافيتين، على نحو أساسي. بمعنى من المعاني، يتشكل التاريخ عبر التطور الدياليكتيكي الحاصل بين الاستيطانيين من تلك المجموعتين الثقافيتين من جهة، وبين البدو الرحّل منها من جهة أخرى. وتنتشر الاكتشافات والاختراعات على موجات متوالية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ومن براري الصحراء الكبرى إلى تخوم سيبيريا. وبقدر ما تُصدَّر حضارة المدينة صوب الخارج، يُستورَد المجتمع البدوي نحو الداخل. لهذا السبب بالذات، فالتقربات التاريخية المهمِّشة للبداوة والداحضة إياها، والمرتكزة فقط إلى المستوطِنين في المدينة؛ إنما تتضمن نواقص لا يستهان بها. وفي مرحلة الحضارة المستقرة يتماشى الموقف الديمقراطي مع تطور الدولة ويحاكيها فيه.
ومثلما سنتداول بشمولية في الفصل اللاحق؛ يتميز الاستيعاب الصحيح للعلاقة الكامنة بين الديمقراطية وظاهرة الدولة بأهمية قصوى. فالديمقراطية هي طراز إدارة الذات للشعب غير المتدوِّل، بل والمناهِض للتدوُّل. له علاقاته مع الدولة، ولكنه لا يذوب في هذه العلاقات، ولا ينكر ذاته بتاتاً. تتصدر مسألة الحدود الفاصلة بين الدولة والديمقراطية، قائمة المشاكل السياسية الأكثر حرجاً وحساسية. إن تعريف النقطة البينية التي لا تهمِّش فيها الدولةُ الديمقراطيةَ، ولا الديمقراطيةُ الدولةَ، هو أساس "السلم والاستقرار". فإنكار إحداهما للأخرى يعني الحرب. من هنا، فالكثير من المفاهيم المعاصرة التي ترى في الديمقراطية امتداداً أو غطاءً للدولة؛ إنما تسير وراء دراسات وتثبيتات خاطئة إلى أبعد الحدود.
إذن، والحال هذه، قد يُسأل "أين الديمقراطية في التاريخ؟". بالإمكان الرد على هذا السؤال بأنها موجودة أولاً في المقاومة والمواقف والسلوكيات التي اتبعتها الإثنية تجاه الدولة والحضارة، بغرض صون سماتها المشاعية والحفاظ على حريتها. وعجزُ السوسيولوجيين عن تحديد هذه الحقيقة، منوط بنضوجهم آلاف المرات داخل بوتقة ثقافة المدينة. فالعلماء هم الرهبان الحديثون للبورجوازية. وهم أكثر بكثير مما يُتَصوَّر. فهم متشبثون بقيم المدينة كالتشبث بالكتاب المقدس.
ما دام كيان الإثنية لم ينهزم، يمكننا تعريفه بأنه شبه ديمقراطية. هذا ويجب علاوة صفة "البدائية" عليه. أي، الإثنية ديمقراطية بدائية. فالالتزام بالقيم المشاعية في الداخل، ومقاومة الدولة الاستبدادية في الخارج، يحث مجموعات الشعب على سلوك علاقات ديمقراطية حرة ومتساوية. وبدون هذه السمات للعلاقات، لا يبقى أي معنى للمقاومة. ثمة خطأ فادح يُرتَكَب لدى تعريف الدمقرطة في الشرق الأوسط؛ وكأن الإثنية حجر عثرة أمام الديمقراطية.
إن الديمقراطية المرتكزة إلى الفرد في الحضارة الغربية، لا تفي بتحديد التعريف لوحدها. فإسناد الديمقراطية إلى الفرد فحسب، يحتوي أخطاء حقيقية، بقدر إسنادها إلى الدولة فحسب. الجماعة والفرد الحر في المجتمع هما من دواعي التعددية الديمقراطية. فمفهوم الأفراد المتماثلين والجماعات المتطابقة، لا هو ضروري من أجل الديمقراطيات، ولا هو ضمان لها. إن الامتياز والميزة الأساسية التي تتميز بها الديمقراطيات، هي بلوغ تركيبات (جميعات) جديدة بصون التعددية.
إن النظر إلى الجماعات الإثنية على أنها امتياز تتميز به الديمقراطية، منوط بتطبيقها العملي بحق. إذا اعتَبرَت إدارة الدولة أن اصطياد الأصوات وعمليات التصويت بموجب معاييرها هو سباق ديمقراطي؛ فالنظام الذي سينمّ عنها هو الديماغوجية. من المهم بمكان النظر إلى غنى الإثنية على أنه فرصة وحظ وفير للديمقراطية. والانطلاق من الفرد الحر يخدم الديمقراطية أكثر.
يندرج توحيد مواقف الشعب الهاضمة لثقافة المقاومة على مر آلاف السنين مع المقاييس الديمقراطية المعاصرة، ضمن أعمال الساسة الديمقراطيين اليومية. والخطأ يكمن في رؤية الطاقة الكامنة لديمقراطية المجتمع الشرق أوسطي بأنها حجر عثرة.
تجسدت صدارة قوة السلطة القتالية داخل بنية الدولة، في بداياتها، على شكل ملوك آلهة وأباطرة. وبتكاثفها يفقد الديموس، العضو الشعبي، ثقله. يُذكَر اسم سارغون، ذي الأصل العموري، في المجتمع السومري كأول إمبراطور عرفه التاريخ وشهد بسط نفوذه الممتد حتى داخل المناطق الجبلية بكل شهية ونهم. وكأنه رمز للالتزام في صمت الموت. تَفتَح هذه المرحلة المبتدئة في أعوام 1350ق.م البابَ أمام كل الإمبراطوريات التي ستحذو حذوها. فكل جديدة منها توسِّع حدود سابقتها. وإذا كان كلكامش رمز بداية المَلَكيات، فسارغون هو أب الأباطرة.
إذن، والحال هذه، سيكون تقييم كل موقف مناهض لهذه المرحلة المتعاظمة على حساب النظام المشاعي، بأنه تراكم ديمقراطي؛ أمراً في محله. فتَحَمُّل المجموعات الإثنية كل الصعاب، وكفاحها ضد المجاعة والأمراض الفتاكة والاعتداءات، ونجاحها في العيش في أجواف البراري والجبال والأدغال؛ إنما هو سلوك ديمقراطي عظيم باسم البشرية. فمَن ذا الذي كان سيصون غنى الثقافة وتعدديتها، لو لم تكن هذه المقاومات؟ وكيف كنا سنستطيع خلق الفنون الشعبية، لو لم تكن هذه الآثار الخالدة من تلك المقاومات على مر آلاف السنين؟ كيف كنا سنؤمِّن الآلاف من وسائل الإنتاج، المؤسسات الاجتماعية، الكرامة والعزة، الشغف بالحرية، وتعاضد البشر وتكاتفهم؟
لدى مرورنا من السلالة الأكادية إلى السلالات ذات الأصول البابلية والآشورية، نجد أن قوة الإمبراطورية تزايدت أكثر. كل واحدة منها تصعِّد من مستوى الخنوع، وكأنها تريد تحطيم الرقم القياسي فيه. وتسرد بكل فخر واعتزاز كيف بنت القلاع والأسوار من هياكل البشر. إذا لم ندوِّن في صفحات تاريخ الديمقراطية كافة الأزمنة التي قضتها المجموعات الشعبية في أعماق الجبال والأدغال والصحارى إزاء أسفار الإبادة تلك، والتي لا تأبه بأية حدود؛ فباسم من سندوِّنها إذن؟ وإلا، أسنتجاهلها ونعتبرها منفية؟ وهل سيجد التاريخ معناه هكذا؟ وحتى إذا وجده, أسيذهب أبعد من معاني الظلم والتَنَمُّر والغصب والسلب؟ وإذا ما حاولنا تَفَهُّم مقاومة عشيرة صغيرة الحجم، وكم غدت موضوعاً للملاحم والبطولات؛ فسندرك عندئذ، وبشكل أفضل، القيمة الديمقراطية للإثنية. إذا ما قُيِّم الإنسان الإثني بمنوال صحيح نسبة إلى الفرد "الحر" الذي خلقته الرأسمالية – حسب الزعم – وأفرغته من محتواه؛ فسنجد أنه يشكل قوة ديمقراطية تضاهي ما لدى الأخير بأضعاف مضاعفة.
تتواجد الطاقة الديمقراطية الكامنة الحقة، في المجتمعات الشرقية. من الجوهري المعرفة يقيناً أن الطاقة الديمقراطية الكامنة للمجتمع الغربي الهاضم لثقافة السلطة القتالية حتى رمقه الأخير، محدودة النطاق للغاية. والديمقراطية الموجودة فيه، ليست سوى غطاء تتدثر به الدولة التي تطغى عليها الطبقة البورجوازية المكبَّلة بألف غل وغل. وبسبب أشكال الحياة والنظريات المبتدَعة بغرض ازدراء مجتمعاتنا واستصغارنا إياها، بتنا لا نرى طاقة الديمقراطية العملاقة الكامنة في كل إنسان من أبناء شعوبنا الشرقية.
ينعت السومريون الهوريين – الشعب الأصلي ذي الجذور الآرية التي يتأتى منها شعبنا – بـ"الكورتيون = Kurti". كلمة "كور = Kur" وتعني "الجبل", و"تي = ti" ضمير متصل يدل على الانتماء. أي "شعب الجبل" (أو الجبليون). إنهم في وضعية المقاومة منذ نشوء الدولة السومرية. أما الكوتيون، الكاسيتيون، والنائيريون، فهي أسماء مختلفة مطلقة عليهم. تقاوم الدويلتان الأورارتية والميدية بأسمى آيات البسالة التي عرفها التاريخ، إزاء أباطرة الآشوريين. إن التغلب على هذه الإمبراطورية الأعتى في التاريخ، والإطاحة بها بعد حروب المقاومة التي دامت ثلاثة قرون بحالها؛ ترك أثره كعيد تحتفي به كل الشعوب، بما فيها الشعب الآشوري. فإذا لم ندوِّن هذه المقاومة في ثقافة الديمقراطية، أين سندونها إذن؟ إن كلمة "ميديا" المذكورة في مقولات "ثيسيوس" المنتمي إلى أثينا؛ هي في حقيقتها ذكرى تلك المقاومة. لا يمكن لديمقراطية أثينا، المبجَّل بها كثيراً في التاريخ، أن تتكلم عن "ميديا" المشؤومة هباء وعبثاً. فعندما شهد أبناء أثينا الديمقراطية، كانوا يَعتَبرون القرب من الميديين ضماناً أساسياً لهم. وأكثر المواضيع المتداوَلة في تاريخ هيرودوت هي الميديون.
يجب التبيان بكل صراحة أن الميديين قدموا أهم مساهماتهم في تاريخ الديمقراطية، والتي ربما لم تُكتَشَف حتى الآن، بنقلهم ثقافة المقاومة العظمى لشعوب الشرق الأوسط إلى أثينا. لم يُقِم الإسكندر المقدوني علاقات القرابة سدى مع الشعوب الميدية. إنه يدرك جيداً مكانتها في التاريخ الهيليني، ويتخذ منها قدوة. والإسكندر إمبراطور مشهور بكسحه للحضارة الشرقية كالأسطوانة الساحقة. لكنه بالمقابل يعرف كيف يتأثر بهذه الثقافة ليعيش بكل فخر واعتزاز. وقد قدمت التركيبة الثقافية الغربية – الشرقية التي كوَّنها أعظم مساهمة للديانة المسيحية، التي بدورها قدمت أعظم مساهماتها للحضارة الغربية. هذا ما مؤداه أن قنوات الإمبراطورية لا تخدم قوة السلطة القتالية فحسب، بل تتسرب ثقافات مقاومات الشعوب أيضاً من هذه القنوات. إنها تكتب تاريخ ديمقراطية الشعوب.
ربما كانت الإمبراطورية الرومانية الممثل الأقوى والأكثر تعزيزاً لثقافة السلطة القتالية. حيث أبرزت أعنفَ الأباطرة وأظلمهم، ونظمَت أفظع أشكال القتل إزاء البشرية، من قبيل الصَّلب، الإطعام لقمة سائغة للأسد. لكن، أَوَليست ثقافة الشرق الديمقراطية هي التي ابتدأت بحركاتها الإنسانية العظيمة وبحركات الفقراء إزاء هذه القوة؟ أوَليس سيدنا عيسى بذاته مَن ابتدأ بنقطة الصفر لميلاد تقاليد النبوة؟ إذن، والحال هذه، لا يمكننا إهمال تقاليد النبوة بجانبها الديمقراطي.
بينما نشط المجتمع البدوي كقوة هجوم ودفاع خارجية بالأغلب تجاه قوة السلطة القتالية، لعبت القوة، التي يمكننا تسميتها بتقاليد النبوة والرهبانية، دورها في خدمة قناة تطلعات الفقراء للمقاومة من الداخل. إنها حركة ذات طابع طبقي. برزت هذه التقاليد، التي ترجع في مصدرها إلى الثقافة الشرق أوسطية، من المجتمع السومري – مرة أخرى – مثلما هي حال الكثير من البدايات الأخرى. يمكننا مصادفة الآثار المتعلقة بسيدنا آدم (النبي الأول) وطرده من الجنة، في الثقافة السومرية. بالمقدور التخمين أن رفض كل من آدم وزوجته حواء الامتثالَ التام لنظام العبودية، تسبب في طردهم من الجنة (أي من حياة المجتمع الفوقي للدولة). ربما كان ذلك سرداً شبه ميثولوجي معتمداً على حرية الفرد. وبما أن تناقضاتهما علنية مع النظام القائم، فكأنهما مهّدا السبيل لتطورٍ من قبيل ظهور سلالة مقاوِمة ومتصدية، من خلال طردهما. وضعيتهما أدنى إلى المزارعين الأحرار وأرباب الحِرَفيين. سيكون من المنوِّر أكثر تقييم الشريحة الوسطى غير العبدة في المدينة، كأساس طبقي لهذه التقاليد.
أما النبي الثاني العظيم نوح، فقد برهن على حِرَفيته ببنائه السفينة. فإنشاء السفينة بكل تلك التجهيزات والمعدات في الطوفان، يشيد إلى قوة المهن اليدوية. فقول الإله أنكي له: "الطوفان آتٍ، أعددْ سفينتك بما يؤمِّن الحياة الجديدة"، وقيامه بذلك خِفيةً عن بقية الآلهة الآخرين؛ يسلط الضوء على السمات الطبقية. إذ من الطبيعي أن يكون الحِرَفيون، الذين يلعبون دوراً مصيرياً كنقل السفن، في صدارة الشرائح التي تتميز بمستوى علاقات مهمة – دون غيرها – مع الشريحة الإدارية. لربما كانت حكاية الطوفان تعبِّر عن الهجرة إلى ديار أخرى – مثلما هي حال آدم – بعد اندلاع حركة تمرد مشابهة على سخط الإداريين. يقال بأن سفينة نوح حطّت على سفوح جبل جودي. وكلمة "جودي Cudi" تعني في الكردية "وجد المكان". هذا ما يستذكرنا بدوره بعمليات النزوح من ميزوبوتاميا السفلى نحو الشمال للاستيطان فيه، لأسباب مختلفة، مثلما نشاهد حدوث ذلك بكثرة وقتذاك.
لقد شُيِّدَت أنظمة المدن السومرية بكثرة على الضفاف العليا لنهرَي دجلة والفرات في أعوام الألفين (2000ق.م) قبل الميلاد. وكانت أورفا من أهم المراكز آنذاك. وأورفا اسم هام من بين أسماء المدن السومرية البارزة، مثل أوروك وأور. وهي تعني "الاستيطان في التلال". وكأن أورفا، والمناطق المجاورة لها، كانت مركزاً لتقاليد النبوة. من هنا نفهم أن الضائقين ذرعاً بمدن الضفاف السفلى لنهرَي دجلة والفرات، والمتمردين هناك، والمتطلعين إلى الحرية والعدالة؛ وجَّهوا مراكزهم نحو أورفا. ثمة الكثير من المراكز الثقافية الشبيهة لها في التاريخ. أما بابل، الإسكندرية، وأنطاكية، فهي مراكز ظهرت في وقت لاحق.
كانت كل من باريس ولندن مركزاً للرأسمالية سابقاً. واليوم المركز هو نيويورك. ثمة احتمال كبير بأن أورفا كانت مركزاً تنويرياً شبيهاً في بدايات أعوام 2000ق.م على وجه التخمين. فمثال المعبد الأول المكتَشَف في "ديباكلي تبه Dibeklitepe"، والمشيَّد في 11000ق.م، يقع في منطقة مجاورة لأورفا. والتقاليد المهيمنة فيها حالياً تتناسب ومسارَ التاريخ هذا. كما لعبت دوراً مركزياً للثقافة الهيلينية والصابيين في القرن الثالث قبل الميلاد (300ق.م)، وللمسيحية في أعوام (100م). لقد كانت أورفا مهد الكثير الكثير من الأنبياء، وعلى رأسهم سيدنا أيوب وسيدنا إدريس، اللذان لا يزالان يُعتَبَران قوة يُعتقَد بها في أورفا. وتعبير "مدينة الأنبياء" بصددها هو تعبير صائب.
حكاية انطلاقة سيدنا إبراهيم، الذي يُخمَّن أنه عاش في أعوام 1700ق.م، أكثر تنويراً. فتحطيمه لأوثان مجمع الملوك الآلهة النماردة والآشوريين والبابليين، يشير إلى شروعه بثورة ذهنية. أما معاقبته الصارمة برميه في النار، فتعكس لنا وضعية التمرد كعادة تاريخية. وبحركته هذه يُضطر إلى التوجه صوب بلاد كنعان – أراضي إسرائيل ولبنان اليوم – كحركة هجرة ثانية كبرى. ويقدم مساهمات هامة لتقاليد النبوة في مرحلة حياته العصيبة بين أيدي الكنعانيين. ويبدي الجرأة والإدراك الكافي لوضع لَبنات مفهوم الدين التوحيدي المجرد.
سيدنا أيوب أيضاً، السابق لسيدنا إبراهيم، يعد ممثلاً تاريخياً في ثقافة المقاومة والتصدي. فلأول مرة يعلن عن اعتراضه التاريخي تجاه نمرود، بقوله ما مفاده "إنكم تجوِّعون البشر". موقف كهذا هو الأول من نوعه تجاه الملوك الآلهة، ويستلزم جرأة عظمى. أما الرد على فعلته هذه، فكان اهتراؤه في غياهب السجن حتى يعشش الدود في جسده. ومع ذلك يتحمل كتمثال الصبر. وممارسته هذه تفضي إلى نبوته.
إذا ما وضعنا نصب أعيننا مكانة ثورة الدين التوحيدي في حضارتنا الراهنة، سندرك على نحو أفضل أهمية التفسير الصحيح لتقاليد سيدنا إبراهيم، الذي يتسم بسمة أخرى، ألا وهي مهارته في تكوين التعبير المزيج للثقافتين الآرية والساميّة. فعيش سيدنا إبراهيم في كلا الوسطين، يمَكِّننا من تفسير خاصيته المختلطة هذه كتركيبة جديدة. إنها تركيبة تُشرِع الأبواب أمام الخلاقية، تماماً كالتركيبة الشرقية – الغربية.
تتجسد الخاصية الثالثة المهمة لقوة سيدنا إبراهيم في تمثيله أول سلطة إنسان كرسول للإله، تجاه نظام الملوك الآلهة، سواء السومريين – نمرود – أو المصريين – فرعون – على السواء. إن خيار سيدنا إبراهيم انطلاقة عظمى وبديل عظيم، في مرحلة تاريخية شهدت العبودية بأغور أشكالها، مثلما شهدت نشوء التطلعات الأولى إلى الحرية. وكونه رد على الطموحات الجذرية للبشرية، مهَّدَ السبيل لحركية اجتماعية، هي الأهم من نوعها في التاريخ. فمهما أبدت الجماعات الإثنية مقاومات باسلة إزاء كلا النظامين من الخارج، إلا إن وجود مقاومة داخلية في الحركات الاجتماعية أيضاً يتسم بخصائص بالغة الأهمية وفائقة الحل.
إن التمرد على قوة المَلك الإله، والحكم على البشر باستحالة أن يصيروا آلهة؛ هو حقاً ثورة اجتماعية عظمى. فنظام العبودية بذلك يتلقى الضربة من أقوى دعائمه الأيديولوجية. فالحث على التفكير بالملوك الآلهة كبشر عاديين، يعني المآل لحدوث أكبر الشروخات والتصدعات في البنية الميثولوجية السومرية والمصرية. هذا ما يعني بدوره تشكُّل التيار الاجتماعي المسمى بالدين "التوحيدي" ذي الإله الواحد. ليس مصادفة أبداً الإصرار على البدء بالحلقة من آدم. إنه بذلك يبرهن على أن هذه التقاليد جذرية ومتسلسلة، وأن الأنبياء العظام هم محطاتها التاريخية؛ تماماً كأنبياء الماركسية والليبرالية.
العنصر الذي فتح سبيلاً منهاجياً آخر في هذه التقاليد هو سيدنا موسى. فسيدنا موسى، الذي عاش في أعوام 1300ق.م، وتمتد شجرة نسبه إلى سيدنا إبراهيم؛ يحقق انطلاقته في مصر بريادته لتمرد مشابه. فاستخدامه القبيلة العبرية التابعة للفرعون بعبودية تامة، وتجرؤه على التمرد بها، بعد تعرفه على الثقافة المصرية؛ يشير إلى أنه شخصية قيادية ذات دعائم اجتماعية وتحررية. له صلات قرابة مع تقاليد القبيلة العبرية. ودين القبيلة مغاير لدين مصر. ورغم ما يقال بأن سيدنا موسى أعلن الفرعون أخناتون كأعظم آله، وأنه تأثر بشبه الإله الواحد؛ إلا إنه في الأساس رسخ ركائز تقاليد ديانة سيدنا إبراهيم. فالكتاب المقدس يشير إلى مسيرته في صحراء سيناء الشهيرة، وتأثره بالجبل الناري (البركاني)، وإلى موقفه تجاه الوثنية، وتعاليمه العشر (الأوامر العشرة). إن سيدنا موسى يخوض الصراع الأكبر للدين الجديد، مجسَّداً في القبيلة العبرية. وهذه الحرب الأيديولوجية ستنقذ القبيلة العبرية من التبعثر، وستوصلها إلى "الأراضي المقدسة" الموعودة. يُعتبَر هذا التصلب الأيديولوجي أحد أهم الخطوات المخطوة في التاريخ العبري. وثقافة الدين العبري التي خطت خطوات مشابهة حتى يومنا الراهن، تشيد بالمثال الضارب للنظر في تأثير الأقلية على الأكثرية.
لا يمكن جعل حركة النبوة مُلكاً للعبريين وحِكراً عليهم فحسب. ذلك أن هذه التقاليد تلعب دورها على الصعيد الكوني (العالمي) مع سيدنا عيسى الأقرب إلى الآراميين، ومع سيدنا محمد المنتمي إلى العرب.
بإيجاز، إن حركة النبوة المتطورة كتقاليد اجتماعية داخلية تجاه قوة السلطة القتالية، أقرب في موضعها إلى الموقف الديمقراطي؛ سواء في التاريخ البشري عموماً، أو في النظام التاريخي للمجتمع الشرق أوسطي على وجه التخصيص. وإذا ما أضفنا إليها بُعد الفقر والعَوَز، فإنها عندئذ تكاد تمثل أول حركة "اجتماعية ديمقراطية" في التاريخ. في الحقيقة، يمكن إقامة تشابه بين الأسس الطبقية لأولئك الأنبياء (الطبقة الوسطى: الحِرَفيّ، التاجر، المزارع، القبيلة) من جهة، وبين الحركات الاجتماعية الديمقراطية الراهنة من جهة أخرى. يمكننا التقدم بهذا التشابه أكثر. فكيفما أن الاجتماعيين الديمقراطيين – ورغم تمرينهم للنظام قليلاً – لم ينجوا من أن يكونوا قوة احتياطية للنظام القائم؛ فالاجتماعية الديمقراطية للأنبياء أيضاً، لم تنجُ من التمحور حول أنظمة المجتمع الطبقي المشيدة، ومن تأسيس نموذج مشابه لها، عاجلاً أم آجلاً. فالنظام الذي أسفروا عنه تجاه عبودية العصور القديمة القاسية، هو إقطاعية العصور الوسطى. لا شك في أن سبيلهم لم تكن بحثاً واعياً ومقصوداً عن النظام الإقطاعي، حيث طالبوا ونادوا بالسلام والعدالة للبشرية جمعاء. لكن القوة المحوِّلة (التحويلية) الكبرى للنظام المهيمن، لم تسنح بأن تكون دولة الأنبياء الإلهية مختلفة كثيراً عن نظامها الأصلي.
إن لفظ الثيولوجيا المفتقر للسرد السوسيولوجي، لا يسلط الضوء على الحقيقة المجتمعية لمؤسسة النبوة التي أثرت في التاريخ البشري أكثر من غيرها؛ رغم استحواذه على شمولية (مجموع الآثار) كبرى بين يديه. وإلى جانب التعبير عن لغة تلك المرحلة وذهنيتها، فإذا لم يُترجَم ذلك إلى واقعنا الراهن، فإنه لن يذهب أبعد من كونه سرداً استظهارياً مزعجاً ومخمِداً للعقول. في الحقيقة، ثمة أهمية قصوى للتعريف الصحيح للمؤسسة المتخذة من الجانب الاجتماعي والتحرري الفردي والعادل أساساً لها إزاء العبودية الغائرة في القِدَم في سومر ومصر. حيث أنها تعكس النضالات الاجتماعية الكبرى للشعوب، بمظهر الدين الذي يشكل البنية الذهنية لتلك الحقبة.
