المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (4) تتمة الفصل الثاني - الدفاع عن شعب - عبد الله اوجلان



shiyar
04/04/2007, 10:14 PM
تتمة الفصل الثاني

الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان


1 – نفاذ الشعوب من الفوضى

إن موضوع نفاذ الشعوب من الفوضى الحالية، الذي يحتل مكانته في نظام المجتمع العالمي، والذي يمكننا اصطلاحه بما يعني جميع القوى الاجتماعية خارج إطار الدولة؛ قد يكون هو أيضاً ضمن حالة من امتلاك القدرات التحولية. الاحتمال الوارد، بل والمنتظَر، هو تواجُد سبل حل متنوعة للنفاذ ارتباطاً بمستوى تحركات القوى المتخذة مكانها في المشاريع والتطبيقات.
من الضروري اللجوء إلى الإيضاح والإفصاح لدى تعريف شعوب العالم. إذ ثمة عدد لا يستهان به من الشرائح والأصناف الباقية خارج نطاق الدولة، أو التي أُخرِجَت منه لتضارب المصالح. وتتغير آفاقها من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر. يجب تفهم الشعب كمصطلح ديناميكي (متغير بسرعة). يمكن إطلاق تسمية "المجتمع الفوقي" أو "الأوليغارشية" أو بتعبير عامي أكثر – حسب الرأي العام العمومي – "الزمرة الدولتية"، على الشرائح المتكدسة في أطراف الدولة كمجموعات منفعية مادياً ومعنوياً (اقتصادياً ومعرفياً).
مقابل ذلك، يمكننا تسمية جميع المجموعات التي تحتل مكانها في الذروة القصوى الأخرى من الثنائية الجدلية (الطبقات المسحوقة والجنسيات الإثنية والثقافية والدينية المعانية من القمع) بمصطلح "الشعب". وبتغير أحوال المتغيرات الداخلية، تتكاثر أو تتناقص المجموعة الداخلة ضمن إطار مصطلح الشعب. وقد يتطلب فحوى القمع والاستغلال المطبَّقين التغييرَ أيضاً. ربما يظهر القمع الطبقي، القومي، الإثني، العرقي، الديني، الفكري، والجنسوي متقمصاً أشكالاً مختلفة؛ بدءاً من المجازر وحتى المضايقات. للأشكال الاستغلالية أيضاً جانب مشابه لهذا. حيث بالمقدور تحديد كثير من أشكال الاستغلال، المعنوية منها والمادية، الإنكار، الصهر، النهب، الاختلاس، وغيرها من الأشكال القانونية أو غير القانونية، المطبقة بالعنف أو بالمخادعة. تتغير هذه التصنيفات على مر التاريخ من نظام إلى آخر، لتتوجه في سياق تطورها الطبيعي في راهننا نحو اتخاذ أشكال أكثر تعقيداً للمجموعات الاجتماعية.
جلي تماماً مدى تأثر الشعوب بشدة بالأزمة العالمية المبتدئة مع الحركات الشبيبية العالمية 1968، والمتسارعة مع انهيار اشتراكية السوفييتات المشيدة في 1989، والمتجذرة مع الهجوم على البرجين التوأمين في حادثة 11 أيلول 2001. ومع غزو العراق واحتلاله في 20 آذار 2003 تصاعدت الارتجاجات والتهيجات في العالم، لتبلغ أبعاداً بالإمكان وصفها بأنها تاريخية. تستمر هذه التصاعدات على مسافات قصيرة، بتغييرها المنطقة والنوعية. أما الحمم البركانية التي تقذفها تناقضات النظام الداخلية على رؤوس الشعب، فتتزايد حرارتها وحِدَّتُها طردياً. والكفاح والتعارك مع مشاكل البطالة، المجاعة، البيئة، التعليم، ومشاكل الصحة المتثاقلة، يشغل جدول أعمال كل شريحة اجتماعية.
لقد سعينا إلى تعريف الطاقة الكامنة للحل لدى قوى النظام المهيمنة. هذا وحاولنا التبيان أيضاً بأنها فقدت – نسبةً للقرن التاسع عشر – إمكانية انتهاز فرص الحل بمفردها، وأن ما تفرضه باسم الحل بعيد كل البعد عن إفراز نتائج ذات معنى أو ممكنة التطبيق والإحياء، وأبعد من كونه تجذير لحالة الفوضى العارمة القائمة. أي أننا أوضحنا مدى استحالة تحول مصادر الأزمة إلى مصادر للحل، وأنه في حال تحولها، بإمكانها – فقط وفقط – النشاط والفاعلية كطرف في المساومة والوفاق، بموجب مبادئ صحيحة وسليمة.
كيفما أتت حلول الشعوب عبر التاريخ إلى يومنا، فستطورها الشعوب بذات الشاكلة. لكل مجموعة شعبية تاريخها، أياً كان اسمه (العادة، التقاليد، الثقافة، التأريخ). حيث سعت الجماعات الشعبية المتشكلة على مر التاريخ (بدءاً من المجتمع الكلاني) إلى اكتساب شكل لها عبر ردات فعل وجودها، إزاء البنى السياسية والجيوثقافية. يتميز هذا السلوك، الذي سعينا لسرده وبسط جوهره بإيجاز في الفصل السابق، بنوعية مشاعية وديمقراطية. إذ لا يمكننا التغاضي عن السلوك الديمقراطي والمشاعي، بمجرد النظر إلى حالة الفرد الذي أفرغه النظام الرأسمالي من محتواه تماماً، وحوّله إلى فصيلة ثدييات بدئية. فالفرد، وحتى في حالته الأكثر بدائية، لا يستطيع العيش بمفرده، ولو ليوم واحد، من دون وجود المستوى المشاعي للمجتمع. رغم أن كل أشكال غسل الدماغ المعتمدة على إنكار المجتمع قد أفقدت هذه الحقيقة أهميتها؛ إلا إنها تعد ظاهرة مجتمعية أولية. فأي فردانية لا يمكن أن تجد فرصتها في الحياة كثيراً، ما لم تكن لها أواصرها مع المجتمع المعني بها. وبدون تعريف حقيقة الشعوب بكافة أبعادها، لن تنطبق حسابات الخروج من الفوضى الحالية، مع ما هو موجود على أرض الواقع.
أقولها ثانية: لو لم يعتمد النظام الرأسمالي – وخاصة بنية الدولة – في القرن العشرين على تكاثر المذاهب الثلاثة (الديمقراطية الاجتماعية، الاشتراكية المشيدة، والتحررية الوطنية)؛ لربما ما كان سيشهد أزمته الحالية. تتمثل الخاصية الرئيسية للمذاهب الثلاثة في كونها حازت على السلطة عبر إغداقها شعوبها بالآمال والوعود. خمسون عاماً بالتمام والكمال – منذ ثورات عام 1848 – وهي تقول: "سنستولي على الدولة أولاً، ومن ثم سيأخذ كل حق مستحقه!". وكأن طوابق الدولة مليئة بينابيع الحياة التي لا تنضب (نتذكر هنا الجنة)، لتُحوَّل هذه المفاهيم إلى منهاج أمل ووعود. وتؤسَّس الأحزاب على هذه الخلفية، وتخاض الحروب. وإذا ما ربحت فيما بعد، لا يتبقى من الأمر سوى مشاطرتها القيم المنقولة من المجتمع المسمى بإمكانات الدولة، مع مُحازِبيها ومُشايعيها. أما فيما يخص الحشود الغفيرة من المجتمع، فلا يتبقى لها شيء. نفس الطاس ونفس الحمّام. أما إنْ لم تربح، فلتستمر الحرب!.
حتى هذه الأشكال العصرية للمذاهب، لا تتمالك نفسها من تقديس كل خطوة تخطوها باسم الشعب. كل الشعب كان فعالاً وحركياً طيلة القرن العشرين. لكن، وبسبب العجز عن تخطي براديغما النظام المهيمن، لم ينجُ من الانتقال إلى النظام بكل بطولاته وتضحياته الجسام، بكل آلامه وآماله. ولدى غوصنا في أغوار التاريخ، سنرى حصول حالات مشابهة.
إذن، والحال هذه، إنْ كان التاريخ، بمعنى من معانيه، موجوداً للاتعاظ به من الماضي؛ فما علينا سوى صياغة الحل الدائمي والراسخ والمبدئي لصالح الشعوب؛ انطلاقاً من حالة الأزمة والفوضى الراهنة المنتصبة أمامنا. ما من واجب أسمى معنى من هذا، وما من مساعٍ أقدس من هذه. إني على قناعة أكيدة بأن النقطة الأولية المتسببة في الخسران هي، عدم العمل أساساً بالسلوك الديمقراطي والمشاعي للشعوب. فمهما تُطرَح تحليلات المجتمع، ومهما تؤلَّف الاستراتيجيات والتكتيكات وتوضع العمليات، بل ومهما تُحرَز النجاحات؛ فالنقطة المبلوغة ستكون – مرة ثانية – الالتقاء بالنظام بأسوأ الأشكال. كان لينين – داهية القرن العشرين – ينطق بالحقيقة الأولية عندما قال بأنه "ما من درب تؤدي إلى الاشتراكية عدا الديمقراطية". لكنه، هو أيضاً، آمن بإمكانية العبور إلى الاشتراكية من أقصر الطرق – دون خوض تجربة الديمقراطية إطلاقاً – لدى إصابته في البداية بعدوى داء السلطة. أظن أنه لم يكن يتصور أن السلطة التي ارتكز إليها ستقوده إلى الرأسمالية الأكثر نهباً وسلباً، حتى ولو بعد سبعين عاماً. هكذا، فإن مدخرات السوفييت العظمى – الملايين من الشهداء وأصحاب التضحيات الجسام، التضحية بالآلاف من المتنورين النخبة – لم تنجُ من جلب الماء إلى رحى النظام الذي انشغلت به للتغلب عليه – حسب المزاعم – بسبب العدوى بداء السلطة.
الدرس الممكن استنباطه من هذه التجربة الكبرى للقرن العشرين (ثورة أكتوبر الكبرى) هو أنه لا يمكن صياغة وتطبيق الحلول الدائمية الراسخة والمبدئية تجاه الرأسمالية؛ إلا بتحويل سلوكيات الشعوب الديمقراطية إلى نظم ديمقراطية شاملة. ولا يمكن بلوغ النظام الديمقراطي سوى بتحرير الدمقرطة والديمقراطية من عدوى التدوُّل.
علينا التمعن مرة أخرى في التاريخ، بغرض التعرف على طراز حلنا عن كثب. لنبدأ من الماضي القديم. فالذي تسبب في انهيار الإمبراطورية العبودية الأخيرة، هو الشعوب الخارجية المسماة بالبرابرة، والتي لا تعرف الدولة. هذا إلى جانب نخر نظام الأديرة المشاعي جسدَ روما من الداخل. هذه القوى هي التي دكت دعائم تلك الآلة العبودية الفظيعة. لقد كانت قوى ديمقراطية ومشاعية إلى أقصى حد. إلا أن زعماءها خدعوها بحيثيات السلطة، وقادوها إلى أوروبا المرتكزة إلى الدولة والدويلات الإقطاعية الاستبدادية، عوضاً عن أوروبا الديمقراطية التي كان بالإمكان تطويرها. ظهرت حركات مشابهة في كل منطقة أزيلت منها العبودية.
كانت المدن تتعالى كجُزُر للديمقراطية في كل الأرجاء، لدى الخروج من إقطاعية العصور الوسطى عبر النهضة. كانت ديمقراطية المدن تشق طريقها في التقدم. وكانت أوروبا الديمقراطية دخلت صحن التاريخ. فالثورة الفرنسية الكبرى (1789)، وقبلها الثورة الإنكليزية (1640) والأمريكية (1776)، وتلك المندلعة في إسبانيا والعديد من الدول الأوروبية، وكذلك المشاعيات البارزة منذ القرن السادس عشر؛ جميعها كانت الصوت الجهور للديمقراطية.
إلا أن قوة السلطة القتالية، الآلة المكارة وأداة العنف العنيفة الدائمة على مر التاريخ، عملت من أجل ترسيخ النظام القمعي – قديماً كان أم حديثاً – فجذبت البعض من تلك الحركات إلى صفها، وسحقت بعضها الآخر. وابتلعت القوى الديمقراطية الشفافة في دهاليز دوامتها التاريخية. اقتاتت قوة السلطة القتالية هذه – المتفشية كورم السرطان الخبيث – بكل نهم من حروب القرنين التاسع عشر والعشرين، لتحوِّل الأنظمة العرقية والفاشية والتوتاليتارية الأكثر بعداً عن الإطار الإنساني إلى أفظع بلاء، وتتحول بعدها في راهننا إلى أضخم فوضى عارمة شهدها التاريخ، وتسقط.
التقاليد الديمقراطية كونية. هي أيضاً كحلقات السلسلة، حيث تربطنا بأقدم أزمان الماضي، وبأحلك مساحات المكان عتمة. لسنا لوحدنا. فالتاريخ والأماكن مع الديمقراطية التي يجب أن تكون لنا، أكثر من أي نظام آخر. الواجب الأولي الذي يقع على عاتقنا هو، عرقلة الخسارة في مرحلة المعرفة، الاختيار الصحيح للوسيلة السياسية، والعودة ثانية إلى الأخلاق الاجتماعية. كل ما ذكرناه يتعلق بـ"المعرفة". تُعَدُّ الوسيلةُ السياسية الموضوعَ الذي يستدعي منا التركيز عليه بالأكثر. ونسميها باختصار "الديمقراطية التي لا دولة لها". أي أننا لا نقع في الخطأ أو الغفلة التي وقع فيها الداهية لينين، بإصابته بمرض الديمقراطية الدولتية، بل وحتى الديكتاتورية. لا يُشِير هذا السلوك إلى غياب السلطة أو غياب النظام بشكل فوضوي. إنه سلطة الشعب المتنورة، ذات المعاني السامية والمصداقية الطوعية. وهو ديمقراطية الشعب غير المختنقة بالبيروقراطية، والمنتخِبة إدارييها الموظفين في كل سنة، والقادرة على عزلهم من مهامهم مثلما انتخبتهم.
لا يمكننا العبور على الموضوع دون استذكار ديمقراطية أثينا الشهيرة. فمن جهة هناك إسبارطة المَلَكية وأثينا الديمقراطية تتصارعان من أجل بسط النفوذ والتفوق في شبه الجزيرة الإغريقية؛ ومن الجهة الثانية ترغبان في صد استيلاءات الإمبراطوريتين الميدية والبرسية عبر روما في تلك الأزمان. تغلبت مدينة أثينا الصغيرة على عدوَّيها الشهيرَين طيلة القرن الخامس قبل الميلاد، عبر سلاح الديمقراطية الذاتية. وقد فلحت في ذلك عن طريق الميليشيات الطوعية والمسؤولين المختارين لتأدية الوظائف السنوية؛ دون اللجوء أبداً إلى الدولة أو الجيش النظامي الدائمي. لم تكن الديمقراطية المطبقة ديمقراطية الشعب، بل ديمقراطية الطبقة العبودية. مع ذلك، فقد طبعت أثينا أحد أسمى قرون التاريخ بطابعها، ليكون القرن الخامس قبل الميلاد قرن أثينا. لقد ألحقت الشعوب أكبر ضربة بنظم الظلم جمعاء وبأفتك أعدائها، عبر ديمقراطياتها. هكذا صنعت أكثر أزمانها رفاهية عن طريق ديمقراطياتها.
لو لم تكن ديمقراطيات الأمريكان، لما كانوا استطاعوا إيصال الإمبراطورية الإنكليزية التي لا تغيب الشمس عنها، إلى النقطة المرسومة لها. ولو لم تكن ديمقراطية الإنكليز الشعبية، لما كانوا قدروا على دك دعائم نَسَب المَلك "نورمان" المجحف، ولا على تكوين وخلق النظام الإنكليزي الديمقراطي، الذي يعد المثال القدوة حتى في حاضرنا. لو لم تكن "ديموس" الفرنسيين الكبرى، لما قامت الثورات الكبرى لديهم، ولا أُسِّست نظمهم الجمهورية ذات الشهرة المعروفة والمثال المحتذى في العالم.
نستخلص من هنا أن الديمقراطية هي النظام الأكثر إنتاجية وعطاء. فبقدر ما يكون النظام السياسي ديمقراطياً، بقدر ما يكون الرفاه الاقتصادي والسلم الاجتماعي مكمِّلَين لذات الحقيقة. معلوم علم اليقين أنه لدى افتقاد الديمقراطيات جوهرها، وتحولها إلى آلة لاصطياد الشعوب بيد الديماغوجيين؛ يبدأ حينها النظام بالانهيار، ليتبعه الرفاه في ذلك. وبعدها يسود التزَمُّت، الفاشية، الحروب والدمار. لو كانت علوم الاجتماع تقربت بصدق وأمانة أكبر، لكُنا وجدنا أن التاريخ والمجتمع يتكونان عبر السلوك الديمقراطي بنسبة ساحقة. في الحقيقة، يتوقف مسار التاريخ لدى استئصال هذا السلوك، أو يبدأ قسمه الذي أسميناه باللعين بالفاعلية والحركة.
