المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقيم دائم إلى كل فلسطيني وعربي بمناسبة ذكرى النكبة



فايزة شرف الدين
16/05/2011, 08:24 PM
مقيم دائم
ــــــــــــ
إلي هذا الشيخ الكبير المدافع عن الحرم القدسي الصريع تحت معاول يد الاحتلال وإلى كل فلسطيني وعربي بمناسبة ذكرى النكبة ، وهذا أول عمل قصصي أشارك به في واتا منذ بضع سنوات ، وأعود به لأول مرة بعد انقطاع عن واتا التي أكن لها كل إعزاز .


انحدرتُ عبر الحارات الضيقة ، متوكئا عليها .. اعتصرت قبضتي رفيقة دربي .. عشت معها ، وعاشت معي .. نرقب الزمن ينفلت هاربا منا راسما خطوطه على أديمنا ، لكنه أبدا لن يسلبنا ذكرياتنا .. أتذكرين عندما لامستك أول مرة ؟ .. كنت هناك قابعة تحت شجرة التفاح العتيقة المنزوية في أقصى حديقتنا .. لمحتك وتسللت عبر شجيرات الزيتون راكضا نحوك .. وجثوت عليك وتلقفتك بين يدي الصغيرتين الغضتين ، ضممتك إلى صدري وهدهدتك كطفل رضيع .
احتضنتك وأمك شجرة التفاح العتيقة ، معاهدا إياها أن أتعهدك دوما بالرعاية .. لم يتبادر إلي ذهني الغر أن تتعاهديني أنت بالرعاية .. بعد أن أثقلت السنون علي ولم أعد أحملك ، بل تحمليني أنت ، تدعينني أتوكأ عليك .. ندب سويا بين الدروب ، وألوَّح بك رغم وهن قوتي في الوجوه الصلفة المحدقة في استهانة .. فلقد تجاوز العمر مداه ، أصبحت من المصرحين لهم بالدخول لتتلقفني عتباته المقدسة .. كان أريج شجره الأخضر وريحانه تفوح بين أرجائه ومن فوق الربوة مع نسمات الليل الحلوة كان يحلو لي وأنت رابضة على ركبتي مراقبة حركة القمر وهو يتسلل في السماء السرمدية مريقا نوره علي شجيرات الزيتون أسفل الوادي ، والآن أصارع رائحة البارود والقنابل الدخانية .. رغم هذا كنت كفتى غض مزق الهوى قلبه وأنا أتحسس جدرانه العتيقة ، وأرنو إليه بعيني الخابيتين قبابه المزهوة ، تتوهج في مقلتي تلك القبة الذهبية .
صحوت مذعورا وفراشي يترجرج في عنف ، انفلت صراخي المتوسل بأمي ، لم أجد سواك يهدهد خوفي ، ويثَّبت جأشي ..عندها طاولت برأسي وتخللت نظراتي نافذتي ، رأيت أمك شجرة التفاح العتيقة تجندلت على الأرض بعد أن أحدقت بها الهروات ، بين صراخ أمي الملتاع ، وصياح أبي الرافض وهو يفتح ذراعيه على مداهما يدفع عن شجيرات الزيتون القتلة .. اندفعت إلى الحديقة مصوبا إياك أمامي راشقا طرفك المدبب كأسنة الرماح في صدورهم آخذا بثأرك ومدافعا عن أبي .
صارع ثلاثتنا القتلة .. أبي ، وأنا وأنت بالطبع ، وشاركتنا أمي على الرغم من أوامر أبي لها أن تبتعد .. غلبتنا الكثرة ، وفهمت مقولتها لأول مرة " الكثرة تغلب الشجاعة " .. فقد وقع أبي على الأرض مشخبا في دمائه ، وأرجع الصدى صوتها المهزوم :
ـ أبو زياد .. أبو زياد !!
هتف صوت أخن :
ـ تحت تلال هذا التراب يقبع تراث أجدادنا القدماء .
صاح أبي معترضا بملء فيه ، بكل إرادة التحدي :
ـ هذه أرض أجدادي .. لقد كتب عليكم أن تعيشوا على هامش التاريخ .
تغضن وجهي بابتسامة متحسرة ، شددت أناملي المهترئة حولك .. وحدك ألقي عليها همومي .. سنابك الخيل تدك المكان ، الأقدام الغليظة المأمورة من فوق عرش الرحمن ، ألا تطأ حرمه دهستهُ ، ومعاول الهدم ترسم أنفاقا وممرات سرية ، وأخرى علوية ، تبتلع التاريخ ، وتصيغ آخر .. وويل مما يخطونه بأيديهم
.. ضاقت الحلقات .. ساءت الوجوه ، وانتهكت الحرمات .
في الطرف الآخر من المدينة .. انزوينا في بيت صغير ، لم تعد السماء مكشوفة أمامي .. لم تعد على مرمي البصر لم تعد السماء مكشوفة أمامي .. لم تعد على مرمي البصر تذكرين عندما اختطفك ابن عمتي وكان يكبرني بسنة ، وأخذ يلوح بك في الهواء ساخرا :