النبوة هي أول مؤسسة اجتماعية قيادية كبرى. فقيام الأنبياء بتركيب المصطلحات والأفكار (القوالب الذهنية العامة الدارجة والمهيمنة على وجهة النظر العالمية في تلك الأزمان) التي استخدموها، ليحققوا وثباتهم نحو مرحلة أرقى؛ إنما يفيد باكتسابهم النبوة. وبقدر انقطاعهم عن الميثولوجيا والدين العبودي الرسمي، أدوا دوراً اجتماعياً وتحررياً. لا شك أنه – مثلما شوهد بكثرة في كل مرحلة – وكما حصلت الانقطاعات الراديكالية عن النظام السائد؛ فالوفاق معه أمر وارد أيضاً.
ما هو منتَظَر من التاريخ السوسيولوجي للدين، هو تحليل كل نبي – المهمون منهم – ضمن الوسط الثقافي للمرحلة التي عاش فيها، وبالأخص بجوانبه الذهنية والسلطوية والاجتماعية والاقتصادية. سيكتسب سرد التاريخ بموجب ذلك تكاملاً مهماً. فإخراج هذا التاريخ من كونه مجرد حكايات عن السلطنة والبطولة (نهب الغنائم)، سيفضي إلى كتابة تاريخ أكثر واقعية، ذي أبعاد اجتماعية وشعبية وإثنية. بهذا الشكل ستكتسب الجدالات الراهنة الدائرة حول العلمانية معناها. علاوة على أنه من الواجب الإدراك الحسَن لمسألة: فيمَ خدَم مئات الآلاف من الكوادر والميزانيات؟
ستستمر مرحلة مشابهة في فاعليتها في إمبراطورية روما. فالتيارات الدينية ذات النوعية الاجتماعية في الداخل، والحركات البدوية ذات النوعية الإثنية في الخارج، ستحيط بقوة السلطة القتالية المعروفة بأنها الأعظم تكاثفاً حتى تلك المرحلة من التاريخ، وستحاصرها منذ نشوئها (50ق.م - 0م). والمسيحية، في مراحل نشوئها وتطورها، هي حركة حزب مؤلف من الفقراء (القبيلة، العائلة وغيرها من الاتحادات النَّسَبية). حيث يتسم بالكونية من كافة الزوايا، بقدر روما على الأقل. إنه أول حزب اجتماعي كوني للفقراء. وكيفما أَعَدَّت روما جناحها الخفي كقوة عظمى للسلطة القتالية في تلك المرحلة، فالديانة المسيحية أيضاً حذت حذوها في إعدادها حركة الفقراء. وسنشهد تكاثفاً طبقياً شبيهاً في المرحلة الرأسمالية أيضاً. فبنية الدولة الأكثر قمعاً واستعماراً، وبنى الكادحين الأكثر متانة وتماسكاً، ليستا إلا امتداداً للثنائية الدياليكتيكية.
لكلا التيارَين تاريخ مديد من التعرض للكبت الحاد في مقاوماتهما تجاه روما. يجب اعتبار النظرة إلى التاريخ على أنه حكاية إمبراطورية روما فقط، بأنها تحريف وتضليل على يد المؤرخ الرسمي، لا غير. فكما أن قوة السلطة القتالية المتراكمة كالكرة النارية والكرة الثلجية، هي مختزل التاريخ القمعي والاستعماري، فالإثنية البدوية والتيارات الاجتماعية والدينية أيضاً، هي خلاصة المشاعية، وبنفس النسبة. لم يدوَّن تاريخ الشعوب بالثقل اللازم، كواقع اجتماعي وإثني. ولربما كان الدور الأكبر لتدوين التاريخ بالسمات الطبقية المهيمنة، هو تحريف الظاهرة المجتمعية، والتغاضي عن عناصرها الأصلية. فالسبيل الأكثر قدرة على الاستيلاء على ذهن الإنسان وسلبه، هو عدم السماح بكتابة التاريخ الحقيقي، بل وتحريفه بشكل شاذ.
تضطر المجتمعات المنقطعة عن الوعي التاريخي، للعيش في ظروفٍ تفُوق في سوئها مراحل الإبادة، كالافتقار إلى معناها والتجرد من هويتها. وسيكون من السهل، ولأبعد الحدود، تحميل المجتمعات المنقادة للتآلف مع هكذا شروط، أيَّ عبء، ومهما كان. من هذه الزاوية أيضاً تبرز أهمية تقاليد الأديان التوحيدية. إنها كذاكرة الواقع الاجتماعي. فمقابل تأصل السلطنة، يكون تأصل النبي كبديل للأول. تكاد الديانة المسيحية تحاكي تقاليد أباطرة روما بمؤسستها الأسقفية. وينشط تطور مشابه بالنسبة للقيادة الإثنية أيضاً. فتَشَبُّه كلا التيارين بالإمبراطور يمهد السبيل لكليهما للوفاق مع النظام القائم، والذوبان التام في بوتقته حيناً، والتحول إلى بنى مجتمعية يمكن تأمين استمراريتها بمستوى أعلى في أحيان أخر.
وإذا ما أريدَ رسم جدول تاريخي للإثنية بخطوطه العريضة، فسيكون من المفضَّل الابتداء فيه بولادة الثقافة الزراعية وتمأسسها في الأعوام ما بين (15000 – 10000ق.م).
كل المعطيات الآركولوجية (علم الآثار القديمة) والأتيمولوجية (علم الاشتقاق والصرف)، تشير إلى أن الإثنية تشكلت لأول مرة في تلك التواريخ، في الحوض الداخلي لسلسلة جبال طوروس وزاغروس. فالثورة الزراعية شرط مصيري من أجل الحركة الإثنية. وإلا، فلن تنجو من البقاء في حالة المجتمع الكلاني. أما المجتمع الكلاني، فلا يذهب أبعد من كونه مجموعة عائلة واسعة، في أي زمن من الأزمان. تقنية الإنتاج هي التي تحدد هذه الحدود. بالتالي، لا يمكن لمجتمع كهذا بلوغ مستوى المجموعات اللغوية الكبيرة، بأنظمته الصوتية المحدودة للغاية. والجماعات اللغوية المعروفة، يبدأ تاريخها اعتباراً من أعوام 20000ق.م. هذا علاوة على بعض الأسباب الشبيهة الموجودة في نفس الجغرافيا، والتي تلعب دورها في ذلك. يفتح تَوَطُّدُ اللغة المجالَ لتطور الإنتاج، الذي يثب بدوره بالمجتمعية إلى مستوى أعلى. وقد أجمع كل علماء الآثار البارزين، من أمثال "غوردون جيلد Gordon childe" و"فانيلور Vanilor"، على الدلائل المشيرة إلى تكوُّن المجموعة اللغوية الآرية البدائية في الحوض الآنف الذكر. والمجموعة اللغوية الآرية هي أثر المجموعات المشاعية البدائية المحقِّقة للثورة الزراعية.
يمكن مصادفة أقدم الألفاظ ذات الأصول الزراعية، في كافة الأقوام المتشاطرة لهذه البنية اللغوية. يُجمَع عموماً على أن هذه المرحلة الأولى للتكون الإثني انعكست على كافة القارات على شكل انتشار ثقافي أكثر منه جسدي. بل وحتى أن الحقيقة الأخرى المُجمَع عليها هي انتشارها في أعوام 11000ق.م، من مضيق برينغ في آسيا صوب القارة الأمريكية، على يد الهنود الحمر.
أبدت هذه الثقافة الإثنية تطوراً ملحوظاً في مركزها الأم، على الحواف المنفصلة عن سلسلة الجبال فيما بين دجلة والفرات، حتى تكوُّن الحضارة السومرية. أي حتى عام 3500ق.م على وجه التقريب. والبقايا المتبقية من أقدم مواطن الاستيطان تدل على أن تلك المرحلة شهدت العديد العديد من العناصر، التي لا تزال تنبض بالحياة حتى يومنا الحاضر. نخص بالذكر هنا مرحلة ما بين 6000 – 4000ق.م، من حيث أهميتها ببلوغها إثنية راسخة وذات هوية بيِّنة. وكأن كل الاختراعات والاكتشافات والمعلومات الأولية الممهدة لابتداء التاريخ – الحضارة – قد خُلِقَت في هذه المرحلة الملتحمة مع العصور الكالكوليتية (عصر الحجر النحاسي – المَلَكيت)، حيث تشكلت مؤسسات الفن والدين والهرمية الأساسية فيها. ويتضح أن الهوريين – أقدم مجموعة آرية – هم أقدم أسلاف الكرد الحاليين، في مركز ولادة هذه الثقافة. (أور = ur: تعني التلال، أي أهالي التلال العالية). ومعلوم أنهم تميزوا بحياة فعالة منذ أعوام 6000ق.م، كمجموعة تنتمي إلى ذات الشعب في تلك المنطقة. وكانت لهم صلات القربى مع السومريين في فترة التكون، كما كانوا مجاورين لهم. وما "الكوتيون، الكاسيتيون، اللوريون، النائيريون، الأورارتيون، والميديون" سوى أسماء أطلقها السومريون والآشوريون على التوالي على المجموعات المتشاطرة للثقافة الشبيهة لهم.
انتشرت موجة الثقافة الآرية في أعوام 9000ق.م صوب بلاد الأناضول، وفي 6000ق.م نحو قفقاسيا وأفريقيا الشمالية وإيران، وفي 5000 – 4000ق.م باتجاه داخل الصين وسيبيريا الجنوبية وأوروبا. تشير هذه التواريخ إلى انتشار الثقافة الزراعية في كافة أرجاء العالم. والبدو الآريون الذين انتشروا جسدياً أيضاً، تسربوا وتغلغلوا في 3000 – 2000ق.م حتى أشباه الجزر في القارات، الهند، إنكلترا، اليونان، إيطاليا، شبه جزيرة إيباريك، وأوروبا الشمالية. ويُخمَّن أنهم توجهوا صوب الهند، إيران، بلاد الأناضول، ومصر في أعوام 2000ق.م، وفقاً للمستجدات الحاصلة آنذاك، لينضموا فيها إلى المراحل الحضارية البارزة. وهي ذاتها المناطق التي أغنتها الحضارة السومرية، والتي شكلت حركة مضادة للأخيرة. إنها مرحلة مفعمة بالنشاط والحيوية بأقصى حدودها. فالحضارة السومرية تجذب إليها كل البدو الرحل والجماعات القروية المجاورة لها، بتأثير واضح أشبه بما تتميز به أمريكا اليوم. تُعَدُّ حركات الهجرة الكبرى في أعوام 2000ق.م، مرحلة شهدت أوسع أشكال الانتشارات والاستيطانات في تاريخ الإثنية، والتي شكلت الأرضية الخصبة لنشوء الحضارات الصينية، الهندية، الخلاصية، الأناضولية والإيرانية. إنها أشبه بالحملة الثانية الكبرى للتمدن – الدولة – بعد ميزوبوتاميا، باقتفاء الأثر السومري. مع ذلك، فالمدن الحضارية في تلك الأعوام، كانت أشبه بالجزر العائمة وسط البحر البدوي المتنقل. فالذي يقوم بالعملية أساساً هو البدو الرحل. ومع وصولنا أعوام 1000ق.م، تبدأ الحملة الثالثة الكبرى من النزوح. فالهجرات المتدفقة من أوروبا وقفقاسيا وآسيا الوسطى نحو المناطق الحضارية في الجنوب، تشرع في احتلال مكانها بدل أنظمة السلالات والبيكاوية. إنها المرحلة الحضارية الأولى. والمجموعات الإثنية الكبرى الشهيرة في هذه المرحلة هي، الدوريون في اليونان، الفريغيون في بلاد الأناضول، الميديون في تقاطع سلسلة جبال طوروس وزاغروس، والأتروسكيون في إيطاليا.
تلعب هذه المجموعات دوراً عظيماً في التطور الحضاري بين صفوف الدولة الرومانية في أعوام 1000ق.م. والحضارات الإغريقية، الفريغية، الأورارتية، الميدية، والأتروسكية، هي حضارات شُيِّدت على يد أهم المجموعات الإثنية في تلك المرحلة.
لا تتعدى الحركة الإثنية المستوى الهرمي من حيث التنظيم. وإذا لم تنحل وتتفكك في هذه الحدود من الداخل أو الخارج، تبقى حينئذ وجهاً لوجه أمام مشكلة التدول. والتدولات المشابهة للأنموذج السومري، دارجة بالنسبة للمجموعات التي تخطت هذه المراحل بتفوق. إنها بالأغلب تقلد النماذج الحضارية التي تكون على تماس معها. إذ ما من طاقة بنيوية كامنة أخرى بالنسبة للبنية الهرمية. وفي هذه الحالة يحصل التمايز الطبقي. حيث تبقى الشرائح السفلية في المناطق الجبلية بأوضاعها السابقة نسبياً، في حين إما أن تصبح الشرائح المتوجهة صوب المدينة عبيداً، أو جنوداً، أو تسعى لإكمال المجتمع الطبقي بالانخراط في صفوف الشرائح المستوطنة هناك. تعني الإثنية على الدوام الدم الطازج بالنسبة للمجتمع الطبقي. فما تمثله القروية بالنسبة للرأسمالية، تؤديه الإثنية بنحو مشابه بالنسبة للحضارات القديمة. وإذا ما حاولنا إقامة تشبيه مع حاضرنا، تكون التدولات المعتمدة على القاعدة الإثنية الموجودة على شكل مقاومات إثنية وإمارات في الحضارات القديمة، مقابلة للمقاومة الوطنية والدولة القومية المؤسسة من بعدها، تجاه التوسع الرأسمالي في يومنا الحالي.
تجد الحركات الدينية والنبوية – التي عرَّفناها بأنها ضرب من ضروب الصراع الطبقي في العصور الأولى – مصدرَها في مراحل نضوج الحضارات وانتعاشها. إنها مدينية الأصل. وتتسم بطابع الطبقة الوسطى. لقد أبدت جسارتها في التصريح بمنافاة النظام العبودي الأول للعقل والمنطق. إنها الحركات الانتقادية الأولى، والتمردات الاجتماعية الأولى. علاوة على أنها تأثرت بتقاليد الشامانية والمشيخة القديمة، التي لم يكن لها حضور يُذكر في المؤسسات المَلَكية. هذا ويجب النظر إلى التجريد الموجود في مفاهيم الدين والإله، ومناهضة عبادة الأوثان، بعين الاختلاف في الذهنية. وأهم معتقداتها هي استحالة أن يكون الملوك البشر آلهة. فمزاعم ومعتقدات المَلك الإله من جهة، وعدم إيمان الناس العاقلين بها من جهة ثانية؛ إنما يصور في حقيقته التناقضات والصراعات الكائنة بين الطبقة الإدارية وأهالي المدينة. فاستيعاب الفرق الكامن بين الشرائعية القائمة في مجتمع المدينة، وبين الروحانية الطبيعية، يمهد السبيل لارتجاج عقيدة المَلك الإله. يتطور اختلاف الذهنية بسرعة أكبر في أوساط المدينة، ليؤمِّن الأجواء المساعدة على البحث عن تطلعات وأفكار ومصطلحات جديدة. فنظام تبادل البضائع والسلع يُنَشِّط الذهن أكثر فأكثر، لتزداد معه الوضعية الإدارية للذكاء التحليلي. تفضي المعلومات والاصطلاحات التجريدية المتزايدة بعد مرحلة معينة إلى تعرية وإفناء الأيديولوجية الرسمية، أي الميثولوجيات المعتقد بها. ومع البحوثات الأيديولوجية الجديدة، تُشرَع الأبواب أمام مرحلة المثالية النبوية.
من المخمَّن أن هذه المرحلة المبتدئة منذ أعوام 3000ق.م، وحتى عهد سيدنا إبراهيم، قد ابتدأت بالأغلب في مدن المتروبولات السومرية. وعندما لم تستطع إيواءها، ينتقلون إلى المناطق الموجودة في الأقاصي، وإلى الأجواء الحرة نسبياً. من الصحيح تسمية المرحلة الممتدة من سيدنا آدم وحتى سيدنا إدريس وأيوب، بمرحلة النبوة السابقة لأورفا. يمكننا طرح الاعتقاد القائل بأن عهد أورفا الممتد من 2000ق.م وحتى 1000ق.م قد لعب دوراً مركزياً. من المحتمل أن تقاليد النبوة قد نضجت في تشكلها في هذه المرحلة، واكتسبت أرضية مؤسساتية متينة. كما وصدَّرت الكثير من الأنبياء إلى الأطراف المجاورة لها، وعلى رأسهم سيدنا إبراهيم. والعديد من الأقاويل تؤكد صحة هذه الفرضية.
الفرضية الثانية التي يمكننا طرحها هي، بروز القدس إلى الأمام، كمركز نبوي ثانٍ، منذ أعوام 1000ق.م، حتى انهيار روما. يحتوي الكتاب المقدس لائحة شاملة بأسماء أنبياء تلك المرحلة. تلك المواد التي تتميز بسرد وفير الغنى ومتين البنيان بشأن عهد الأنبياء، والمبتدئ بـ"ساول Saul"، وحتى داوود وسليمان؛ يمكن تقييمها بالحنين إلى المَلَكية، وشرح قواعد الأخلاق المنظِّمة للحياة الاجتماعية بالأغلب. إنها تتطرق بقدرة وكفاءة إلى المجتمعية. وما منْع عبادة الأوثان، والارتباط بالرب في مضمونه، سوى سرد ديني معني بصون القبيلة العبرية من التشتت والتفكك، وتكوُّنها كمَلَكية. كيفما تكون الميثولوجيات السومرية حكايات أسطورية للملوك الآلهة، فالكتاب المقدس هو الحكاية الدينية لتكوين المَلَكية من أحشاء القبيلة. فالآداب والبنية الذهنية التي كانت مهيمنة في تلك الحقبة، كانت تستلزم لغة كتاب مقدس كهذا. من المهم تلمس الجوهر المستتر تحت تنميق الشكل ذاك. بيد أن مأرب سيدنا عيسى، في النهاية، كان أن يصبح مَلكاً على القدس، التي أسماها "بنت الصهيون"، فدفع حياته ثمناً لها.
كانت المرحلة الثالثة والأخيرة من النبوة في الفترة المتراوحة ما بين (0م – 632م)، حيث تبدأ بميلاد سيدنا عيسى، لتمتد حتى سيدنا محمد. وبينما تندرج القبيلة العبرية بعد هذه المرحلة في عهد الكُتّاب المعروفين بـ"الكتّاب الصفاريون"، تُحَقِّق المسيحية انفتاحات كبرى بين صفوف الشعب، عبر الحواريين أولاً، ومن ثم الكهنة القِسّيسين والأساقفة (المطارنة).
مهّدت ترجمة الآداب النبوية – وعلى رأسها الإنجيل – إلى اللغة الإغريقية واللاتينية لحصول تحولات جذرية في البنية العقلية للحضارة الغربية. حيث تُنتَزَع مزاعم الألوهية من أيدي الأباطرة الهيلينيين والرومانيين شبه الآلهة، عبر الصراع المخاض تجاههم. يعد قبول قسطنطين الأكبر الديانة المسيحية واعترافه بها في عام 312م، ومن ثم إعلانه إياها ديانة رسمية؛ الخطوة الأخيرة لمرحلة تاريخية مهمة. هذا ما مؤداه انتصار المعتقدات القائلة باستحالة أن يكون الإنسان إلهاً، والمبتدئة من أول الأنبياء؛ وإنْ كانت فقدت الكثير من مضمونها. بالأصل، يعلن الجناح البارز على شكل الديانة الإسلامية بقيادة سيدنا محمد، منذ البداية أنه – أي النبي – رسول الإله وظله على وجه الأرض. وبرفضه ثالوث "الأب – الابن – الروح القدس" الذي نادى به سيدنا عيسى، ينزل الوحي بحكمه في أن البشر لا يمكن أن يكونوا إلا عبيداً للإله، كآية قرآنية أساسية. إلا أن مفهوم عبد الإله، يشير مرة أخرى إلى التأثر بثقافة المَلك الإله. حيث يوضع "الله" مكان المَلك الإله. مع ذلك، فهو مثال ضارب للنظر من حيث إشادته بالمسافة الشاسعة المقطوعة في صراع الذهنية. كما ويبرهن على استمرار صراع البشر مع الملوك الآلهة على مر آلاف من السنين. بالإضافة إلى تنويهه إلى عدم سهولة الخلاص من العبودية الثقيلة الوطأة.
تنتهي هذه المرحلة كلياً مع سيدنا محمد، لدى تخطي عهد الملوك الآلهة مع حلول نهايات عهد الإمبراطورية الرومانية. حيث يَتَّخِذ معتقد النبوة الأولي من استحالة إعلان البشر ذاتهم كآلهة، أساساً له. إنه أشبه بمنهاج حزبي مؤلف من مادة واحدة فقط، بحيث يفقد معنى مواصلة وجوده لدى تأدية مستلزماتها؛ فلا يتبقى منه سوى الأثر، الحكاية، والظل.
الثمرة الأساسية للأديان التوحيدية الشرق أوسطية، هي الدولة الإقطاعية للعصور الوسطى. فعبودية "القن،" التي تعتبر أكثر مرونة من العبودية الكلاسيكية، هي بمعنى آخر، عبودية مطوَّرة أكثر. أي، الصعود درجة أخرى على سلم العبودية. تحصل التطورات في العبودية الخالية من الأقنان أيضاً. فقوة السلطان والسلطة القتالية، تُعتَبَر ظل الإله على الأرض. ويجب اعتبارها كامتداد لقوة المَلك الإله.
مع ذلك، يجب عدم الاستهانة بمنزلة كلتا الحركتين في تاريخ البشرية، من حيث مواقفهما الديمقراطية، وخصائصهما المشاعية، وتطلعاتهما إلى الحرية والعدالة.
أحرزت تقاليد المقاومة المستمرة على مر آلاف السنين، مكتسبات مهمة في الميادين الذهنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إزاء عبودية العصور الأولى والكلاسيكية. وما من شائبة في حقيقة هذه المكتسبات، رغم عدم فرز التاريخ المكتوب إياها. وقد تغذت الثقافة الإنسانية من هذين الجناحين المقاوِمين بنسبة كبرى، حيث أضحيا في مقدمة المواضيع المتداوَلة في كافة أنواع الفنون. حيث وصلت النُّصُب التذكارية في المعابد إلى يومنا الراهن بكل أبهتها وعظمتها. وإذا كانت ثمة أجزاء متبقية من الأخلاق المجتمعية، فذلك بباعث من هذه التقاليد بالتأكيد. فالملاحم الخالدة، القدِّيسون، وقصص الأنبياء التاريخية، إنما تصور المواقف الإنسانية العظيمة. وأصحاب هذه التقاليد هم الذين انزووا بذواتهم عشرات السنين، واهترأت أجسادهم في غياهب السجون، صُلِبوا وربُّوا أنفسهم بكِسرة خبز وحبة زيتون وعنب وتمر، شعروا بآلام الإنسان، وأولوا أسمى القيم للحكمة والعلم. هذه التقاليد هي التي أولَت قيمة مدرسية مكملة للحياة المشاعية بدل الفردية، ولنظام الدير، وادخار المعرفة والمعلومات، وتطوُّر الفن والحِرفة. وقنوات هذه التقاليد النبيلة هي أيضاً التي حثت الإنسانية على التفكير بالسلم والأمن، مقابل جناح السلطة القتالية التي لم تمنحها سوى فرصة القتل والاقتتال. وهي أيضاً التي صانت كرامة الإنسان واعتمدت التعاون والتكاتف أساساً، ونوَّهت إلى الأخوّة ونادت بها، وحققت الانفتاح نحو الكونية. إنها عجزت عن ولادة المجتمع الطبقي. بل ولم تنجُ أيضاً من الذوبان بالأرجح في بوتقة النظام الاجتماعي السائد. بل وحتى أصبح المنادون بها هرميين ودولتيين – أحياناً – بقدر الأسياد القدامى. إلا إنه، وإذا كانت ثمة بضعة متبقية من القيم الإنسانية حتى يومنا الحالي، فإن التفكير في نصيب هذه الحركات في ذلك، يكافئ إعطاء الحقيقة مستحقها. إذ من غير الممكن تعليل المواقف الديمقراطية، التطلعات إلى الحرية والمساواة، البحث عن بيئة طبيعية، حقوق الإنسان، والهويات الثقافية القائمة في راهننا؛ من دون التفكير في مساهمات كلا التيارين التقليديين العظيمين فيها. إذا ما نظرنا إلى الساحة العامة، والتي تعتبر أرضية لا غنى عنها من أجل الديمقراطية – بقدر الفردانية على الأقل – بأنها الميراث الأولي المتأتي من هاتين الحركتين العظيمتين؛ فسيُدرَك التأثير الإيجابي للتقاليد، بشكل أكثر واقعية وقدرة على الحل.
يساعدنا إطار السرد المطروح بصدد مخطط الموقف الديمقراطي والمشاعية على استيعابنا الأفضل لمجتمع الإمبراطورية الرومانية. وروما أيضاً، مثلما هي حال سابقاتها جميعاً، انهارت في نهاية المطاف، بعد عدة قرون من حركات الدفاع والهجوم للحركة الاجتماعية المشاعية القادمة من الداخل من جهة، وللجماعات المنفتحة للمجتمع الإثني والطبيعي، والآتية من الشمال من جهة أخرى. انهيار روما، وتحطم القسم الباقي منها في أواخر القرن الرابع الميلادي، يعني الانتصار الموحد للإثنية والمشاعية الدينية، والعلاقات القائمة بينهما؛ وإن بشكل ملتوٍ. إنه الانتصار العظيم للشعوب والنظام المشاعي، وإن بشكل مختلط. لا شك في أن الذهنية الدولتية والقوة لم تتحطما. فحتى لو تمزقتا كالكرة الثلجية، إلا إنهما لم تتورعا، ولو لحظة واحدة، عن تكوين ذاتيهما في العديد من المناطق، دون أن تذوبا. مرة أخرى نلاحظ أن السلطة القتالية لا تحتمل التمزق الطويل المدى. بل، وكما حلقات السلسلة، ستستمر في وجودها بإضافة أجزاء أخرى، وبإكثار حلقاتها. وستستمر بيزنطة في الشرق، وفرانك، وشارلمان، وإمبراطورية روما المقدسة في وجودها بأشكال جديدة مغايرة.