لنلفت الأنظار إلى أهم نقطة أخرى تستدعي تسليط الضوء عليها فيما يتعلق بموضوعنا. وهي تتعلق بعدم وجود معنى بارز لديمقراطية الطبقية، واستحالة الرغبة فيها. فحسب مفهوم علم الاجتماع المهيمن، يُعَد ظهور "العبد" ومن ثم "القن" وأخيراً "العامل، البروليتاري" محصلة لا مناص منها للتدفق الصحيح لسياق التاريخ، في تقدمه الذي لا يمكن إعاقته نحو الأمام. وأنه لا يمكن الوصول إلى الاشتراكية والحرية والمساواة، دون المرور بهذه الظواهر. إذن، والحال هذه، فالقول: "عاش العبيد! عاش الأقنان والقرويون! عاش العمال!"؛ يشير إلى ثورية وديمقراطية الطبقة (ومن بعدها الديكتاتورية). لقد أُدرِك تماماً أن هذه الصياغة ليست سوى نظرية تخدم العبودية، من أولها إلى آخرها. لا مكان للعبيد والأقنان والعمال في ديمقراطية الشعوب، تماماً مثلما لا مكان فيها للعبودية والقنانة والعمالية. فديمقراطية الشعب الحقة لا تقبل بوجود العبد والقن والعامل للأنظمة العبودية والإقطاعية والرأسمالية، بل ترفض ذلك. فتقديس الطبقات والمجموعات القديمة مرض قديم غابر. والديمقراطيات غير مصابة بهذا المرض. إنها اسم على مسمى. فأينما تتواجد الديمقراطية، لا يكون هناك تعرض للسحق أو الاستعمار الباطل. كذلك تغيب هناك إدارة الناس كسرب القطيع. إذ لا توجد إدارة مِن قِبَل الغير في الديمقراطيات، بل ثمة إدارة الذات. لا وجود لسيادة الهيمنة، بل يهيمن الفرد بذاته على ذاته ويتحكم بها. قد تستعبِد الأنظمةُ السلطوية الغيرَ، وقد تُمَأسِس القنانة والعمالية. لكن عندما تتطور الديمقراطيات، يتم الخروج من إطار العبودية والقنانة والعمالية. ويبدأ العمل، لكن بشرط أن يكون الفرد سيد عمله، وعضواً في مرتبة عمله.
ترتبط المشاعية والديمقراطية ببعضهما كالتحام الظفر باللحم. هكذا هو تعريف الديمقراطية الذي استهدفناه. وهذه هي مقوماته التاريخية. أما ديمقراطيات الطبقة، فتستلزم السلطة. وكل سلطة تستوجب بدورها الدولة، وكل دولة تستدعي إنكار الديمقراطية. إذن، فديمقراطيات الطبقة في فحواها ليست ديمقراطية، بل هي سلطة الدولة. والتجربة السوفييتية والصينية والكوبية تبرهن على صحة ذلك بما لا جدال فيه. كلما تزايدت الدولة، نقصت الديمقراطية. وبالعكس، كلما تزايدت الديمقراطية نقصت الدولة. يجب حفظ هذه القاعدة ونقشها في العقول كحُكم ذهبي ثمين.
العلاقة الكامنة بين الحرية والمساواة مفهومة إلى أبعد الحدود في الديمقراطيات. إنها ليست بدائل بعضها. فكلما تطورت الديمقراطية تطورت الحريات معها. ومع تطور الحريات تتولد المساواة. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية التي تزدهر فيها الحرية والمساواة. وكل حرية ومساواة لا تعتمدان على الديمقراطية، لا يمكن إلا أن تكونا طبقيتَين. حينها تكون طبقة معينة أو زمرة أو مجموعة مختارة هي الحرة والمتساوية. ولا يتبقى للغير سوى أن يكونوا عبيداً مُدارين ومُوجَّهين. أما في ديمقراطية الشعب، ولأن الإدارة الذاتية وإدارة الذات هي الأساس، تكون الحرية والمساواة أيضاً عامتين شاملتين. إذاً، يتواجد أشمل إطار للحرية والمساواة في ديمقراطيات الشعب، وفي الديمقراطيات التي تغيب فيها الدولة والسلطة. الديمقراطيات ليست إنكاراً للدولة. لكنها أيضاً ليست الرداء الذي تتباهى به الدولة. إن المطالبة بالديمقراطية بهدم الدولة مغالطة كبرى. الأصح هو أنها تعني القدرة على تسيير التكامل المبدئي بين الديمقراطيات والدولة (الدولة التي يجب أن تضمحل بعد مدة طويلة من الزمن).
نحن في عصر الديمقراطيات اللامحدودة. ويتطلب حصول الوفاق المبدئي بين الديمقراطية الممكنة التطبيق وقوة الدولة، في راهننا الذي تغلب عليه وظيفة الدولة بشكل ساحق. والحضارة الأوروبية تسعى لإدارة ديمقراطيتها ودولتها بشكل متداخل، انطلاقاً من هذا الدرس الذي استنبطته وهضمته، ولو بشكل متأخر وناقص. هكذا غدت ترى، بعد خوضها الحروب الكبرى، مدى قوة الحل الفسيحة المجال للديمقراطيات، وكذلك ترى السمات القتالية للسلطة. قد يَدُرّ وضع الثقل على السلطة بالنفع والقوة الكبرى لأقلية محدودة. لكنه في الوقت عينه يجهز لكوارث وفواجع كبرى للوطن والقومية والشعوب، في نهاية المطاف. لم يكن الأوروبيون متحمسين كثيراً للديمقراطية بلا وجود الدولة القومية. لكن التجربة الفاشية أظهرت أنه إن لم تُولَ الديمقراطية الأولوية، فمن المحال حتى تأسيس الدولة القومية. والمفهوم القائل "لنرسخ الدولة القومية أولاً، ومن ثم يأتي الدور على الديمقراطية"، هو مصدر كافة كوارث الفاشية والتوتاليتارية المعاشة. منذ أن نادت أوروبا بحقوق الإنسان والديمقراطية أولاً عبر الاتحاد الأوروبي، حينها فقط رسمت السبيل الراسخ المفتوح أمام الرفاه والسلم. هذا هو موديل الاتحاد الأوروبي. وهذه هي القوة السحرية الحقيقية التي تجذب العالم برمته إلى الاتحاد الأوروبي! وبقدر ما توسِّع أوروبا من نطاق قوتها السحرية تلك وتنشرها في العالم، ستتخلص من ذنوبها المقترفة ماضياً. حينها ستغدو المضامين الجوهرية قيماً لكافة الشعوب، مثلما هي الحال في كل حضارة.
لكن، علينا ألا ننسى أنه ثمة طبقة بورجوازية ماكرة وخبيرة في وضع ثقلها الدائم في أساس الحضارة الأوروبية؛ بحيث تهرع وراء بسط نفوذها وحساباتها المنفعية الجليدية. لن يتخلى الأرستقراطيون المعاصرون بهذه السهولة عن ترف الحياة في أعالي الديمقراطيات. لكن الديمقراطيات ستعرف كيف تدك عروشهم (دولتهم) وتُسقِطها رويداً رويداً. لن تقدر أوروبا على القيام بممارسة الديمقراطية لوحدها. فكلما تطورت الديمقراطية في العالم، ستصبح أوروبا عالمية بمعناها الإيجابي. وكلما تَمَّت دمقرطة العالم، سيصبح أوروبياً. وكأن التاريخ سيشهد هذه التجربة أثناء الخروج من الفوضى. فبدون وجود دمقرطات العالم الطازجة، لا يمكن ورود احتمال في خروج أمريكا من الأزمة عبر الحروب والشركات (مثلما كان عليه الأمر سابقاً)، أو خروج أوروبا منها بالقانون والديمقراطية.
من الضروري التقرب بحساسية فائقة من المضمون الاجتماعي لمصطلح الديمقراطية. حيث لا يُعمَل داخل المصطلح بالتصنيفات والتمييزات الطبقية أو الجنسوية أو الإثنية أو الدينية أو الثقافية العامة أو المهنية… الخ. من الممكن الانضمام إليها على الصعيد الفردي أو المجموعاتي. فمثلما لن تؤخذ مواطَنة الفرد أساساً في الديمقراطية، لن يكون بالمقدور إعاقة احتلال القواعد المجموعاتية أيضاً مكانها فيها. لا تشكل القوة الفردية أو المجموعاتية فرصة قيِّمة فيها. فادعاء الأفراد بالقوة تجاه بعضهم ليس ذا معنى، وكذلك بالنسبة للمجموعات. المبدأ الأولي الذي سيُعمَل به هو ألاّ تشكل كل من المنفعة العامة (المصالح المشتركة العامة للمجتمع في كافة المواضيع) والمبادرة الفردية عائقاً لبعضهما البعض. أي أن يتحقق اتحاد الفردانية والعمومية في النقطة المثلى (الأكثر عطاء).
بمعنى آخر، فهو يعني في مضمونه تكوين الفرد المتوازن والمبادِر والخلاق عبر الخاصية المشاعية المقتاتة على الفردانية، والتي تستمد قوتها من القيم الشماعية للمجتمع. فإذا ما وُضِع الثقل على الخاصية المشاعية فحسب، قد تنزلق الديمقراطية إلى التوتاليتارية. مقابل ذلك؛ إذا ما أُبيح كل شيء من أجل الفردانية، فهذا ما يفضي إلى الفوضوية من جانب، وإلى تعزز موقع الفرد المفرط على حساب المجتمع من الجانب الآخر. في الخلاصة، كلا التيارين يقودان إلى ممارسة الديكتاتورية، والإدارة المزاجية، والتردي على المجتمع. الديمقراطية بحاجة ماسة ومصيرية للشخصيات العميقة المعرفة، الطوعية، والشغوفة حتى الهيام بمصالح المجتمع وسلامة الأفراد معاً. لا يمكن تسيير الديمقراطية بالمؤسسات والمبادئ فحسب، دون وجود الديمقراطيين (لا الأحزاب) المحافظين على حيوية وديناميكية المجتمع، والمعبِّئين الشعبَ على الدوام بموضوع الديمقراطية، والمحفِّزين إياه على اليقظة والحساسية. فالديمقراطية، كظاهرة ديناميكية، أشبه بالنبتة التي تتطلب الري (التعليم والتعبئة) على الدوام. فإذا لم تُرفَق بعناية أولادها الهائمين بها؛ ستجف وتذبل، وتتردى لتصبح قبل كل شيء أداة للتطورات المناهضة للديمقراطية.
لا جدال في أن الديمقراطية هي الوسيلة الأكفأ في حل القضايا الاجتماعية، وعلى رأسها مسألة السلام. وتستنهل قدرتها وكفاءتها من قابليتها في الإقناع، لا من الحروب (عدا حالات الدفاع المشروع الاضطرارية). إذ بمقدورها في كل الأوقات صياغة الحلول المناسبة لمصالح الشعوب الذاتية، عبر مقايستها بين القيم الممكن خسارتها مع الحرب، والقيم الممكن اكتسابها على خلفية الإقناع. فالنقاشات الجريئة والواقعية تنوِّر المشاكل. أما المشاكل المنوَّرة، فيمكن ولوجها في درب الحل عبر الوفاقات الجذرية المتمخضة من المشاركات الواسعة للأطراف المعنية. ما من نظام تكثر فيه الجدالات والنقاشات، وينجح في إبراز الحقائق على وجه الماء؛ بقدر ما هي عليه الديمقراطية. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية لتطور العلم والفن. شكلت الديمقراطية في أثينا أفضل الأوساط من أجل الفلسفة. لا يمكن التفكير بأرسطو أو أفلاطون أو سقراط دون ديمقراطية أثينا. ولولا وجود ديمقراطيات المدن في النهضة، لما تطورت الثورات العلمية والفنية.
بإمكان الشعوب أن تُحيي تقاليدها الثقافية الغنية في أفضل الديمقراطيات. حينها لا تبقى الثقافة مجرد ماضٍ للشعب، بل تغدو شكل وجوده الذاتي الذي يلفه ويحيط به. فإذا ما جَرَّدْتَ شعباً من ثقافته، فإنك لا تقطعه من شكله فحسب، بل تكون أفنيت روحه المؤدية إليه أيضاً. بالتالي، فالديمقراطية هي النظام السياسي الأنسب لإحياء الشعب على أسس الحرية والمساواة بموجب ثقافته. تتميز المشاكل القومية والإثنية والدينية النابعة من القمع القومي أساساً، بفرصتها في بلوغ أفضل الحلول عبر معايشتها ثقافاتها بحرية في الديمقراطيات. لا يُرى داعياً لممارسة أي شكل من أشكال القمع في البلدان والمناطق التي تسودها الديمقراطيات الحقة، ولا يُسمَح باستثمارها كأداة منفعة. بل يُتَّخَذ التكامل الديمقراطي أساساً، عوضاً عن قوموية الساحق والمسحوق.
لا يمكن الاستهانة بمساهمة الديمقراطيات من الناحية الاقتصادية. فإن كان نظام الديمقراطية سارياً في المجتمع، لا يمكن احتكار القيم الاقتصادية فيه، ولا ترك الأفراد يتخبطون في عقم الإنتاجية. فالديمقراطيات لا تصادق على جشع الربح المفرط، ولا على الكسل واللامبالاة؛ سواء على الصعيد الفردي أو المؤسساتي. في هذا الميدان أيضاً تؤسَّس النقطة المثلى بأفضل أحوالها. فتوازن الاقتصاد العام والخاص سيبلغ النقطة المثلى، عاجلاً أم آجلاً. وقد برهنت الكثير من البحوثات على العلاقة الكامنة بين الديمقراطية والعطاء والتطور الاقتصادي. فالتوزيع العادل بقدر وفرة الإنتاج، والبحوثات اللازمة بقدر الإيداع الملائم؛ إنما يجد وسطه اللازم في أفضل الديمقراطيات. والإنتاج الذي يلبي احتياجات الشعب الحقيقية، هو العامل المؤثر الأساسي في تأسيس التوازن بين العرض والطلب. هكذا تصبح أسعار السوق حاظية بفرصة التمأسس بمعناه الحقيقي. وتحل روح السباق والمنافسة محل الرقابة المميتة. أما ظواهر الخلل الموجود بين العرض والطلب، ارتفاع الأسعار، والتضخم المالي وغيرها من ألاعيب التمويل، والتي تعد من أهم دوافع الأزمات؛ فبالإبقاء عليها في الحدود الصغرى، سيكون بمقدورها إبداء القدرة على الخروج من تلك الأزمات وإيجاد الحلول المناسبة لها. عندئذ ستعثر البطالة المنظمة على حلها الأساسي.
من المهم الاقتراب بخصوصية أكبر من فئة الشباب خلال الكفاح الديمقراطي للمجتمع. حيث تبقى الشبيبة وجهاً لوجه أمام كمائن كبيرة، منصوبة لها على درب مجتمعيتها. إذ ثمة من الجانب الأول مشروطيات المجتمع الذكوري السلطوي التقليدية، ومن الجانب الثاني تتخبط تحت عبء المشروطيات الأيديولوجية للنظام الرسمي السائد. مع ذلك، فهي تتمتع ببنية ذات ديناميكيات منفتحة لكل جديد. إنها غِرّة لأبعد الحدود إزاء المجريات الحاصلة، وبعيدة كل البعد عن كشف ما يُرسَم لها بتأثير مجتمع المسنين. ولا تستطيع التقاط أنفاسها تجاه الآلاف من مكائد وحيَل المجتمع الرأسمالي التي تسلب العقول. كل هذه الحقائق تستلزم بالضرورة تعبئة الشبيبة بتعليم اجتماعي خاص مناسب لخصوصياتها، بحيث يجذبها وينقذها من الشراك المنصوبة. وتعليم الشبيبة عمل يتطلب الصبر والجهود المضنية. مقابل كل ذلك، فهي تتميز بجرأة مِقدامة تخولها لتدوين الملاحم بديناميكياتها. ما من عمل يستعصي عليها النجاح فيه، إن هي استوعبت الأهداف والأساليب المؤدية إليها. فإذا ما رأت في الحياة المميَّزة بالأهداف والأساليب المحددة انضباطاً أولياً لها، واستنفرت طاقاتها بموجبها، وإذا لم تثبط من همتها وصبرها؛ فبمقدورها إبداء أهم المساهمات البارزة في الدعاوي والقضايا التاريخية.
والحملة التي ستتطور في الحركة الشبيبية الديمقراطية، بريادة الكوادر المتحلين بهكذا ميزات، هي حلقة الضمان للانتصار في النضال الديمقراطي للمجتمع. إذا ما افتقرت الحركة الشبيبية لمجتمع ما لديناميكية الشبيبة، ستكون فرصتها في النصر محدودة. فخبرات المسنين وديناميكية الشبيبة ظاهرتان تفرضان وجودهما في كل فترة من فترات التاريخ. ومَن فلح في إقامة الأواصر السليمة بين الظاهرتين في مسيرته، كانت نسبة النجاح لديه مرتفعة في كل زمان. لا يمكن لخيالات شبيبتنا الراهنة السامية أن تجد معناها، إلا في حال إدراكها كيفية نفاذها من أزمة النظام الاجتماعي القائم. وأي شبيبة تنعدم لديها الخيالات، لن تنجو من التردي والانحطاط، ومن خسران الحياة برمتها؛ إلا إذا عادت إلى خيالاتها الحقيقية. الشرط الأولي بالنسبة للشبيبة كي تقوم بانطلاقتها، هو استيعاب حالة الفوضى العارمة للأزمة الأخيرة التي يمر بها النظام الرأسمالي. بالإضافة إلى أن هضمها لقيم المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي، ولقيم حرية الجنس، سيمدها بإمكانات النصر التاريخية، وسيجعلها الصاحبة الحقيقية للدور المنوط بها في بناء المجتمع الذي تتوق إليه، أثناء بنائها لذاتها على نحو صحيح وسليم. كل شيء منوط بالمشاركة الكفوءة والقديرة والصائبة للشبيبة في الحملة الاجتماعية التاريخية.
يتميز الشكل العملياتي والتنظيمي للديمقراطيات بأهمية تماثل ما لتعريفها الجوهري، بأقل تقدير. فبينما يؤدي تعريف الذات إلى تنوير الهدف بالأرجح؛ فالشكل العملياتي والتنظيمي يستدعي التعريف الصحيح للوسائل اللازمة كشرط لا غنى عنه. وبدون تحقيق التناغم بين الهدف والوسيلة، وبدون تحليل التوازن في مقابلتهما بعضهما البعض بشكل صحيح؛ سيكون من الصعب قطع الأشواط في درب الديمقراطيات. تذكّرنا الديمقراطيات المرتكزة إلى الأهداف فقط، أو الوسائل فقط، بالأعرج السائر على قدم واحدة. ولكن، كم ستسير بقدم واحدة، وبأية قوة؟!