ـ سوف ألقيها في التنور ، ولن يكون لها أثرا .
جرى وسابق الريح ، وهو يهزك في الهواء كأنه محارب ، وجريت بكل قوتي خلفه ، كاد أن يطوحك في التنور عندما تلقفتك منه ، وتصارعنا ونحن نتدحرج على الأرض .. حتى جاءت عمتي .. نهرته وقد سلبك مني مرة أخرى :
ـ إنها عصاه .. أعطها له .
عمتي .. كم كنت أحبها .. ذهب حقلها وصعدت روحها معه .. أصبح ابن عمتي رفيقي في الحارة الصغيرة ، وبعد أن كان ناقما عليك أصبح صديقا حميما لك ، فأنت كثيرا ما دفعت عني وعنه الأذى .
انفلتت نظراتي نهمَّة ، كأنها تريد أن تحتوي المكان كله وتصونه في العين .. أخذت أتشمم الباقي من عبقه وأنا أراه يتلاشى ويتسرب حجرا .. حجرا .. لم أشعر بوهني وأنا أتوكأ عليك وألف المكان كله ، ثم أعيد الكرة دون ملل غير عابئ بتورم قدمي .. فقط الهموم تكالبت كوحوش كاسرة وأطبق الأسى عليَّ عندما عدت إلى المسجد ، وجدت بابه موصدا دون المصلين ، ورشقات الرصاص تنهمر على المقدسيين ، المدافعين عن حرمهم ، وسنابك الخيل تضرب بحوافرها الأرض الحجرية وتتسلق صدور الصبيان القابضين على الأحجار .
سمعت أبي وهو يقول لأمي :
ـ إننا مقدسيين ، ولكننا نحمل الهوية الأردنية الآن .
كنت أضعك بجوار فراشي عندما سمعت أمي تقول مستدركة :
ـ إننا نحمل الهوية العربية على أي حال .
التفت يدي حول أحد طرفيك ، استدعي أبي العجوز كل قوته ووضع طرفك الآخر علي منكبه ، قابضا عليك في حرص ، وتحملت تحمل الأبطال تلك الدلاء المترعة بماء البئر وقد تحلقت حولك ، بعدما عز ماء البلدية ، لنخمد نيران مؤامرة طمس الهوية ، كان الدخان يصارع الريح ، ويستصرخ فينا مستنجدا "أن هلموا لنجدة حرمكم .. فالنار تحت سقف مقدسكم تتلظى التهمت في أحشائها منبر "صلاح الدين" ، تشتهي البقية " .. كنت فخورا بك عندما علقت فيك رايتنا ، خافقا بك الهواء :
ـ القدس لنا .. لن ندعكم تزيفون التاريخ .
مات أبي من بعده أمي ، وجدتني والمقدسيون في يوم وليلة لا نحمل أي هوية عربية .. لم تعد لنا أي هوية ولم يجدوا كلمة تكتب في الهوية سوى مقيم دائم !!
التف طامسي التاريخ ، ومحرفي الكلم حول المقدسيين القابضين على الحجارة .. وامتزجت الأصوات .. صراخ المدافعين عن التاريخ والأوطان ، وصهيل الخيل وهي ترفع قوائمها لتدك العظام ، وصيحات الجند وهي تتوعد بالويل والثبور .. طغى عليها جميعا صوت معاول الهدم الجبارة وهي تصدع الأرض وتزلزل من تحتها الأقدام .. عدت أحملك وقد طوحت بك في الهواء ، عادت إلي قوتي وشبابي عندما دفعتك أمامي هاجما على الأنذال .. أدفعهم عن مسرى الحبيب وما بقي من هوية .. عن رمق حياتي الأخير .
لم أشعر بالهروات وهي تصب جام غضبها على ما بقى من عظامي ، تشبثت بك تشبث الغريق .. انتزعوك مني يا قرة العين .. يا رفيقة الدرب تلقفتك أنياب الجرافة النهمة ، سمعت أنينك المتكسر وأنا أرنو بعيني الخابيتين المتسرب منهما الحياة .. لألقي نظرتي على المكان .. راحلا معي صورته الأخيرة في الوجدان .

أسامة شيخ إدريس
28/05/2011, 10:39 PM
الله الله ...كم هذا جميل بطعم العودة ورائحة التفاح وطعم الزيتون الاذع
استاذتنا فائزة شرف الدين ...دعينى اولا اهنى نفسى بعودتك والعود احمد
كم افتقدنا هذا القلم ذو الحبر الواضح الصريح والجميل ..
هى العودة والعودة اذن ...حتما ستعودون الى هناك ...
هيييه يا أحتى تلك المحبوبة الخضراء شجرة التفاح على دراكم لم تموت عروقها ...ستنموا أنا واث من هذا ...وسترويها من حبر قلمك هذا ...اليس للقلم رواء
مرحبا بعودتك