مَن دك دعائم روما بالأساس هم أنساب الجرمان ذوي الأصول الثقافية الآرية. فالخونيون القادمون من آسيا الوسطى، أحاطوا بهذه البنية مرة أخرى، وبقوا كذلك لعشرات السنين. لا يمكن التفكير في شل روما وماكينتها الحربية الكبرى، دون وضع قوة الإثنية في الحسبان. إن التعبير عن ذلك بمقولة "الانهيار الحزين للحضارة الرومانية تحت وطأة اعتداءات البرابرة"، لا يمكن أن يكون لغة الحقيقة، مثلما هو ليس لغة المجتمعيين الديمقراطيين. فإذا ما أخذنا نصب أعيننا سلسلة الأباطرة، سنستوعب بنحو أفضل مدى فظاعة قوة السلطة القتالية. ولن يصدنا أي اعتراض عن النظر إلى تحطيم البرابرة – الذين هم قوى شعبية تحررية – لتلك القوة، بأنه من أعظم خطوات الحرية.
ما يُبرهَن على صحته مرة أخرى في انهيار روما، هو أن مسار التاريخ يحدده – بالأساس – الصراع الكائن بين مَن يجعلون مِن الحرب والعنف مصدراً للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية من جانب، ومن يصرون ويقاومون ويصمدون في سبيل المواقف الديمقراطية والحياة الحرة المتساوية المشاعية من جانب آخر. وإذا لم نغض الطرف عن أن حالة الحرب الدائمة هذه هي المتوارية تحت النظام المسمى بـ"السلم والاستقرار"؛ فسنستوعب الحقيقة المجتمعية حينئذ على نحو أفضل.
يكمن وراء دخول أوروبا في العصور الوسطى خلال المدة الممتدة بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديَّين، تاريخٌ كذاك الذي حاولنا رسم مخططه سابقاً. من المهم الإدراك أنه لولا هذا التاريخ، دعك من أن تصنع أوروبا الحضارة، بل لعجزت حتى عن تعلم نقطة "الصفر". وبدون التفكير بهذا التاريخ، لا يمكن حتى تصوُّر شروعها بمحاولة المعرفة واكتساب الذهنية الجديدة، بكل ما لديها من قدرة، بعد سبات عميق قضته في مرحلة الحضانة الإقطاعية. فتوجُّه أوروبا اللاحق نحو العلم والتاريخ، بما تستحقه فعلاً، سيمدها بالقوة والطاقة اللازمتين، لتصنع مرحلة عظمى تليق بقدرها في الحضارة، عبر هاتين القوتين. أي عبر سلوك أسلوب العلم والتاريخ الصحيح.
مشاركة الديانة المسيحية في العصور الوسطى محدودة النطاق. حيث سعت بالأرجح لإعاقة الولادة الجديدة، عبر محاكمها التفتيشية. فبينما سعت للتخلص من الهراطقة (مذهب المنشقين) والساحرات الجنّيّات (بقايا المرأة الحرة) والكيميائيين (رواد العلم) – باعتبارهم أجنحة إيجابية متأتية من الماضي – بحرقهم في النار؛ تحطمت إرادتها – بالمقابل – عبر الميول المعتادة على الحياة الطبيعية المرتكزة إلى الذكريات الغضة للإثنية، وعبر البروتستانتية؛ لتتعزز بالتالي ذهنية وإرادة الحضارة الجديدة بسطوع أكبر. وبينما تم تخطي التزمُّت المتجذر في الدين منذ زمن غابر، عبر البروتستانتية، شُرِعَت الأبواب أمام التحول الوطني بالاستناد إلى ثقافة الإثنية.
ما من دليل يمكنه الإشارة أو الزعم بأن الهدف من هذه التطورات التاريخية العظمى، كان التطوير المخطط والمدروس للنظام الرأسمالي. بل ثمة دلائل أكثر في حوزتنا تشير إلى أن ما يجب أن يتطور أساساً هو الحضارة الديمقراطية.
لقد قام نظام العصور الوسطى الإقطاعي، في التاريخ الحضاري، بالحد من نطاق الماهية الدوغمائية لعبودية العصور الأولى القديمة، ومن ثم إطراء التغييرات عليها ومواصلتها. فالسلطنة التي هي ظل الإله، والتي حلت محل الملوك الآلهة؛ إنما هي تغيير في شكل الدوغمائية. أما مضمونها فهو مصون. عززت بنية السلطة القتالية من قوتها أكثر بتوسعها في عموم أوروبا ومناطق آسيا الشاسعة. وبدلاً من الإمبراطوريتين الرومانية والبرسية المرهقتين، شُيِّدَت الأنظمة العربية – الإسلامية، الجرمانية – المسيحية الكاثوليكية، السلافية – المسيحية الأرثوذكسية؛ والتي تميزت بكونها الدم الطازج. وقامت الأنظمة التركية – الإسلامية، والمغولية – الإسلامية بمواصلة المرحلة عينها بشكل متأخر. المهم هنا في هذه الأشكال الجديدة للإمبراطوريات، هو إضافة العناصر الثقافية الجديدة إلى بناها كدم طازج يجري فيها. ورغم أنها استمدت قوتها من محاكاتها للإمبراطوريتين الرومانية والبرسية وحذوِها حذوَهما، إلا أن البنية الذهنية الإيمانية الأقوى التي جلبها الإسلام والمسيحية، قد أمدّت بغناها الوفير قوة السلطة القتالية بالوقود والطاقة اللازمين، لتطيل من عمرها مدة طويلة. من جانب آخر، فالقوات الهرمية العربية والجرمانية والتركية والمغولية، المعتادة على حياة النزوح والهجرة الأكبر والأطول في التاريخ؛ كانت في حالة تخولها لجمع الجنود الأشاوس وذوي الإيمان الصارم، من مجموعات الأقوام التي ترتكز إليها، وبالقدر الذي تشاء. هذا وكانت حياة المدينة الأكثر راحة ورفاهية وغنى، تتميز بجاذبية تؤهلها للانتشار في المناطق التي تتكاثف فيها الأقوام الجديدة.
في الحقيقة، كانت القاعدة الأرضية للإثنية من جهة، والديانة الإسلامية وأديرة الفقراء المتطلعة إلى الخلاص في المسيحية، والشرائح الطرائقية من جهة أخرى؛ تتطلع وتهدف إلى عالم وحياة مختلفين. كانوا ناقمين ومشمئزين من قمع الدولة والهرمية واستغلالهما. لهذا الغرض كانوا انخرطوا في حركية عظمى. التفسير الأكثر صواباً بالنسبة لآمالهم وطموحاتهم هو، الديمقراطية الإنسانية المثالية العالمية، كتركيبة جديدة من كل من الدير والطرائقية والحياة المشاعية الطبيعية القديمة.
ثمة حيز واسع في كلتا الديانتين لسيدنا "مولانا" وغيره، والذي يعد الذهنية والفؤاد الكونيَّين لتلك المرحلة. فالموقف الذي يمكننا اختزاله في التعبير: " تعال، حتى لو كنتَ من اثنين وسبعين أُمّة. تعال، مهما يكن لك من ذنوب في الماضي"؛ إنما يتضمن ديمقراطية عالمية بأقصى حدودها. إنه يستذكرنا بديمقراطية العصور الوسطى وتيار الكونية فيها.
إن التقرب من تيارات الدير والتصوف الشائعة جداً في تلك المرحلة، ضمن هذا الإطار، يوسع الآفاق. فبينما تصبح الشريحة العليا للإثنية والدين قوة الدولة الإقطاعية؛ تعيش الشرائح السفلى الفقيرة كقوة للنظام المشاعي في الأديرة – تقابلها في الإسلام البؤر الطرائقية – وأديرة الدراويش المنتشرة في مساحات واسعة للغاية. إنه انقسام ذو معنى طبقي عميق. وهو، بمعنى من المعاني، يشيد بالتباين والصراع الحاصل بين قوة السلطة القتالية الخاصة بالعصور الوسطى (بالاشتراك مع الشرائح المتواطئة معها والمرتكزة إليها) من جهة، وبين الشعب الديمقراطي المشاعي من جهة أخرى. يعكس التناقض الباطني – السنّي في العالم الإسلامي، والكاثوليكي – الهرطقي في الديانة المسيحية، هذه الحقيقة بوضوح. ونشاهد حدوث تمايزات مشابهة في بنية الأقوام أيضاً. فالتناقضات السلجوقية – العثمانية – التركمانية، كذلك تناقضات العرب – الخوارج، وغيرها؛ تشير إلى الصراعات والتناقضات الطبقية الموجودة داخل القوم ذاته. وقد نجحت بعض حركات الفقراء في تحقيق تسيُّسها بمستوى متقدم. فالقرامطة، الحشاشيون، الفاطميون، والعلويون؛ هم تعابير عن ردات فعل الشرائح الشعبية الفقيرة إزاء التمايز الطبقي، وأمثلة عن الديمقراطية البدائية للعصور الوسطى. إلا أن مفهوم السلطنة المهيمن على النظام الاجتماعي، لن يفسح المجال لتأسيس كيان ديمقراطي أكثر تقدمية في هذه الحركات. حيث ستفقد فاعليتها ونشاطها، وتتم تصفيتها عبر حركات القمع الخارجية والتردي والانحطاط الداخلي. أما الكيانات التي يمكننا تسميتها بأنها ضرب من ثقافة الكنائس، والتي خلقت تأثيرات راسخة في أوروبا وآسيا الوسطى؛ فقد عرفت كيف تعيش على المدى الطويل. وقد لعبت الكنائس أدواراً مهمة في العلم وتقنيات الإنتاج أيضاً. لقد كانت القوة الذاتية للعلم والحياة. وتَمُتُّ ولادة المدارس والجامعات في العصور الوسطى بِصِلة كثيبة بأنشطة الكنائس والأديرة.
نجحت مجموعات السلطة القتالية في أن تكون قوة مهيمنة في النظام، حصيلة كفاحات ومنازعات مضنية. لعبت القوة الكلاسيكية لظاهرة الدولة، كذهنية ومؤسسة، دوراً معيِّناً في ذلك. فطرازها التنظيمي والإداري يتسم بالكفاءة التي تمكِّنها من عدم إفساح المجال لظهور كيانات بدائية وشبه ديمقراطية. الأهم من كل ذلك، هو خط مسار التاريخ في هذا الاتجاه بكفاحات ونزاعات مريرة متداخلة، أكثر من كونها مهيمنة وحاكمة.
ليست "السلطنة العليا، ظل الله" التي تم الإقناع بها عبر الدعايات المفرطة، سوى عنصراً جديداً مموَّهاً بألف مكياج، في الدولة المغطاة من أعلاها إلى أدناها بستار من الدسائس والمكائد والاستبداد والسلب والنهب. فقوة السلطة القتالية في الديانتين الإسلامية والمسيحية، والموروثة من الروم والبرسيين، والتي شبّهناها بالكرة الثلجية والكرة النارية؛ تقمصت الثياب الدينية في إقطاعية العصور الوسطى، لترسخ ذاتها، بحيث – وعلى عكس ما تزعم هي – خلَّفت الإمبراطوريتين الرومانية والبرسية وراءها كثيراً في الظلم والسلب والنهب الذي اتسمت به. مقابل ذلك، ورغم خيانة هرمياتها إياها، إلا أن حركات الإثنيات الفقيرة والكنائس والطرائق والمذاهب المنشقة، والمُبقى عليها في الأسفل والوراء؛ تمثل وتعنى بحقيقة الشعب والمجتمع ذي الروح الديمقراطية والمشاعية، أكثر مما يُظَن.
لأجل تفهم حاضرنا، علينا استيعاب حقيقة العصور الوسطى بقدر سابقاتها؛ ولكن ليس بالقلوب الصفيحية (التنكية) ولا بنظارات الأحصنة الموضوعة على عيوننا من قِبَل الحكام المهيمنين منذ آلاف السنين. بل يجب تفهمه والإصغاء إليه وفق هذه التعريفات. لهذا السلوك أهمية كبرى من أجل روح الحرية ووعيها. فمن لا يحيا التاريخ بشكل صحيح في روحه ووعيه، محال أن يطمح إلى الحرية والمساواة، أو أن يكون ديمقراطياً.
إن حضارة العصور الوسطى في أوروبا، والتي فلحت في أخذ كل ما هو لازم لها من الميراث الإيجابي للمجتمعات الشرقية – دور حركة الأديرة هنا معيِّن ومصيري – اعتباراً من القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد؛ مرغمة على إعداد النهضة بخطى سريعة، وبخلاقية طراوتها. إذ من المهم إدراك دوافع عدم استمرار الإقطاعية مدة طويلة بشكلها الكلاسيكي، عن كثب أكبر. فبقاء المجتمع الطبقي بعبودية العصور القديمة أطول مدة على الإطلاق – من 4000ق.م حتى 500م – قد كشف الستار عن طاقته الكامنة بنسبة ملحوظة لا يستهان بها، وأظهر ما بمقدوره إظهاره. إذا كان التمايز الطبقي الإقطاعي ساهم بحدود في هذه المرحلة، فلضُعف طاقته الكامنة دوره العلني في ذلك. حيث إنه ليس في وضع يخوله للمشاركة كثيراً في النظام الاجتماعي. بالأصل، كانت مآرب الحركتين الإثنية والدينية على السواء، تتطلب تخطي هذا النظام جذرياً. فمحاكاة الهرميات للإمبراطورية وتقليدها إياها، لم يكن الهدف الأساسي. ذلك أنها كانت استثمرت الثورة الاجتماعية للدين، والثورة القوموية للإثنية في الوصول إلى السلطة القتالية الجديدة. فعلى راية المقاومة والصمود للجماهير الفقيرة، كان كُتِب "المساواة، الأخوّة، السلام" قبل اندلاع الثورة الفرنسية بكثير. وقد حصل ذلك في ظل السلطنة الإلهية المعمِّرة ألف عام، وخُلِّدَت طوباوياتها عبر "يوم الحشر والجنة". وكانت الهرمية الخبيرة في تقاليدها الطويلة العمر في المكائد والاستبداد في ظل سلطنة النهب، قرأت ما حفظته، وطبقته بالخداع والزيف، وبالقمع والكبت.
لعبت القوة التنويرية الحقة للكنائس – بقيت هذه القوة تحت تأثير السلطنة بنسبة زائدة في الديانة الإسلامية – من جهة، وروح المجتمع الطبيعي الطريّة للإثنية – وخاصة لدى الجرمانيين – من جهة ثانية؛ دوراً بارزاً في استمرار تلك المرحلة مدة طويلة في أوروبا الغربية. فهاتان القوتان، كانتا تواظبان على الاستمرار في حرية الوعي والإرادة، مثلما هما في كافة فترات التاريخ. كانتا ترفعان راية العلم والحرية بكل شغف وعنفوان، لترفرف فوق أراضي أوروبا الغربية الخصيبة المعطاءة. فلا أمراء وملوك العصور الوسطى المستنسَخون من الإمبراطورية الرومانية، ولا محاكم التفتيش الكنائسية التي كانت تمثل أرواحهم؛ كانوا قادرين على قطع الطريق عليهما. وبما أنهما تكونتا من أناس ذوي أفكار عظيمة وأرواح حرة، فإبداء الاحترام والحساسية إزاء مرحلة التكوين هذه، يحظى بأهمية بالغة من حيث تعلم حقيقة الحضارة الغربية الحالية. فالقيم المخلوقة لها معانٍ سامية، بمثل ما هي عليه قيم الثورة النيوليتية القروية الزراعية والثورة المدينية الحضارية، بأقل تقدير. إنها تعني استمرار وجود وعينا وروحنا الحرة الخلاقة، التي تتجه صوب الخمود في الشرق. فالوعي والحرية المتعاظمة على يد الإنسان الأوروبي، ما هما إلا حكمة وروح المجتمع الطبيعي، اللتين تحلينا بهما لآلاف من السنين، وكنا روادهما. إنها ليست غريبة عنا، بل هي حقيقتنا.
في الحقيقة، إن أب وأم الحركة النهضوية – الميلاد الجديد – المبتدئة في القرن الخامس عشر، هما النسل الأخير للسلالة الشرقية المعمِّرة آلافاً من السنين. أما الظن بأنها وُلِدَت من آدم وحواء أوروبا، فهو مغالطة كبرى. لربما كانت الطفل الشرقي المنفي أيضاً. جلي أن النهضة هي امتداد متسارع طردياً لأحداث القرنين الثالث عشر والرابع عشر. والأرضية التي ترعرعت عليها، ليست سرايا الملوك والأسقفيات المستنسَخات من روما؛ بل أديرة المناطق الجبلية وجامعات المدن المتنامية حديثاً. لا القوة السياسية – العسكرية، ولا القوة الاقتصادية التجارية – الإقطاعية، مصيريتان في هذه الانطلاقة. فأديرة الأرياف والأقفار، وجامعات المدن المقتاتة على كدحها هي؛ تمثل مراكز النشاطات المستقلة التي غذّاها الشعب، وعقد آماله عليها، وآزرها لتعلو فيها راية الحرية والوعي. سأنوِّه بأهمية بالغة إلى أن الطريق المفضية إلى النهضة تمر أساساً من المدارس المشاعية للشعوب، لا من سرايا الملوك والكنائس الفخمة. إنها ليست الطريق التي رسمتها الطبقة الإقطاعية، ولا الطبقة البورجوازية التي لم تكن موجودة آنذاك.
إذا ما كان لازماً تحديد زمانها ومكانها، من حيث تدفق نهر الحضارة؛ فسيكون الانطلاق من المنبع السومري – مرة أخرى – معلِّماً ومفيداً. ينتشر الكيان المتواجد في أطراف مدينتي أوروك وأور في الفترة ما بين 3500 – 2500ق.م صوب شمالي نهرَي دجلة والفرات، على موجات متتالية، مروراً بمراكز نيبور، بابل، ونينوى. والمراحل المتشكلة في أطراف هذه المراكز، هي: (2500 – 2000ق.م) في نيبور، (2000 – 1300ق.م) في بابل – وهي المرحلة القديمة والوسطى – و(1300 – 600ق.م) في آشور، و(600 – 300ق.م) هي مرحلة بابل الأخيرة. وبرزت حضارات الحثيين الأناضوليين في (1700 – 1200ق.م)، وفي ميديا (900 – 550ق.م)، وفي برسيا (550 – 300ق.م)؛ والتي تأثرت – عدا ميزوبوتاميا – مباشرة بالسومريين.
يمكننا تناول الحضارتين الإغريقية والرومانية الكلاسيكيتين ارتباطاً بالثورة الذهنية الثانية الكبرى. إنها حضارات المرحلة العبودية المتوجهة من الفكر الميثولوجي صوب الفكر الفلسفي. وقد بدأت بالتطور بعد اقتحام طروادة، الممثلة العظمى والأخيرة للشرق في الغرب. أما الخلاّصيون (Hellas) والأتروسكيون، فمختلفون. حيث عجزوا عن إحداث تطور خاص بهم، بسبب عدم قدرتهم على تجاوز وضعية النزوحات التقليدية في الانتشار. في حين أن الحضارتين الإغريقية والإيطالية الناشئتين في أعوام 1000ق.م، تمكّنتا من الانتقال إلى حضارة لها خاصيتها، مع تطور الفكر الفلسفي في أعوام 500ق.م. في الحقيقة لقد اكتسبتا خاصياتهما من تغذيهما مدة طويلة على الآثار الحضارية السومرية والمصرية، ومن اتحادهما مع الهجرات القادمة من الشمال، بالإضافة إلى تأثير الخصائص الجغرافية أيضاً.
إن التطورات الحاصلة لدى الإغريق وشبه الجزيرة الإيطالية، هي امتداد للحضارة الحثية في بلاد الأناضول. وإذا ما أضفنا إليها المساهمات الكثيفة للفينيقيين في مصر وشرقي البحر الأبيض المتوسط، سندرك عندئذ ركائز التطور الخاص بها على نحو أفضل. يتوقف توسع الحلقة الإغريقية – الرومانية الحاصل فيما بين 1000ق.م و500م، عند تخوم أوروبا وشواطئ المحيط الأطلسي. فالظروف الزمانية والجغرافية المختلفة تكوِّن شروط ظهور الشكل الثالث الكبير منها. ولدى ارتطام نهرنا الحضاري بصخور أوروبا الغربية، يبلغ مرحلة أخرى من العطاء الأوفر. إنها الثورة الحضارية الثالثة الكبرى، المبتدئة في أعوام 1500م. وإذا ما ربطنا النهضة بسلسلة الحضارة العالمية، فسيكون التدفق في هذا المنحى واقعياً.
التعريف الأصح للنهضة هو الثورة الذهنية. فالثورة جذرية في عدة ميادين. أولها هي الولادة الجديدة للفرد الذي يكاد يُهمّش باسم الألوهية على يد الفكر الديني. لقد وصلت النظرية اللاهوتية المسيحية ذروة المرحلة السِكولاستية* في أعوام 1250م، مع ظهور تركيبة أرسطو الجديدة. ويمكن نعتها أيضاً بالحالة الأرقى للميتافيزيقيا. وكأن الإنسان قد نُسي، ومُحي من الحياة، بحيث لن يكون بمقدوره حتى أن يكون عبد الإله. ووصل الأمر حداً مفرطاً من الشكل المجتمعي المستند إلى الدين. من الصعب على الإنسان تحمل هذا الشكل غير المتناغم إطلاقاً مع الحياة المرئية العملية، لمدة طويلة. فالمحاولات الهرطقية (المذهبية المنشقة) والساحرات الجنّيّات (نساء المجتمع الطبيعي اللواتي لم يعتنقن المسيحية) والكيميائيون (تكوين الذهب من العناصر الطبيعية، البحوثات العلمية)؛ إنما تمثل المقاومة الذهنية الخاصة تجاه دوغمائية المسيحية.
ما أرادت محاكم التفتيش إعاقته هو التطورات التي قد تمهد لظهور الفرد الحر. فالمثال الأكثر لفتاً للنظر لمن انقطع عن دوغمائية المسيحية وحقق وثبة نحو فكر الطبيعة الحرة، هو "جيوردانو برونو". فـ"برونو" الشغوف كلياً بالطبيعة، لا يميز بينها وبين الإله. وكأنه ثمِل بمفهوم "الطبيعة – الكون" الحيوي. لقد كان معجباً ومذهولاً بآليتها، لدرجة أن هذا الرائد الحماسي النهضوي أُعدِم حياً بالنار تأكله ألسنتها، في عام 1600م في روما، وبشكل يليق حقاً بذكرى "سبارتاكوس" و"سانت بولس Saint Paul"**.
النتيجة الأخرى الهامة والمتمخضة من التوجه نحو الطبيعة بوجهة النظر المنقطعة عن الدوغمائية، هي تطور الأسلوب العلمي. لقد عرف الأسلوب التصوري الميتافيزيقي، الذي فصل ذهنية الإنسان عن الواقع الطبيعي، كيف يتجه صوب الطبيعة مجدداً بتغيير الأسلوب. فـ"روغر Roger" و"فرانسيس بايكون Francis Bocon"*** و"غاليليو غاليلي Galileo Galilei"، الذين يعدون كأنبياء الأسلوب العلمي؛ فرضوا المراقبة والتجربة والقياس على الطبيعة، ليُشرِعوا الأبواب على مصاريعها أمام درب العلم.
تطوُّر الذهنية العلمية تصاعدياً منوط عن كثب بهذا الأسلوب المتبع. فبينما التوجه الفلسفي يعني التقرب بأمل من الطبيعة، فهذا الأمل من أجل الأسلوب أيضاً يعني تحوله إلى حقيقة واقعة. إذ، وبينما تنوِّر الرؤى المستقبلية والفرضيات الفلسفية الساحاتِ العلمية وظواهرَها؛ تحقق المراقبة والتجريب والقياس البرهان العلمي فيها. وبدون وجود التجربة والقياس، لا يمكن الإفادة من الطبيعة بالفرضيات الفلسفية. لا يمكن إدراك ما سيتمخض من كل ظاهرة متداوَلة، دون اللجوء إلى التجريب والقياس. وإن كانت الخطوات المخطوة في هذا الاتجاه في العالم الإسلامي قد أسفرت عن بعض النتائج؛ إلا أنها بقيت محدودة في مساهماتها في المعلومات العلمية، بسبب عدم ارتكازها إلى أسلوب منتظم. لم تدخل المعلومة العلمية – الدعامة الأساسية للحضارة الغربية – مرحلة التطور السريع، إلا بعد تحليل وحل مشكلة الأسلوب الرئيسية. فحل مشكلة الأسلوب مهّد السبيل للثورة العلمية. هذا ولعبت البحوثات في الأساليب العلمية المتحققة مع النهضة، دوراً ملحوظاً في تطور المدارس الفلسفية الحديثة. كما فتح تقارُب الفلسفة والعلم وارتباطهما ببعضهما البعض، المجالَ أمام مرحلة من التطور العلمي الأكثر عطاء، وأدى إلى ظهور البنى الفلسفية المتطورة ارتباطاً بالعلم.
هذا الفكر والموقف المنقطعان كلياً عن الإله، واللذان يمكننا نعتهما بدعامة النهضة؛ يمثلان تغييراً عظيماً في البراديغما. من الجوهري عدم النظر بعين اعتيادية للثورة الذهنية المتحققة. إنها من أصعب ضروب الثورات الحاصلة. فالتخلص من الدوغمائية الدينية، وإيلاء المعنى للحياة بقوة العاطفة والفكر، هما من أهم مكاسب الحضارة الغربية. والطبيعة النابضة بالحياة والحركة، المزهوة بالألوان، الباعثة على النشوة والحماس بكل ما فيها، والمحمَّلة في ثناياها بالطاقات الكامنة العظمى؛ إنما تَعِدُنا بآمال عظيمة. إن عودة الإنسان إلى الطبيعة بعد مرور آلاف من السنين، وبتراكم وعي هام؛ هي مصدر كافة التطورات الأخرى.