يمكننا سرد الأشكال الأولية للتنظيم الديمقراطي على النحو الآتي: المؤتمر كسلطة عليا، وفي القاعدة تكون المشاعات المحلية، الجمعيات التعاونية، منظمات المجتمع المدني، ومنظمات البلدية وحقوق الإنسان. ثمة احتياج لمنظمات كثيرة التعدد وواسعة النطاق حسب المواضيع المعنية بها. تتطلب الديمقراطياتُ المجتمعَ الأكثر تنظيماً. إذ، لا غنى عن التنظيمات بغرض الإعراب عن المطاليب الاجتماعية. والمجتمع العاجز عن تنظيم ذاته، لا يمكنه أن يتدمقرط. الشرط الأساسي هو أن تَخلُق كافة الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تنظيماتها الخاصة بها. لا غنى عن الأحزاب كتنظيمات سياسية أولية للديمقراطية. ومنظمات المجتمع المدني هي الشكل المتصدر للتنظيمات في الميدان الاجتماعي. وفي الميدان القانوني تبرز أهمية منظمات حقوق الإنسان ونقابات المحامين والدُّور والرابطات. أما التنظيمات الرئيسية في الميدان الاقتصادي، فهي الجمعيات التعاونية والمجموعات الناشطة والعديد من التنظيمات التجارية والمالية والصناعية وطرق المواصلات، ذات الأهداف العامة. الصحة والتعليم هي المؤسسات العامة التي يتوجب على الشعب أن ينتظم فيها بالأغلب. والكيانات الفنية والرياضية أيضاً ميادين لا يمكن الاستغناء عنها من ناحية التعبئة العامة للشعب. هذا ومن الضروري تنظيم المختارية وهيئات المسنين على صعيد القرى، كأدوات ديمقراطية أكثر منها أدوات دولة. ضروري أن يتواجد في كل قرية "دار الثقافة الشعبية". وفي المدن، وإلى جانب تلك الأشكال، يجب أن تجد المشاعات معناها كتنظيمات، بدءاً من القاعدة. هذا ولا غنى فيها عن مؤسسات مجالس المدينة أيضاً. تتميز اتحادات البلدية فيما بين المدن بمعناها على الصعيد الإقليمي.
كل هذه المؤسات والمنظمات يجب أن تمثل ذاتها في "المؤتمر الشعبي العام" كسلطة عليا. "مؤتمرات الشعب العامة" هي نماذج تنظيمية خاصة لا غنى عنها في حل المشاكل الأساسية لكل شعب. لا يمكن الحديث عن ديمقراطيات الشعب، ما لم تتواجد مؤتمرات الشعب.
يجب عدم النظر إلى مؤتمرات الشعب كبدائل للدولة، ولا كمؤسسات تابعة لها. فمثلما لا توجد دولة الشعب، فمن غير الممكن أن يهدف مؤتمر الشعب إلى احتلال مكانه محل الدولة الموجودة. الدولة، مثلما تناولناها كثيراً، هي التنظيم الأولي الأقدم والأعلى للمجتمع. وهي لا تتشكل على نحو ديمقراطي، بل تُسيَّر بشكل تقليدي عبر التعيين والترفيع. قد يطبِّق المجتمع الفوقي الديمقراطيةَ في داخله. ويمكن تسميتها بديمقراطية الطبقات الفوقية، التي تعد الغطاء الذي تتدثر به الدولة وتستتر. تتخذ هذه الديمقراطيات الموجودة في أغلب نماذج الجمهوريات الغربية، من الدولة أساساً لها. فحسب قناعاتها، تأتي الدولة قبل الديمقراطية. وهي لا تستطيع التفكير في الديمقراطية بدون الدولة. أما في ديمقراطية الشعب، لا يمكن اتخاذ السلطة والدولة كهدف. والديمقراطية الهادفة إلى تكوين دولة، تكون قد حفرت قبرها بيدها. شوهدت الديمقراطيات القصيرة المدى في دول أوروبا الحديثة وأمريكا، وفي أيام تأسيس السوفييتات في روسيا. لكن، وبمجرد العبور إلى الدولة، بقيت ديمقراطيات أيام التأسيس ضامرة قاصرة، دون أن تتحول إلى نظام. هذا هو الوضع المعاش بالأغلب عبر التاريخ. لقد خاف المجتمع الفوقي من الديمقراطية على الدوام.
إن مخالفة أزمتنا الراهنة لإرادات الشعب، والعجز بالتالي عن تخطيها؛ يستدعي بالضرورة مشاركة الشعب. والمشاركة تعني أن يكون الشعب ديمقراطياً. لا تسير الديمقراطية بدون وجود المؤتمر. كان من الممكن ألا تتشاطر الدولة الرأسمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين سلطة المجتمع عبر مؤتمرات الشعب. لكن دول الأزمات في راهننا ليس بمقدورها خطو خطوة واحدة إلى الأمام في الحل، في حال أخذت الشعب في مواجهتها، أو لم تعترف بمبادرة الشعب. فالشروط الثقيلة الوطأة للأزمة تتطلب بالضرورة الانضمام الشمولي للشعب، وبشكل مؤسساتي راسخ. من هنا، فمشاركات الشعب في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي كانت ذات معاني محدودة للغاية؛ يمكن أن تجد معانيها في ظروفنا الراهنة عبر مؤتمرات الشعب، لا غير. والمؤتمرات بماهيتها هذه، ليست أحزاباً، ولا أشباه دول. إنها ليست كلاهما. بل هي مؤسسات الشعب الوظائفية المتولدة من الشروط التاريخية. وقد ابتعدت الشعوب أكثر فأكثر عن المذاهب الرأسمالية – الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، التحررية الوطنية – ومن ثم عن الدولة؛ لتلج مرحلة المؤتمر. ومثلما لا تُرفَض الدولة بشكل قطعي، فإنه لا يُقبَل بها على حالتها القديمة أيضاً. لذا، من الممكن الاشتراك معاً في حل الأزمات الاجتماعية ضمن إطار مبادئ محددة. فتَقَوُّض الدول وتَقَزُّمها التدريجي، وبروز نماذج جديدة منها؛ يشير إلى الحاجة الأكبر لنموذج المؤتمر.
هذا وبإمكان نماذج المؤتمرات أن تكتسب مرتبة مصيرية كصمامات أمان في البلدان التي تعاني من المشاكل القومية الثقيلة. المؤتمرات ضرورية في المستويات الأدنى أيضاً من أجل العديد من الجماعات والمجموعات. فخصائص كل حزب في توحيد كافة المشاركين من جميع الآراء والمعتقدات، هي مؤشر لاستحالة تسيير الديمقراطية دون ذلك. خلاصة؛ يتلخص التوجه الأكثر واقعية في النظر إلى المؤتمر كنموذج حل يتوازى مع الدولة – بدلاً من التضاد معها – في أوقات المشاكل الثقيلة الوطأة التي لا يمكن للدولة أن تنوء عن حِملها لوحدها؛ وليس كبديل للدولة.
تتحلى الديمقراطية داخل التنظيم بأهمية مصيرية لا غنى عنها، بقدر تعددية الأحزاب؛ بحيث تماثل المعايير الديمقراطية العامة في ذلك كأقل تقدير. فالكيان الديمقراطي والإدارات الديمقراطية شرط أساسي للتنظيمات. والشعوب التي تكون تنظيماتها غير ديمقراطية، يستحيل أن تكون لها ديمقراطياتها. من هنا، فالضمان الأسلم للديمقراطيات العامة هو ديمقراطيات التنظيمات التابعة لمراقبة الشعب المشددة، والمجدِّدة ذاتها عبر الانتخابات الدائمة (مرة في السنة كأقل تقدير).
من الصعب سريان مفعول آليات نظام الديمقراطيات، دون استيعاب طرازها العملياتي. فالديمقراطية المفتقرة إلى العملية أشبه بالإنسان الأبكم. العملية لغة الديمقراطية. كل تحرك للشعب، وكل نشاط للتنظيمات هو عملية. لا يمكن تسيير الديمقراطيات دون القيام بالعمليات المتتالية في زمانها ومكانها المناسبين؛ من أبسطها إلى أعقدها: المظاهرات، الاجتماعات، المسيرات، الانتخابات، التظاهرات والاعتصامات، الاحتجاجات، الإضرابات، وحتى المقاومات والانتفاضات القانونية أثناء الظروف الملائمة. نخص بالذكر هنا أن العمليات وسائل ضرورية للحل في حال التغاضي عن المطاليب الأولية للشعب، أو تدمير وإفساد الكثير من مؤسسات وقواعد وأهداف الديمقراطية. لا يمكن لأي شعب (أو تنظيم) عاجز عن القيام بالعمليات، أن يحقق دمقرطته. حينها يكون في الحقيقة قد مات وزال.
هذا وجلي جلاء النهار أن العمليات تكون عبر التنظيمات، وأن العمليات المفتقرة إلى التنظيم ستبقى جوفاء وفاشلة. بقدر ما تكون الشعوب منظمة، تكون حينئذ عملياتية. يجب عدم النظر إلى العمليات على أنها مجرد احتجاجات ومقاومات. فأغلب عمليات المجتمع المدني بنّاءة. أي أن مفهوم العملية الإيجابية هو الأساس.
متى يمكن للانتفاضات والحروب الشعبية أن تفرض ذاتها؟ يرتبط إعطاء الرد الصحيح على أساليب وظروف هذه العمليات الأساسية المستثمَرة والمستخدَمة على حساب الشعوب، بعبور أهم المنعطفات في تاريخ الشعوب بإحراز النجاح المظفر. لا يمكن للانتفاضات والحروب أن تجد معناها، إلا في حال عدم إثمار كافة أشكال العمليات الأخرى، ولدى معاناة المشاكل القائمة من العقم الجذري. نخص بالذكر هنا ضرورة إبداء الشعوب قدرتها على القيام بالانتفاضات والحروب في سبيل مصالحها الحيوية والمصيرية؛ عوضاً عن العيش في ظل العبودية المُحِطّة للقدر، عندما لا تترك قوى السلطة القتالية أي خيار للحل سوى اللجوء إلى العنف. إذ لا مناص من التركيز الحقيقي والجدي على انتفاضات الشعوب وحروبها، عندما لا تطبَّق القوانين بالتساوي، ويُهمَل دور الديمقراطية في الحل، وتُفرَغ كافة العمليات السلمية من محتواها. بمقدور الإطارَين التاليَين إعطاء الجواب اللازم: عندما لا تترك الدولة أي مجال للحل الديمقراطي، ولا تهتم به بالحساسية المطلوبة، وعندما لا يبقى بحوزة الشعب أي عامل آخر للتأثير على الدولة؛ حينها تبدأ فعالية الانتفاضات الدموية – بنسبة منخفضة كانت أم مرتفعة – أو الحروب الشعبية الدائمة – عالية النسبة كانت أم منخفضة – مثلما شوهد لدى العديد من الشعوب.
لا تهدف كل انتفاضة أو حرب مندلعة إلى الانفصال. بل خلافاً لذلك، إنها تقود بالأرجح إلى التكامل الديمقراطي. لقد مر الزمن على الانتفاضات والحروب التحررية الوطنية القديمة الهادفة إلى بناء الدولة، وعفا الدهر عليها. فالانتفاضات والحركات التحررية الوطنية الهادفة إلى الدولة، ليس من محصلتها سوى إضافة ملحق صغير آخر إلى الدولة الرأسمالية. وكيفما لا يجلب هذا أي حل لأية مشكلة تعانيها الشعوب، فهو يُزيد من وطأتها أيضاً. فمشاكل الشعب العربي، صاحب الاثنين وعشرين دولة، لم تقلّ – حسب الظن – بل تكاثرت.
من هنا، بالإمكان تعريف الانتفاضات والحروب الشعبية للمرحلة الجديدة، بأنها لا تكون هادفة إلى الدولة، بل إلى التفعيل التام للديمقراطية، شكلاً ومضموناً. هكذا يمكن رسم أدوارها الرئيسية. فالانفصال لن يجد معناه، إلا إن كان لا مناص منه. يستدعي خيار الشعوب على الدوام الانحياز للتكامل الديمقراطي. مهما فرض أصحابُ النعرات القوموية المفرطة الانفصالَ والعنف لدى كلا الطرفين، إلا إنه من الضروري أن يكون التكامل الديمقراطي وأقلُّ درجة من العنف هو خيار الشعوب في هذه الظروف. فبقدر ما يكون اللجوء إلى الانتفاضات والحروب قبل نضوج ظروفها وزمانها المناسبين أمراً خطيراً؛ فعدم اللجوء إليها مُحِطّ من القدر ومميت بنفس النسبة من الخطورة، لدى انعدام كافة الخيارات الأخرى.
تتعلق المسألة العملياتية الهامة الأخرى بالنسبة للديمقراطيات بكيفية التصرف في حالة الدفاع المشروع. يجد الدفاع المشروع معناه في ظروف الاحتلال فقط. فإذا ما سُلِّط على الشعب نظام محتل مستعمِر أو قمعي بشكل مختلف، فهذا معناه أنه ثمة احتلال. وكما أن قوة خارجية بمقدورها أن تكون منفردة في احتلالها، ففي بعض الأحايين قد تلجأ في ذلك إلى المتواطئين المحليين. هنا تبرز مهمة الدفاع عن الذات بهدف دحر الاحتلال وتأسيس الديمقراطية. لكن، بما أنه ثمة ظاهرة غريبة (خارجية) في الوسط، فسيكون من الأصح نعته بالدفاع المشروع، أو الدفاع الوطني الديمقراطي. وتكون في هذه الحالة تولدت شروط الحرب والانتفاضات مرة أخرى. لا تؤخذ الحرب التحررية الوطنية الكلاسيكية أساساً هنا. فمن الأنسب القول بأنها حرب الدفاع في سبيل التكامل الديمقراطي الشامل، كضرورة من ضرورات العصر الراهن، حتى وإن كان لها بُعدها الوطني. بالإمكان تطوير مثل هذا النوع من الانتفاضات والحروب في المدن والقرى على السواء، إما بشكل منفرد أو متزامن. وقد جُرِّبَت كافة الأشكال في العديد من البلدان الآسيوية والإفريقية والأمريكية. وعوضاً عن الهدف إلى الدولة، فسيكون من الأنسب الهدف إلى الديمقراطية في واقع الحل الراهن. ورغم وجود البُعد الوطني، إلا أن الأصح هو أن تحارب الشعوب بالتحالف مع بعضها البعض في سبيل تحقيق التكامل الديمقراطي تجاه المحتلين وأذيالهم وأعوانهم المتحركين معاً في القمة. من الضروري في هذه الحالة تطبيق الأشكال العملياتية السلمية الأخرى لآخر درجة. يجب أن يكون الأساس هنا هو تنظيم وتسيير الدفاع المشروع بغرض مؤازرة دمقرطة الشعب، وتطويرها وصونها. يجب عدم النسيان أنه ثمة معنيون بالحل الديمقراطي، حينما يكون الجناح الخفي للقتاليين القمعيين هو المستهدَف. إذ لا يمكن أن تكون مواجهة الدولة برمتها والوطن المعني بكامله استراتيجية صائبة. وعلى الصعيد التكتيكي أيضاً، ليس من الصحيح استهداف كل قوة أجنبية غريبة أو مؤسسات وأفراد القومية المحتلة بأجمعهم. الأساس هنا هو الحد من نطاق القوى المستهدَفة قدر الإمكان، للحصول على النتيجة المرجوة، وزيادة فرص الحل الديمقراطي للشعب، وصون وجوده وكيانه. قد تكون الوسيلة الأولية للخروج من الأزمة الحالية هي التكثيف والاستمرارية في حركة الدفاع المشروع، وتنظيمه إلى أن تقتنع القوى المتسببة في الاحتلال والعقم باستحالة استمرارها في الحرب الباطلة التي تشنها، وإلى أن تُجذَ‍ب إلى درب الحل الديمقراطي اللازم.
من غير الممكن غض الطرف عن مشكلة الشعوب في الدفاع الذاتي في الظروف الاعتيادية، عدا الحالات الطارئة. يتسم الأمن الذاتي في ظروف الأزمات بأهمية تضاهي ما للأمن العام منها. ليس بمقدور معايير الأمن الكلاسيكية للدولة تلبية احتياجات الأمن لدى الشعب من جهات متعددة. واستيلاء الطغمة الأوليغارشية والقوى الديكتاتورية على سلطة الدولة، يفند الضمان القانوني المحدود الموجود، ويقضي عليه. وتتقطع الدولة إلى أقسام وأجزاء. ويتكاثر في أقصاها عدد ضخم من أصحاب المافيا والعصابات التابعة للبؤر الدولتية. وتهُبّ نفحة الإرهاب التام على رؤوس الشعب. ويحصل الانفجار في الجرائم المرتكبة. وكلما جرت البحوثات فيها تُصان القوى الناطقة والمتحركة باسم الدولة، عوضاً عن سلوك الطرق القانونية. ويتحول القانون إلى حالة أشبه بالسلعة، وتغدو قوى أمن الدولة بذاتها مشكلة أمنية. مقابل مثل هذه المشاكل الأمنية المعاشة اليوم في العديد من البلدان في مراحل الأزمة، يغدو الدفاع عن الذات ضرورة لا مهرب منها؛ حيث يتطلب – بالتأكيد – تشكيل قوات الدفاع الذاتي.
من الأصح النظر إلى قوات الدفاع الشعبية كقوات تقوم على تلبية الحاجات الأمنية الأولية التي لم تحققها الدولة، أو بقيت ناقصة فيها، أو حتى تسببت بها؛ عوضاً عن النظر إليها كقوة مناهضة للدولة أو بديلة لها. قوات الدفاع الشعبية ليست جيشاً أنصارياً كلاسيكياً، ولا جيشاً تحررياً وطنياً. فأنصار التحرر الشعبيون، أو جيش التحرير الوطني، يهدفون بالأرجح إلى الدولة والسلطة، ويسعون لحل مشكلة السلطة. في حين لا يمكن أن تهدف قوات الدفاع الشعبية بشكل خاص إلى الدولة والسلطة (عدا الضرورات الموضوعية). وظيفتها الأساسية – باختصار – هي العمل على حماية الحقوق القانونية والدستورية للشعب لدى تعرضها للانتهاك، أو عندما لا يقوم القضاء بوظائفه؛ وأن تكون الضمان الأولي لمساعي الدمقرطة، والريادة للمقاومة إزاء الاعتداءات، وحماية وجود الكيان الثقافي والبيئي للشعب.