التغيير العظيم الثاني هو الإصلاح الحاصل في الدين. إذ كان لا مفر من ردة الفعل تجاه الدوغمائية المسيحية المناقضة بمغالاة وإفراط لمفهوم المجتمع الطبيعي. تُشكِّل تقاليد المجتمع الطبيعي لدى الجرمانيين، وتَعَرُّفهم الحديث العهد على الدين؛ شروط انبثاق الإصلاح من هذه الثقافة. والبروتستانتية في حقيقتها هي التفسير المسيحي للشعب الجرماني. وهي تمثل التنقيح والإصلاح الأكثر مرونة للدوغمائية، والذي لا يعيق العمل والنشاط، والمنفتح أمام العلم. إنها ضرب من ردة الفعل إزاء السلطنة الدينية. وهي الضربة النازلة على التزمُّت الصارم للدين المسيَّس بإفراط، والذي يشكل عائقاً أمام التطورات العملية، ولا يعترف بخاصية وحرية الشعوب. كما أنها انعكاس للثورة الذهنية بمعناها اللاهوتي.
وبتحطم القوالب الدوغمائية، ولج الفكر الفلسفي مرحلة من التطور السريع. فكيفما فُتِحَت درب المرحلة الفلسفية التاريخية في بلاد الأناضول الغربية مع تجاوز الفكر الميثولوجي في أعوام 600ق.م، فقد بُلِغ عصر فلسفة أرقى مع تجاوز الدوغمائية الدينية في منطقة أوروبا الغربية. وكأن الفلسفة، التي هي الساحة الأرقى للثورة الذهنية، قد وجدت أنبياءها ممثَّلين في شخص "سبينوزا Baruch Spinoza"* وديكارت.
التطور الثالث المتولد مع النهضة هو شكل الحياة المتمركزة حول الإنسان. فالمفهوم القائل بأن الإنسان يجب أن يكون مُلك الإله بكل ما فيه، هو صياغة مختلفة للذهنية العبودية. إنه صياغة فكر ميثولوجي تسرب من ثقافة المَلك الإله إلى الأديان التوحيدية، وكأنه محى الفرد من الحياة. وهو من بقايا كون العبد – بكل ما فيه – أداة بيد سيده. إن إفناء الفرد لهذه الدرجة في هوية السيد والإله، يعني أيضاً عدم وجود حياة يمتلكها. إذ، ليس الإله مُلكاً له، بل هو مُلك للإله. إذا ما ترجمنا ذلك، فهو يفيد بالتبعية المفرطة لهرمية البشرية الدينية المتدوِّلة. تتواجد عبودية الدين المستترة بهذا النحو في كل الأديان لصالح الطبقة المهيمنة. إن إنعاش النهضة تقديرَ الإنسان واحترامَه، مناسب أيضاً لتعريفها بأنها الطراز الوجودي الذي يضفي فيه المجتمع معاني أكثر على حياة الفرد. فأينما يُفنِد الوجودُ المجتمعي الجانبَ الفردي، تكون ثمة عبودية وطيدة.
ما تَحَقَّق في اشتراكية السوفييتات، هو عينه – مضموناً – ما تَحَقَّق في اشتراكية دولة الرهبان السومريين. فعندما يُصهَر الفرد ويُذاب، أياً كانت الذرائع، وباسم أيٍّ كان؛ فإن ذلك يسمى بالعبودية. كانت هذه المصطلحات الأساسية في الأديان الطوطمية والمتعددة الآلهة في الكلانات والعصور القديمة، والتي هي ضرب من أشكال انعكاس المجتمع؛ تمنح الفرد القوة والقدرة. يمثل المفهوم الديني للعصور الوسطى ضلالاً حقيقياً عن المجتمعية الأصلية، من حيث محوه الفرد وتهميشه إياه.
بجذب الفلسفة الإنسانية المثالية والفردانية والإصلاح للإنسان إلى مركز الحياة؛ أبدت موقفاً جدياً تجاه الانحراف البارز على شكل الوجود الاجتماعي. تعد النهضة، بجانبها هذا، من أهم المراحل الذهنية في التاريخ، وأهم الخطوات اللازمة من أجل خلاقية الإنسان وطبيعته. إنها تعني الولوج في درب أو أرضية يمكن للمجتمع الأيكولوجي الارتكاز إليها. إلا أن تطوير ذهنية الرأسمالية لنفوذها فيما بعد، ومرورها من الفردانية إلى الفردية، آل إلى استيلائها على كافة المكتسبات، وفتحها الأبواب على مصاريعها أمام أكبر تضليل أيكولوجي في التاريخ. أي أن مصدر الكوارث الأيكولوجية ليس ذهنية النهضة، بل تحريفها بالرأسمالية، وإفراغها من محتواها، وفصلها عن حالة الوجود الاجتماعي بشكل معاكس لها. وبالتضليل الذي قامت به الدوغمائية الميثولوجية والدينية في واقع الوجود الاجتماعي على شكل "مجتمع الإله"؛ عملت الرأسمالية على محو المجتمعية لصالح الفردية، وتطبيقها بشكل معاكس. وبقولنا بأن إحدى أهم المشاكل القائمة في يومنا الراهن هي الضلال الأيكولوجي، سندنو من الموضوع ونغوص فيه أكثر.
كشفت مرحلةُ النهضة – صاحبة الميراث المتراكم طيلة ثلاثة قرون تقريباً (1400 – 1700م) – النقابَ أساساً عن نوع التفكير في الحضارة الغربية. فإعادة إدراجها ذهنية الإنسان المبتورة من الطبيعة والمجتمع، في درب فلسفية وعلمية أكثر عمقاً، فتحت المجال أمام الدرب اللازم سلوكها حتى النهاية من أجل الحضارة الجديدة. ثمة مشكلة أسلوب منوطة بهذا التطور، ويجب تداولها معه.
نخص بالذكر هنا الخطأ الأكبر المرتكَب في التفسير المادي المغالى فيه بشأن مفهوم التاريخ في الماركسية؛ والذي يشرح الصياغات المجتمعية على نحو خط مستقيم. فالمفهوم الذي ينظر إلى تطور الرأسمالية وتمأسسها كنظام، وكأنه ضرورة لا بد منها؛ لربما قدم أكبر الخدمات للرأسمالية، بما يعجز عنه أي أيديولوجي رأسمالي. بل وفعل ذلك باسم مناهضة الرأسمالية. قد يبدو في الأمر تناقض. ولكن، إذا ما نظرنا إلى الوراء، لأدركنا على نحو أفضل أن أي أيديولوجي رأسمالي لم يخدم نظامه، بقدر ما فعل الماديون الفظون ذوو الأصول الماركسية.
إلى جانب اعتبار النهضة إحدى أهم الثورات الذهنية، فالمشكلة الأهم هنا تتمثل في تحديد ماهية النظام الاجتماعي الذي ترتبط به النهضة؟ فمفاهيم التاريخ الكلاسيكي تَعتَبِر نظام المجتمع الرأسمالي تجهيزاً للذهنية. في حين ينظر المفهوم الماركسي في التاريخ إلى ولادة ذاك النظام وكأنها أمر إلهي. وكل هذه الآراء هي ثمرة الحياة التابعة للرأسمالية بالذات.
ثمة تراكم لرأس المال في كل فترة من فترات التاريخ، قليلاً كان أم كثيراً. حيث نشاهد تراكم الثروة ورأس المال بكثافة منذ عهد السومريين، وخاصة مع تطور التجارة. نَمّ ذلك عن بروز الأغنياء الاقتصاديين. واليهود مشهورون في هذا الخصوص تاريخياً. إلا إنهم، مع ذلك، لم يقدروا أن يصبحوا نظاماً مهيمناً. كل من جماعة الدولة العليا والجماعات المشاعية السفلى، رأت في التراكم خطراً، ونظرت إليه بعين الريبة والشك. بل ووضعت نصب عينيها على الدوام احتمال احتضانه السيئات الكبرى في أحشائه. والعامل المؤثر والهام هنا، هو القلق من تمزق نسيج الأخلاق الاجتماعية. فحتى السلطة القتالية، لا تجرؤ على تمزيق أخلاق المجتمع وتشتيتها، مهما استمرت في بسط نفوذها عليه. فوجودها بحماية الظاهرة الاجتماعية المرتكزة إليها كتمأسس للهرمية؛ هو شرط أولي. وحتى لو أبادتها جسدياً، فهي تقوم بذلك ضمن أصوله. فتجريد مجتمع ما من تقاليده الأخلاقية الأولية، يعني تعريته وتجريده من وسائل الدفاع، وجعله منفتحاً أمام كل أنواع المهالك. وبلوغ رأس المال الرأسمالي إلى مستوى النظام، منوط عن كثب بحله الأخلاق، وبالتالي المجتمع. الأمر هكذا، ولا علاقة له بإرادتها. فبدون حل المجتمعية، لن ينبثق أي نظام من الرأسمالي. وحتى إذا اتجه صوب تشكيل النظام، فإنه يكون مدمِّراً فظيعاً حينها.
يتطرق كل من ماركس وأنجلز إلى هذه المرحلة بأسلوب ملفت للنظر في البيان الشيوعي. إنهما مذهولان نوعاً ما إزاءه. ورغم إناطتهما الرأسماليةَ بالدور الثوري، إلا أنهما ينوّهان – وبكل إصرار – إلى تدميراتها وإجحافها، وإلى ضرورة تخطيها بأقصى سرعة. فالرأسمالية ليست أي نظام اجتماعي آخر. إنها ضرب من النظام السرطاني للمجتمع. إن التمحيص في الحضارة كمجتمع طبقي على وجه العموم، وفي الحضارة الرأسمالية كمرض اجتماعي على وجه التخصيص، والتقرب منها بموجب ذلك؛ يتحلى بأهمية بالغة. فالسرطان ليس مرضاً وراثياً. بل هو مرض يبرز مع إرهاق الجسد وخور قواه، وفقدانه مناعته. وما يُعاش في الظاهرة المجتمعية شبيه بهذا. يصاب المجتمع المرهَق في الأنظمة الحضارية بمرض السرطان في كافة أنسجته – أي مؤسساته – لدى تسرب رأس المال إليها. ويصبح عرضة للمؤثرات المميتة، إما بنسبة قليلة أو كثيرة، حسب نوع السرطان. وحل مسألة الحروب المندلعة في القرن العشرين لوحده، سيلقي الضوء على هذه الحقيقة، بكثير من جوانبها. علينا رؤية كل من الرقابة المفرطة، الربح، الربح الأعظمي، فرض البطالة، المجاعة، الفقر والعَوَز، العرقية، القوموية، الفاشية، التوتاليتارية، فن الديماغوجية، الدمار الأيكولوجي، التمويل المفرط، الشخصيات الأغنى من الدولة ذاتها، القنبلة الذرّية، الأسلحة البيولوجية والكيميائية، والفردية المفرطة؛ بأنها ضروب من سرطان النظام الرأسمالي.
لقد قمنا بسرد هذا التعريف الموجز للرأسمالية، في سبيل إدراك أواصرها مع النهضة بنحو صحيح. يتجسد مضمون تعريف النهضة – بشكله المجمَع عليه – في الاعتماد أساساً على استيعاب الطبيعة والمجتمع والفرد بدرجة الشغف، وبشكل بعيد عن كل أنواع الدوغمائيات. إنها العودة إلى قدسية الطبيعة والفرد. والحُكم المشترك هنا هو أن هذا الفرد ليس فرداً رأسمالياً، بل إنه معبأ بوعي الطبيعة والفن والفلسفة، يهرب من الحرب ويفندها، ويتطلع إلى بناء مجتمع طبيعي حر وعادل متساوٍ.
اليوتوبيات النهضوية مشاعية، لا رأسمالية. إذ ما من بحث مقنع يشير إلى أن النظام الاجتماعي الجديد البارز هو الرأسمالية. فالحياة الدارجة في الأديرة هي المشاعية. والروح السائدة في المدن الحديثة العهد، أقرب إلى الديمقراطية. كذلك، فرجالات العلم المعنيون بالفلسفة والآداب، والمنهمكون بالفن؛ كلهم أناس كادحون يقتطعون لقمة عيشهم بصعوبة ومشقة. أما المنشغلون بتراكم رأس المال، فهم محدودون، ويستحقون إلحاقهم بالقضاء، بسبب مُراباتهم (عيشهم على الربا) خصيصاً؛ باعتبارهم فئة قد جمعت النقمة الاجتماعية عليها. تُشكِّل الأرستقراطية الإقطاعية، بالاشتراك مع الطبقات الشعبية كقومية ناشئة حديثاً، نظاماً مختلطاً حتى فترة قيام الثورة الصناعية.
هذه المعالجة المقتضبة كافية للإشارة إلى استحالة الحديث عن نظام المجتمع الرأسمالي حتى القرن التاسع عشر. إذن، والحال هذه، فالنظر إلى النهضة كفترة تمهيدية للرأسمالية، أو كمرحلة ذهنية لها؛ يعتبر خطأ فادحاً. والصحيح هو أنها مساحة بينية للفوضى، منفتحة لكل احتمالات التطور. إنها مرحلة بينية تَشَتَّتَ فيها نظام المجتمع الإقطاعي وانهار. لكن المجتمع الجديد لم ينشأ فيها بعد، بل تشهد مخاضات ولادته. ومثلما قد تستعيد الإقطاعية قوتها وتخرج منها، فقد ينشأ عنها أيضاً نظام رأسمالي فردي. وقد تشهد تطوراً صوب نشوء مجتمع ديمقراطي متساوٍ وحر يتمتع بشروط البنية التحتية الوطيدة. تماماً مثلما هي إمكانية ولادة العديد من النظم – على الصعيد النظري – المنوطة بالكفاءات والقدرات الواعية والسياسية للمحاربين في سبيل النظام. بيد أن الموالين للمجتمع الأكثر مساواة وحرية كانوا يخوضون صراعاً محتدماً مع المجتمع الرأسمالي، حتى نهايات الثورة الفرنسية. في حين أن الثورة الإنكليزية المندلعة في 1640 تتسم بخاصية ديمقراطية ساحقة، بحيث يمكن مصادفة المفاهيم الشخصية والجماعية الوطيدة والمتنوعة، بصدد المساواة والحرية. إنها ثورة شعبية أكثر منها بورجوازية. ومشاعيو مدن إسبانيا في القرن السادس عشر، ذوو طابع ديمقراطي. وماهية الثورة الأمريكية أيضاً تحررية وديمقراطية بكل سطوع. كما وثمة العديد من الألوان والطوابع في الثورة الفرنسية 1789، بما فيها الشيوعيون.
باختصار، فميول المجتمع الحر المتساوي والديمقراطي محظوظة في الخروج من الفوضى الاجتماعية السائدة في مرحلة النهضة تساوي الميول الرأسمالية الفردية، بأقل تقدير. فالرأسمالية لم تحقق تفوقها إلا في الحرب الاجتماعية الناشبة مع قيام الثورة الصناعية. والقرن التاسع عشر هو المرحلة التي تصاعد فيها نفوذ الرأسمالية في كل الميادين، مع نشوب الثورة الصناعية. حيث نشاهد، ولأول مرة، أن نظامها أكمل توسعه بخطوطه العامة على الصعيد العالمي، مع حلول نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. في حين أن صراع المجتمع المتساوي الحر والديمقراطي، يفقد فرصته في التحول إلى نظام اجتماعي حاكم، منذ هزيمة الثورات فيما بين 1848 و1871.
لإكمال تعريف المرحلة، من المهم دراسة موضوع الأمة والدولة القومية، بشكل متداخل مع النظام الاجتماعي الناشئ حديثاً.
من الضروري الإدراك بأن تشكُّل المجتمعات كظواهر قومية، ليس ثمرة مباشرة للرأسمالية. فالزعم، في هذا الموضوع أيضاً، بأن الرأسمالية تخلق الأمة، خطأ حقيقي. وللماركسية أيضاً نصيبها في هذا الخطأ. فالمرحلة البارزة في المجتمعات على شكل كلان، قبيلة، عشيرة، قومية، وأمة؛ لها جدليتها الخاصة بها. وهي لا تتولد كثمرة للمجتمع الطبقي. إذ يمكن تكوُّن الأمة دون وجود الرأسمالية. فاللغة والثقافة والتاريخ والقوة السياسية تلعب دوراً مصيرياً أكبر في تشكل الأمة. وبإمكان الأمم المستاوية الحرة والديمقراطية أن تتطور بسلامة أفضل في البنى الاجتماعية. نلاحظ أن الأمم تشكلت في أوروبا الغربية منذ القرن الثاني عشر.
لم يتبين أيٌ من تلك الأنظمة الموجودة ستسود بين الأمم، إلا في أواخر القرن الثامن عشر، مع انتصار البورجوازية. وانتصار الرأسمالية بين الأمم يتماشى وإحلالها القوموية محل الدين، كأيديولوجية حاكمة. فتطوير السوق داخلياً، والانفتاح نحو الخارج، منوطان عن كثب بوجود قوموية راسخة. وخاصية القوموية الوطيدة هذه تفضي إلى الدولة القومية. تتطور الدولة القومية بعد تجاوز الستار الأيديولوجي الديني، عبر العلمانية. إن القول بدولة الأمم، أمر خاطئ في مضمونه كلياً. فقد يعكس الحديث عن قومية المجتمع وتكامله القومي نسبة من الحقيقة القائمة، أما قومية الدولة فهي حُكم أيديولوجي، وليست واقعاً اجتماعياً قائماً. لا وجود لأصحاب دولة اجتماعية بالكامل. فالدولة دائماً في إمرة وخدمة أقلية قومية. وما تفعله الدولة هو تحويل الظاهرة القومية إلى ظاهرة أيديولوجية، لتأمين أسس مشروعيتها؛ تماماً كما هي الحال في الظاهرة الدينية. فكل قومويات القرنين التاسع عشر والعشرين مرتبطة بالطموح إلى تأمين المشروعية الاجتماعية. والقوموية تلعب دوراً بارزاً في مواراة التناقضات الطبقية في الداخل، والتحفيز على الاعتداءات صوب الخارج. من المهم فهم القوموية كسلاح أيديولوجي للدولة الرأسمالية، من حيث الاستيعاب الصحيح لمراحل توسعها وانتشارها.
تُزيد القوموية من تعزيز المركزية داخل الدولة، في الوقت ذاته. وتنزلق قوموية الدولة نحو البنى المركزية الأحادية، إزاء البنى الإقطاعية الأكثر ديمقراطية. من هنا يتم العبور نحو مفهوم الدولة الفاشية والتوتاليتارية. يتماشى تحول المرض الاجتماعي إلى حالة الهيستريا جنباً إلى جنب مع توجه النظام الرأسمالي نحو شكل الدولة الفاشية والتوتاليتارية. والمحصلة تكون انتحار الرأسمالية. من هذا المنطلق، يمكن التفكير في الحربين العالميتين الأولى والثانية بأنهما عمليتان انتحاريتان للنظام المتولد من الاستخدام المفرط لعيار (دوزاج) القوموية. إنها مرحلة ولوج الرأسمالية – التي تُعتَبَر أزمة الحضارة – أشمل وأعمق مراحل الأزمة والفوضى.
إذا ما نُظِر إلى نظام المجتمع الرأسمالي بإرشادات نظرية أكثر شمولية وتكاملاً، سيُرى أنه مُجَمَّع العناصر الأكثر استغلالاً، والمتسربة داخل صفوف مجتمع الإنسان. يمكن تناول الاستغلالية كالانتهازية (النفعية) التي تحوِّل كل شيء لمنفعتها على الفور. إنها تطوير للنفعية على الصعيد الفني. وهدفها أولاً هو القيم المادية. لكنها تتوجه نحو القيم الفكرية والعقائدية والفنية، والتي يمكننا تسميتها بالقيم المعنوية؛ بالتكافؤ مع نسبة خدمتها للتطور المادي. فلسفتها الأساسية هي انتظار الربح المنفعي من كل ما هو موجود باسم الظاهرة الاجتماعية. إنها لا تميز في الاستغلال بين القيم الطبيعية المشاعية، وقيم الدولة الهرمية. المهم هنا أن تكون معطاءة ومثمرة. وتشبيهها بالدود المعشش داخل البنية، أو بجرثوم السرطان، مرتبط بنوعيتها هذه. وهي تذكرنا أيضاً بالتشبيه القائل: دود الشجرة من الشجرة.
لنبيِّنْ مرة أخرى اعتماداً على تلك التشبيهات، أن الظواهر المعنية يمكنها مواصلة وجودها تحت المراقبة والعناية، ما لم يتغلغل الدود داخل كل السرب، أو يحيط الجرثوم بكامل البنية، أو ينخر الدود الشجرة حتى يقلبها. تُعتَبَر الرأسمالية في أخطر مراحلها لدى تحولها إلى نظام مهيمن، وانزلاقها معه نحو أشكال مفرطة. هذا أمر وارد في طبيعتها. هذه هي الظاهرة المسماة بالفاشية والتوتاليتارية. في هذه الحالة تُشاهَد حالة من الحرب الدائمية داخل المجتمع. وهي ليست مجرد حروب عسكرية عالمية رسمية، كالحربين العالميتين، بل وتعاش الحروب الأخطر والأضرس داخل المجتمع، في كافة مؤسساته وعلاقاته. ويبدأ المنطق الذي مفاده: "الإنسان ذئب الإنسان" بالفاعلية كلياً. وتتفشى الحروب حتى بين الأزواج والأطفال، وفي البيئة الطبيعية برمتها. وما القنبلة الذرّية سوى تعبير رمزي عن هذه الحقيقة. حيث تعاش حالة من القنبلة الذرّية داخل عموم المجتمع، بشكل دائمي، ولكن تدريجي وبطيء.
إذا ما نظرنا إلى مرحلة الدولة القومية والعولمة، نجد أن الوضع مرئي بشكل أوضح. إذ، وبعد الإفراط في الظاهرة القومية والاستيلاء كلياً على الدولة، يكاد الفرد المعزَّز بالقوة سابقاً، يدخل مرحلة "التَنَمُّل" (التحول إلى نملة). ويغدو الفرد والإنسانية المثالية المتعاظمان مع النهضة، موضوعاً لمرحلة معكوسة؛ وكأنهما أضحيا هدف الهجومات والتهكمات. هذه الحقيقة لوحدها كافية ووافية للإشادة بمدى التضاد والتباين بين الرأسمالية وقيم النهضة. فبينما يتضخم الرأسمالي، يتقزم الفرد. ويتحول مضمون الإنسانية المثالية إلى مصطلح أجوف، أو مصطلح يبعث على الحياء، تجاه حروب الفتح الضارية الناشبة بين الشركات العملاقة تحت اسم العولمة. أما تذويب كافة المؤسسات – عدا الدولة القومية – واستعمارها؛ فيغدو ظاهرة ضرورية لا بد منها. وبإيصال مبدأ "ما من قيمة أثمن وأسمى من الدولة القومية" إلى حالة كهذه، تتقمص الدولة درع الحصانة بما لم تبلغه في أي من العصور الأخرى. كل شيء من أجل الدولة المللية. وفي الحقيقة، كل شيء من أجل الرأسمالي، لكنْ تحت رداء أو مكر الدولة المللية. فالدولة، وخاصة القومية منها، مستحوذة على سحرِ جلْب المنفعة والربح الأعظمي عبر الطريق المختزلة، لدرجة يُعلى من شأن القوموية، كأيديولوجية للدولة القومية، لتضحي تياراً عقائدياً وإيمانياً بنسبة وبأبعاد تعجز عن بلوغها كل الإدراكات الميثولوجية والفلسفية والدينية، وتكاد تُعمي كافة الأبصار والأفئدة المعنية.
هكذا لا يبقى لأية قيمة معناها، فيما عدا عناصر الواقع المللي المبالَغ فيها. فالقدسية مخفية، فقط وفقط، في عناصر القيم المللية المبالَغ فيها. مقابل ذلك، يسعى الفرد كمواطن، إلى التمسك بـ"طرائقية الدولة"، وكأنه يُعَد ويُجهَّز لعضوية طرائق العصور الوسطى.
حقيقة المواطَنة هي مصطلح يستلزم التحليل على نحو كامل الحسن. حيث حلَّت علاقةُ الفرد – الدولة فيها محلَ علاقة القن – العبد بالدولة، والتي كانت سائدة في العصور الأولى والوسطى. إنها تعبِّر عن ضرب من التحول إلى علاقة البورجوازية (الدولة) والعبودية. فمواطَنة الدولة تعني إعداد الشكل الحديث للعبد من أجل النظام القائم. إنه الفرد المُعَدّ بحالة تفيد أغراض الطبقة البورجوازية، حيث يحتل مكانه في العديد من المواضيع، وفي مقدمتها التجنيد والضرائب. إنهم يوَلِّدون القوة المحتاجة للدولة والطبقة الحاكمة. في حين أن إنجاب الأطفال أضحى عملاً بلا مصاريف أو أجر. ومهما يكثر الحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إلا أن المنتفع منها مضموناً، وبشكل ساحق، هو الطبقة المهيمنة.
أما تدخل الرأسمالية في العلم والفن والاستفراد بهما، فيسفر عن نتائج أكثر ترويعاً. حيث بات العلم والفن عموماً آلة بيد سلطة الدولة. ومع الرأسمالية تصل مسألة السلطة والمعرفة أبعاداً لا نظير لها بقوة الثورة العلمية. يؤول احتكار العلم والفن إلى بروز قوة فظيعة من الهيمنة والاستعمار، بحيث تزوِّد بإمكانية تشكيل الفرد والانتفاع منها كما تشاء. وهي لا تقف عند حد تحويل البنية الذهنية والبراديغمائيات الأساسية بما يتوافق وعالَمها الخاص؛ بل وتقوم بصنع الفرد صاحب "نظارة الحصان والقلب الصفيحة". وبهذه العيون والأفئدة يُبلَغ بالناس إلى موجودات في حالة قصوى من الضحالة والسطحية، المنفعية، الأنانية، اللامبالاة، الظلم، اللاإحساس، التجريد، والآلية الروبوتية.