بمقدور وحدات الدفاع الشعبية الانتظام على شكل وحدات مناسبة في المدن والجبال والضواحي. ويمكن وصفها بضرب من ميليشيات الدفاع عن الشعب. بإمكانها تأدية دورها في المهام التي تعجز قوى الأمن المحلية عن القيام بها. كما أن حلها الدائم للبنى الاجتماعية في ظروف الأزمة، يُزيد من حيوية الموضوع بالنسبة للأوساط المشوشة المتزايدة، والدفاع عن الذات وعن وجود الشعب، وإدارته المحلية. ولدى البحث عن الخروج من الأزمة عبر سبل الحل الديمقراطية، بالإمكان النفاذ من أوساط الانفلات الأمني المتزايد، عبر قوات الدفاع الشعبية، وضمن تكامل والتحام رصين مع هذه المرحلة.

2 – تحرير الجنسوية الاجتماعية

تتصدر المرأة ونظام العلاقات والتناقضات المتشكل حولها، قائمة الظواهر الواجب معالجتها بشكل منفرد، إلى جانب تكوين مضمون الدمقرطة. بإمكاننا لدى تناول ظاهرة المرأة أن نرى بوضوح أكبر مدى تأخر ونقصان معالجة العلوم الاجتماعية لها، بما يضاهي ما هي عليه مسألة توازنات السلوكيات المشاعية والديمقراطية. حيث ثمة إجماع عام في كافة المواقف العلمية والأخلاقية والسياسية، يفترض مسبقاً بأن ما تعانيه المرأة هو من دواعي طبيعتها. والمؤسف أكثر أن المرأة أيضاً اعتادت على قبول هذه البراديغما طبيعياً. فطبيعة وقدسية القوالب الثابتة المفروضة على الشعوب منذ آلاف السنين، باتت محفورة في كل خلايا ذهنية المرأة وتصرفاتها بأضعاف مضاعفة. وبقدر ما تم تأنيث الشعوب، اتسمت المرأة أيضاً بالشعبوية. وعندما قال هتلر "الشعوب كالنساء"، إنما قصد هذه الحقيقة. لدى تناولنا ظاهرة المرأة بعمق أكبر، سندرك أنها عومِلت كنَسَب وطبقة وأُمَّة، لتتجاوز كونها جنساً بيولوجياً. إنها النَّسَب والطبقة والأُمَّة الأكثر انسحاقاً. من المهم الإدراك أنه ما من نَسَب أو طبقة أو أُمَّة أُلحِقت بعبودية منتظمة بقدر الأنوثة.
لم يُدوَّن بعد تاريخ عبودية الأنوثة. أما تاريخ الحرية، فلا يزال ينتظر التدوين. يرتبط إبقاء عبودية المرأة في غياهب الظلام الغائرة، بالسلطة الهرمية والدولتية المتصاعدة في المجتمع. حيث أُسِّسَت الهرميات (الإدارات المقدسة صاحبة الامتيازات)، وفُتِحَت درب العبودية أمام شرائح المجتمع الأخرى، مع تعويد المرأة على العبودية. يأتي استعباد الرجل بعد استعباد المرأة. وثمة جوانب لعبودية الجنس، تختلف عن عبودية الطبقة والأُمَّة. فبالإضافة إلى وسائل القمع الدقيقة والمُرَكَّزة لإضفاء المشروعية عليها، يتم ترسيخها عبر الأكاذيب والتلفيقات المشحونة بالعواطف. وتُستثمَر الفوارق البيولوجية وكأنها ذرائع للعبودية. كل ما تقوم به المرأة يؤخذ بعين الاستخفاف، وكأنه "عمل أنثوي" لا قيمة له. ويُطرَح تواجدها في كل ميادين المجتمع العامة على أنه محظور دينياً ومُعيب أخلاقياً. هكذا تُبعَد تدريجياً عن كافة النشاطات الاجتماعية المهمة. ومع انفراد الرجل بالنشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كقوة مهيمنة، يتمأسس ضعف المرأة وهزلها. ويتم تشاطر مفهوم "الجنس الضعيف" كعقيدة راسخة.
بعد أن تتكدس كافة إمكانيات وموارد القوة المادية والمعنوية بيد الرجل، تغدو المرأة كياناً مِربَط رأسه بيد الرجل، ترتجيه أحياناً، وتدوس على عزتها وكرامتها لترضى بقدرها أحايين أخر، وتغتاظ من الحياة دائماً وتعبَس لها؛ لتتقمص رداء الصمت العميق. وبمعنى من المعاني، يمكننا وصفها بالميت الحي. بإمكاننا إبراز الظاهرة أكثر عبر عدة تشبيهات:
التشبيه الأول: العصفور الذي داخل القفص. فأحياناً يكون العصفور بديعاً وزاهياً كالكناري. وأحياناً يكون ذا صوت جميل كالبلبل. كل واحد يُشَبِّه المرأة بعصفور حسبما يرتأيه هو. وغالباً ما يقال فيها: عصفور الدوري.
التشبيه الثاني: القطة التي تموي دائماً في قعر بئر بلا قاع. حيث يستأهلها صاحبها ويدجِّنها جيداً بتغذيتها على بقايا الطعام. قد يكون تشبيهاً فظاً، لكن، ثمة ضرورة ساطعة لإبداء مساعي علمية وأدبية متعددة الاتجاهات، بغرض استيعاب مدى عمق العبودية القائمة. لقد أُسِّس مجتمع جنسوي إلى أبعد الحدود. والفظاظة الحقيقية تكمن في الموقف التالي: بينما يُعتَبَر اغتصاب الرجل للمرأة عنوة بأنه بطولة، وبينما يتلذذ الرجل بذلك ويغتبط لآخر درجة؛ تواجه المرأة كل أنواع الإجحاف بحقها؛ بدءاً من رجمها بالحجارة حتى الموت، وحتى حبسها في بيوت الدعارة، والحكم عليها بعدم الدخول ثانية إلى المجتمع. والفظاظة الأخرى هي: بينما يعتز الرجل بعضوه الجنسي ويتباهى، تكون الأعضاء الجنسية للمرأة مصدر حياء وعار. لم يتوانَ أحد عن استثمار أبسط الفوارق الجسدية على حساب المرأة. بل وغدا كونها "امرأة" موضوع حياء وخجل. حتى في العشق – الذي يُزعَم بأنه عاطفة مقدسة بحاله هذه – ما تعيشه المرأة ليس سوى فرض الرجل ذاته عليها بكل عمى وتهور. أما البنات الصغيرات، فتعانين الازدراء والاشمئزاز على الدوام.
التساؤل الواجب طرحه هنا: لِمَ كل هذه العبودية الغائرة؟ والرد عليه منوط – بكل تأكيد – بظاهرة السلطة. فطبيعة السلطة تتطلب العبودية. فإذا كان نظام السلطة بيد الرجل، فلن يكتفي بتشكيل قسم – فقط – من الجنس البشري حسب تلك السلطة، بل سيشمل الجنس برمته. فكيفما يرى أصحاب السلطة في حدود الدولة حدوداً لبيوتهم، ويُحِقّون لذاتهم القيام بكل الممارسات ضمنها؛ ففي العائلة – التي هي نموذج مصغر لهم – أيضاً يرى الرجل أنه من حقه ممارسة أي عمل (بما فيه القتل إن رأى داعياً لذلك)، باعتباره صاحب السلطة. إن المرأة المنعكفة في البيت مُلك قديم وغائر، لدرجة أن الرجل يقول فيها "إنها لي" بكل عواطفه الاستملاكية اللامحدودة. في حين أن المرأة (المقيَّدة بذريعة الزواج) لا تجرؤ على الزعم بأبسط حق لها على الرجل. أما الرجل، فحقوقه على المرأة والأطفال لا تعرف الحدود.
يجب البحث عن المصدر الأولي للمُلكية – مرة أخرى – في العائلة، وفي التصرف بالمرأة بكل عبودية. حيث تكمن المرأةُ المستعبَدة في مصدر المُلكية. تتفشى العبودية والمُلكية في المرأة على موجات متتالية، لتعم كل المستوى الاجتماعي. هكذا تُرسَّخ كلُّ عاطفة أو فكرة للمُلكية والعبودية، في البنية الذهنيةِ والسلوكيةِ للفرد والمجتمع. ويُؤقلَم المجتمع مع كافة أشكال البنى الهرمية والدولتية. هذا ما معناه بدوره سهولة سيرورة كافة أنواع البنى المسماة بالطبقية، بعد اكتسابها مشروعيتها. هكذا، لا تكون المرأةُ لوحدها خاسرة، بل والمجتمع برمته، عدا حفنة من القوة الهرمية والدولتية.
لا أهمية ملحوظة لمراحل الأزمات الخاصة بالنسبة للمرأة. فهي بالأصل تعيش أزمات مستمرة. المرأة تعني الهوية المتأزمة. المسألة الوحيدة الباعثة على الأمل في خضم فوضى النظام الرأسمالي المعاشة اليوم، هي كون ظاهرة المرأة قد سُلِّط عليها الضوء، ولو بمحدودية. فالفامينية ساهمت بشكل بارز في إظهار حقيقة الأنوثة في الربع الأخير من القرن الأخير؛ وإن لم يكن بشكل مكتمل. وبما أن فرصة التغيير لكل ظاهرة تتزايد مع تصاعد التنوير العالي لها في الفوضى؛ فقد تنمُّ الخطوات التي ستُخطى لصالح الحرية عن انطلاقات وثابة نوعية، وقد تَنْفُذُ حرية المرأة من الأزمة الحالية بمكاسب عظمى.
من الضروري أن تجد حرية المرأة إطاراً وأفقاً مناسباً لتعريف الظاهرة. فقد لا تعني الحرية والمساواة الاجتماعية العامة حرية ومساواة مباشرة بالنسبة للمرأة أيضاً. الأساس هنا هو المساعي والتنظيم الخاص. وأيضاً، قد تَمُد حركة الدمقرطة العامة المرأة ببضعة فرص وإمكانيات. لكنها لا تجلب لها الديمقراطية تلقائياً. على المرأة أن تبذل مساعيها وتؤسس تنظيمها وتحدد أهدافها الخاصة بها بالذات. ثمة حاجة أولية لتعريف الحرية بما يقابل حالة العبودية المعششة في المرأة. لقد تطورت قدرة النظام الرأسمالي الخارقة على تطوير الأدوار والخيالات والتصورات الزائفة عوضاً عن الحقيقة، بحيث ساوى بين الحرية وبين النشاطات الأكثر حطاً من شأن المرأة (كالأدب والفن الإباحي على سبيل المثال).
رغم وجود العديد من العناصر المهمة في مساعي وجهود الفامينية، إلا إنها لا تزال بعيدة عن تخطي آفاق الديمقراطيات ذات النواة الغربية. وبالأساس، يصعب على المرء القول بأنها استوعبت شكل الحياة التي كونتها الرأسمالية بشكل كامل، فما بالك بتخطيها إياها! يستذكرنا هذا الوضع بمفهوم الثورة الاشتراكية لدى لينين. فرغم هذا الكم الهائل من الجهود الدؤوبة، ورغم العديد من المواقع المكتسبة بعد صراع مرير؛ إلا أن اللينينية لم تتخلص في المحصلة من تقديم أثمن المساهمات إلى الرأسمالية من الجانب اليساري. وقد تلقى الفامينية أيضاً عواقب مشابهة. فافتقار مناضلية المرأة إلى الدعامة التنظيمية المتينة، وعجزها عن تطوير فلسفتها بشكل تام؛ إنما يثبط من عزمها على مواجهة المصاعب. ولربما لا يؤدي حتى إلى تأسيس "الاشتراكية المشيدة" لجبهة المرأة. مع ذلك، فمن الأصح النظر إليها كخطوة حقيقية، من ناحية لفت الأنباه إلى المشكلة القائمة.
لا جدال في أن للمرأة طبيعتها، مثلما هي حال كل موجود جنسي. ومع تزايد البراهين في حوزة علم البيولوجيا، تزداد مؤازرته لكون المرأة – كجنس بيولوجي – عضواً مركزياً يتخطى إطار المجتمعية. باختصار، إلى جانب أن جسد المرأة يشمل الرجل، فالعكس غير صحيح. أي أن جسد الرجل لا يمكن أن يشمل المرأة. من هنا نفهم أن الرجل مخلوق من المرأة؛ على خلاف ما ادعته الكتب المقدسة بخلق المرأة من الرجل. فـ"كروموسومات" (صبغيات) المرأة أكثر مما للرجل منها. حتى الدورة الشهرية (الحيض)، التي يُنظَر إليها كسوء طالع للمرأة؛ يجب اعتبارها مؤشراً قاطعاً على مدى حساسية ورِقّة علاقة المرأة بالطبيعة. يجب النظر إلى نزف الرحم كتدفق للحياة الطبيعية المستمرة التي لم تنضب بعد. أي أن جذور شرايين الحياة لم تنضب بعد. واستمرارها دليل على إرادتها. هكذا يجب استيعاب الأمر. أي، ما يقال عنه بأنه أمراض المرأة، ليس سوى ظواهر الحياة بعينها. وهي تنبع من تمثيل المرأة لمركز الحياة ونواتها. إن مشاكل الحياة المعقدة والمتشابكة تجري في رحم المرأة، في بطنها. والوليد المتولّد منها، والحبل السرّي، أشبه بالحلقة الأخيرة لسلسلة الحياة.
مقابل هذه الحقيقة، يبدو الرجل وكأنه ملحق بالمرأة، وامتداد لها. وما يؤكد صحة هذه الظاهرة هو عواطف الحسد والغيرة المفرطة لدى الرجل، والتي لا معنى لها ولا أصل. فبينما تقف طبيعة المرأة أكثر وثوقاً من نفسها إزاءه، لا يهدأ للرجل بال ولا يعرفه السكون. وكأنه بلاء مسلَّط على المرأة، يجول في أطرافها. كل هذه الملاحظات تشير إلى أن جسد المرأة ليس مشحوناً بالضعف، بل هو المركز النواة. انطلاقاً من ذلك، على المرأة أن ترفض، وعلى الفور، تعريف "الناقصة، المريضة" الذي فرضته عليها ثقافة الرجل الحاكم. وعليها أن تُشعِر الرجل بأن العكس هو الصحيح. ونحن نشيد بهذه الحقيقة عندما نقول بضرورة ثقتها بنفسها فيما يخص جسدها.
النتيجة الطبيعية لهذا التكوين الجسدي هي كون الذكاء العاطفي لدى المرأة أقوى. الذكاء العاطفي هو الذكاء اللامنقطع عن الحياة. كما أنه الذكاء المتضمن للاعتناق والتعاطف الوطيدين. حتى لو تطور الذكاء التحليلي لدى المرأة، فانطلاقاً من قوة ورصانة ذكائها العاطفي؛ فهي تكون أكفأ في اتباع سلوك أكثر اتزاناً وتوازناً وارتباطاً بالحياة، وأكثر بُعداً عن التخريب والدمار. لا يفهم الرجل معنى الحياة بقدر المرأة. والمرأة التي تعني الحياة ذاتها (كلمة "Jin" المنتمية إلى مجموعة اللغة الآرية، تعني في اللغة الكردية "الحياة"، وتعني "المرأة" في الوقت عينه)؛ إنما هي عبارة عن المهارة والقدرة على رؤية جميع جوانب الحياة بحالتها الشفافة البعيدة عن الرياء والنفاق. مهارتها هذه راسخة وقوية. ونحن ندرك ذلك جيداً في حياتنا الشخصية أيضاً.
الرجل بذاته هو المسؤول الظالم عن المرأة المتصفة بأنها محتالة ومتردية وفاحشة وغيرها من الصفات. إذ ما من امرأة ترى حاجة للجوء إلى الحيل أو الفحوش، إن تُرِكَت وشأنها. فلا جسدها، ولا كيانها البيولوجي ملائمان لذلك. الرجل هو المبتكِر الحقيقي للحيل والدسائس والفحوش. كلنا نعرف أن أول بيت دعارة مشهور افتُتِح في نيبور، عاصمة السومريين، في أعوام 2500ق.م، تحت اسم "مصاقدين". وكانت سلطة الرجل هي التي افتتحته. مع ذلك، فالرجل لا يخجل من التذكير دوماً بالفحوش، وكأنه من ابتكار المرأة. بل ولا يُنقِص من عصا الضرب وممارسة المجازر على المرأة ولعنها وسبّها بكل ما يخطر على البال من وسائل؛ بعد أن يرمي بأثره هو، وبالجُرم الذي ابتكره هو، على عاتق المرأة، ويطوِّر – بناء عليه – مفهوم الشرف المزيف.
النتيجة التي يمكننا استخلاصها من هذا التعريف الملحَق، هي ضرورة الوقوف أولاً في وجه الهجوم الأيديولوجي للرجل. على المرأة أن تتسلح بأيديولوجيتها التحررية المتجاوزة لنطاق الفامينية بمصدرها الرأسمالي؛ وأن تكافح تجاه الأيديولوجية الذكورية المهيمنة. علاوة على أنه يتوجب الإدراك جيداً لكيفية تعزيز قدراتها الذهنية الطبيعية والتحررية في الميدان الأيديولوجي أولاً، إزاء الذهنية الرجولية السلطوية الحاكمة. ولا ننسى هنا أن الاستسلام الأنثوي التقليدي ليس جسدياً، بل هو اجتماعي. وهو يأتي من العبودية المعششة فيها والمقبول بها. ما دام الأمر هكذا، فمن المهم التغلب على الأفكار والعواطف الاستسلامية في الميدان الأيديولوجي أولاً.
على المرأة أن تعي أنه عندما تتوجه حريتها صوب الميدان السياسي، تكون حينئذ في مواجهة أشد جوانب الصراع حدة ومشقة. وبدون معرفة كيفية إحراز النصر في الميدان السياسي، لا يمكن أن يكون أي انتصار آخر راسخاً أو دائمياً. لا يعني الانتصارُ في هذا الميدان حركةَ تدوُّل المرأة. بل وخلافاً لذلك، يعني الصراع مع البنى الدولتية والهرمية، وخلق كيانات سياسية لا تهدف إلى الدولة؛ بل تكون ديمقراطية تهدف إلى حرية الجنس وبناء المجتمع الأيكولوجي. فالهرمية والدولتية هما أكثر الظواهر تضارباً وتنافراً مع طبيعة المرأة. انطلاقاً من ذلك، على حركة حرية المرأة أن تؤدي دورها الريادي في سبيل تأسيس الكيانات السياسية الخارجة عن نطاق الدولة، والمناهِضة للهرمية. وانهيار العبودية في الميدان السياسي، يكون في مضمونه بمعرفة كيفية الانتصار في هذا الميدان. يستلزم النضالُ والصراع في هذا الميدان التنظيمَ والنضالَ الديمقراطي الشامل للمرأة. فكل أنواع منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والإدارات المحلية، هي الساحات التي سيتطور فيها نضالها وينتظم. وطبقاً لما هي عليه الحال في الاشتراكية؛ فالدرب المؤدية إلى حرية المرأة ومساواتها، تمر من النضال الديمقراطي المظفر والأشمل على الإطلاق. لا يمكن لحركة المرأة العاجزة عن كسب الديمقراطية، أن تظفر بحريتها ومساواتها.
يشكِّل واقع الأسرة والزواج المشكلة الأهم بالنسبة للحرية في الميدان الاجتماعي. إنهما أشبه ببئر بلا قاع. وهاتان المؤسستان الباديتان وكأنهما سبيل الخلاص للمرأة، ليستا سوى انتقالاً من قفص إلى آخر، بسبب الذهنية الاجتماعية الحالية. بل ويحصل ذلك بالاضطرار لتَرْك شباب المرأة الحيوي والعنفواني لرحمة ذهنية قصّاب ظالم. من الضروري رؤية الأسرة كانعكاس (صورة) للمجتمع الفوقي (مجتمع السلطة) داخل الشعب، وكمؤسسة عميلة له. الرجل هو ممثل السلطة الموجودة داخل المجتمع، ضمن العائلة؛ والتعبير المكثف لها. في الحقيقة، عندما تتزوج المرأة فهي تُستعبَد. إذ من العصيب تصور وجود مؤسسة استعبادية أخرى، بقدر ما هي عليه مؤسسة الزواج. والعبوديات الأشمل بمعناها الحقيقي، تتأسس مع هذه المؤسسة، وتستمر في الأسرة مع تجذرها فيها أكثر فأكثر.
نحن لا نتكلم هنا عن الحياة المشتركة. فهذه نقطة يمكن أن تكسب معناها وفقاً لمفهوم كل شخص في الحرية والمساواة. بل نتكلم عن الزواج والأسرة بمعانيهما التقليدية الكلاسيكية المترسخة، والتي لا تعني سوى التملُّك الأكيد على حساب المرأة، وانسحابها من كافة الميادين السياسية والذهنية والاجتماعية والاقتصادية، وعدم قدرتها على لململة أشلائها بالسهولة المتصوَّرة. قد تؤدي الزيجات والعلاقات القائمة، والنابعة من الضوائق الفردية والغرائزية ومن مفهوم الأسرة التقليدية، دوراً يماثل أخطر أنواع الانحرافات على درب الحياة الحرة؛ ما لم تتوطد مقومات الحياة المشتركة الديمقراطية والحرة الهادفة إلى حرية الجنس، بعد تمرير الأشكال الموجودة منها من محاكمة راديكالية أساسية. تتمثل الحاجة الماسة في الأمر في تحليل الذهنية والميدان الديمقراطي والسياسي، بغرض الترسيخ الكامل لحرية الجنس، وإبراز إرادات الحياة المشتركة الملائمة لذلك، والمنسجمة وإياه.
أما موضوع العشق الذي تتداوله الأفواه كالعلكة في عالمنا الراهن؛ فهو يشهد أكثر مراحله خزياً وافتقاراً للمضمون والمعنى. إذ لم تسقط مرتبة العشق تحت الأقدام بهذه الدرجة في أي مرحلة أخرى من التاريخ. فحتى أخطر نماذج العلاقات وأقبحها، تسمى بالعشق، بدءاً من العشق اللحظي وحتى أكثر السلوكيات إباحية للجنس. لا يمكن تصوُّر علاقة مطبِّقة لمفهوم حياة النظام الرأسمالي بأفضل حال، أكثر من تلك العلاقات. إن ظواهر العشق الراهنة هي اعتراف صريح لا غبار عليه للأحوال التي وقعت فيها الذهنية التي فرضها النظام الحاكم على المجتمع والفرد، حتى في أقدس الميادين.
إحياء العشق هو أحد أصعب المهام الثورية. إذ يتطلب الكدح العظيم والتنور الذهني والحب الإنساني. ومن أهم شروط العشق:
أولاً: النظر إلى العصر ضمن آفاق الحكمة، والحذو حذوها. ثانياً: فرض السلوكيات العظيمة إزاء طيش النظام وتهوراته. ثالثاً: القبول باستحالة تواجه الجنسين أو النظر إلى بعضهما البعض في حالة غياب الحرية والتحرر؛ وهضم ذلك كسلوك أخلاقي أساسي. رابعاً: أسْر الغريزة الجنسية وضبطها بموجب متطلبات النقاط الثلاث السابقة. بمعنى آخر؛ يجب الإدراك يقيناً بأن أية خطوة تُخطى على درب العشق ستكون إنكاراً للعشق؛ ما لم ترتبط الغريزة الجنسية فيها بالحكمة وبأخلاق الحرية وحقيقة النضال والصراع السياسي والعسكري. كل من يعجز عن تأمين فرصةٍ يؤسس فيها المرء عشه الزوجي الحر بقدر العصفور الطليق، ويتكلم بالمقابل عن العشق والعلاقة والزيجة؛ إنما يشير بكل جلاء إلى استسلامه لعبودية النظام الاجتماعي السائد، وإلى جهله بالقيم النبيلة السامية لنضال الحرية.
إنْ كان لا بد من الحديث عن حقيقة العشق في راهننا، فهذا غير ممكن إلا باكتساب الشخصيات التي تتجاوز في عشقها ما كان عليه "ليلى ومجنون" بأشواط ملحوظة، وتتخطى كل أهل التصوف، وتتحلى بدقةِ وحساسيةِ رجل العلم، وتؤدي إلى الخروج من الأزمة الحالية والتوجه نحو الحرية الاجتماعية، وتبرهن على عشقها ببسالاتها وتضحياتها وانتصاراتها المظفرة.
بإمكان مشاكل المساواة الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية للمرأة أن تلقى الرد اللازم لها بالنجاح الموفق في عملية الدمقرطة؛ عبر تحليل وتفكيك السلطة السياسية أولاً. إذ ما من شائبة في أن الحرية القانونية القحطة والمجدبة، لن تفي بشيء، ولن تكتسب معناها؛ ما لم يُحرَز التقدم على درب الحرية، وما لم يُعمَل بالسياسة الديمقراطية.
الأصح هو تناول موضوع المرأة كثورة ثقافية. إذ من العصيب إيجاد حل تحرري ذي معاني راقية بالثقافة القائمة؛ مهما كانت النوايا حسنة، ومهما بُذِلَت الجهود الدؤوبة. وذلك بسبب المشكلة القائمة في الظاهرة ذاتها، وبنية العلاقات فيها. واكتساب الهوية التحررية الأكثر راديكالية أمر ممكن فقط بالدنو من المرأة. أو بالأحرى باستيعاب النظام القائم في العلاقات بين الجنسين ككل متكامل، وتخطيه. يجب الإدراك جيداً أنه لا يمكن قطع مسافة، ولو بمثقال ذرّة، بمقارنة مسألة الحجاب بالتقاليد والأعراف، ومقارنة الإباحية الجنسية بالعصرية. إذ ثمة حاجة ماسة لاستيعاب أغوار الحرية وإكسابها إرادتها، بقدر التعمق في أغوار العبودية وتفهمها. على كل القاصرين عن قطع مسافة ملحوظة في درب حرية المرأة، وبالتالي في درب تحرير الذات؛ أن يعرفوا أنهم بذلك لن يكونوا قادرين على إبداء قدرة الحل والتحول في أي ميدان اجتماعي، ولا في مجال الحرية السياسية أيضاً. يجب اعتماد المفهوم القائل بأن كل نضال تحرري عاجز عن تخطي ثنائية "الرجل الحاكم – المرأة العبدة" لن يتمكن من توطيد الهوية الحرة أو اكتسابها؛ كمعيار أولي للحرية. إذ لن تتحقق العلاقة الحرة بين المرأة والرجل، بدون تحطيم علاقة المُلكية والسلطة المسلَّطة على المرأة.
من الواقعي أيضاً اعتبار قرننا مرحلة اجتماعية ستتصاعد فيها إرادة المرأة الحرة. لذا، يتوجب التفكير في المؤسسات الراسخة اللازمة للمرأة وتأسيسها، ربما لأجل القرن بأكمله. وقد تتولد الحاجة لأحزاب حرية المرأة. حينها ستكون ذرائع تأسيس هذه الأحزاب ومهامها الرئيسية متمثلة في توطيد المبادئ الأيديولوجية والسياسية الأولية للحرية، وإدراجها حيز التنفيذ، والإشراف على ذلك وتسييره.
بالنسبة للجماهير النسائية، وبالأخص تلك القاطنة في المدن، يجب تكوين مساحات الحرية لها، لا دُور الالتجاء والاعتصام. وقد تكون "منتديات الثقافة النسائية الحرة" هي الشكل الأنسب، والتي بإمكانها أن تؤدي دَور معابد المرأة العصرية كمساحات تشمل الوحدات التعليمية والإنتاجية والخدماتية للفتيات اللواتي تعجز عوائلهن عن تعليمهن. كما أنها تعد حاجة ضرورية وشكلاً ملائماً من أجل الفتيات والنساء، بسبب وجود البنى التعليمية المدرسية الحالية في النظام القائم.
يقال أنه لا حياة بدون المرأة. لكن، لا يمكن العيش مع المرأة الحالية أيضاً. فحسب قناعتي، إن العلاقة الذكورية – الأنثوية الغارقة في العبودية حتى حلقها، تُغرِق أصحابها معها أكثر من غيرها من العلاقات. ما دام الأمر كذلك، فما هو منتَظَر من أصحاب العشق الحقيقي للخروج من فوضى النظام الرأسمالي الأخيرة، هو خلق القدرة العظيمة المتمحورة حول المرأة، وتحقيق الانطلاقة بها. أظن أن هذا من أقدس وأنبل الأعمال التي سيقوم بها أبطال العشق الحقيقيين، الذين وهبواً أفئدتهم وعقولهم للعشق بكل طواعية.

3 – العودة إلى الأيكولوجيا الاجتماعية

السبيل الأكثر واقعية هو البحث عن جذور الأزمة الأيكولوجية المتجذرة طرداً مع أزمة النظام الاجتماعي، في بدايات نشوء الحضارة. يجب الإدراك أنه كلما تطور الاغتراب عن الإنسان بسبب التحكم والتسلط القائم داخل المجتمع، كلما قاد ذلك إلى الاغتراب عن الطبيعة أيضاً، وبشكل متداخل. فالمجتمع في مضمونه ظاهرة أيكولوجية. أما ما يُقصَد بـ"الأيكولوجيا" فهو الطبيعة الفيزيائية والبيولوجية بين التكون الفيزيائي والتكون البيولوجي للكوكب الأرضي. يُعد هذا أحد أهم الميادين التي أحرز فيها العلم نجاحات مظفرة حقيقية. إذ يمكن تحليل وتعليل ظواهر بدء الحياة في أعماق المياه، وانتشارها فيما بعد إلى اليابسة، ومن ثم تطور عدد لا حصر له من الفصيلات الحيوانية والنباتية من أحشاء أول نبتة وحيوان بدائيين.
تُعلَّل وتحلَّل البيئة الفيزيائية والبيولوجية، التي اعتمد عليها الجنس البشري في تطوره، ارتباطاً بتلك التطورات. وإحدى فرضيات الربط بينه وبين تلك التطورات هي تلك القائلة بأن الجنس البشري هو الحلقة الأخيرة من سلسلة التطور الطبيعي للكائنات الحية عموماً، ولعالَم الحيوانات على وجه التخصيص. النتيجة الأولية والأهم على الإطلاق، والتي يمكننا استخلاصها من ذلك، هي أنه من المحال على النوع البشري أن يعيش بشكل عشوائي؛ وأنه كلما ظل مرتبطاً بسلسلة التطور الطبيعي تلك، وبقي ممتثلاً لمتطلباتها؛ كلما تمكن من إدامة ذاته. أما في حال إعطابه لحقوق التطور الطبيعي الذي يرتكز إليه، فلا مفر حينئذ من غياب التكامل البيولوجي؛ وبالتالي مواجهة خطر عدم إدامة الذات بالتأكيد. وقد برهن العلم بكل وضوح على أن تكامل سياق التطور الطبيعي في الطبيعة منوط بالأواصر المتبادلة للأجناس والكائنات الموجودة فيها، على نحو أكثر مما يظن البعض. وإذا ما افتُقِدَت تلك الأواصر المتبادلة، فستحدث انقطاعات وثغرات كبرى بين حلقات التطور الطبيعي؛ ليغدو عدد لا يستهان به من الفصائل والكائنات وجهاً لوجه أمام مشكلة إدامة جنسه.
مقابل هذه الحقيقة العلمية، فالمشكلة التي خلقتها الحضارة – إنْ لم تُتَّخَذ الإجراءات والتدابير اللازمة – تكمن في أنها شرعت الأبواب على مصاريعها أمام جهنم السعير. الدافع الأساسي لخلق الحضارة لهذه المشكلة، هو حقيقة الاستبداد والجهالة التي تتميز بها (أو بالأحرى ضرورة كونها مخادعة وكاذبة). ذلك أن الهرمية والدولة لا تستطيعان ترسيخ وجودهما، بالارتكاز فقط إلى القمع والعنف أثناء تكونهما. بل لا مفر لهما من اللجوء إلى الكذب والرياء لمواراة حقيقة المجريات وقصتها. فالهيمنة السلطوية تتطلب الهيمنة الذهنية أيضاً. وهذه الأخيرة لا يمكن أن تزوّد السلطة بالضمان والحصانة، إلا بإدراجها موضوع "الخروج عن الحقائق" حيز التنفيذ. أما الجانب الفظ لقوة السلطة، فسيعمل دائماً على تسليط وإنعاش هذا النوع من الذهنية، كجانب دقيق وخفي له. هذا الطراز من تكوين الذهنية يشكل الأرضية الخصبة للاغتراب عن الطبيعة وما فيها. كلما استمر إنكار الأواصر المشاعية الخالقة للمجتمع والمكونة إياه، واتُّخِذَت الهرمية وقوى الدولة – المتطورتان كانحراف وتضليل – أساساً عوضاً عنها؛ فستكون حالة الذهنية منفتحة أمام نسيان الروابط الكامنة بين الطبيعة والحياة، وفقدانها أهميتها. وكل ارتقاء وتصاعد على هذه الأرضية – دعامة الحضارة – سينعكس على أرض الواقع على صورة انقطاع عن الطبيعة وتدمير للبيئة. حينها لن ترى أبصار القوى الحضارية الضرورات الطبيعية. ومهما تكن الحال، فالشرائح السفلية المغذية إياها، تمدها بكل شيء جاهز ترغب به.
لقد ابتُدِعَت يوتوبيا "الألوهية والجنة" المذكورة في الكتب المقدسة على تلك الأرضية، كميثولوجيات للسومريين أصحاب القوى الحضارية الأولى. ونُقِشَت في عقل الإنسان كقوالب ذهنية أولية، منذ مرحلة الطفولة. الإله والجنة كيانان تجريديان للطبيعة. أو بالأصح، هما تَصَوُّران لعالَم قوى السلطة الزائفة المتصاعدة، والتي حلت محل الطبيعة الحقيقية. يتلخص فحواه في: "نحن المستألِهين (المتحولين إلى آلهة) نحيا في جنات النعيم". الشكل الثاني لمضمونه هو: "السلاطنة ظلال الإله، يعيشون كأهل الجنة". أما شكله الثالث فهو: "الإنسان المستعمِر يعيش كما في الجنة". باتت هذه المفاهيم المترسخة كقوالب ذهنية مهيمنة في المجتمع، والمصوَّرة على أنها حقائق إلهية سامية؛ ناسية تماماً لـ"الطبيعة الأم". بل وذهبت أبعد من ذلك، لتتنافر في علاقاتها مع الطبيعة ضمن اغتراب شديد، بابتكارها فرضيات "الطبيعة الوحشية، الطبيعة العمياء، الطبيعة التي يجب تذليلها". إن إمكانية صنع حياة مناهضة للطبيعة، عبر تلك التراكمات الناجمة عن استبدادية ورياء وزيف قوة السلطة؛ تُشكِّل أساس المشاكل الأيكولوجية المعاشة. حيث سيُقال في الطبيعة بأنها "القوة العمياء"، طالما يتم إنكار دورها في الحياة، وطالما تترسخ عوضاً عنها العناصر الدينية المزيفة وصائغوها. يشكل التأثير الشديد لهذه الذهنية حتى يومنا الراهن – بشكل خاص – السبب الأولي لعدم تطور العقلية العلمية. فالعقلية العلمية لا يمكنها أن تتطور، إلا بالإدراك الحقيقي والصحيح لقوى الطبيعة. أما النظام العقائدي الذي يُحِيل كل شيء إلى الإله والجِنّ، فلن يولي أي معنى على الإطلاق لنسيجٍ خارق كالطبيعة. بل وسيتملص من العلمية بإلحاحه العنيد على أن الطبيعة الفيزيائية والبيولوجية برمتها، هي مصطلحات تجريدية من صنع الإله.