هكذا تَترُك وجهة نظر العالَم (والإنسان) النابض بالحيوية والقداسة، مكانَها لوسط اجتماعي وعالَم باهت رمادي اللون، جامد، مفتقر لقدسيته، لا يبعث على النشوة والفضول، متوتر، سئم، ومرهق. أما الشرائح الكادحة المأجورة في المجتمع، فكأنها تحولت إلى دجاجة تفقيس. ويُلَقَّن الجميع بأن المعنى الوحيد للحياة يكون بالأجر الطُّعم، الذي يكاد يسد الرمق. ويصبح نمط الإنسان الاقتصادي يتخيل كل شيء لديه بناء على إشباع بطنه وإملائها. الأنكى من كل ذلك هو مهارة النظام في تفشي البطالة الأكبر على مر التاريخ. حيث يُضخَّم من كمّ جيوش العاطلين عن العمل، وتكون دوماً على أهبة الاستعداد، من أجل الحظي بعامل رخيص. وتُقحَم العلاقة بين البورجوازية والعامل في حالة بحيث يصبح العمال المتمردون في البداية سرباً من القطيع تابعاً لها، بما يضاهي تبعية القن لسيده في العصور الوسطى. ويخرج العامل من كونه طبقة أقيمت من أجلها الثورة، ليتحول إلى شخصية زائفة خاصةٍ بالعبيد التابعين لأربابهم، تجاه مخاطر البطالة المروعة أو الأجر الأرخص. لا يغدو العامل في هذه الحالة قيمة بحد ذاتها، بل هو ملحق بمؤسسته أو برب عمله. ومثلما يكونان هما، يكون هو.
أما المرأة والطفل والعجوز، وهم من الشرائح التي تعاني أفظع الحالات؛ فيغدون في حالة أشد سوءاً وإجحافاً. فالمرأة التي لا تنفك تئن تحت وطأة القوة الفظة والبلادة والشهوانية النهِمة الشبع للرجل الحاكم عليها منذ تأسيس الهرمية؛ تُكبَّل بالسلاسل والأكبال بألف مِثْل في ظل النظام الرأسمالي. المرأة هنا هي الموجود الذي ابتدع الرجل بحقه الكذب والرياء بالأكثر. يقال بأنه حتى فرويد، الذي مارس أكثر النشاطات شمولية بصدد الجنسية، تلفظ بآخر جملة وهو على فراش الموت قائلاً: "ماذا تعني المرأة؟". هذا أمر غير اعتيادي. إنه الوضع الذي أحاطته الأيديولوجية الذكورية المهيمنة المريعة حول المرأة. فالرجل الحاكم، الذي لا يود معرفة المرأة إطلاقاً، يلجأ إلى أحد أهم أسلحته التمويهية، ألا وهو آداب العشق المزيفة. العشق بالنسبة للرجل الحاكم يساوي مواراة الكذب والرياء، اللااحترام المستتر، عمى الوعي والبصيرة، واكتساب المساحة والديمومة في الغرائز الشهوانية العمياء. وإيصال المرأة إلى النقطة التي تبلع فيها ذلك وتهضمه، منوط بمدى غور العقم واللاحل تحت وطأة الكبت والقمع. لقد فُصِلَت عن شروط الحياة المادية والمعنوية بنسبة، غدت فيها بائسة يائسة في قبول أكثر ألفاظ الرجل انحطاطاً وتهكماً واعتداءاً، بأنها حقه المشروع.
وبالنسبة لي شخصياً، فإني مذهول دوماً من قبول المرأة على ذاتها بالحياة في ظل "الوضع القائم" الذي أُقحِمَت فيه. لكن، عليّ الاعتراف بحدسي الذي مفاده أنه عندما يجلب القصّابًُ الشاةَ للذبح، فإن الشاة تدرك ذلك، فترتعد أفصادها خوفاً وهلعاً. وموقف المرأة إزاء الرجل يذكّرني دائماً بتلك الرعشة. فالرجل لا يرتاح له بال، ما لم ترتجف المرأة أمامه. هذا هو الشرط الأولي لهيمنته. لكن القصّاب يذبح الشاة لمرة واحدة، في حين أن الرجل يذبح المرأة طيلة العمر. هذه هي الحقيقة الواجب الإفشاء بها. أما مواراة ذلك بأغاني العشق، فهو استحقار وازدراء دانٍ. فأكثر المواد والمصطلحات افتقاداً للمعنى في ظل الحضارة، هي تلك المُقالة في العشق. فما لم يفلح فيه أي رجل، ولم يرغب الفلاح فيه بتاتاً، هو إبداء القدرة على التقرب من المرأة بطبيعته العادية الموجودة. وأنا مضطر شخصياً لاعتبار كل رجل قادر على إبداء هذه القدرة بأنه بطل حقيقي. الفرق هنا لا ينجم عن ضعف بسيط أو اختلاف جنسي بيولوجي. بل إنه يصدر من توطين المجتمع الهرمي الدولتي للمرأة في أسفل القاع، باعتبارها مادة الطبقة السفلية الأولى. وينبع كونها أعمق مشكلة في المجتمع من خصائص الوضع القائم المترسخ فيه. واهتمام السوسيولوجيا بمحدودية, وفي وقت متأخر، بهذا الموضوع، منوط بمرحلة أزمة الرأسمالية.
لدى انكشاف النقاب عن كل شيء، من المنتَظَر أن تتبدى الأمور بجميع أبعادها في ظاهرة المرأة أيضاً. من الضروري الإدراك الشامل لعناصر القمع والاستغلال لدى الرجل، إزاء ظاهرة الأنوثة في النظام الرأسمالي. فالمرأة، حسب الزعم، أثمن سلعة. وما من نظام بَضَّع المرأة بهذه النسبة. فعبودية المرأة، التي هي جزء من العبودية العامة السائدة في العصور الأولى والوسطى؛ لم تكن تختلف حينها عن كونها جارية بالنسبة للنظام القائم. إذ لم يكن ثمة تبضيع أو عبودية خاصة بالمرأة. كان ثمة حَرَم رجالي أيضاً، وكان هناك الرجال الخَدَم، وكان لهم أولادهم المخصيون.
تضع الرأسماليةُ الفرقَ الأكبر بالنسبة لمفهوم الجنسية في النظام، بحيث يكاد لا يبقى أي عضو في المرأة إلا ويُبَضَّع. وهي تقوم بزخرفته بغطاء من الفن، عبر الآداب والروايات. لكن المرأة تُقحَم في وضعية تجتر فيها النصيب الأعظمي من وطأة عبء النظام الثقيلة، كآلية أساسية في هذه الفنون. فبينما يُحدَّد الأجر لكل عمل، أياً كان؛ نجد أن أكثر الأعمال وطأة، أي الحمل، تنشئة الطفل، ومختلف أنواع العمل المنزلية؛ تكون بلا أجر. بل ولا أجر لأن تكون المرأة عبدة شهوات الرجل الجنسية. فحتى الأجر المتعاطى في بيوت الدعارة، لا يقابله إبداء أية قيمة للمرأة في المنازل الخاصة.
ما يسمى بشرف الزواج وكرامته، ليس في حقيقته سوى تحمل بلاء "الإمبراطور الصغير" برمته. فكيفما إذا حصل شيء لأملاك الدولة، التي يَعتَبِرها الإمبراطور الكبير شرفه، فإنه يَعتَبِره دافعاً للحرب؛ فالإمبراطور الصغير أيضاً، إذا ما حصل شيء للمرأة، شرفه ومُلكه، فإنه يُعِدّ ذلك مسألة شرف كبرى، أي سبباً للمنازعة والشجار. الأغرب في الأمر هو إفراغ المرأة كلياً كروح، والوصول بها شكلياً إلى حالة أنثوية مفرطة أشبه بـ"العصفور في القفص" ذي اللون الزاهي والصوت الباهي. فنظام الصوت والمكياج يتطلب حالة من إنكار هوية المرأة الذاتية بشكل ساحق، وقتل شخصيتها رغماً عنها. الأنوثة هنا تعني تجريد المرأة من شخصيتها بشكل خاص. إنها من ابتكار الرجل وفروضاته. ورغم أن الأمر كذلك، فهو لا يتوانى عن اتهامها؛ وكأن هذا هو موقفها الطبيعي.
رغم أن النظام السائد هو المسؤول بالذات عن استخدام المرأة كأداة دعاية وتشهير وإظهار؛ فإنه يقترب منها وكأن كل ذلك لائق بجوهرها الطبيعي. لقد قبع شرف المرأة في أسفل القعر مع ظهور الرأسمالية. ولكن ما يُضرَب بالقاع ويُسقَط فيه ممثَّلاً في هوية المرأة هو أصلاً – وفي الوقت نفسه – قِيَم المجتمع المشاعي. فمنطق النظام محتاج لذلك، لأنه أمر مصيري معيِّن.
لقد أُسقِط جنس المرأة المجرَّد من كل قدسياته عبر الإباحية في الرأسمالية، إلى مستوى فصيلة الثدييات البدائية في التاريخ. بقدر ما يرتبط محو المرأة من المجتمع، بالتطورات الهرمية والطبقية الحاصلة طيلة التاريخ الحضاري؛ فهو منوط أيضاً بإعلاء الرجل من مرتبة المجتمع الذكوري المهيمن. من جانب آخر، بقدر ما تفقد المرأة تأثيرها في المجتمع، تغدو بعيدة بنفس النسبة عن قيمها المشاعية. طبيعة المرأة أدنى إلى قيم المجتمع المشاعي. وبما أن ذكاءها أكثر حساسية وواقعية إزاء خصائص الطبيعة، فالذكاء العاطفي لديها في المقدمة. في حين تكون أواصر الذكاء التحليلي لديها محدودة مع الحياة لكونه تصوري بالأرجح. أما تطوُّر الذكاء التحليلي لدى الرجل، فمتعلق بعناصر سماته الماكرة والقمعية في منزلته الاجتماعية.
تعكِس شدة وطأة النظام على دنيا الأطفال، الحالةَ العامةَ السائدة. فالأطفال السابحون في عالم الخيال، مناقضون جذرياً لعالَم النظام القائم في الحسابات الجليدية. لا تتوافق الطفولة والرأسمالية إطلاقاً. والعجوز كالطفل المسن. لكن العالِم الحكيم المقدس، الذي كان يُكَنُّ له الاحترام سابقاً، غدا اليوم عبئاً ثقيلاً في الإنتاج الرأسمالي، ومادة لا نفع منها. أما الأطفال، فيمكن الانتفاع منهم عندما يكبرون، في حين أن العجائز لا يعبِّرون عن أية قيمة، لأنهم سيموتون. يُجرَّد المجتمع من سموه وقدسيته تماماً، ممثَّلاً في شخص العجوز. فإذا ما تُرِك في دار العجزة، يُبدي النظام إجحافه وصورته القبيحة بكل أبعادها. حتى مشكلة الشيخوخة مليئة بالتساؤلات التي بمقدورها البرهنة على عدم جدوى النظام القائم من أجل المجتمع، من كثير من النواحي.
نجد الإنسان البيئي يتخبط في المجاعة والعَوَز من جميع الجهات، مقابل الناس المشبَعين من كل شيء في متروبولات الرأسمالية. إن خاصية الربح والمنفعة المغالى فيها في النظام تُجَسِّد – وبكل جلاء – العلاقةَ الجدلية القائمة بين الإنسان البدين، والإنسان الهزيل الذي تكاد تخرج أفصاده من بين ضلوعه. وكأنه لم يتبقَّ لبنية المجتمع الداخلية أي طاقة تؤهلها لتطوير التناقضات أكثر من ذلك. وكأن التكرار المفرط، أو التساقطات والطروحات الجارية في بعض المؤسسات، برهان قاطع على سيرورة الأزمة والفوضى المولج فيها. نحن على مشارف اللحظة التي تتحطم فيها الحلقة، مثلما شوهد في سلسلة كافة الأحداث الطبيعية. فالتشريع القديم يفقد مفعوله. والبنى القائمة لا معنى لها، لافتقادها آلياتها. لذا نَعتَبِر أننا على عتبة سن قوانين المعاني الجديدة، وتأسيس البنى اللازمة لها.
وهنا تبدأ مشكلة الأيكولوجيا الاجتماعية بالأرجح. المجتمع الطبيعي، بجانب من جوانبه، مجتمع أيكولوجي. والقوة التي تبتر المجتمع داخلياً، تبتر أواصر معانيها مع الطبيعة أيضاً. فبدون وجود بتْر داخلي، لا تتولد أي مشكلة أيكولوجية غير اعتيادية. لكنَّ الغير مألوف هو افتقاد المجتمع الحضاري للمعاني المعاشة في كافة المراحل الطبيعية. وتنجم حالة أشبه بفصل الوليد عن ثدي أمه. وتُمحى أبهة الذكاء التحليلي رويداً رويداً. في حين أن الذكاء التحليلي المبتعد بكثافة عن لغة الضمير والطبيعة، يطوِّر من تناقضاته مع البيئة تصاعدياً، داخل عالَمه المزيف الذي صوَّره. ويكتنف الضباب الأواصرَ القائمة بين الحياة والطبيعة، لتحل محلها الأفكار التجريدية والآلهة المجردة. وتتخلى الطبيعة الخلاقة عن مكانها للإله الخلاق. وتُطبَع الطبيعة بطابع الظلم، بدلاً من اعتبارها كحنان الأم ورأفتها. هكذا يغدو التحامل على الطبيعة الخرساء الظالمة، بطولةً للإنسان. وتصبح كافة أشكال الإبادة المختلة للحيوانات والنباتات عادةً مألوفة، وكأنها حق أساسي لمجتمع الإنسان. وتُعتَّم البيئة الطبيعية وتُعمى، لتغدو مساحة حياة ميتة، مؤقتة، ولا أمل منها. وباتت الطبيعة الحية – مصدر الآمال التي لا تعرف النضوب – ركاماً من المواد العمياء الفظة، التي لا مفهوم لها.
لكن مفهوم الطبيعة هذا، والمتحطم مع النهضة، أضحى موضوع استثمار واستغلال لا أبعاد له في النظام الرأسمالي، مثلما هي الحال بالنسبة للمجتمع. حيث يسعى لإتمام فتح البشرية العالمية بفتح الطبيعة. ويَعتَبِر ممارسة كل أنواع الاستثمار التي يشاؤها بشأنها، حقاً له وكفاءة منه. المحصلة المتمخضة من الثورة الصناعية وما بعدها، هي وضع الضمان على البيئة الطبيعية، كشرط حيوي لا غنى عنه بالنسبة للمجتمع. لقد أُدرِك أن غير العاقل هو النظام بعينه، لا الطبيعة. ولكن بعد فوات الأوان. فالبيئة تعطي إشارات الإغاثة على الدوام. إنها تصرخ بأعلى صوتها قائلة أنها لن تطيق تحمّل النظام الاجتماعي القائم. وكأن أزمة النظام، بجانبها هذا، قد ولجت مساحة الفوضى البينية. ولن يسعفه الحظ في الخروج من الفوضى، ما لم تحلِّل وتَحُل النقاشاتُ الأيكولوجية الدائرة، حقيقةَ المجتمع الأيكولوجي، من حيث المعنى والبنية.
يجب عدم الوقوع في التعميم المفرط أثناء دراسة النظام الاجتماعي. على سبيل المثال، فالمآل إلى نتيجة، وكأن الرأسمالية كل شيء بالنسبة للمجتمع، أو حتى أنها المجتمع ذاته لدى تعريفها؛ هو أمر خاطئ إلى أبعد الحدود. إذ، ما من نظام مهيمن يشكل كل المجتمع. وهذا أمر منافٍ لحقيقة الثنائية الجدلية أيضاً. فالتطورات الأحادية الجانب، والتي لا تطوِّر مضاداتها؛ ليست سوى تقرباً مثالياً، لا حقيقة ظاهراتية له. وعلى خلاف ما يُظَن، ثمة مساحة اجتماعية شاسعة خارج إطار النظم الحاكمة. وهي تحتوي على حيثيات النظم العتيقة ومضادات النظام الحاكم وبدائله المستقبلية بشكل متداخل. فالمجتمع يتميز في داخله بآلية قصوى من الحيوية، بحيث يؤمِّن سيرورة تغيره بتطويره القوانين الكثيفة على التوالي. إن تمثيل النظم بخطوط بيانية، يفيد في تسهيل المعاني، ولكنه قد يتسبب أيضاً في إبداء العديد من المواقف الدوغمائية المشحونة بمخاطر عدم وضع كافة الحقائق في أمكنتها المناسبة. بالتالي، من اللازم مطابَقة التمثيل البياني مع بنية الحقيقة القائمة، والمعقدة إلى أبعد الحدود.
ما هو معمول به بالنسبة للرأسمالية أيضاً، ليس سوى رسماً بيانياً، فيه العديد من النقاط البعيدة كل البعد عن تكامل الحقيقة. وقد يكون ثمة جوانب مبالَغ فيها ضمنه. لهذا الغرض ركّزنا بكثافة على مسألة التعريف. من المهم الانتباه إلى عدم دراسة مراحل تطور النظام بشكل كثير النقصان، ولا كثير المبالغة؛ من أجل الحصول على معالجات موضوعية. فمثلما أن نموذج التطور بالقدرية أمر غير صحيح، فمن غير الممكن أيضاً الجزم بالمستقبل عبر التكهن بنتائج، وكأنه لا مفر منها.
المساحة البينية للقوانين الاجتماعية قصيرة. ومن الممكن حصول تغيُّر المعاني، وبالتالي ظهور البنى بكثافة فيها. علاوة على ذلك، فتناول النظم ضمن ديناميكياتها الذاتية دون اللجوء إلى القدرية أو الكهانة، وتحديد معانيها بناء على الواقع الملموس؛ إنما هو مزية المعلومة العلمية، ومن أفضلياتها. لكن، ربما تساهم الفلسفة، بالاشتراك مع الميثولوجيا، في إغناء المعاني أيضاً. جلي جلاء النهار عدم قدرتنا على تعريف ظاهرة – كالمجتمع – محمَّلة في أحشائها بمسار التطور الطبيعي برمته بأنها مجرد قوانين فيزيائية. ولكوننا جزء قريب من هذه الظاهرة، فعدم قدرتنا على التهرب من الكثير من الغموض، هو حقيقة أثبتتها فيزياء الكوانتوم أيضاً.
لم تؤخذ القيم الحاملة للنظام الرأسمالي فحسب من دائرة النهضة البينية. بل ومن بين الاحتمالات الواردة أيضاً العثور على قوة المعنى اللازمة من أجل بنى المجتمع الجماعي، من بين لوازمها الشديدة الغنى. فالطوباويون الأوائل، من أمثال "كامبانيلله Campanella" توماس مور Thomas Moore"*، و"فرانسيس باكوين Francis Bacon" ومن بعدهم "فوريير Fourier"، و"روبرت أووين Robert Owen"**، و"برودون Proudhon"؛ كانوا يرسمون المخططات لأعداد كثيرة من النظم الاجتماعية المشاعية. بل ويحاولون تنظيمها في بعض الأحيان. بالإضافة إلى أن العديد من الفلاسفة في المرحلة التنويرية، يُرهِقون عقولهم في تحديد نوعيات المجتمع الجديد المرتقَب بناؤه. والثورات المتصدرة في القائمة، كانت تتميز دوماً بجانب منفتح لليسار، وغير متناهٍ.
أما النظام الرأسمالي بحالته الراسخة، فلم يتكون كموضوع تخطيطي لأي من المفكرين البارزين. فاليوتوبيات الاجتماعية التي هرع المفكرون الجديون وراءها، ذات سمات جماعية، وتولي الأخلاق دوراً بارزاً فيها. مع ذلك، فقد أثرت العديد من الدوافع الموضوعية في نجاح الرأسمالية وانتصارها، من قبيل قوة قدرة الدولة، الوزن الثقيل للأرستقراطية القديمة، وتطور الطبقة البورجوازية بما يناقض ماهيتها بالأكثر.
من هنا يمكن تفهم الاستثمار السهل للمنشغلين الجدد بأمور المجتمع، والمشحونين بكثافة ملحوظة بآثار المجتمع الحاكم القديم. فأي صراع تجاه السلطة، إذا لم يحتوِ برنامجاً منهجياً بنّاءاً، وقوة فكرية قادرة على تخطي نظام سلطة الدولة؛ لن يعبِّر عن شيء أكثر من كونه انتزاع زاوية منها وفق منطق "أنا بدلاً منك". أهم العناصر الأساسية التي حوَّلت الربح وتراكم رأس المال الموجودَين أصلاً في جوهر النظام القائم، إلى ركائز هيمنة للنظام؛ كانت الهرع وراء الغنائم ذات الأسس التاريخية، الثروات العظمى التي أمَّنتها الاكتشافات الجغرافية، العبور من المانيفاكتورة إلى الثورة الصناعية عبر الاختراعات العلمية، الصعود من الثورة السياسية إلى عرش السلطة، والتحول من الدولتية المَركَنْتِلِيّة* (التجارية) إلى التربع في مركز قوة الدولة القومية. إن تنسيق وتنظيم رأس المال بالثورة الصناعية، والذي خَيَّب آمال الطوباويين في القرن التاسع عشر، كان يستدعي الحاجة لكفاح سياسي وانطلاقة نظرية أكثر رسوخاً ومعقولية. في هذه الفترة تبدأ نبوة كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز بالظهور.
يمكن نعت القرن التاسع عشر الذي حسمت فيه الرأسمالية انتصارها في النظام الحضاري، بمرحلة تطور الفكرة المضادة لها أيضاً، وتحولها إلى عملية سياسية. وفي أساس كلا الحركتين تكمن النهضة والتنوير والثورة الصناعية. لقد فقدت وجهة النظر الدينية حاكميتها، واكتسب الرأي العالمي العلماني ثقله. أما تيارات الثورة العلمية والفن الحديث، فكانت مؤهلة، وبكل سهولة، للاستلهام من المقاييس والإرشادات اللازمة لإحداث مثل تلك التطورات.
كانت الماركسية تياراً متصاعداً طردياً من داخل الأفكار المناوئة للنظام. لقد كان كارل ماركس وفريدريك أنجلز يُسمِّيان أصحاب التيارات المعارضة السابقة لبنيتهما الفكرية بـ"الاشتراكيين الخياليين". ويبينان أن عدم وصول الرأسمالية نقطة الشكل الإنتاجي المهيمن، لعب دوراً أساسياً في ذلك. ويوضحان الفارق الكامن بين نظاميهما الفكري وأنظمة الآخرين ارتباطاً بالنظرية الحتمية** الاقتصادية الصلبة. وإلى جانب اعتمادهما نظام "هيغل" في الفكر الدياليكتيكي، إلا إنهما يزعمان أنهما أوقفاه على قدميه، بعد أن كان واقفاً على رأسه. ويحدِّدان السياسة الاقتصادية الإنكليزية والاشتراكية الطوباوية الفرنسية كمصدرين إلهاميين أساسيين آخرين لهما. وبالطبع، كان الإلهام الفلسفي من نصيب ألمانيا. ساطع كلياً أنهما توصلا إلى تركيبة جديدة وطيدة من أجل زمانهما. فتكوين معارضة منتظمة ومنظمة لهذه الدرجة، في الحين الذي شهد فيه المجتمع المنظم مقابلهم أيام نصره وظفره؛ إنما ينمّ عن رؤية مستقبلية ثاقبة ونشاط مفعم بروح المسؤولية الحقة. وأول ثمرة لنشاطاتهما هو "البيان الشيوعي" الأشبه بالمنهاج الحزبي. ويُعلَن عنه خلال فترة وجيزة كبرنامج للشيوعية (لحزبها). ولأجل تمييز كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز عن غيرهما من الاشتراكيين، يتم نعتهما بـ"الاشتراكيين العلميين".
جلي تماماً أنهما أبديا أكثر المواقف واقعية في زمانهما، بشأن تعريف الرأسمالية. وبالإمكان اعتبار "الرأسمال" – الأثر الأولي لماركس – بأنه تعريف للرأسمالية العملاقة. وفي أثر "أصول العائلة، المُلكية الخاصة والدولة" أيضاً يقوم فريدريك أنجلز بالتحليل التاريخي للمجتمع بأوسع أبعاده، سعياً منه لإتمام النظم الفكرية. إن نتائج الاشتراكية ذات الجذور الماركسية، ومنذ عام 1850 تقريبياً وحتى يومنا الراهن؛ كشفت النقاب بما فيه الكفاية عن إيجابيات تحليل النظام، إلى جانب أخطائه ونواقصه.
للوصول إلى تعريف أمثل لتحليلات النظام الاجتماعي، سيكون من المفيد قياسها بشبيهاتها التاريخية. فأول مانيفستو، حسب ما تَمكَّنا من معرفته من المصادر المكتوبة، هو نظام "الأوامر العشر". إنه يصوغ خروج سيدنا موسى من النظام العبودي المصري في العصور الأولى. من المعلوم إنه تأثر بـ"اليهوذاوية Yah – Weh" (نسبة إلى يهوذا) دين الأسلاف، بقدر استيحائه من مذهب الإله الواحد للفرعون أخناتون (إله الشمس). ويسعى إلى إمداد مجتمعه – القبيلة العبرية – بالنظام عبر الأوامر العشر. معروف مدى التأثرات الكبرى الحاصلة من هذا المانيفستو – حتى يومنا الراهن – الذي يُعتَقَد بأنه أُعلِن في أعوام 1300ق.م. والفصل الأول من الكتاب المقدس "العهد القديم" إنما هو شمولية كلية متطورة مع الأوامر العشر. يصل هذا "العهد القديم" (الذي يمكن تقسيم مضمونه إلى عدة فصول بينية) بشكل كلي خلال الأوقات الحرجة مع بيانات (مانيفستو) الأنبياء الظاهرين طبعاً، حتى يصل عهد سيدنا عيسى.
بمستطاعنا تناول "الإنجيل" كمانيفستو ثانٍ أكبر. فهذه التقاليد المرتكزة إلى سيدنا عيسى، هي في مضمونها وثيقة منشورة – مطوَّرة – باسم كافة الفقراء والعاطلين عن العمل، إزاء روما العبودية التي أبقت عليهم تحت القمع والكبت. ولربما كان الإنجيل أول وثيقة تُنشَر باسم المسحوقين. النتائج التي نمَّت عنها المسيحية – باسمها العام – ذات تأثير بيِّن في راهننا، مثلما كانت عليه عبر التاريخ بأقل تقدير. إنها تحتوي تقاليد "القدّيسين والقدّيسات" بقدر تقاليد الأنبياء. ثمة العديد العديد من الدروس التي يمكن تلقُّنها من القديسين والقديسات، بقدر أولياء الإسلام.