وقد رأينا بأم أعيننا كيف أن هذا الإله المجرد هو من إيجاد عقلية أول شريحة استعمارية متنامية، بغرض إكساب ذاتها صفة المشروعية. لا تتمثل في مخاطرها في ربطها العبيد والرقيق بذاتها وحسب، بل وفي فصلها إياهم عن الوقائع الحقيقية. إنها تقطع الأواصر الصحيحة والسليمة لذهنية الإنسان مع الطبيعة، وتُغَرِّبها عنها. فتترك "الطبيعة الأم" – قديماً – مكانها لـ"الطبيعة الظالمة" على يد الظالمين الحقيقيين. إذا ما تمحصنا محطات تلك الذهنية طيلة المسار التاريخي، فلن نتمالك أنفسنا من الذهول حقاً. وما المواجهات المُعَدّة بين الإنسان والحيوانات المفترسة في مراسيم الإمبراطورية الرومانية، سوى ثمرة لتلك الذهنية. إذ ثمة أواصر وطيدة بين تلك الممارسات الظالمة، وبين قوة السلطة لدى توجهها نحو تحييد العقول والاهتمامات عن عالم الحيوانات والنباتات، وتعتيمها وتطويقها بالغموض المظلم. أو بالأحرى، يرمز تأليب الإنسان والحيوان على بعضهما بهذا الشكل، في حقيقته الضمنية، إلى الاغتراب عن الطبيعة.
لدى وصولنا إلى إقطاعية العصور الوسطى، نرى أن وجه البسيطة غدا خاناً يجب تركه على الفور، بل ومكاناً مدنساً يقيِّد الإنسان ويدفعه إلى الحرام والسوء. فماذا يمكن أن تعنيه الطبيعة مقابل سموّ الإله! إذاً، فترك الحياة الدنيا والطبيعة قبل لحظة، أصبح هدفاً عقائدياً سامياً. لكن حياة جنات النعيم في الشريحة الفوقية ستدوم بكل عربدتها. ونحن إنما نقصد هذا التحريف والتشويه عندما نقول بضلال وزيغ الذهنية الأكبر.
تشيد النهضة في فحواها بإعادة تأسيس الأواصر المقطوعة بين العقل والطبيعة. لقد قامت النهضة بثورتها الذهنية على خلفية حيوية الطبيعة وخلاقيتها وعطائها وقدسيتها. وعملت بالمبدأ "كل شيء موجود في الطبيعة" كمعتقد أساس لها. وصوَّرت جماليات الطبيعة على نحو أمثل عبر الفن. وفتحت آفاق الطبيعة بالتوجه العلمي نحوها. واتخذت الإنسان أساساً لها، فاعتبرت تعريف حقيقته برمتها من وظائف العلم والفن. هذا التغيير في الذهنية هو الذي ولَّد العصر الحديث. وعلى خلاف ما يُعتقَد، فالمجتمع الرأسمالي لم يكن نتيجة طبيعية لهذه المرحلة، بل كان محرِّفها ومضلِّلها، ولعب دوره في تقهقرها وجَزْرها. فالإدارات المستعمِرة للإنسان طُوِّرت بالتوازي مع استغلال الطبيعة. والتحمت الهيمنة على الإنسان مع الهيمنة على الطبيعة والتحكم بها. وابتدأت أشد أشكال الهجوم التي شهدها التاريخ على الطبيعة، بحيث اعتَبَرَت تلك الإدارات أن استغلال الطبيعة وظيفة ثورية، ضاربة بذلك عرض الحائط كل قدسياتها وحيويتها وتوازناتها. وهمَّشَت على نحو تام القدسية التي كانت موجودة – وإن بشكل منحرف – في الذهنيات السابقة. ورأت أنه من حقها التصرف بالطبيعة كيفما تشاء، دون أي رادع أو ريبة.
كانت المحصلة أن التحمت أزمة البيئة بالأزمة الاجتماعية. وحالما نَقَل مضمون النظام القائم الأزمةَ الاجتماعية إلى مساحة الفوضى البينية، بدأت البيئة تطلق صيحات الإغاثة من أجل الحياة، لِما لحق بها من كوارث وفواجع. فالمدن المتعاظمة والمتفشية كداء السرطان، تلوث الهواء، انشقاق طبقة الأوزون، التناقض الحاد الأقصى في أجناس الحيوانات والنباتات، تدمير الغابات وكسحها، تلوث المياه الجارية، النفايات المكدَّسة والمتعالية كالجبال في كل الأرجاء، تلوث جميع المياه بالنفايات والمخلَّفات المبيدة، والانفجار السكاني؛ كل ذلك دفع بالطبيعة إلى التمرد مع بدء الفوضى. إذ ثمة تَوجُّه جنوني طائش صوب الربح الأعظمي، دون الأخذ بالحسبان مدى قدرة كوكبنا على تحمل هذا الكم الهائل من المدن والبشر والمعامل ووسائل المواصلات والمواد الاصطناعية وتلوث الهواء والمياه.
هذه التطورات ليست قدراً محتوماً. بل هي حصيلة الاستثمار المختل للعلم والتقنية في حوزة السلطة. من الخطأ تحميل العلم والتقنية مسؤولية هذه المرحلة، إذ لا يمكنهما لعب أدوارهما بمفردهما. بل إنهما يؤديانها وفاقاً لنوعية قوى النظام القائم في المجتمع. وكيفما أَقحَمَت تلك القوى الطبيعة في المستنقع وأغرقتها، فهي قادرة أيضاً على معالجتها ومداواتها. أي أن المشكلة اجتماعية محضة. إذ ثمة تناقض حاد بين المستوى العلمي والتقني الموجود، وبين مستوى الأحوال المعيشية للغالبية الساحقة من البشر. تنجم هذه الحالة عن مصالح ومنافع حفنة أقلية تتحكم بالعلم والتقنية على نحو مطلق. أما الدور الذي سيؤديه العلم والتقنية في المجتمع الديمقراطي والتحرري، فهو دور أيكولوجي.
الأيكولوجيا بحد ذاتها علم. إنها العلم المعني بالبحث في العلاقة القائمة بين المجتمع والبيئة. ورغم حداثة عهدها، إلا إنها ستلعب دوراً ريادياً تصاعدياً في تأمين تخطي التناقض الموجود بين المجتمع والطبيعة، بشكل متداخل مع بقية العلوم الأخرى. أما الوعي البيئي المتطور بحدود، فسيحقق وثبة ثورية ملحوظة مع الأيكولوجيا. لقد كان يشكل الرابطة مع الطبيعة في المجتمع المشاعي، كرابطة الجنين بأمه. حيث ينظر إلى الطبيعة بعين حيوية. كانت القاعدة الأولية للدين آنذاك، هي عدم الوقوف في وجه الطبيعة أو التعرض لعقابها. دين الطبيعة هو دين المجتمع المشاعي البدائي. وما من تناقض أو أمر غير اعتيادي في تكوّن ذاك المجتمع إزاء الطبيعة. والفلسفة ذاتها تُعرِّف الإنسان بأنه "الطبيعة الواعية لذاتها". فالإنسان في فحواه هو أرقى أجزاء الطبيعة تقدماً.
هكذا ينسدل الستار عن حقيقة النظام الاجتماعي المناقض للطبيعة، وغير المتآلف معها، وصانع التناقض بين الطبيعة وبين أرقى أجزائها تقدماً. فإيصال الإنسان إلى حالة يصبح فيها بلاء على الطبيعة، بعد أن كان ملتحماً بها بتناغم أشبه بنشوة الأعياد وبهجتها (الأعياد في حقيقتها ليست سوى صورة عن الاتحاد المثمر والمعطاء بين الطبيعة والنشوة)؛ يشكل – على ما يُظَن – برهاناً قاطعاً على مدى بلاء هذا النظام.
لا يشمل التكامل مع البيئة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وحسب. فاستيعاب الطبيعة على الصعيد الفلسفي أيضاً يعد شغفاً لا يستغنى عنه. إنها مسألة متبادلة في حقيقتها. فبينما تبرهن الطبيعة على الفضول وحب الاستطلاع الكبير لديها، وعلى قدرتها في الخَلق لدى استئناسها؛ فالإنسان أيضاً يدرك ذاته ويعيها لدى استيعابه الطبيعة (إن رؤية السومريين للحرية "أماركي" في العودة إلى الأم "الطبيعة" أمر يحثنا على التفكير فيه). ثمة علاقة العاشق والمعشوق بين كليهما. إنها مغامرة عشق وهيام كبرى. وأظن أن إفسادها أو الانفصال عنها أكبر حرام (حسب التعبير الديني). ذلك إنه من المحال خلق قوة معاني أسمى منها. ارتباطاً بهذه المسألة، فالمعنى الملفت للنظر، والذي أضفيناه على حيض المرأة بأنه إشارة إلى التمايز عن الطبيعة وإلى الانبثاق منها في الوقت نفسه؛ إنما يفرض ذاته هنا مرة أخرى، ويُشعِرنا بوجوده. تتأتى طبيعة المرأة من دنوها الكبير إلى الطبيعة. ويكمن لغز جاذبيتها الساحرة في هذه الحقيقة بالذات.
لا يمكن بتاتاً الدفاع عن أخلاقية أو عقلانية* أيِّ نظام اجتماعي غير متكامل مع الطبيعة. لهذا السبب يتم تجاوز كل نظام يكون على خلاف أكبر مع البيئة الطبيعية؛ سواء على الصعيد الأخلاقي أو العقلاني (العقلي). نستخلص من هذا التعريف المقتضب أن العلاقة جدلية بين الفوضى التي يمر بها نظام المجتمع الرأسمالي، وبين الكوارث البيئية القائمة. لا يمكن تخطي تلك التناقضات الجذرية مع الطبيعة، إلا بالنفاذ من ذاك النظام وتجاوزه. والعجز عن حل تلك التناقضات عبر الحركات المعنية بالبيئة لوحدها؛ إنما يتأتى من طبيعة ومزايا تلك التناقضات ذاتها. من جانب آخر، يستدعي المجتمع الأيكولوجي تحولاً أخلاقياً بالضرورة. ولا يمكن التخلص من مناهضة الرأسمالية للأخلاقيات، إلا بالسلوك الأيكولوجي. تتطلب العلاقة الكامنة بين الأخلاق والضمير (الوجدان)، روحانية تعاطفية واعتناقاً (تقمصاً) عاطفياً. وهذه بدورها لن تكتسب قيمتها الحقيقية، إلا بالتعبئة الأيكولوجية القديرة. تعني الأيكولوجيا صداقة الطبيعة، والاعتقاد بالدين الطبيعي. وهي بجانبها هذا تفيد بالالتحام مجدداً، وبوعي يقظ وحساس، مع المجتمع العضوي الطبيعي المتناسق والمتكامل.
المشاكل العملية للحياة الأيكولوجية أيضاً هي مشاكل راهنة. تتمثل المهام والوظائف العملياتية في هذا الشأن في توطيد كم كبير من المنظمات المؤسَّسة بغرض الحد من كوارث البيئة الطبيعية، وجعلها جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الديمقراطي، والتعاون والتعاضد مع الحركات النسائية الفامينية والتحررية. يُعَد ترسيخ التعبئة والتوعية والتنظيم بصدد البيئة، أحد أهم النشاطات الأولية للدمقرطة. إننا مضطرون لترتيب حملات توعية مُرَكَّزة بصدد الديمقراطية والبيئة، مثلما كانت عليه الحال في وقت من الأوقات بالنسبة للتوعيات الطبقية والوطنية والقومية المُرَكَّزة. والعمليات الهادفة إلى رعاية حقوق الحيوانات، وحتى حماية الغابات، والعمل على نشر الغابات وتشجير كل الأماكن والأرجاء بسرعة؛ يجب أن تكون جزءاً لا يستغنى عنه في العمليات المجتمعية. كل من يفتقد إلى الحساسية البيولوجية، تكون حساسيته ونباهته الاجتماعية معتلة وناقصة. أما الحساسية والنباهة الحقيقية، فتمر من رؤية الأواصر الكثيبة بين كلتا الظاهرتين. يجب أن تشهد – وستشهد – أيامنا المستقبلية نضالات شاملة ومحاولات ستُبذَل بغرض تحويل طبيعتنا إلى غطاء أخضر معشب وزاهٍ، ترعى فيه الحيوانات؛ بعد أن غدت الآن صحراء مجدبة. يجب إفساح الفرصة لنشر الغابات في الطبيعة وتشجيرها. وأظن أن شعار " تمر الوطنية المثلى من التشجير ونشر الغابات"، سيكون من أثمن الشعارات وأقدسها. وسيُدرَك بجلاء أكبر، أن من لا يحب الحيوانات، ومن لا يرعاها أو يحميها، لن يقدر على حب الناس أيضاً. وكلما أدركنا أن النباتات والحيوانات هي أمانة اؤتُمِن عليها الإنسان، ستزداد حينئذ قيمة الإنسان مرتبة أخرى.
لن تنجو أية تعبئة اجتماعية مفتقرة للوعي الأيكولوجي، من الانهيار والتردي، مثلما لوحظ ذلك بكل سطوع في ظاهرة الاشتراكية المشيدة. الوعي الأيكولوجي هو وعي أيديولوجي أولي. وهو أشبه بالجسر الرابط بين حدود الفلسفة والآفاق الأخلاقية. والسياسة الهادفة إلى الخلاص من الأزمة العصرية الراهنة، لن تفضي إلى نظام اجتماعي صحيح، ما لم تكن سياسة أيكولوجية. ومثلما هي الحال في معضلة حرية المرأة، فمفهوم السلطة الأبوية الدولتية المهيمنة هو الذي لعب دوراً أساسياً في الحياة المشحونة بهذا الكم الهائل من الأخطاء والإمهال في حل المشاكل الأيكولوجية. كلما طورنا من الأيكولوجيا والفامينية، فستختل كافة توازنات نظام السلطة الأبوية الدولتية الحاكمة. لن يتسم أي نضال أو صراع حقيقي في سبيل الديمقراطية والاشتراكية بالتكامل، إلا لدى تطلعه إلى حرية المرأة وتحرر البيئة كمأرب أولي. وصراع نظام اجتماعي جديد متكامل على هذه الشاكلة، إنما هو أحد أشكال النفاذ من الفوضى الحالية بأسمى المعاني.
لقد ولجت عولمة النظام الرأسمالي في مرحلة الأزمة والفوضى العارمة بكل معنى الكلمة، مع انهيار النظام الاشتراكي المشيد في 1989 لأسباب داخلية. والنظام الآن يسعى لإدامة سلطته بزعامة أمريكا، عبر "إمبراطورية الفوضى". تشهد إمبراطورية الفوضى الأمريكية مرحلةً مشابهة لمرحلة انهيار الإمبراطورية الرومانية، لكنْ، مع وجود الفوارق الخاصة بالنظام الرأسمالي، والتي يجب معرفتها بكل جوانبها. كما تسعى بلدان الاتحاد الأوروبي المتخلصة من دائرة الهيمنة الأمريكية، للحفاظ على مقاومتها وصون جمهورياتها وديمقراطياتها ودولها القومية التقليدية، عبر جدالاتها ومناظراتها المحدودة بصدد الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومقابل العولمة الرأسمالية، فالدولة القومية التي تشكل حجر عثرة على درب الاتحاد الأوروبي، تُرغِمه على البقاء دوماً في حالة من الوحدة السياسية المتعددة القوميات، ولكن الهزيلة والواهنة. ليس وارداً في المستقبل القريب أن تتكون بؤرة عالمية ثالثة في المحيط الهادي بزعامة الصين واليابان. حيث تنضم روسيا والبرازيل وغيرهما إلى مثل هذا النمط من الدول، لتضطر جميعها للحفاظ على دولها القومية بالأرجح. وثمة العديد العديد من الدول والقوميات والبلدان في العالم، والتي تلاقي مشقات حقيقية في إحياء نماذج دولها القومية المعتمدة على التوازنات الأمريكية – الروسية بعد أعوام 1945؛ فتتقوض بالأغلب ضمن إطار إمبراطورية الفوضى الأمريكية، لتبقى وجهاً لوجه أمام التشتت الكلي أو النسبي، وبالتالي أمام مشكلة إعادة البناء. ثمة الكثير من الأقاليم التي تمر بهذه المرحلة بكثافة، وعلى رأسها الشرق الأوسط، دول البلقان والقفقاس.
لا تُدار شؤون إمبراطورية الفوضى – التي يمكننا نعتها أيضاً بالحرب العالمية الثالثة، بمعنى من معانيها – بالأساليب العسكرية والسياسية وحسب. بل وتُدار – وبشكل أكثر تعييناً وتركُّزاً – عبر الشركات الاقتصادية العالمية والمؤسسات الإعلامية أيضاً. فالشركات الاقتصادية والإعلامية العالمية لا تلاقي مصاعب تذكر في الإبقاء على المجتمعات ضمن حالة من المجاعة المَعِدِيّة والذهنية، لتقوم على توجيهها كيفما تشاء، وتسخّرها في أغراضها وأطماعها. وبتفعيلها لهيمناتها العلمية والتقنية، تسعى لإنقاذ نظام المجتمع الرأسمالي من الفوضى؛ إما بنفاذه منها أكثر تعززاً وتوطداً، وإلا فبأقل قدر من الخسائر، أو بإعادة بنائه من جديد. حيث لا يمكن توجيه النظام وصونه وتأمين سيرورته بالتغييرات الجزئية أثناء الفوضى، عبر السلوكيات والأساليب القديمة. من الواقعي أكثر أن تُدرَس السلوكيات والممارسات الاستراتيجية والتكتيكية التي تسلكها أمريكا حديثاً، مع خصائص مرحلة الفوضى، بشكل متداخل.
مقابل ذلك، يجب أن تُعزَّز السلوكيات المشاعية والديمقراطية التي سلكتها الشعوب بالأرجح طيلة التاريخ، بتحديثاتٍ نظرية وتكتيكية تخولها لتخطي الفوضى القائمة. فالمفاهيم "اليسارية" القديمة المُسفِرة عن الاشتراكية المشيدة، وكذلك الحركات "اليسارية الحديثة" و"الأيكولوجية" و"الفامينية" واجتماعات "بروتو آللاغرا" البارزة في الماضي القريب؛ تفتقر جميعها للكفاءات والقدرات التي تمكِّنها من استيعاب الفوضى وتخطيها. وبدون إنكار تلك الحركات، ثمة احتياج شديد لحلول ونقاشات مكثفة على الصعيد العالمي، بحيث تكون معنية بالتكتيكات المحلية الخاصة، وبالإرشادات النظرية العامة حول "المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي والتحرري الجنسوي". أول الشروط الأساسية الواجب تأمينها أثناء القيام بذلك، هو قول "الوداع" للمواقف والسلوكيات القديمة، النظرية منها والتكتيكية، والمتمحورة حول الحلول الهادفة إلى السلطة؛ والتي مفادها "إما هدم الدولة أو الاستيلاء عليها". فإنْ لم يتم التخلي عن الأساليب والذهنيات التحررية الإنمائية المتمحورة حول الدولة، لن يكون ثمة نجاة من خدمة النظام الرأسمالي – مثلما شوهد في الاشتراكية المشيدة – وبأسوأ الأشكال. هذا بالإضافة إلى أنه من المحال تلبية متطلبات الشعوب في الحرية الحقيقية والمساواة الحقيقية، عبر شن الحروب أو استنهاض الجماهير بمناهج وشعارات تتخذ من الدولة والاشتراكية والقومية، ومن تحرير الوطن والدين أساساً لها، على خلفية المصطلحات القديمة التي يطغى عليها الجانب الأيديولوجي التجريدي والتعميمي؛ من قبيل: الوطن، القومية، الطبقة والدين. وحتى لو لُبِّيَت تلك المتطلبات، فإنها في نهاية المطاف لن تذهب أبعد من الانصهار في بوتقة النظام الرأسمالي أو تعزيزها إياه أكثر فأكثر.
كل شيء يمر من الدرب التي يجب فيها على الرأسمالية العالمية في مرحلتها الجديدة أن تُبرِز إرادات ووعي كافة الشعوب والمجموعات المُشَكِّلة لها، بالاعتماد على هوياتها وثقافاتها الذاتية؛ وأن تبحث عن الحلول المحلية والفَوقومية، وتنظمها وتطبقها على أرض الواقع. إذ لا مناص من تطوير تنظيم المجتمع الديمقراطي على شكل شبكة اجتماعية واسعة الآفاق، بدءاً من حركات البلديات الديمقراطية – التي تمثل الأجهزة الأساسية للإدارات المحلية – وحتى مشاعات القرى والمحلات، ومن الجمعيات التعاونية حتى منظمات المجتمع المدني الواسعة الآفاق، ومن حقوق الإنسان إلى حقوق الأطفال والحيوانات، ومن حرية المرأة إلى التنظيمات الأيكولوجية والشبيبية الريادية.
كما أن تأسيس الأحزاب السياسية المتمحورة حول السياسة الديمقراطية كأجهزة أيديولوجية ونظرية وإدارية منسِّقة لمثل هذا النموذج من المجتمع الديمقراطي، يتمتع بأهمية مصيرية. ذلك أنه من العبث بناء المجتمع الديمقراطي دون تطوير الأحزاب والتحالفات الديمقراطية.
هذا ويُعَدّ تتويج هذا النموذج بـ"المؤتمرات الشعبية" كممثلة عليا لبؤرة المجتمع الديمقراطي والسياسة الديمقراطية، وظيفة أولية لا مهرب منها من أجل كل مجموعة شعبية. فأثناء النفاذ من الفوضى العارمة في راهننا، تتصدر "المؤتمرات الشعبية" قائمة الأجهزة الديمقراطية الواجب العمل بها أساساً، باعتبارها ليست بدائل للدولة، ولكنها لا تستسلم لها أيضاً، ولا تدحضها. بل إنها منفتحة لعقد وفاق مبدئي معها، عندما تدعو الضرورة. يمكن تفعيل "المؤتمرات الشعبية" بشكل أساسي بتأديتها واجباتها في المراقبة وسن التشريعات وتأسيس المؤسسات المناسبة لتلبية متطلبات المجتمع الديمقراطي على صعيد الدفاع الذاتي، وعلى جميع الأصعدة السياسية والقانونية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والعلمية والفنية.
بالإمكان ترتيب الشعارات الأساسية المعبِّرة عن آمال الشعوب كما يلي: وطن حر وأُمَّة حرة، اشتراكية تمر من جميع الممارسات الأشمل للديمقراطية (بمعنى آخر، مفهوم في المساواة لا يكون شكلياً، بل يعتمد على رفع التمييز)، حرية العقائد الدينية، وتأسيس المؤتمرات الديمقراطية التي ليست بدولة.
إذا ما وضعنا نصب العين الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والعلمية العملاقة التي تنفرد بها الرأسمالية العالمية؛ فإن كل أنواع العمليات القانونية الديمقراطية، وكذلك الانتفاضات المنظمة، والحروب الأنصارية المعتمدة على الدفاع الذاتي؛ يمكن اعتبارها أساليب للرد على النظام القائم، في حال الإخلال بالتطبيق المتساوي والعادل للقوانين، وفي حال العمل بالنظام الاستبدادي.
لا استغناء عن التحرك وفق نظرية وممارسة عملية أخلاقيتين، كمبدأ وسلوك أولي مصيري، لدى إنشاء المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي التحرري الجنسوي؛ ذلك لأن المجتمع الرأسمالي تأسس على أساس إنكار الأخلاق ودحضها.
هذا ويشكل العلم والفن الأرضية الذهنية الأساسية التي سنستند إليها في تخطي مجتمع الفوضى. وبما أن التعليم الرسمي المفروض – بدءاً من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية – يتخذ من تكوين الإنسان التابع للدولة والهرمية، والمغترب عن الفرد والمجتمع والبيئة، أساساً له من حيث الشكل والمضمون؛ فمن الضروري تجاوز مثل هذه الأفخاخ التعليمية والتدريبية، وتَقَبُّل وهضم وإحياء مفهوم (بارديغما) علمي وفني جديد؛ بحيث يُعرِّف الإنسان والمجتمع على حقيقتهما وواقعهما التاريخي، وينقلهما إلى المستقبل الواعد مع صونه لحرية اللحظة على خلفية ثورة ذهنية حقيقية قبل كل شيء. هذا ويجب نشر النماذج الجديدة من الأكاديميات والمدارس العلمية، وفقاً للحاجة.
بناء عليه، فالتوجه نحو "حضارة الشعوب العالمية الديمقراطية" مقابل إمبراطورية الفوضى العالمية للرأسمالية، إنما يعني إبداء التقدير والتبجيل لتقاليد المقاومة الماضية، بقدر ما يؤدي إلى بناء عالم مستقبلي ديمقراطي حر ومتساوٍ، أكثر من أي وقت مضى.

shiyar
04/04/2007, 10:14 PM
تتمة الفصل الثاني

الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان


1 – نفاذ الشعوب من الفوضى

إن موضوع نفاذ الشعوب من الفوضى الحالية، الذي يحتل مكانته في نظام المجتمع العالمي، والذي يمكننا اصطلاحه بما يعني جميع القوى الاجتماعية خارج إطار الدولة؛ قد يكون هو أيضاً ضمن حالة من امتلاك القدرات التحولية. الاحتمال الوارد، بل والمنتظَر، هو تواجُد سبل حل متنوعة للنفاذ ارتباطاً بمستوى تحركات القوى المتخذة مكانها في المشاريع والتطبيقات.
من الضروري اللجوء إلى الإيضاح والإفصاح لدى تعريف شعوب العالم. إذ ثمة عدد لا يستهان به من الشرائح والأصناف الباقية خارج نطاق الدولة، أو التي أُخرِجَت منه لتضارب المصالح. وتتغير آفاقها من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر. يجب تفهم الشعب كمصطلح ديناميكي (متغير بسرعة). يمكن إطلاق تسمية "المجتمع الفوقي" أو "الأوليغارشية" أو بتعبير عامي أكثر – حسب الرأي العام العمومي – "الزمرة الدولتية"، على الشرائح المتكدسة في أطراف الدولة كمجموعات منفعية مادياً ومعنوياً (اقتصادياً ومعرفياً).
مقابل ذلك، يمكننا تسمية جميع المجموعات التي تحتل مكانها في الذروة القصوى الأخرى من الثنائية الجدلية (الطبقات المسحوقة والجنسيات الإثنية والثقافية والدينية المعانية من القمع) بمصطلح "الشعب". وبتغير أحوال المتغيرات الداخلية، تتكاثر أو تتناقص المجموعة الداخلة ضمن إطار مصطلح الشعب. وقد يتطلب فحوى القمع والاستغلال المطبَّقين التغييرَ أيضاً. ربما يظهر القمع الطبقي، القومي، الإثني، العرقي، الديني، الفكري، والجنسوي متقمصاً أشكالاً مختلفة؛ بدءاً من المجازر وحتى المضايقات. للأشكال الاستغلالية أيضاً جانب مشابه لهذا. حيث بالمقدور تحديد كثير من أشكال الاستغلال، المعنوية منها والمادية، الإنكار، الصهر، النهب، الاختلاس، وغيرها من الأشكال القانونية أو غير القانونية، المطبقة بالعنف أو بالمخادعة. تتغير هذه التصنيفات على مر التاريخ من نظام إلى آخر، لتتوجه في سياق تطورها الطبيعي في راهننا نحو اتخاذ أشكال أكثر تعقيداً للمجموعات الاجتماعية.
جلي تماماً مدى تأثر الشعوب بشدة بالأزمة العالمية المبتدئة مع الحركات الشبيبية العالمية 1968، والمتسارعة مع انهيار اشتراكية السوفييتات المشيدة في 1989، والمتجذرة مع الهجوم على البرجين التوأمين في حادثة 11 أيلول 2001. ومع غزو العراق واحتلاله في 20 آذار 2003 تصاعدت الارتجاجات والتهيجات في العالم، لتبلغ أبعاداً بالإمكان وصفها بأنها تاريخية. تستمر هذه التصاعدات على مسافات قصيرة، بتغييرها المنطقة والنوعية. أما الحمم البركانية التي تقذفها تناقضات النظام الداخلية على رؤوس الشعب، فتتزايد حرارتها وحِدَّتُها طردياً. والكفاح والتعارك مع مشاكل البطالة، المجاعة، البيئة، التعليم، ومشاكل الصحة المتثاقلة، يشغل جدول أعمال كل شريحة اجتماعية.
لقد سعينا إلى تعريف الطاقة الكامنة للحل لدى قوى النظام المهيمنة. هذا وحاولنا التبيان أيضاً بأنها فقدت – نسبةً للقرن التاسع عشر – إمكانية انتهاز فرص الحل بمفردها، وأن ما تفرضه باسم الحل بعيد كل البعد عن إفراز نتائج ذات معنى أو ممكنة التطبيق والإحياء، وأبعد من كونه تجذير لحالة الفوضى العارمة القائمة. أي أننا أوضحنا مدى استحالة تحول مصادر الأزمة إلى مصادر للحل، وأنه في حال تحولها، بإمكانها – فقط وفقط – النشاط والفاعلية كطرف في المساومة والوفاق، بموجب مبادئ صحيحة وسليمة.
كيفما أتت حلول الشعوب عبر التاريخ إلى يومنا، فستطورها الشعوب بذات الشاكلة. لكل مجموعة شعبية تاريخها، أياً كان اسمه (العادة، التقاليد، الثقافة، التأريخ). حيث سعت الجماعات الشعبية المتشكلة على مر التاريخ (بدءاً من المجتمع الكلاني) إلى اكتساب شكل لها عبر ردات فعل وجودها، إزاء البنى السياسية والجيوثقافية. يتميز هذا السلوك، الذي سعينا لسرده وبسط جوهره بإيجاز في الفصل السابق، بنوعية مشاعية وديمقراطية. إذ لا يمكننا التغاضي عن السلوك الديمقراطي والمشاعي، بمجرد النظر إلى حالة الفرد الذي أفرغه النظام الرأسمالي من محتواه تماماً، وحوّله إلى فصيلة ثدييات بدئية. فالفرد، وحتى في حالته الأكثر بدائية، لا يستطيع العيش بمفرده، ولو ليوم واحد، من دون وجود المستوى المشاعي للمجتمع. رغم أن كل أشكال غسل الدماغ المعتمدة على إنكار المجتمع قد أفقدت هذه الحقيقة أهميتها؛ إلا إنها تعد ظاهرة مجتمعية أولية. فأي فردانية لا يمكن أن تجد فرصتها في الحياة كثيراً، ما لم تكن لها أواصرها مع المجتمع المعني بها. وبدون تعريف حقيقة الشعوب بكافة أبعادها، لن تنطبق حسابات الخروج من الفوضى الحالية، مع ما هو موجود على أرض الواقع.
أقولها ثانية: لو لم يعتمد النظام الرأسمالي – وخاصة بنية الدولة – في القرن العشرين على تكاثر المذاهب الثلاثة (الديمقراطية الاجتماعية، الاشتراكية المشيدة، والتحررية الوطنية)؛ لربما ما كان سيشهد أزمته الحالية. تتمثل الخاصية الرئيسية للمذاهب الثلاثة في كونها حازت على السلطة عبر إغداقها شعوبها بالآمال والوعود. خمسون عاماً بالتمام والكمال – منذ ثورات عام 1848 – وهي تقول: "سنستولي على الدولة أولاً، ومن ثم سيأخذ كل حق مستحقه!". وكأن طوابق الدولة مليئة بينابيع الحياة التي لا تنضب (نتذكر هنا الجنة)، لتُحوَّل هذه المفاهيم إلى منهاج أمل ووعود. وتؤسَّس الأحزاب على هذه الخلفية، وتخاض الحروب. وإذا ما ربحت فيما بعد، لا يتبقى من الأمر سوى مشاطرتها القيم المنقولة من المجتمع المسمى بإمكانات الدولة، مع مُحازِبيها ومُشايعيها. أما فيما يخص الحشود الغفيرة من المجتمع، فلا يتبقى لها شيء. نفس الطاس ونفس الحمّام. أما إنْ لم تربح، فلتستمر الحرب!.
حتى هذه الأشكال العصرية للمذاهب، لا تتمالك نفسها من تقديس كل خطوة تخطوها باسم الشعب. كل الشعب كان فعالاً وحركياً طيلة القرن العشرين. لكن، وبسبب العجز عن تخطي براديغما النظام المهيمن، لم ينجُ من الانتقال إلى النظام بكل بطولاته وتضحياته الجسام، بكل آلامه وآماله. ولدى غوصنا في أغوار التاريخ، سنرى حصول حالات مشابهة.
إذن، والحال هذه، إنْ كان التاريخ، بمعنى من معانيه، موجوداً للاتعاظ به من الماضي؛ فما علينا سوى صياغة الحل الدائمي والراسخ والمبدئي لصالح الشعوب؛ انطلاقاً من حالة الأزمة والفوضى الراهنة المنتصبة أمامنا. ما من واجب أسمى معنى من هذا، وما من مساعٍ أقدس من هذه. إني على قناعة أكيدة بأن النقطة الأولية المتسببة في الخسران هي، عدم العمل أساساً بالسلوك الديمقراطي والمشاعي للشعوب. فمهما تُطرَح تحليلات المجتمع، ومهما تؤلَّف الاستراتيجيات والتكتيكات وتوضع العمليات، بل ومهما تُحرَز النجاحات؛ فالنقطة المبلوغة ستكون – مرة ثانية – الالتقاء بالنظام بأسوأ الأشكال. كان لينين – داهية القرن العشرين – ينطق بالحقيقة الأولية عندما قال بأنه "ما من درب تؤدي إلى الاشتراكية عدا الديمقراطية". لكنه، هو أيضاً، آمن بإمكانية العبور إلى الاشتراكية من أقصر الطرق – دون خوض تجربة الديمقراطية إطلاقاً – لدى إصابته في البداية بعدوى داء السلطة. أظن أنه لم يكن يتصور أن السلطة التي ارتكز إليها ستقوده إلى الرأسمالية الأكثر نهباً وسلباً، حتى ولو بعد سبعين عاماً. هكذا، فإن مدخرات السوفييت العظمى – الملايين من الشهداء وأصحاب التضحيات الجسام، التضحية بالآلاف من المتنورين النخبة – لم تنجُ من جلب الماء إلى رحى النظام الذي انشغلت به للتغلب عليه – حسب المزاعم – بسبب العدوى بداء السلطة.
الدرس الممكن استنباطه من هذه التجربة الكبرى للقرن العشرين (ثورة أكتوبر الكبرى) هو أنه لا يمكن صياغة وتطبيق الحلول الدائمية الراسخة والمبدئية تجاه الرأسمالية؛ إلا بتحويل سلوكيات الشعوب الديمقراطية إلى نظم ديمقراطية شاملة. ولا يمكن بلوغ النظام الديمقراطي سوى بتحرير الدمقرطة والديمقراطية من عدوى التدوُّل.
علينا التمعن مرة أخرى في التاريخ، بغرض التعرف على طراز حلنا عن كثب. لنبدأ من الماضي القديم. فالذي تسبب في انهيار الإمبراطورية العبودية الأخيرة، هو الشعوب الخارجية المسماة بالبرابرة، والتي لا تعرف الدولة. هذا إلى جانب نخر نظام الأديرة المشاعي جسدَ روما من الداخل. هذه القوى هي التي دكت دعائم تلك الآلة العبودية الفظيعة. لقد كانت قوى ديمقراطية ومشاعية إلى أقصى حد. إلا أن زعماءها خدعوها بحيثيات السلطة، وقادوها إلى أوروبا المرتكزة إلى الدولة والدويلات الإقطاعية الاستبدادية، عوضاً عن أوروبا الديمقراطية التي كان بالإمكان تطويرها. ظهرت حركات مشابهة في كل منطقة أزيلت منها العبودية.