المانيسفتو الثالث الأكبر هو "القرآن". هذا الأثر المنبثق من توحيد ملاحظات سيدنا محمد بصدد المجتمع العربي العشائري والقبلي في تلك الأزمان، مع كتاب "العهد القديم" وتفسير "الإنجيل"؛ إنما هو ضرب من بيان "شروط" المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى. وبينما تتشارط أوروبا بالإنجيل، يسعى الشرق الأوسط للاشتراط بالقرآن. من الواقعي تعريف هذه الأمثلة بالحلول والمانيفستوهات الاجتماعية، رغم كونها ذات حِبكة (ذهنية) دينية.
النقطة الأهم الممكن سؤالها بشأن كتاب "الرأسمال" هي السؤال: هل حطّم هذا الأثر الرأسماليةَ أم عزَّزها؟. السؤال سارٍ على مانيفستوهات النظم المشابهة أيضاً. ولأجل إنارة الموضوع أكثر، من الضروري إيضاح مرحلة الأطروحة والأطروحة المضادة والتركيبة الجديدة، التي هي دعامة الفكر الدياليكتيكي. فمثلما بيَّنْتُ في البداية، فالخاصية الثنائية في النظام الكوني هي انشطار الواحد إلى اثنين. وكأن الواحد (1) في علاقة الطاقة – المادة أمر مبرهَن. والمعادلة "E=mc2"* تدلنا على الطريق بشكل مكمل. حيث تحدِّد الطاقة كعنصر محرِّك ومغيِّر للمادة. ويمكن تعريفها بالجوهر الأكثر طلاقة. و"الفوتون" – جزيء المادة في حالة سرعة الضوء – هو في مضمونه طاقة منقطعة من المادة. وتَحَوُّل كل المادة إلى "فوتونات" يعني تحولها إلى حالة الضوء. والنشاط الإشعاعي (الفاعلية الإشعاعية radioactivity) يمثل هذه المرحلة. لكن، ومع ذلك، فثنائية الطاقة – المادة حقيقة واقعة. والتطابق في المضمون لا يعيق التحول إلى ثنائية. لكن اللغز الأصلي هنا هو: لماذا، أو كيف دُفِع الواحد (1) إلى الانشطار وتكوين الثنائية؟ وما هي ميول "التثنية" بحد ذاتها، وكيف تتكون؟ الاحتمال الأكبر هو أن ما يجري داخل الذرّة هو الذي يصبغ شكل كافة التنوعات والتحركات. يتبين من البحوثات المجراة مؤخراً أن تكوُّن وتحوُّل الجزيء خلال مدة صغيرة للغاية وسريعة للغاية وقصيرة للغاية – والتي يستعصي على المرء حتى التفكير فيها – هو الذي يحدِّد مرحلة التحول إلى ذرّة. وأنه قد برزت إلى الميدان جزيئات الذرّات، واتحادات (مجمَّعات) الجزيئات، وبالتالي العناصر المختلفة واتحاداتها. ويُخمَّن أن الأوساط المغناطيسية المختلفة أيضاً تلعب دورها في ذلك.
لا مناص من تطبيق هذه المرحلة القائمة في الطبيعة على المجتمع، وأقلمتها معه. فإلى جانب كون شرائع المجتمع شديدة الاختلاف، إلا أنه من المنتظَر إلحاقها بذات النظام. فنحن على علم بأن تحولات النظام الاجتماعي أيضاً تكاثرت، بخطوطها العريضة، من الواحد (1)، أي من الكلان. ونحن على علم تام أيضاً بأن المجتمع الهرمي انبثق من الكلان، ومنه انبثق المجتمع الدولتي الذي أفضى إلى الرأسمالية، وهكذا برزت بعض الأشكال المألوفة.
إذا ما فسرنا مصطلح التضاد في الدياليكتيك بأنه تحميل أحد عنصرَي الثنائية للعنصر الآخر، وتحولهما بالتالي إلى كيان أرقى مختلف؛ بدلاً من تفسيره بأنه إفناء أحد العنصرَين العنصرَ الأخر؛ فستزداد إمكانيات فهمنا للظواهر بشكل ملحوظ. لكن الأهم في هذا الموضوع هو حقيقة أن التحول لا يتم على خط مستقيم. فتحول المتضادات ليس كمعادلة (ب×حـ = ب حـ). قد تكون معادلة المنطق الكلاسيكي هذه سارية في مساحة بينية محدودة للغاية. فالتحول الجاري في عالم الظواهر هو بالأرجح متعرج، حلزوني، متحول، سريع حيناً وبطيء أحياناً أخر. وقد يتسم بخصائص من قبيل الآنية – اللانهاية، أكثر من كونه لا بداية له ولا نهاية. ويمكن الافتراض باحتوائه خاصيات مختلفة حسب المساحات البينية للفوضى، بدءاً من الاستقامة وحتى الكروية.
إذن، والحال هذه، إذا ما بانَ مضاد الرأسمالية، فإن إفناده إياها ضمن خط مستقيم، ليصل بالتالي إلى المجتمع المصوَّر – أي الاشتراكية – قد يكون افتراضاً تجريدياً لا غير. أما الحقيقة ذاتها، فهي شديدة الاختلاف. وتكويناتها تجري على خلاف أكبر من ذلك. قد يذوِّب النظام الرئيسي ضده ويصهره. قد يَستعمِره، أو يشاركه بالتكافؤ. أو قد يُحدِث تطوراً طبيعياً بخسران كمٍّ ضئيل من الطاقة، وعبر تحول طويل المدد. وقد يصبح لازمة للنظام الجديد بتعرضه لانكسار قاسٍ.
الخاصية الهامة الممكن ذكرها بشأن التطورات ضمن المسار الماركسي، هي أن النظرية والعملية لم تنجوَا من الذوبان في بوتقة الرأسمالية. والذوبان حصل من ثلاثة سبل: الديمقراطية الاجتماعية، الاشتراكية المشيدة، والتحرر الوطني. لا يمكن القول بأن الرأسمالية لم تتغير إطلاقاً من هذه السبل أو الظواهر الثلاث. بل حدثت متغيرات مهمة، حيث شوهدت تغيرات ليبرالية كثيفة. لكن النظام فلح في إطالة عمره أكثر، بفضل هذه السبل الثلاثة. إن تعليل ذلك بالثورات المضادة لا يروي الظمأ. فالموضوع أكثر غوراً من ذلك. وهو منوط بالماهيات الأساسية الموجودة في مفهوم الاشتراكية المقبول به.
يكمن التفريق بين الرأسمالي والعامل في أساس الأخطاء والنواقص المرتكَبة. فهذا التفريق لا يختلف، من حيث المضمون، عن التفريق بين السيد والعبد، الذي كان سائداً في الأراضي الحرة لروما العبودية. والتشبيه سارٍ على علاقة القن والآغا أيضاً. إذا ما قابلنا بين شكل تنظيم الرجل ومقوماته في عائلة أبوية ما، وبين شكل تنظيم المرأة التابعة ومقوماتها؛ فالغالب في أي صراع هو أمر بيِّن منذ البداية. وفيما عدا الحالات الاستثنائية، فالرجل الغالب في شجار ما، يواصل وجوده أكثر تعززاً من المرأة المُساء معاملتها، لتغدو المرأة مُلكاً له بدرجة أكبر. التناقض موجود مرة أخرى. لكنه، وبقدر تحوله، يذوب خطوة أخرى داخل النظام الذكوري الحاكم. يمكننا تعميم هذا المثال على كافة النظام الاجتماعي. فصياغة نظرية ما، ورسم خطها العملي بما يتواءم والشروط التي تعاني خلالها المرأة من هيمنة الرجل وتقييده إياها بألف غِل وغِل ضمن حضارة المجتمع الطبقي – بل وما قبلها، أي داخل المجتمع الهرمي – ومن ثم انتظار التحرر منها؛ إنما هو أبعد من الخيالية، ولا يُشيد بأي شيء سوى بالقول للمرأة "تَلَقِّ الضرب أكثر، تقيَّدي أكثر". ومنذ اللحظة التي تقبل فيها المرأةُ الأنوثةَ الزائفة، تكون قد أُودِعَت بالأصل للخسران والهزيمة. كَم ستفلح الشاة التي بين يدي القصّاب، في إنقاذ نفسها إذا ما كَدَّت؟ إن فرصة الشاة في الحياة منوطة بإنصاف القصّاب ورحمته، وبمنفعته. قد ينتفع من حليبها وصوفها، وقد يذبحها أيضاً.
على عكس ما يُظَن، فالعامل مقابل الرأسمالي، لا يندرج ضمن التناقض المسمى بالخصم. وإذا ما نظرنا إلى الرأسمالية الراهنة، نجد أن العامل المتميز بعمل حسن وأجر جيد، يُدرَج في شريحة عصارة المجتمع وخُلاصته. في حين أن المتلقين الضربةَ الحقيقيةَ من النظام، هم الجيش المتعاظم من العاطلين عن العمل، الشعوب المستعمَرة، المجموعات الإثنية والدينية، وقطاع المرأة الساحق. هذا علاوة على أن حالة الأطفال والشباب، الشيخوخة، التناقضات الداخلية لنظام البيئة الأيكولوجية، التناقضات المتدرجة في شِبَاك المنفعة داخل المجتمع الرأسمالي، القرية – المدينة، المدينة العملاقة – المدينة الصغيرة، العلم – السلطة، الأخلاق – النظام السائد، الجندي – السياسة، وغيرها من المئات من بؤر التناقض؛ هي جميعها التي تحدِّد النظام. وفي حال لم نعتمد كل هذه الظواهر أساساً، فسيمكن لنا أن نميز عبر مفهوم مجتمعٍ عميق، أنه ما من فرصة أمام نظرية الثورة والتغيير المعتمدة على العامل ذي الامتيازات. حيث بإمكان النظام القائم أن يوجهها كما يشاء، وبكل سهولة.
ثمة نواقص أكثر أولوية في التوجه الماركسي. حيث إنه لم يحلل الحضارة ككل متكامل. فتجربة أنجلز محدودة للغاية. وهو يَعتَبِر أن التناقض الأولي الكامن بين المجتمع الطبقي والمجتمع الطبيعي الجماعي قد تم تخطيه منذ زمن غابر، ويَعُدُّه شكلاً متخلفاً أيضاً. بيد أن تعريفنا التاريخي الشامل أظهر أنه ثمة صراع دائم وشامل بين الموقف المشاعي الديمقراطي والموقف الهرمي الدولتي. ناهيك عن أن تكون القيم المشاعية الديمقراطية رجعية أو فانية، بل تتميز بدور "ديناميكي" بارز في كافة تكوينات النظام القائم، بما فيها الرأسمالية. فالتناقضات الأكثر فاعلية في نشوء وتطور النظام الرأسمالي، وفي أزمة انهياره، هي تلك المتعلقة بالقيم المشاعية الديمقراطية. قد يُبقي النظام على الكثير من الشرائح داخله – كالعامل والقروي وغيرهما – ويدير شؤونها. بل وحتى قد يجعلها حليفاً حسناً له. وقد يواري إدارته أكثر باستثارة الفردية، ليؤمِّن سيرورته. لكنه لا يستطيع بتاتاً إخراج المجتمع ذاته من كونه مجتمعاً. فالمجتمع بالأساس مشاعي وديمقراطي. ولأن الرأسمالية تعي ذلك، فإنها تقوم بإنعاش الفردية على حساب المجتمع، وتؤجج الغرائز وتحرضها. هذا وتُحَوِّل المجتمع البشري، وبحالة معكوسة، إلى مجتمع من الثدييات البدائية _ أي تحويل المجتمع إلى مجتمع قِرَدة – في كثير من النواحي. ولدى مقاومة المجتمع، ومآله إلى الانهيار كلياً في آخر المطاف؛ تتولد فرصة بروز مجتمع جديد إلى الميدان. لا يمكن أن تحظى مشروعات التحول الاجتماعي بفرصة النجاح، إلا إذا انتبهت أولاً إلى هذه الجوانب الأساسية في التناقضات الموجودة.
ارتباطاً بذلك، إنْ لم تؤخذ الحِبكة الأخلاقية، التي دمرتها الرأسمالية بشكل منظم، أساساً؛ فلن يجد أي تناقض فرصته في الحل من الجهة التقنية. فبدون الأخلاق الاجتماعية لن يكون بمقدور أية أساليب قانونية أو سياسية أو فنية أو اقتصادية، أن تدير شؤون أي مجتمع كان، أو تغير أحواله. يجب إدراك الأخلاق بأنها شكل الوجود التلقائي للمجتمع. إنني لا أتكلم هنا عن الأخلاق التقليدية الضيقة، بل أُعرِّفها بأنها ضمير وفؤاد تسيير المجتمع لذاته. فالمجتمع المفتقد لضميره مجتمع فانٍ ومنتهٍ. ثمة معنى لكون الرأسمالية هي النظام المخرب للأخلاق بأعمق الأشكال. فكونها النظام الأخير يجعلنا نعي دوافع إفسادها للضمير الاجتماعي. التعبير المرئي لفناء الطاقة الكامنة لنظام القمع والاستعمار، إنما يعني إفساد الأخلاق بشكل منظم. إذن، والحال هذه، فالصراع مع الرأسمالية يستدعي نضالاً وكفاحاً أخلاقياً واعياً، كضرورة لا مهرب منها. والصراع المفتقر إلى ذلك هو صراع فاشل منذ بدايته.
تَعتَبر الماركسية أن الشخصية تعيش داخل قيم الحياة الرأسمالية ككل متكامل. وتغلب عليها المدينية. الإيجاز الغالب على طراز حياة المدينة يربط الفرد بالنظام الرأسمالي بألف قيد وقيد. ومن الضروري الإدراك أن ماركس بذاته كان يعيش ضمن النظام القائم مكبَّلاً بآلاف القيود. فحتى أولئك الأشخاص الذين انقطعوا عن النظام السائد، وانزووا على أنفسهم عشرات من السنين في الأديرة والكنائس في الديانتين الإسلامية والمسيحية؛ لم يتمخض انزواؤهم ذاك سوى عن تأثير محدود. وأغلبية الناشطين الماركسيين لم يكونوا متيقظين حتى لوجود كيان أخلاقي في هذا الاتجاه. بل كانوا يعتقدون أنهم سيظفرون بالنتائج المرجوة بالعيش بهذا الشكل أو ذاك من أشكال الرأسمالية، والصراع تجاهها نظرياً وعملياً.
أما أطروحات النظرية الماركسية بشأن الثورة السياسية وما بعدها، فهي تتسم بخصائص هرمية ودولتية أكثر خطورة. وتكاد تكون الحرب، ديكتاتورية البروليتاريا، والدولتية مصطلحات مقدسة. مع أن السلطة والاقتدار، الحرب والجيش ليست سوى ثمار حضارة المجتمع الطبقي، وأجهزة مصيرية مطلقة لا غنى عنها بالنسبة للشريحة الاستعمارية المهيمنة. ووضع هذه الوسائل في حوزة البروليتاريا يعني تقرير التشبه بتلك الشريحة منذ البداية. بيد أن كل هذه الوسائل استُخدِمت على أكمل وجه في الاشتراكية المشيدة. وحازت على النصر. لكن، وبعد مرور سبعين عاماً، أُدرِك أن ما تم تشييده هو الشكل النهّاب والسلاّب للرأسمالية، وكأن رأسمالية أوروبا الغربية – قياساً به – قد طُهِّرت بسبعة مياه. إنه الشكل الرأسمالي الأكثر توتاليتارية ومناهضة للديمقراطية. يكمن مفهوم الدولة خلف هذه الظاهرة. فالدولة التي قال أنجلز بصددها "يجب إخمادها رويداً رويداً"، بلغت أقوى مراحلها وأوطدها مع الاشتراكية المشيدة. لا معنى للبحث هنا عن النوايا الضامرة أو الثورة المضادة. فالوسائل المتبعة تفضي إلى الرأسمالية، لا الاشتراكية؛ حتى ولو استُولِي على الدولة بكل كمال. تستلزم الاشتراكيةُ الوسائلَ الاشتراكية، التي هي بدورها – من أولها إلى آخرها – آليات للديمقراطية، وحركة البيئة، وحركة المرأة، وحقوق الإنسان، والدفاع الذاتي عن المجتمع.
انطلاقاً من ذلك، سيكون بالمقدور إضافة الحزب، النقابة، السلام، حركات جبهة التحرير الوطنية، السياسة، وغيرها من العديد من الظواهر التي لم يتم تخطي النظام الرسمي فيها؛ كمؤثرات في حدوث الفشل. وبسبب عدم النظر إلى هذه الوسائل بعين ديمقراطية وأيكولوجية ضمن مسار استراتيجي وفلسفي عام، فلن تنجو من اللحاق بالنظام القائم في آخر المطاف، مهما استُخدِمت كوسائل نضالية في الصراع.
الانتقاد الآخر الذي يمكن توجيهه إلى الماركسية معني بالأزمة القائمة آنذاك. فالرأسمالية شهدت مرحلة النضوج في عهد ماركس. لكن النتيجة التي خَلُص إليها ماركس وأنجلز من ذلك هي أنه لا مفر من الرأسمالية. وكأن الرأسمالية تلعب دور جرَّافة تشق الطريق أمام الاشتراكية. وإذا ما عمّمنا أكثر، فإنهما يريان في حضارة المجتمع الطبقي تقدماً لا مناص منه، ويؤمنان بضرورة المرور بهذه المراحل، من أجل تأسيس نظامهما الذي يرميان إليه.
كنا قد وضحنا سابقاً ضرورة النظر إلى ذلك بأنه خطأ جذري. فالطبقات وجميع كيانات وتكوينات ومؤسسات الدولة (كأداة هيمنة إدارية) – فيما عدا الأمن الضروري (الذي لا غنى للمجتمع عنه) والإدارة العامة – ليست عديمة النفع وحسب، بل ومتزمتة وحجر عثرة. إن الهيمنة الداخلية والخارجية المفرطة، والتي تُضخِّم البيروقراطية (وعلى رأسها رأسمالية الدولة)، والعديد من المؤسسات من قبيل الدولة الاجتماعية؛ هي عراقيل حقيقية على درب البيئة والديمقراطية الاجتماعية الحقة. وعلى الصعيد الأخلاقي أيضاً، تُعتَبَر الحرب والجيش مؤسستان يتوجب رفضهما ودحضهما، فيما عدا الدفاع الديمقراطي الاضطراري. فلدى إشادة ماركس بذاته بالقول "لقد استلهمنا نظرية الصراع الطبقي من المؤرخين الفرنسيين"، إنما يتداول نوعية الوسيلة التي لجأ إليها كمعطاة طبيعية. كما أنه يقبل بأسلوب حرب الطبقات المهيمنة كمؤسسة، كما هي عليه. والأمر سيان في مصطلح ديكتاتورية البروليتاريا أيضاً. إذ لا يرى مانعاً من أخذ الممارسات الديكتاتورية المطبقة في التاريخ، كما هي.
تأخذ الديكتاتورية الموجودة في عهد لينين وستالين حالة الدولة على الدوام. ويتم التنكر للديمقراطية حتى قبل تطبيقها. بيد أن لينين كان أقرب إلى الصواب حينما قال "لا يمكن الوصول إلى الاشتراكية، إلا من الديمقراطية". لكن طراز الطبقة الحاكمة وسياساتها تتمركز أكثر فأكثر في المراحل اللاحقة. ويتولد تكافؤ الدولة والحزب. ويتحول الحزب كلياً إلى مؤسسة مناهضة للديمقراطية، داخلياً وخارجياً. بالتالي، غدت سياسات الحرب والسلم داخل النظام السائد عاجزة عن القيام بشيء، سوى حمل المياه إلى رحى الرأسمالية. لكن مثل هذه الأخطاء والنواقص التي يمكننا الإكثار من سردها، لم تتح المجال لأية تغييرات جذرية. ولم تسمح سوى بالوصول إلى النتيجة الطبيعية المرتقبة، ألا وهي إنتاج الرأسمالية وتعزيزها أكثر.
مع ذلك، لا جدال في كون الماركسية تجربة عظيمة وتاريخية في سياق نضال الحرية والمساواة، ومساهمة غنية في الكفاح الاجتماعي. حيث حمَّلَت علمَ المجتمع بالاقتصاد والثقل الطبقي، وأرغمت البورجوازية على تلطيف أشكالها في مواضيع التحرر الوطني وحقوق الإنسان والدولة الاجتماعية. إلا إن موقفها التكتيكي البالغ الضيق من الديمقراطية، وعدم اختلافها عن الرأسمالية في نظرتها إلى الأيكولوجيا وحرية المرأة، وعدم تخطيها القوالب البورجوازية كبراديغما أساسية في الحياة؛ كل ذلك أدى إلى إلحاقها بالنظام بسهولة أكبر. في حين أن نضالات الديمقراطية الاجتماعية والتحرر الوطني المستلهمة من الماركسية، والمحرزة نجاحها بتأثر من الاشتراكية المشيدة، وغيرها من الأشكال الاشتراكية الأوهن منها؛ لم تنقطع أصلاً عن الرأسمالية. والشرائح التي تضمنتها كانت على الأرجح موالية للتطور الرأسمالي. لذا، لم تكن تمنح قواعدها فرصة حياة مختلفة، بل كانت تمدها بالصراع من أجل الانتفاع من الحياة الموجودة بالأغلب.
التنمية والتقسيم مشاكل منوطة تماماً بقانون النظام السائد. في الحقيقة، سيكون من الموضوعي أكثر النظر إلى كل من الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، التحرر الوطني، الليبرالية، والمحافظية؛ بأنها أكبر مذاهب الرأسمالية. وبقدر اختلاف مذاهب الإسلام والمسيحية واليهودية عن الظواهر الأساسية، فتلك المذاهب المنبثقة من الرأسمالية مختلفة هي أيضاً – وبالمثل – عن الرأسمالية الجذرية. أو بالأحرى، يُقَدَّر الفرق بقدر تنوع أشكال العائلة أو الفصيلة الواحدة. فاستمرار الدين بشكل محدود النطاق لا يعني أكثر من الهامشية، كما هي حال التيارات الفوضوية داخل الرأسمالية.
لم تَدُم أجواء الانتصارات "المناهضة للفاشية" بعد الحرب العالمية الثانية طويلاً. نمَّت الحركات الشبيبية والإرشادات الثورية الصادرة عام 1968 عن متغيرات براديغمائية مهمة. وتطورت النقمة والحنقة تجاه النظام السائد كلياً. وأُدرِك مدى عجز الاشتراكية المشيدة والتحرر الوطني والديمقراطية الاجتماعية عن تلبية الآمال المرتقبة. فالعالَم الموعود ليس أفضل حالاً من سابقه. بالمقدور القول أن أعوام السبعينات كانت مرحلة شهدت افتقاد الكثير من التيارات الثقافية العقلية المرتبطة بالماركسية قوتها وطاقتها منذ ثورة 1848. كما تَعرَّفت على الكثير من التيارات الجديدة، وعلى رأسها الحركات النسائية والأيكولوجية واليسارية الجديدة. وحدثت الانفتاحات الواسعة نحو الفامينية والأيكولوجيا والأتنولوجيا* مع ارتجاج الثقة الغائرة إزاء الاشتراكية المشيدة – بقدر الرأسمالية – وأشكالها، وقيام الثورة العلمية الثانية الكبرى فيما بعد الخمسينات، وظهور المستجدات الجديدة في ميادين علم الاجتماع والثقافة.
لم يكن انهيار الاشتراكية المشيدة في عام 1989 لصالح الرأسمالية. بل، وعلى عكس ما يُظَن، كان تطوراً على حسابها. لقد كان يعني انقطاع إحدى أهم حلقات سلسلة النظام القائم. ما انهار أصلاً كان النظام الذي يمسك بقاعدته الجماهيرية ويضبطها عبر الحرب الباردة، ويسوِّف ويُمهِل الحشود الشعبية الأخرى في العالم، عن طريق دول الاشتراكية المشيدة والدول التحررية الوطنية. ونجمت – لأول مرة – براهين جذرية تشير إلى البرود الحاصل إزاء المجتمع الدولتي على الصعيد العالمي، وإلى استحالة كونه أداة للحل. وخسرت الدولة القومية والقوموية أيضاً مهاراتها التسويفية والإمهالية بنسبة ملحوظة. كذلك فقدت دولة الرفاه الاجتماعي في البلدان الرأسمالية المتقدمة، تأثيرها في الكثير من البلاد، فيما عدا فترة وجيزة. وولج النظام طَوراً جديداً من جميع الجهات.
إذا ما تمعنا في تاريخ الرأسمالية، سنرى أن النهضة كانت إحدى الأنظمة الاجتماعية القادرة على تحقيق القفزة الكاملة للملمة الأشلاء وجمعها. حيث استفادت من الثورات السياسية بكل كفاءة وحذاقة. وبلغت ذروة نضوجها مع الثورة الصناعية. لقد كانت أول نظام يُكمِل توسعه على الصعيد العالمي. ومع اندلاع الحربين العالميتين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، غدت وجهاً لوجه أمام المآزق الجذرية لحل تناقضاتها. وفي الحقيقة، فقد سادت أزمة الرأسمالية العامة كافة القرن العشرين. ففترة الحربين العالميتين، وما بينهما، وقُبَيلهما وبُعيدهما؛ كانت تشير إلى أن النظام الموجود لن يقدر على الصمود والثبات إلا بالحروب. وبزيادة الاشتراكية المشيدة وأشكالها الأخرى من التقطب، تحولت نوعية الحرب من الساخنة إلى الباردة. ولدى استحواذ انهيار عام 1989 على هذه الإمكانية وأخذها من يدها، بات النظام يرى نفسه وكأنه يسبح في الفراغ. حيث لم يعد يجد طرفاً يهاجم. لذا كان بحاجة لخلق خصوم جدد. وكان سيجد ذلك في الديانة الإسلامية ذات الأصول الشرق أوسطية.
كثيراً ما نصادف مصطلحات من قبيل "العولمة" و"الإمبراطورية الأمريكية" في المصطلحات الفنية للمرحلة الجديدة. والعولمة تعني ظاهرة توسُّع النظم. أي، ما من جانب جديد فيها. فكل الأنظمة عالمية، منذ أيام الكلانات البدائية وحتى يومنا هذا. وكل نظام ناجح، يتسم بفرصة التوسع، قليلاً كان أم كثيراً.
الإمبراطورية أيضاً من المصطلحات القديمة. فمع تكاثر مدائن الدول، ومع تحول الدولة أيضاً إلى دولة كافة المدائن، تكون ظروف الإمبراطورية قد ولدت. وبما أن المدن تكاثرت على الدوام، كان لا مفر من التوسعات في الإمبراطورية، لتتولد المساحات والطرازات البارزة لها. وقد تطورت تقاليد إمبراطورية "سارغون" طرداً منذ الاستيلاء الأكادي على مراكز المدن السومرية. وإمبراطورية روما العبودية كانت أوسع وأقوى الإمبراطوريات التي عرفها العالم حتى ذاك الوقت. والإمبراطوريتان البيزنطية والعثمانية الإقطاعيتان اللتان حلتا محلها، حذتا حذو تلك التقاليد. وأُسِّست شبيهاتها في الصين والهند. أما الرأسمالية، فحملت راية هذه التقاليد منذ فترة تأسسها، عبر الإمبراطورية البرتغالية أولاً، ومن ثم الإسبانية، ومن بعدها الإمبراطورية الإنكليزية التي لا تغرب الشمس عنها؛ لتستمر بها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وفيما بعد الحرب، فإن ثنائية الإمبراطورية الأمريكية والإمبراطورية الروسية السوفييتية، التي عانت من التوتر والاضطراب؛ صارت أحادية لصالح الأولى في عام 1989. هكذا لم يَعد هناك أي عائق على درب روما الرأسمالية.
ثمة مزية بارزة للإمبراطوريات: إنها تعتمد التقسيمات الولاياتية أساساً أكثر من اعتمادها البنية المركزية الأحادية. ولقبولها بالعديد من تقاليد الدول القديمة، والمتبقية من العهود السابقة؛ كثيراً ما تلاحَظ لديها الميول نحو الفيدراليات الرخوة. وبقدر ما تُدرِج قوى أكثر تحت هيمنتها في الخارج، بقدر ما تزداد حالات الولايات والأقاليم والدول التابعة لها في الداخل. ومع التوسع على الصعيد العالمي، تزداد هذه العادة وتتكرر.
يواجه عهد الإمبراطورية الأمريكية حالة من العوائق الثنائية المشابهة داخلياً وخارجياً. النقطة المهمة الواجب استيعابها هي أن أمريكا لا تؤسس إمبراطورية من نقطة الصفر، بل تواصل عادة موجودة منذ آلاف السنين. وهي مرغمة على ذلك، لأن النظام الدولي العالمي لا يكون بلا إمبراطوريات. أما حالة الدول المستقلة كلياً عن بعضها، فهي مجرد فرضية لا وجود لها على أرض الواقع. فما هو ساري المفعول ودارج، هو حالات تبعية الدول إزاء بعضها البعض. تتحول هذه التبعيات الموجودة داخل النظام السائد (من أقوى الدول إلى أهزلها) لدى بعض المجموعات إلى إمبراطورية تكون هي الأقوى نظاماً من دون الآخرين، والقوة ذات الكلمة الفصل كأكبر إمبراطورية. وما استلمته أمريكاً مؤخراً من الإمبراطوريتين الإنكليزية والروسية السوفييتية، هو هذه التقاليد. فهي مضطرة لتوسيع وبسط نفوذها عمقاً واتساعاً، وعلى جميع المستويات، في أراضٍ جغرافية شاسعة تحتضن بين طياتها المئات من اللغات والثقافات والكيانات السياسية والأشكال الاقتصادية. لكن الربح وتكديس رأس المال الأعظمي للنظام، يضيِّق الخناق على هذه المرحلة دائماً. فالتحكم بتوازنات الربح منوط بالتوسع. وتتوتر العلاقات بسبب تضارب منافع الكثير الكثير من القوى. لكن، وبسبب سيادة قاعدة الأقوى، لا يمنح هذا التوتر فرصة لتشكُّل قطب ثانٍ. فهذا منافٍ لمنطق النظام السائد.
ضمن هذا الإطار تبحث العولمة والإمبراطورية الأمريكية عن التوازنات فيما بعد التسعينات. فـ"فوضى النظام" التي تشهدها الرأسمالية تشيد باستحالة تجاوز الأزمة بالأشكال القديمة. بالتالي، ستستمر عولمة المرحلة في أجواء متأزمة. ومع استمرار وجود المؤثرات المكثِّفة للأزمة، والمتأتية من المراحل القديمة؛ تجنح إلى زيادة حدتها أكثر فأكثر. أما قانون الربح المتناقص رغم كل الإجراءات والتدابير، ارتفاع الأسعار بسبب الضرائب، تلوث البيئة، المصاريف الناجمة عن ممارسات الدولة الاجتماعية، والمعارضة الديمقراطية المتسعة والمتزايدة؛ فكل ذلك يَحُدُّ من نسبة تكدس رأس مال النظام. ويقل الفارق بين المصطلحات الداخلية والخارجية بنسبة ملحوظة. وتكاد العولمة تفرض التحرك كدولة واحدة. وفي هذه المرحلة يغدو لا مناص من الترتيبات الجديدة بين النظام وحلفائه.
لقد باتت الدولة القومية، التي كانت تتميز بنوعية مستقلة محدودة في أيام نشوء ونضوج الرأسمالية، تشكل حجر عثرة. فسواء الجنوح إلى تكوين أعظم قوة على الإطلاق، أو السمات الاقتصادية للعولمة؛ كلاهما لا يطيقان تحمل القوموية والدولة القومية القديمة.
نخص بالذكر هنا المضايقات الأكثر التي تعانيها التقاليد الجمهورياتية التابعة لتقاليد الثورة الفرنسية. حيث تصبح مثالاً جديداً للتزمت (المقاومة). يستمد التناقض الأمريكي – الأوروبي مصدره من هذه الحقيقة. فجمهورياتية أوروبا وديمقراطيتها غيورة على استقلاليتها القديمة. هذا وتذكِّرنا أيضاً بالكولونيالية (الاستعمارية) القديمة، حيث لا تغفل أبداً عن كون الرأسمالية كَعبَتها. من هنا، فالتوتر والحزازيات الأمريكية – الأوروبية حقيقة واقعة. فإلى جانب كون حقيقة الصين الباسيفيكية واليابان – والتي يُنظَر إليها كمناطق جديدة لنمو الرأسمالية – تتحلى بطاقة كامنة تخولها لتكون البؤرة الثالثة؛ إلا إنها لا تستطيع سوى الحفاظ على استقلالية نسبية. والمندرجون ضمن هذه المجموعة ماهرون في التقليد، سواء كانت نظمهم أحادية أو معقدة. والبلدان المشابهة، كروسيا والبرازيل، مرغمة على الرضا والاكتفاء باستقلال محدود. فمنطق القوة في النظام السائد يستدعي ذلك. أما البلدان التائهة في الوسط – مثل تركيا – فستعاني مصاعب أكبر.
أما بالنسبة لمجموع البلدان التي لا تدخل المستوى المرسوم لها، والمسماة بالعاصية الثائرة أو المهذارة (المتشردة)، فيُأتى بها إلى النقطة المرادة لها بقوة النظام العسكرية والاقتصادية والثقافية. في حين أن منطقة الشرق الأوسط – التقاليد الحضارية الوطيدة، الإسلاموية، المشاكل الاقتصادية المتفاقمة – البعيدة عن الصهر الكلي إزاء النظام الموجود؛ تشكل موقفاً ثائراً ومتمرداً بشكل كلي. لقد تركت "شيوعية" الحرب الباردة مكانها لـ"السلطة الخضراء" لمنطقة الشرق الأوسط. والبنى المتزمتة والسلطوية الكبيرة، والمتخفية تحت رداء إسلامي؛ مرغمة على التمزق. أما فيما يتعلق باللوبي اليهودي – القبيلة العبرية – المؤثر في القوة العالمية؛ فهو مرغم على رؤية حساباته وطموحاته وخيالاته الممتدة على مر آلاف السنين، بسبب مسألة إسرائيل. ومنطق النظام الحاكم لن يطيق بحالته الراهنة تحمُّل الشرق الأوسط. والمرحلة الجديدة المبتدئة بالهجوم الحاصل على البرجين التوأمين في حادثة 11 أيلول 2001 المعقدة والتآمرية، هي الآن وجهاً لوجه أمام الديناميكيات التي ستحدد من جديد، ليس مصير الشرق الأوسط وحسب، بل ومصير النظام السائد أيضاً. في الحقيقة، وكأن تَقابُل وتَواجُه الأكثر قِدَماً والأكثر حداثة على أرض مهد الحضارة وميلادها، مشحون بالمفاجآت التي ستعيِّن التشكيلة الجديدة التي ستأخذها الحضارة من الآن فصاعداً.

B – أفكار تخطيطية بصدد المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي


لقد ولج نظام المجتمع العالمي مساحة الفوضى البينية اللازمة للتغيير، حصيلة انهيار الاشتراكية المشيدة في 1989 لأسباب بنيوية. ثمة فوارق نوعية بين أزمة النظام الرأسمالي السابقة، وبين أزمته الحالية التي يمكننا تسميتها بالفوضى البينية. لا تحصل التغييرات الجذرية في المجتمعات نتيجة أي نوع من الأزمات، بل حصيلة الأزمات ذات النوعية المتسمة بالفوضى. ففرصة النظم في ترميم ذاتها – أي إعادة بناء نفسها على الأسس عينها – لتأمين استمرارها، تكون كبيرة في مراحل الأزمات العادية. بيد أن النظام الرأسمالي عرف كيف يرمم ذاته ويعززها أكثر في مراحل الأزمتين العامتين الأولى والثانية، اللتين مر بهما بُعَيد الحرب. والسبب الموضوعي المهم الذي مكَّنه من تذويب – حتى – الاشتراكية المشيدة في بوتقته، منوط بنوعية الأزمة آنذاك. ورغم أن عجز التوجهات الماركسية اللينينية عن الانقطاع التام عن القيم المهيمنة للمجتمع الطبقي يُعد عاملاً مؤثراً ومهماً؛ إلا أن أزمات النظام الذي ارتكزت إليه الاشتراكية المشيدة، كانت ذات نوعية يمكن تخطيها بالجهود والمساعي الذاتية. ولو لم يكن المؤثر الموضوعي المحقِّق للانهيار بهذه النوعية، لما جرى هذا الاستسلام الذي يكاد يكون الأسوأ من نوعه. بل وإنها انتظرت الخلاص من النظام الحاكم ذاته. إن البلدان الرأسمالية المتقدمة هي التي أعاقت حدوث النتانة والاهتراء الأسوأ.
حتى هذه الحقيقة المعاشة كافية لتلقيننا الكثير من الدروس في إيضاح تأثير الاشتراكية المشيدة الضارب للنظر في تخطي النظام القائم أزمته، وانتهائه بالفوضى، على حد سواء. لو لم تنقسم الرأسمالية إلى مذاهب، نتيجة ثورات عام 1848، لربما كانت دخلت مرحلة الفوضى مبكراً. لقد تخطت القرن العشرين على وجه الخصوص عبر ثلاثة مذاهب. فمذاهب الاشتراكية المشيدة والديمقراطية الاجتماعية والتحرر الوطني، ساعدت على تأخير ولوج النظام القائم مرحلة الفوضى قرناً كاملاً على أقل تقدير. ولو أن الحال استمرت حينها دون تغيير، لكان اضطر النظام لدخول الفوضى البينية ذات أزمات التحولات الجذرية، في بدايات القرن العشرين. يجب النظر إلى تسليط النظام الحروبَ المروعة – بما فيها الذرّة – على رأس البشرية، وخلقه الوحوش الاستعمارية، القوموية، الفاشية والتوتاليتارية، وقيامه مقابل ذلك بإناطة التحرر الوطني والاشتراكية المشيدة والديمقراطية الاجتماعية بدور الحل؛ على أنه ليس سوى مناورات تاريخية وسياسية وعسكرية لإطالة عمره، لا غير.
تعبِّر الفوضى البينية عن التعقيد والاختلاط اللازم من أجل التغييرات في بنى الظواهر، من قبيل الشكل، النوع، والبنية الجديدة. حينها تكون الجوانب المتضاربة في ظاهرة ما قد وصلت حالة لا يمكنها فيها الاستمرار في علاقاتها مع بعضها البعض، ولا مواصلة بناها الموجودة. والشكل عندئذ لن يصون المضمون، بل سيكون ناقصاً، ضيقاً، ومخرِّباً. في هذه الحالة تبدأ التساقطات، ويتولد الشغب (الفوضى). لقد أنقذ المضمون نفسَه من الشكل. لكنه لم يبلغ بعد شكله الجديد. والشكل القديم المتمزق لا يجدي نفعاً سوى في كونه لازمة تُستَخدَم من أجل الأشكال الجديدة. وكأن مبدأً كونياً يعمل في هذه المساحة البينية. تنتقل أجزاء بنية الكون إلى تسْويات جديدة، عبر التغيرات السريعة أثناء الفوضى المبلوغة. وإذا كانت تسوية الشكل الجديد مناسبة للإمساك بالأجزاء، فإنها تتحول إلى بنية ثابتة راسخة، يتولد في أطرافها نظام جديد.
لنوضح الأمر في عالَم الظواهر المادية البسيطة: إن جزيء (H2O) هو شكل معين. ويقال لهذا الشكل "الماء". فعندما يتحد جزيء الهيدروجين (H2) – الذي يشكل أحد عنصرَي الماء – مع ذرّة الأوكسجين (O)، يتشكل الماء. علاقة الفعل ورد الفعل القائمة بين نظام الجزيئيات الأصغر من الذرّة، والموجودة في العنصرَين، وبين جزيء الماء؛ تؤمِّن الحالة السائلة المتدفقة والمنسابة إلى أبعد الحدود. أما حالة التمزق، فتعني بداية الفوضى. فإذا ما بقيت كل ذرّات الهيدروجين (H) والأوكسجين (O) طليقة، وإذا ما دخل بينها عناصر غريبة كالكربون أو الكبريت (على سبيل المثال)؛ فستظهر بعد ارتكاس وجيز اتحادات كثيرة جديدة إلى الميدان. إنه يعني البناء الجديد. حيث تتشكل العديد من الغازات والسوائل السامة عوضاً عن الماء، مثل (CO2 CO,، وحمض – قاعدة).
تسري قاعدة الهيكلية الكونية هذه على المجتمعات أيضاً. فتَبعثُر البنية القديمة ضرورة لا بد منها من أجل البنى الجديدة. لكن، لا يمكن وضع التبعثر والاختلاط بمفردهما مكان البنية. إنه ضرب من العجينة، أو شيء أشبه بالحساء، يتطلب عجنه وإعطاءه شكلاً معيناً. فلنعطِ مثالاً هنا من المجتمع: كان النظام (والذهنية) الإقطاعي قد تبعثر في أواخر القرن الخامس. وكانت الطبقات الجديدة والبرابرة متخذة أشكال عديدة من التكوينات الإقطاعية قبل اعتناقها المسيحية. في حين أنها، وبعد انهيار الإقطاعية تقمصت الكثير من الأشكال الديمقراطية والرأسمالية البيروقراطية.
كثيرة هي طروحات المعطيات المشيرة إلى تبعثر المضادات مع النظام الرأسمالي في أعوام التسعينات. وأولى تلك الإشارات هي التكاثف الأكبر لعولمة رأس المال في الميدان التمويلي. والنظام التمويلي يعني إتيان المال بالمال. بمعنى آخر، فقد بلغ حالة القِمار. ولن يكون ذلك إلا عنصراً للتبعثر والتناثر. إن التمويل يبعثر البنى الراسخة للرأسمالي كما يتناثر قطن الحلاّج. ولا تقف المؤسسات القومية عندئذ على أرجلها بإرادتها الذاتية، بدءاً من الدول وحتى الأيديولوجيات، ومن الاقتصاد وحتى الفن. لكن، كلما عَكَسَت عولمة القوة والإمبراطورية الأمريكية عدمَ جدوى القيم والبنى القديمة الموجودة على الصعيد العالمي بالنسبة إليها؛ تفسح المجال بذلك إلى بروز الأزمات والمآزق والانقلابات والصراعات الإثنية والدينية الدموية، في الكثير من مناطق العالم والدول القومية.
يعجز النظام القائم عن تخطي توتراته الداخلية، أياً كانت الوسائل. وتعاش حالة دائمة من الحزازيات والاضطرابات والخلل، وفي مقدمتها فيما بين أمريكا – الاتحاد الأوروبي، أمريكا – اليابان – الصين، والاتحاد الأوروبي – اليابان – الصين. أما الصراع المسمى بالتناقض الشمالي – الجنوبي، فيستمر متجذراً على شكل انقسام بين الدول الأكثر فقراً – الدول الأكثر غنى. وما يشاهد في كلا الظاهرتين يتسم بماهية من الأزمة المتفاقمة والفوضى الدائمة. ويتعمق انقطاع الشعوب عن مؤسسات الدولة تصاعدياً. وتتطور عزلة الظاهرة المسماة بالدولة يوماً بعد يوم، كلما تم الاستيعاب بأنها تواري في مضمونها قوة السلطة القتالية، وتشكل مصدر الاستعمار والقمع والعنف؛ بعد أن كان يُعتَرَف بها سابقاً – وعلى مر آلاف السنين – بأنها المَلك الإله أو الإله الظل أو الإله ذاته (والذي يمثل الدولة البورجوازية لدى هيغل). لقد باشرت الشعوب ترى الدولة على حقيقتها المعرّاة من كل ستار، كمثال الطفل الذي يرى المَلك عارياً فيصرخ منادياً "أمي، انظري. إن المَلك عارٍ". إنها بداية مهمة للفوضى.
الموضوع الآخر البالغ الأهمية هو حالة البطالة. حيث تزداد البطالة ذات الخصائص البنيوية، كلما استمر النظام السائد. فالنظام بحد ذاته يعني زيادة البطالة كالسيل الجارف. حيث لم يسقط السكان والأهالي في مثل هذه الحالة في أي نظام آخر للمجتمع. من هنا، فالبطالة هي أُولى الظواهر القادرة على الإفصاح عن ماهية الفوضى للأزمة المعاشة، وبأفضل الأشكال. فأينما تكون البطالة كثيفة ومركَّزة، تكون هناك حالة متطورة من الفوضى. والبطالة، إلى جانب العديد من السلبيات، تفيد بحالة الخروج من المجتمعية. إنها ضرب من دفع المجتمع إلى الإفلاس.
من جانب آخر، لا يتم تَشَرُّب أو امتصاص زيادة العرض مع التقنيات الإنتاجية المذهلة. المسألة ليست مسألة عَوَز أو فاقة. بل على العكس، فمن جهة ثمة حشد غفير من السكان المعانين من مجاعة أنكى من الفاقة، ومن الجهة الأخرى ثمة كل شيء من زيادة العرض المتكدسة كالجبال. لا يمكن أن تتشكل ماهية فوضى أكثر لفتاً للأنظار من هذه.
هذا وثمة تمدن متعاظم ومنتشر كما السرطان. وتعاظم المدينة هو أحد أكثر الأمثلة سطوعاً عن السَّرْطَنَة (أي الإصابة بعدوى السرطان) الاجتماعية، والتي لا علاقة لها بالمدينة بالمعنى السوسيولوجي للأمر. فالمدن تخرج من كونها مدناً، بتعاظمها بما لا معنى له، وبتحولها القروي أيضاً على حد سواء. تعاش الفوضى في المدينة على نحو أكثر كثافة. إذ يتم تبضيع المجتمع برمته، بحيث لا تبقى فيه قيمة، إلا وتكون موضوعاً للبيع والشراء. ويتحول كل شيء إلى سلعة: القدسية، التاريخ، الثقافة، والطبيعة وكل شيء. هذه الحقيقة ليست سوى سَرطَنة اجتماعية تقود بدورها إلى الفوضى.
أما تلوث البيئة ودمارها، فيبرهن بشكل قاطع على إحاطة خاصية الفوضى بكل البيئة، كمحصلة لجميع ماهياتها الأخرى. وما داء الصَّرَع، انشقاق طبقة الأوزون، تلوث المياه والهواء، والانقراض المفرط للكائنات الحية؛ سوى رموز منفردة بذاتها تدل على ذلك. أما الظاهرة الأيكولوجية الحقيقية، فهي تحول العلاقة الكامنة بين المجتمع والطبيعة إلى هوّة شاسعة. وإذا لم تُغلَق هذه الهوّة قبل لحظة، فستكون النتيجة هي التحول إلى ديناصور اجتماعي.
من الضروري رؤية الانفجار السكاني أيضاً كحصيلة لبنية النظام القائم التناقضية العامة. فسياسة النسل لدى الرأسمالية ترتكز إلى مبدأ "كلما قَلَّت قيمة الإنسان، كلما تكاثر وكثر". وكلما بقيت الرأسمالية موجودة، فستستمر مشكلة التضخم السكاني في تفاقمها طرداً. تأتي مسألة الانفجار السكاني في صدارة الخصائص المضخِّمة للفوضى والمفاقِمة إياها.
تشهد بنى المجتمع الموجودة في القطب المضاد للنظام السائد حالة مشابهة من التساقط والتشوش. وقبل كل شيء، تعيش العائلة التبعثر الأكثر كثافة في تاريخها المديد. فقرابة نصف الزيجات تبطل وتفسد، مما تقود إلى تعاظم العلاقات الجنسية غير المضبوطة واللاأخلاقية، كالسيل الجارف. وكأن عمر "الزواج المقدس" قد انتهى.
أما الأطفال، العجائز، وعلاقات الوالدين، فقد وقعوا في حالة نتنة فاسدة لا معنى لها من الناحية الاجتماعية، باعتبارهم الضحية المؤسفة للتبعثر ارتباطاً بوضع العائلة. كلما انسدل الستار عن الممارسات القمعية والاستغلالية المطبقة على المرأة منذ القديم الغابر، كلما تحولت قضية المرأة إلى أزمة متفاقمة، بكل ما للكلمة من معنى. وكلما تعرفت المرأة على ذاتها، كلما تحولت إلى العنصر الأكثر تأثيراً في علاقة الفوضى التامة، بما يختلجها من نقمة ونفور على إقحامها في وضع السقوط والتردي. إن انهيار المرأة يؤول إلى انهيار المجتمع. وانهيار المجتمع يفضي إلى انهيار النظام القائم أيضاً.
الحالة النادرة جداً للأخلاق الاجتماعية مؤشر آخر على اللاأخلاقية العامة. فحالة الأخلاق المستهلَكة تكاد تؤدي إلى فردية محرَّرة من قيودها وضوابطها، وإلى فساد ودمار القيم الاجتماعية. توضَع الأخلاقية بالنسبة للرأسمالية في كفة مساوية لـ"الحماقة والسذاجة". إن مجتمعاً مفتقداً لمقوماته الأخلاقية (أي ضميره)، لا يعني سوى حالة من الفوضى. ولا يمكن تعريفه على نحو آخر. إن المشاكل الاجتماعية التي تسعى الدولة لإعاقتها عبر سياساتها الاجتماعية، عاجزة عن العثور على حل لها. بل وتتفاقم أكثر بسبب ندرة الموارد، وبسبب البنية العامة للرأسمالية.
أما "المنفعة العامة", والتي تعتبر النشاط الوحيد المفعم بالمعاني للدولة، فهي تفقد مضمونها كلياً. و"الأمن العام" للمجتمع أيضاً يعاني من مهالك مشابهة. فتقرب الرأسمالية على أساس "جعل كل واحد ذئبَ الآخر" يقود إلى بروز مشكلة أمنية عامة. فالأمن الاجتماعي لا يُفسَد من الخارج فحسب، أي من الأشقياء أو من الجرائم التي تنص عليها القوانين؛ بل إن ما أدى إليه النظام يجلب معه الدوافع الأساسية للأمن، وعلى رأسها المجاعة والبطالة.
ميدان التعليم والصحة أيضاً عاجز عن العثور على حلول لذاته، بسبب ارتفاع الأسعار من جانب، والتزايد السكاني من جانب آخر. وتتكاثر أمراض متسمة بالفوضى، وعلى رأسها داء السرطان، الأيدز، والأرق والإجهاد. والمجتمع الذي بات وجهاً لوجه أمام الانقطاع عن كافة أنواع عناصر الحياة التي لا غنى عنها، وفي مقدمتها البيئة، السكن، الصحة، التعليم، العمل، والأمن؛ أصبح – ولأول مرة في التاريخ – منتبهاً إلى عجزه عن إيجاد الحلول الجذرية لمشاكله، أي إلى ولوجه في مكبس الفوضى. إنها مرحلة تدوخ فيها العقول وتصاب بالدوار بسبب عقم الحل.
إن الآليات الدفاعية، الفن، العلم والتقنية عاجزة عن لعب دورها بسبب الاحتكار المفرط للسلطة الرسمية إياها؛ رغم أنه من الواجب أن تؤدي وظائفها أكثر من غيرها في مثل هذه المراحل داخل أنظمة المجتمع التاريخية. وكلما انهار التعاضد المشاعي، كلما خارت قوة الدفاع التقليدي، لتتخلى عن مكانها للعنف الفردي والعنف العصاباتي. فمقابل إرهاب السلطة، يؤجَّج إرهاب القبيلة والعشيرة. وكلما تَعرَّت قوة السلطة القتالية في بنية الدولة، كلما تولَّدت حالة من الدفاع المشروع للمجتمع. من جانب آخر، كلما غاب تطبيق قواعد المساواة بأعم أشكالها في دولة القانون، وكلما فُرِض الطوق والحصار على حقوق الإنسان وأساليب التعبير الديمقراطي عن الذات؛ فستتشكل بالضرورة قوى الدفاع عن الحقوق. مما ينمّ ذلك عن إقحام الأجواء في قوقعة العنف المتبادل الحلزونية. سيساهم ذلك في زيادة حدة الأزمة، عوضاً عن الخروج منها. ولدى التصعيد المفرط من قوموية الدولة، ستتطور القوموية الإثنية. هذا بالذات ما يشكل قناة أخرى للعنف.
بدلاً من أن تُعبَّأ النشاطات المؤسساتية – كالرياضة والفن – وتُشحَن بآلياتها للمساهمة في العثور على الحلول وتلطيف وتطويع العلاقات والتناقضات المادية وإيضاحها؛ تتحول، وعلى النقيض من ذلك، إلى وسائل مخدِّرة، لتشارك في التمخض عن حالة من الزيف والرياء. هذا وتُشحَن الأديان والمذاهب والطرائق بآليات وفاعليات مشابهة، لتشكل عائقاً أمام رؤية حقيقة المجتمع القائمة، وتُقحَم في وضعية معيقة على درب الحل الحقيقي؛ عبر تشكيل الجماعات المتزمتة فيها، إلى جانب مفهوم "العوالم الأخرى". وبفصل الرياضة والفن والدين عن جواهرها الاجتماعية التاريخية، تسود النظرة بعينٍ تضع أمام بصرها "منظار الحصان"، وتنظر إلى الأمور بفؤاد صفيحي. هكذا تعم البلادة واللامبالاة. وبخلق البراديغما المزيفة والخيالية، يُفرَض العقم على المجتمع، وكأنه قدر محتوم. لكن مقاومات من هذا القبيل تجاه الفوضى، ستنمّ عن نتائج معاكسة، لتتجذر الفوضى أكثر فأكثر.
أما فيما يتعلق بالعلم والتقنية، فلا يتم عكسهما على الحل الاجتماعي المرتقَب، بسبب الاحتكار المريع للسلطة إياهما؛ بدلاً من أن يلعبا دورهما المنوط بهما في مثل هذه الأوقات، في التنوير والإرشاد والتوجيه في عملية إعادة البناء، وإفساح المجال لتأمين كل ذلك. يُناط تعريف الفيل بوبره، بدور مشابه لسحق الفأرة بالفيل. علاوة على أن فرص الحل العظمى تُوجَّه صوب حروب وتسلح لا معنى لهما، وصوب الحظي بنتاجات تستهدف الربح المحض؛ مما ينافي احتياجات المجتمع الأولية. وهذا بدوره ما يفتح الطريق أمام السلبيات، ويُستخدَم بالتالي في تطوير الفوضى.
بالمقدور التوسع أكثر في تعريفنا للفوضى التي مهّد لها النظام بإلحاقه المجتمع برمته بها. لكن هذا التعريف كافٍ ووافٍ لتلبية ما نرمي إليه هنا. بدون إيضاح حالة الفوضى بشكل مفهوم، بل والتفكير والتصرف وكأننا نعيش في نظام اعتيادي مألوف؛ لن ننجو من الوقوع في أخطاء أساسية، وبالتالي من معاناة تكرار العقم واللاحل، عوضاً عن الحل. ثمة حاجة ضرورية للمساعي التثقيفية والعقلية الشاملة في هذه المرحلة، بما يضاهي سابقاتها بأضعاف المرات. نخص بالذكر هنا زيادة قيمتها التنويرية بحق، بسبب ما يسفر عنه سوء فهم المجريات من حولنا – عوضاً عن فهمها – بوساطة البنى العلمية القديمة كالجامعات والدين. فالعلم والدين المرتبطان بالسلطة، يصبحان فعّالان إلى أقصى حد في إظهار الوسط على نحو مشوه ومنحرف، وفي طرح البراديغمائيات الزائفة.
علينا في هذه المراحل أن نرى على نحو أفضل، الدور الذي يؤديه العلم والدين والفن والرياضة كثورة مضادة. تتزايد الحاجة بنسبة كبرى للعلم والبنى العلمية – مدارس وأكاديميات علم الاجتماع – غير المخادعة، والمتقدمة إلى المجتمع بمخططات ومشاريع وبراديغمائيات حقيقية. علينا كسب الصراع أولاً في الميدان التثقيفي العقلي، أي في الميدان الذهني. إننا في مرحلة اكتسبت فيها الثورة الذهنية أهمية مصيرية.
يجب أن يكون الصراع الذهني متماشياً مع القيم المعنوية. فإذا ما لم تُكتَسَب المعنويات والأخلاق مع الذهنية، سيكون ثمة شكوك وريبة في الحصول على النتائج، أو تأمين ديمومتها. إذا ما وضعنا نصب العين حقيقة النظام القائم في تجريده المروِّع المجتمعَ من الأخلاق، سنجد أنه من الضروري أن تمثل السلوكيات والشخصيات والمؤسسات الأخلاقية الكافية والضرورية ذاتَها في المجتمع. فأي تواجُه مع الفوضى يكون مفتقراً إلى الأخلاق، قد ينتهي بابتلاع الفرد والمجتمع على السواء. على الأخلاق ألا تتغاضى إطلاقاً عن التقاليد الاجتماعية، بل أن تضيف أخلاق المجتمع الجديد بما يتناغم معها. من الضروري بعد الآن إيلاء أهمية خاصة للسياسات والوسائل اللازمة في عملية إعادة بناء المجتمع أثناء مرحلة الفوضى، تجاه مؤسسات ووسائل السياسة المقحَمة في حالة أداة ديماغوجية على يد النظام المهيمن.
على الأحزاب والانتخابات والمجالس والإدارات المحلية أن تتداول المشاكل العالقة شكلاً ومضموناً، وأن تجد وسائل الحل اللازمة لها، باعتبارها مؤسسات سياسية قادرة على لعب دورها المنوط بها في تحقيق بناء المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي. يجب أن تكون أواصر التنظيم السياسي والعملية السياسية على قدر من الكفاءة والكفاية مع المجتمع الديمقراطي والمشاعي والبيئي. ثمة حاجة ماسة لتجسيد هذه التوجهات العامة بشكل ملموس، إزاء مرحلة الفوضى. يمكن أن تجري عمليات خروج النظام والشعب من الفوضى في حال امتلاكها القُدُرات التحولية. فقد تسفر المداخلات الصغيرة عن نتائج مهمة. وقد تكون مرحلة الخروج من الفوضى قصيرة أو طويلة المدى (بشرط ألا تقل عن عشر سنين، وألا تزيد عن خمسين سنة).
إذا ما حاولنا إسقاط احتمالات الحل للأطراف المعنية ضمن هذا الإطار، فسنجد أنها ستحدَّد وفقاً للصراع القائم بين القدرات التحولية لقوى النظام المهيمن في الخروج من الأزمة والفوضى بالزعامة الأمريكية من جهة، وبين قدرات الشعوب التحولية في الخروج منها من جهة ثانية. فالأزمة لا تجلب معها الانهيار التلقائي للأنظمة الموجودة وتأسُّس الجديدة منها. بيد أن الانهيار أو التحطم ذو معنى نسبي. فالتقييمات الباطلة التي سادت الآداب الاشتراكية في الماضي، من قبيل "الرأسمالية الزائلة"، و"الإمبريالية أسَدٌ من ورق"، و"لن تخرج من الأزمة والوهم مرة ثانية"؛ لا تذهب أبعد من كونها قيمة دعائية. من جانب آخر، فالتقربات المشحونة بالإيمان بـ"إمكانية الانتقال إلى أشكال أكثر تقدمية" كضرورة لا بد منها، محدودة في سريانها. فالانحسار والتقهقر أيضاً ممكن، وبكل سهولة. علاوة على أن تحديد مدى تقدمية الرأسمالية ككل متكامل، لا يزال موضوع جدالات محتدمة. وقوى النظام المهيمن، نسبةً إلى قوى المجتمع، تعد أكثر تزوداً وتسلحاً بالمعلومات، ومعبأة بالجيش والسلطة، ومتميزة بالتجربة والخبرة. كما أنها تستحوذ على ثروات وفيرة بين يديها. ثمة مجالات واسعة النطاق لتأسيس النظام الجديد، أو لقمع النظم المعادية؛ وإلا فشراء ذمتها، أو الوفاق معها.
ثمة نقطة أخرى مهمة تستدعي تنويرها، ألا وهي أن انتقاد الرأسمالية لا يعني تعتيمها من الجذور. وأن كل الرأسماليين – كأفراد – ليسوا متساوين كأسنان المشط. فقد يقوم النظام الرأسمالي بالانطلاقات على مختلف أنواعها:
أولاً؛ بإمكانه ترميم ذاته. بيد أنه فلح في ذلك بُعَيد الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذا وقام بالترميم أيضاً بعد حروب عدة بلدان أخرى. ثانياً؛ بإمكانه تحديث مذاهبه التي جرَّبها سابقاً، ليحقق انطلاقته. هذا وبالمقدور تسيير التسلسل المحافِظ الاجتماعي المجرَّب بكثرة، ضمن أشكال أكثر جذرية. فالنظام يمتلك قدرات تحولية واسعة النطاق. وهو خبير في تطوير النماذج. ثالثاً؛ بإمكانه عقد وفاق واسع الإطار مع القوة المناهضة له، كطريق وسط، لدى رؤيته أنه سيتكبد خسائر فادحة. رابعاً؛ من المحتمل أن يرى مناسباً القيام بتغييرات كبرى، عوضاً عن فقدان كل شيء. وقد قامت النظم الحاكمة على مر التاريخ بالعديد من التغييرات المشابهة في أوقات الأزمة الحرجة. كما وأُحدِثَت تغييرات على هذه الشاكلة، وبكثافة، في تاريخ الرأسمالية أيضاً.
المفهوم القديم القائل بأن "النظام صلب. فإذا ما ولج الأزمة، سيصعب عليه الخروج منها"، ليس واقعياً كثيراً. ومثل هذه المفاهيم يمينية الفحوى، رغم مظهرها اليساري. حيث تسفر عن حالة من الانتظار الفارغ للانهيار التلقائي، وكأنها تود التربع على ما هو جاهز. فحتى الفاكهة المستوية لا تؤكل ما لم تُقطَف. الأنكى من ذلك، أنه عندما لم يتحطم النظام كما كان منتظَراً، بات أصحاب تلك المفاهيم يشككون في أفكارهم وعقائدهم؛ مع أن ما جرى هو تعريف خاطئ للنظام، وعدم صياغة فرضيات صحيحة لتغيرات النظم وتحولاتها.
إن مساعي النظام الأمريكي في إدارة ذاته داخل الأزمة واضحة للعيان تماماً. فهو متنبه لمسؤولياته كي لا يصاب فيها بجرح بليغ. وفيما يتعلق بذلك، تعد التقييمات المفرطة القائلة بتوسيعه إمبراطوريته ناقصة الفحوى. إذ لا جدال في أن النظام يشير إلى الكثير من الأمارات التي شوهدت لدى انهيار الإمبراطورية الرومانية، ويقوم مثلها بالعديد من الترميمات والتحديثات. من الجلي أن التقطب الأحادي لقوة النظام الإمبراطورية بحاجة ماسة لجهود إضافية. فالتوسع الحاصل بعد انهيار السوفييتات عام 1990، كاد يكون تلقائياً، مهما كان. لكن على النظام الاعتراف بأن هذا التوسع لا ينبع من قوته، بل من عدم قبوله أي فراغ.
علينا التبيان بأهمية بارزة، بأن الإمبراطورية ليست نظاماً ابتكرته أمريكا، بل إنها لاقت أمريكا مع اتخاذها شكلها الأخير مع الرأسمالية، بعد تاريخ مديد طيلة النظم البارزة. إنها مجرد استلام من الإنكليز. والإمبراطورية هي التي وجدت أمريكا، لا أمريكا هي التي وجدتها. لربما كانت أمريكا القوة الأسهل تحولاً إلى الإمبراطورية، في العالم أجمع. وقد جرى توسع الإمبراطورية بغير رغبة منها نسبياً من جهة، وكضرورة فرضت ذاتها عليها نسبياً من الجهة الثانية. لكنه لن يقود إلى خروجها من الأزمة. بل على النقيض، سيساهم في غرقها فيها أكثر فأكثر. فالمناطق التي تم التوسع فيها، تتميز بفوضاها العميقة. والأزمات الإضافية التي ستتسبب فيها كل من العراق وأفغانستان لوحدها، ساطعة أمام الأنظار.
خلاصة، لا مفر لأمريكا في أعوام الألفين من تكوين أشكالها الجديدة اللازمة، كقوة تُعتَبَر هي الأدنى إلى الإمبراطورية. وهذا ما لا يتوافق وحقيقة السلطة القتالية. إذ ليس بمقدورها التراجع إلى الخلف بالقوة العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية المحدودة التي بحوزتها. تتمثل وظيفتها الأولى في إدارة شؤون النظام داخل الأزمة. هذا ما مؤداه إدارة التوترات والحزازيات الموجودة – دون أي صراع – ضمن علاقات ودية قريبة مع كل من الاتحاد الأوروبي واليابان والصين وروسيا وغيرها من الدول المشابهة. أي، عدم تكرار الدخول في صراعات مع قوى النظام، مثلما جرى في الحربين العالميتين. إضافة إلى عدم الدخول في حروب ملتوية مع بعض القوى بما يشابه حرب فييتنام. بل، وعلى العكس، السعي لتأمين مشاركات تلك الدول في تشاطر عبء النظام العام. لهذا الغرض يتوجب عليها القيام باستخدام الأجهزة الإقليمية والدولية، من قبيل صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، والمنظمة التجارية العالمية. من هنا، فستتوخى الحساسية الفائقة لإبعاد أمريكا اللاتينية وأفريقيا عن سلوك أية مواقف قد تجذِّر أزمة النظام فتحرجه. وكذلك الانتباه لعدم السماح بأية انقطاعات راديكالية من حلقاتها الضعيفة. وما برز للوسط في كل من كوبا، فنزويلا، هاييتي، وليبيريا، وغيرها من البلدان؛ ليس سوى فرض الرقابة على القوى المناهضة للنظام، والمحتمل ظهورها، بل وحتى سحقها إن تولدت الظروف الملائمة.
يتم إعداد مشروع جديد على الصعيد الجيوبوليتيكي بالنسبة لأمريكا، في البلدان الإسلامية الواقعة في منطقة الشرق الأوسط المترامية الأطراف، والمسماة بالمنطقة الأعمق في أزمتها؛ بحيث يكون هذا المشروع أشبه بمخطط مارشال الثاني للنظام الرأسمالي. يبدو أن هذه المحاولة المسماة بـ"مشروع الشرق الأوسط الكبير" ضرورة لا بد منها كي يتمكن النظام من الخروج من الأزمة، قبل تلقيه الضربة القاضية. وبدون إلحاق هذه المنطقة بالنظام السائد، فإن مصادر الطاقة الأولية من جهة، والظواهر الاجتماعية الثقافية والدينية من جهة ثانية؛ ستُقحِم أمريكا في حالة لن يهدأ لها بال فيها. ولن تقف القوى المتميزة بمرتبة الإمبراطورية مكتوفة الأيدي إزاء هذه الحقائق. لذا، بُذِلَت المساعي لإدارة المنطقة بشكل استعماري وشبه استعماري رأسمالي، خلال القرنين الأخيرين. وكُبِتَت أنفاس شعوب المنطقة بالاعتماد على بنى الدولة الاستبدادية. لكن – ومع ذلك – لم يحصل إلحاقٌ ذو معنى بالرأسمالية. وتجذَّرَ الصراع العربي – الإسرائيلي الاستراتيجي أكثر فأكثر. وتحامل الإسلام الراديكالي على خالقتِه أمريكا. أما أنموذج الدول القومية المؤسَّس ضمن حدود مرسومة ومُقاسة بالمسطرة؛ فأسفر عن انغلاق قالبي ورجعي. في حين أن القوموية والديانوية والدولتية كادت تخنق مجتمعات الشرق الأوسط كدرع محصن لا مثيل له في العالم. من هنا، ثمة حاجة لفكرة المشروع الجديد. المهم هنا هو؛ كيف، ومع أي من القوى سيرى هذا المشروع النور؟ وأي نظام سياسي واقتصادي سيتخذه أساساً؟ وكيف ستردُّ شعوب المنطقة عليه؟
هذه هي المسألة الأساسية، وبالتالي التناقض الأولي، على الصعيد الجيوبوليتيكي، بالنسبة للنظام بالزعامة الأمريكية، سواء بحلفه الناتو، أو بهيئته للأمم المتحدة. فالهدف المستهدَف الآن هو "الإسلام الصلب" أو "فاشية الإسلام" (عوضاً عن الفاشية والشيوعية سابقاً). إن قوى النظام وأذياله يشعرون بالضيق والسخط من موجة "العولمة" التي يتم إعلاؤها بالزعامة الأمريكية. نخص بالذكر هنا تزايد ردود فعل الجمهوريات والديمقراطيات الأوروبية مع مرور الأيام. حيث تولي العناية الفائقة لعدم السماح بسحق الدول القومية وجهازها العلوي (الاتحاد الأوروبي). وتُبذَل المساعي على قدم وساق لتجربة البدائل المتمثلة في حقوق الإنسان والبورجوازية الديمقراطية تحت ظل ترسانة (مِجَنّة) الاتحاد الأوروبي. والتوازن الأمريكي هو السياسة الأساسية المتبعة. هذا وتصب جهود روسيا والصين واليابان والبرازيل في نفس المصب.
بشكل عام، تشكِّل الدولةُ القومية المؤسسةَ الأكثر ملاقاة للمصاعب تجاه الميول الإمبراطورية الأمريكية. في الحقيقة، فالدول المتوسطة الحجم – والأصغر منها – والتي كان من الواجب أن تصبح دولة ولاياتية واحدة منذ زمن بعيد؛ تشبه في مساعيها – نوعاً ما – التجذيف عبثاً بعكس وجهة التيار. من المحتمل أن تعترف أغلبية تلك الدول – وبكل صدق – بتبعيتها من جوانب عديدة، وأن تتخلى عن غرورها القوموي القديم، لتمتثل لقواعد العولمة الجديدة. ما من خيار آخر أمامها، حيث تكاد تنعدم الظروف الداخلية والخارجية المساعدة على المواجهة والتحدي اعتماداً على خوض تجربة "سوفييتية" ثانية، وعلى الاستمرار في صون استقلاليتها المحدودة. فأحلام اليقظة للثورة القديمة لم تعد تمثل "التقدمية" إزاء النظام القائم، بل تمثل التزمت والتعصب. وكأن البيروقراطية المتزمتة لن تقدر على الحصول على قسط وافٍ من التأمين والضمان من التحرر الوطني التقدمي. حيث لا النظام الموجود، ولا أمريكا، ولا حتى الشعوب القابعة في الأسفل؛ قادرة على بلع ذلك وهضمه. ومرحلة الاستبداد والتنمُّر والأوليغارشيات القومية المعتمدة على التوازن الأمريكي – السوفييتي قد أُوصِدَت أبوابها.
إلى جانب تمتع النظام القائم بأفق يمكِّنه من توسيع إطار العلم والتكنولوجيا أكثر، إلا أن الشروط الاجتماعية تشكل عائقاً حقيقياً أمامه. فزيادة العرض على الطلب تُبقي العلم والتكنولوجيا غير فعالين من حيث التجديدات. مع ذلك، بمقدورهما لعب دورهما في حل مشاكل الحشود الغفيرة من الشعوب. هذا بدوره غير ممكن إلا بالمجتمع الديمقراطي والأيكولوجي.
إنْ نظرنا إلى مستقبل النظام بالزعامة الأمريكية خلال ربع وحتى نصف القرن الآتي، فمن المحتمل ولوجه في مرحلة الجزر، لا المد. فكل الدلائل تشير إلى أن عناصر الجَزْر تضاهي بفارق ملحوظ عناصر الصمود أو الاستمرار كما هو عليه. وحتى إذا شاء مواصلة وجوده الحالي، فلن يمكنه ذلك إلا بتقوضه وتقزمه، لا تعاظمه. لأجل ذلك، سيستمر في التقوض في كيانه العسكري البالغ أبعاده العملاقة، تجاه الاتحاد السوفييتي والحركات التحررية الوطنية، وسينتقل إلى زمن الجيوش التقنية الأصغر حجماً.
رغم ما يقال بأن الهدف هو البؤر الإرهابية والمخدِّرة من جهة، والأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية التي تصنِّعها الدول الطائشة من جهة ثانية؛ إلا أن خطر انكسار النظام وانقصام ظهره، يكمن أساساً في المستجدات العليا الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط. والاحتمال الأقوى هو أن تكون هذه المستجدات متخطية للإمبريالية والاستبدادية، ودانية أكثر إلى النظم الديمقراطية والمشاعية؛ عوضاً عن أن تكون ذات نوعية إسلامية راديكالية كما يُظَن. فإذا ما لم يوضع الشرق الأوسط تحت المراقبة والضبط عبر الأنظمة الاستبدادية والقوموية والديانوية والدولتية؛ فقد تقوم البنى الجديدة بدور ريادي للأمثلة الحلاّلة في الخروج من الفوضى. فالتحركات الاجتماعية المبتدئة في أفغانستان والعراق، والتي ستستمر في موضوع إسرائيل وفلسطين أولاً، لتتجذر أكثر في كردستان؛ إما أنها مضطرة للعثور على أمثلتها الحلاّلة، أو أنها ستلعب دورها في تجذير الفوضى الموجودة أكثر فأكثر.
بالتالي، فالقوة العسكرية للنظام الحالي، وفي مقدمتها حلف الناتو والائتلاف الموجود في العراق وهيئة الأمم المتحدة ككل متكامل؛ سوف تبحث عن الحل في هذه الأرضية الجيوبوليتيكية.
تتطلب طبيعة التناقضات في المنطقة أساليب اقتصادية وديمقراطية أكثر منها عسكرية. فإن حصلت المساندة الاقتصادية والديمقراطية بالأرجح، والمداخلة العسكرية بأقل تقدير، وحققت خروج منطقة الشرق الأوسط من الأزمة التي هي فيها؛ فسيتبين لحد ما، نموذج العالم خلال الخمسين سنة القادمة كتقدير أوسطي. يتمثل مضمون هذا الأنموذج في "النظام الاقتصادي والديمقراطي المتعاظم، مع دول وجيوش محَجَّمة". إذ من غير الوارد احتمال خروج النظام من الأزمة، ما لم تُحجَّم الدول من جانبها الذي تكون فيه كمستودعات للمصاريف الهائلة (الأزمات المالية، الخلل في الميزانيات). وكأن التقدم على خلفية مجتمع المعلوماتية واقتصاد الشركات المتعددة القوميات، وتطوير الإدارات المحلية العامة، وتخطي الدول القومية المتبقية من القرن التاسع عشر؛ يمثل المنهاج المشترك للنظام بزعامة أمريكا. وقد تبرز اتحادات استبدادية إقليمية أوسع نطاقاً من صنف الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل – كجزم نظري مسبق – بروز اتحادات عالمية وإقليمية، في حين لا يُنتظَر اندلاع حروب عالمية جديدة. وقد تتخلى الدول والشركات والقوميات والأيديولوجيات المتبقية من القرن التاسع عشر عن مكانها، لتحل محلها الكيانات السياسية (شبة الدولة، شبه الديمقراطية)، والاتحادات الاقتصادية الفَوقومية (فوق القومية)، والمجموعات الثقافية الإقليمية، والذهنيات والسلوكيات الفلسفية الاجتماعية التي تضع الأخلاق في المقدمة.
مر النظام الرأسمالي بحروب كبرى في القرن العشرين، بعد أن كان يوجِّه العالم برمته بإرادة أحادية – تقريباً – حتى أواخر القرن التاسع عشر. وأهم نتيجة نمَّت عنها الحروب هي العجز عن إدارتها العالم رغماً عن إرادة الشعوب. فالشعوب، ورغم عجزها حتى الآن عن تأسيس نظمها الذاتية؛ إلا إنها بلغت الوضعية التي تخولها للإعراب عن إرادتها الديمقراطية إزاء سلطة الدولة والسياسة. الاحتمال الأكبر هو أن تشهد المرحلة المقبلة، خلال ربع وحتى نصف القرن، نشاطاً فعالاً في وجهة أنظمة الشعوب الديمقراطية. الاحتمال الآخر هو انتعاش ثقافاتها، التي هي بمثابة أثمن خزينة افتقدتها، في هذه المرحلة؛ وعودتها ثانية إلى حياتها وأوساطها الخاصة بها. ففصلُ الشعوب عن حقائقها الثقافية، ولَّد معه نتائج أشد حدة من المجازر الجسدية أو الاقتصادية، ومن عمليات النهب والسلب.
خلاصة الكلام؛ الاحتمال الأقوى هو أن المرحلة المقبلة قد فات الأوان فيها على زمان الإرادة الأحادية للرأسمالية، وأن ما ينتظرنا فيها هو تجاوز الشعوب للشوفينية والحروب المشحونة بالنعرات القوموية، وفرضها دمقرطة ذاتها وسلامها، والتحامها بحقيقتها الثقافية والمحلية. ما يندرج ضمن هذا الاحتمال هو عدم قيام الشعوب بذلك بمفردها، بل بالاشتراك مع النظام ذي الدولة النواة – ولكن ببناها المحجَّمة والمقوَّضة – وعلى خلفية مبادئ واضحة. وبدلاً من البنية الطبقية والجنسية والإثنية والثقافية السلطوية لحضارتنا، ستتحول خلال فترة تاريخية مصيرية إلى "حضارة عالمية ديمقراطية" تعترف بقيم الشعوب الديمقراطية والمشاعية، ومنفتحة نحو الحرية الجنسية، ومتخطية للقمع الإثني والقومي، ومعتمدة أساساً على التعاضد الثقافي.

ثابت الياس
13/01/2008, 04:36 PM
عاش الكورد الشعب الوفي الاصيل عاش

ثابت الياس
13/01/2008, 04:36 PM
عاش الكورد الشعب الوفي الاصيل عاش