كانت المدن تتعالى كجُزُر للديمقراطية في كل الأرجاء، لدى الخروج من إقطاعية العصور الوسطى عبر النهضة. كانت ديمقراطية المدن تشق طريقها في التقدم. وكانت أوروبا الديمقراطية دخلت صحن التاريخ. فالثورة الفرنسية الكبرى (1789)، وقبلها الثورة الإنكليزية (1640) والأمريكية (1776)، وتلك المندلعة في إسبانيا والعديد من الدول الأوروبية، وكذلك المشاعيات البارزة منذ القرن السادس عشر؛ جميعها كانت الصوت الجهور للديمقراطية.
إلا أن قوة السلطة القتالية، الآلة المكارة وأداة العنف العنيفة الدائمة على مر التاريخ، عملت من أجل ترسيخ النظام القمعي – قديماً كان أم حديثاً – فجذبت البعض من تلك الحركات إلى صفها، وسحقت بعضها الآخر. وابتلعت القوى الديمقراطية الشفافة في دهاليز دوامتها التاريخية. اقتاتت قوة السلطة القتالية هذه – المتفشية كورم السرطان الخبيث – بكل نهم من حروب القرنين التاسع عشر والعشرين، لتحوِّل الأنظمة العرقية والفاشية والتوتاليتارية الأكثر بعداً عن الإطار الإنساني إلى أفظع بلاء، وتتحول بعدها في راهننا إلى أضخم فوضى عارمة شهدها التاريخ، وتسقط.
التقاليد الديمقراطية كونية. هي أيضاً كحلقات السلسلة، حيث تربطنا بأقدم أزمان الماضي، وبأحلك مساحات المكان عتمة. لسنا لوحدنا. فالتاريخ والأماكن مع الديمقراطية التي يجب أن تكون لنا، أكثر من أي نظام آخر. الواجب الأولي الذي يقع على عاتقنا هو، عرقلة الخسارة في مرحلة المعرفة، الاختيار الصحيح للوسيلة السياسية، والعودة ثانية إلى الأخلاق الاجتماعية. كل ما ذكرناه يتعلق بـ"المعرفة". تُعَدُّ الوسيلةُ السياسية الموضوعَ الذي يستدعي منا التركيز عليه بالأكثر. ونسميها باختصار "الديمقراطية التي لا دولة لها". أي أننا لا نقع في الخطأ أو الغفلة التي وقع فيها الداهية لينين، بإصابته بمرض الديمقراطية الدولتية، بل وحتى الديكتاتورية. لا يُشِير هذا السلوك إلى غياب السلطة أو غياب النظام بشكل فوضوي. إنه سلطة الشعب المتنورة، ذات المعاني السامية والمصداقية الطوعية. وهو ديمقراطية الشعب غير المختنقة بالبيروقراطية، والمنتخِبة إدارييها الموظفين في كل سنة، والقادرة على عزلهم من مهامهم مثلما انتخبتهم.
لا يمكننا العبور على الموضوع دون استذكار ديمقراطية أثينا الشهيرة. فمن جهة هناك إسبارطة المَلَكية وأثينا الديمقراطية تتصارعان من أجل بسط النفوذ والتفوق في شبه الجزيرة الإغريقية؛ ومن الجهة الثانية ترغبان في صد استيلاءات الإمبراطوريتين الميدية والبرسية عبر روما في تلك الأزمان. تغلبت مدينة أثينا الصغيرة على عدوَّيها الشهيرَين طيلة القرن الخامس قبل الميلاد، عبر سلاح الديمقراطية الذاتية. وقد فلحت في ذلك عن طريق الميليشيات الطوعية والمسؤولين المختارين لتأدية الوظائف السنوية؛ دون اللجوء أبداً إلى الدولة أو الجيش النظامي الدائمي. لم تكن الديمقراطية المطبقة ديمقراطية الشعب، بل ديمقراطية الطبقة العبودية. مع ذلك، فقد طبعت أثينا أحد أسمى قرون التاريخ بطابعها، ليكون القرن الخامس قبل الميلاد قرن أثينا. لقد ألحقت الشعوب أكبر ضربة بنظم الظلم جمعاء وبأفتك أعدائها، عبر ديمقراطياتها. هكذا صنعت أكثر أزمانها رفاهية عن طريق ديمقراطياتها.
لو لم تكن ديمقراطيات الأمريكان، لما كانوا استطاعوا إيصال الإمبراطورية الإنكليزية التي لا تغيب الشمس عنها، إلى النقطة المرسومة لها. ولو لم تكن ديمقراطية الإنكليز الشعبية، لما كانوا قدروا على دك دعائم نَسَب المَلك "نورمان" المجحف، ولا على تكوين وخلق النظام الإنكليزي الديمقراطي، الذي يعد المثال القدوة حتى في حاضرنا. لو لم تكن "ديموس" الفرنسيين الكبرى، لما قامت الثورات الكبرى لديهم، ولا أُسِّست نظمهم الجمهورية ذات الشهرة المعروفة والمثال المحتذى في العالم.
نستخلص من هنا أن الديمقراطية هي النظام الأكثر إنتاجية وعطاء. فبقدر ما يكون النظام السياسي ديمقراطياً، بقدر ما يكون الرفاه الاقتصادي والسلم الاجتماعي مكمِّلَين لذات الحقيقة. معلوم علم اليقين أنه لدى افتقاد الديمقراطيات جوهرها، وتحولها إلى آلة لاصطياد الشعوب بيد الديماغوجيين؛ يبدأ حينها النظام بالانهيار، ليتبعه الرفاه في ذلك. وبعدها يسود التزَمُّت، الفاشية، الحروب والدمار. لو كانت علوم الاجتماع تقربت بصدق وأمانة أكبر، لكُنا وجدنا أن التاريخ والمجتمع يتكونان عبر السلوك الديمقراطي بنسبة ساحقة. في الحقيقة، يتوقف مسار التاريخ لدى استئصال هذا السلوك، أو يبدأ قسمه الذي أسميناه باللعين بالفاعلية والحركة.
لنلفت الأنظار إلى أهم نقطة أخرى تستدعي تسليط الضوء عليها فيما يتعلق بموضوعنا. وهي تتعلق بعدم وجود معنى بارز لديمقراطية الطبقية، واستحالة الرغبة فيها. فحسب مفهوم علم الاجتماع المهيمن، يُعَد ظهور "العبد" ومن ثم "القن" وأخيراً "العامل، البروليتاري" محصلة لا مناص منها للتدفق الصحيح لسياق التاريخ، في تقدمه الذي لا يمكن إعاقته نحو الأمام. وأنه لا يمكن الوصول إلى الاشتراكية والحرية والمساواة، دون المرور بهذه الظواهر. إذن، والحال هذه، فالقول: "عاش العبيد! عاش الأقنان والقرويون! عاش العمال!"؛ يشير إلى ثورية وديمقراطية الطبقة (ومن بعدها الديكتاتورية). لقد أُدرِك تماماً أن هذه الصياغة ليست سوى نظرية تخدم العبودية، من أولها إلى آخرها. لا مكان للعبيد والأقنان والعمال في ديمقراطية الشعوب، تماماً مثلما لا مكان فيها للعبودية والقنانة والعمالية. فديمقراطية الشعب الحقة لا تقبل بوجود العبد والقن والعامل للأنظمة العبودية والإقطاعية والرأسمالية، بل ترفض ذلك. فتقديس الطبقات والمجموعات القديمة مرض قديم غابر. والديمقراطيات غير مصابة بهذا المرض. إنها اسم على مسمى. فأينما تتواجد الديمقراطية، لا يكون هناك تعرض للسحق أو الاستعمار الباطل. كذلك تغيب هناك إدارة الناس كسرب القطيع. إذ لا توجد إدارة مِن قِبَل الغير في الديمقراطيات، بل ثمة إدارة الذات. لا وجود لسيادة الهيمنة، بل يهيمن الفرد بذاته على ذاته ويتحكم بها. قد تستعبِد الأنظمةُ السلطوية الغيرَ، وقد تُمَأسِس القنانة والعمالية. لكن عندما تتطور الديمقراطيات، يتم الخروج من إطار العبودية والقنانة والعمالية. ويبدأ العمل، لكن بشرط أن يكون الفرد سيد عمله، وعضواً في مرتبة عمله.
ترتبط المشاعية والديمقراطية ببعضهما كالتحام الظفر باللحم. هكذا هو تعريف الديمقراطية الذي استهدفناه. وهذه هي مقوماته التاريخية. أما ديمقراطيات الطبقة، فتستلزم السلطة. وكل سلطة تستوجب بدورها الدولة، وكل دولة تستدعي إنكار الديمقراطية. إذن، فديمقراطيات الطبقة في فحواها ليست ديمقراطية، بل هي سلطة الدولة. والتجربة السوفييتية والصينية والكوبية تبرهن على صحة ذلك بما لا جدال فيه. كلما تزايدت الدولة، نقصت الديمقراطية. وبالعكس، كلما تزايدت الديمقراطية نقصت الدولة. يجب حفظ هذه القاعدة ونقشها في العقول كحُكم ذهبي ثمين.
العلاقة الكامنة بين الحرية والمساواة مفهومة إلى أبعد الحدود في الديمقراطيات. إنها ليست بدائل بعضها. فكلما تطورت الديمقراطية تطورت الحريات معها. ومع تطور الحريات تتولد المساواة. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية التي تزدهر فيها الحرية والمساواة. وكل حرية ومساواة لا تعتمدان على الديمقراطية، لا يمكن إلا أن تكونا طبقيتَين. حينها تكون طبقة معينة أو زمرة أو مجموعة مختارة هي الحرة والمتساوية. ولا يتبقى للغير سوى أن يكونوا عبيداً مُدارين ومُوجَّهين. أما في ديمقراطية الشعب، ولأن الإدارة الذاتية وإدارة الذات هي الأساس، تكون الحرية والمساواة أيضاً عامتين شاملتين. إذاً، يتواجد أشمل إطار للحرية والمساواة في ديمقراطيات الشعب، وفي الديمقراطيات التي تغيب فيها الدولة والسلطة. الديمقراطيات ليست إنكاراً للدولة. لكنها أيضاً ليست الرداء الذي تتباهى به الدولة. إن المطالبة بالديمقراطية بهدم الدولة مغالطة كبرى. الأصح هو أنها تعني القدرة على تسيير التكامل المبدئي بين الديمقراطيات والدولة (الدولة التي يجب أن تضمحل بعد مدة طويلة من الزمن).
نحن في عصر الديمقراطيات اللامحدودة. ويتطلب حصول الوفاق المبدئي بين الديمقراطية الممكنة التطبيق وقوة الدولة، في راهننا الذي تغلب عليه وظيفة الدولة بشكل ساحق. والحضارة الأوروبية تسعى لإدارة ديمقراطيتها ودولتها بشكل متداخل، انطلاقاً من هذا الدرس الذي استنبطته وهضمته، ولو بشكل متأخر وناقص. هكذا غدت ترى، بعد خوضها الحروب الكبرى، مدى قوة الحل الفسيحة المجال للديمقراطيات، وكذلك ترى السمات القتالية للسلطة. قد يَدُرّ وضع الثقل على السلطة بالنفع والقوة الكبرى لأقلية محدودة. لكنه في الوقت عينه يجهز لكوارث وفواجع كبرى للوطن والقومية والشعوب، في نهاية المطاف. لم يكن الأوروبيون متحمسين كثيراً للديمقراطية بلا وجود الدولة القومية. لكن التجربة الفاشية أظهرت أنه إن لم تُولَ الديمقراطية الأولوية، فمن المحال حتى تأسيس الدولة القومية. والمفهوم القائل "لنرسخ الدولة القومية أولاً، ومن ثم يأتي الدور على الديمقراطية"، هو مصدر كافة كوارث الفاشية والتوتاليتارية المعاشة. منذ أن نادت أوروبا بحقوق الإنسان والديمقراطية أولاً عبر الاتحاد الأوروبي، حينها فقط رسمت السبيل الراسخ المفتوح أمام الرفاه والسلم. هذا هو موديل الاتحاد الأوروبي. وهذه هي القوة السحرية الحقيقية التي تجذب العالم برمته إلى الاتحاد الأوروبي! وبقدر ما توسِّع أوروبا من نطاق قوتها السحرية تلك وتنشرها في العالم، ستتخلص من ذنوبها المقترفة ماضياً. حينها ستغدو المضامين الجوهرية قيماً لكافة الشعوب، مثلما هي الحال في كل حضارة.
لكن، علينا ألا ننسى أنه ثمة طبقة بورجوازية ماكرة وخبيرة في وضع ثقلها الدائم في أساس الحضارة الأوروبية؛ بحيث تهرع وراء بسط نفوذها وحساباتها المنفعية الجليدية. لن يتخلى الأرستقراطيون المعاصرون بهذه السهولة عن ترف الحياة في أعالي الديمقراطيات. لكن الديمقراطيات ستعرف كيف تدك عروشهم (دولتهم) وتُسقِطها رويداً رويداً. لن تقدر أوروبا على القيام بممارسة الديمقراطية لوحدها. فكلما تطورت الديمقراطية في العالم، ستصبح أوروبا عالمية بمعناها الإيجابي. وكلما تَمَّت دمقرطة العالم، سيصبح أوروبياً. وكأن التاريخ سيشهد هذه التجربة أثناء الخروج من الفوضى. فبدون وجود دمقرطات العالم الطازجة، لا يمكن ورود احتمال في خروج أمريكا من الأزمة عبر الحروب والشركات (مثلما كان عليه الأمر سابقاً)، أو خروج أوروبا منها بالقانون والديمقراطية.
من الضروري التقرب بحساسية فائقة من المضمون الاجتماعي لمصطلح الديمقراطية. حيث لا يُعمَل داخل المصطلح بالتصنيفات والتمييزات الطبقية أو الجنسوية أو الإثنية أو الدينية أو الثقافية العامة أو المهنية… الخ. من الممكن الانضمام إليها على الصعيد الفردي أو المجموعاتي. فمثلما لن تؤخذ مواطَنة الفرد أساساً في الديمقراطية، لن يكون بالمقدور إعاقة احتلال القواعد المجموعاتية أيضاً مكانها فيها. لا تشكل القوة الفردية أو المجموعاتية فرصة قيِّمة فيها. فادعاء الأفراد بالقوة تجاه بعضهم ليس ذا معنى، وكذلك بالنسبة للمجموعات. المبدأ الأولي الذي سيُعمَل به هو ألاّ تشكل كل من المنفعة العامة (المصالح المشتركة العامة للمجتمع في كافة المواضيع) والمبادرة الفردية عائقاً لبعضهما البعض. أي أن يتحقق اتحاد الفردانية والعمومية في النقطة المثلى (الأكثر عطاء).
بمعنى آخر، فهو يعني في مضمونه تكوين الفرد المتوازن والمبادِر والخلاق عبر الخاصية المشاعية المقتاتة على الفردانية، والتي تستمد قوتها من القيم الشماعية للمجتمع. فإذا ما وُضِع الثقل على الخاصية المشاعية فحسب، قد تنزلق الديمقراطية إلى التوتاليتارية. مقابل ذلك؛ إذا ما أُبيح كل شيء من أجل الفردانية، فهذا ما يفضي إلى الفوضوية من جانب، وإلى تعزز موقع الفرد المفرط على حساب المجتمع من الجانب الآخر. في الخلاصة، كلا التيارين يقودان إلى ممارسة الديكتاتورية، والإدارة المزاجية، والتردي على المجتمع. الديمقراطية بحاجة ماسة ومصيرية للشخصيات العميقة المعرفة، الطوعية، والشغوفة حتى الهيام بمصالح المجتمع وسلامة الأفراد معاً. لا يمكن تسيير الديمقراطية بالمؤسسات والمبادئ فحسب، دون وجود الديمقراطيين (لا الأحزاب) المحافظين على حيوية وديناميكية المجتمع، والمعبِّئين الشعبَ على الدوام بموضوع الديمقراطية، والمحفِّزين إياه على اليقظة والحساسية. فالديمقراطية، كظاهرة ديناميكية، أشبه بالنبتة التي تتطلب الري (التعليم والتعبئة) على الدوام. فإذا لم تُرفَق بعناية أولادها الهائمين بها؛ ستجف وتذبل، وتتردى لتصبح قبل كل شيء أداة للتطورات المناهضة للديمقراطية.
لا جدال في أن الديمقراطية هي الوسيلة الأكفأ في حل القضايا الاجتماعية، وعلى رأسها مسألة السلام. وتستنهل قدرتها وكفاءتها من قابليتها في الإقناع، لا من الحروب (عدا حالات الدفاع المشروع الاضطرارية). إذ بمقدورها في كل الأوقات صياغة الحلول المناسبة لمصالح الشعوب الذاتية، عبر مقايستها بين القيم الممكن خسارتها مع الحرب، والقيم الممكن اكتسابها على خلفية الإقناع. فالنقاشات الجريئة والواقعية تنوِّر المشاكل. أما المشاكل المنوَّرة، فيمكن ولوجها في درب الحل عبر الوفاقات الجذرية المتمخضة من المشاركات الواسعة للأطراف المعنية. ما من نظام تكثر فيه الجدالات والنقاشات، وينجح في إبراز الحقائق على وجه الماء؛ بقدر ما هي عليه الديمقراطية. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية لتطور العلم والفن. شكلت الديمقراطية في أثينا أفضل الأوساط من أجل الفلسفة. لا يمكن التفكير بأرسطو أو أفلاطون أو سقراط دون ديمقراطية أثينا. ولولا وجود ديمقراطيات المدن في النهضة، لما تطورت الثورات العلمية والفنية.
بإمكان الشعوب أن تُحيي تقاليدها الثقافية الغنية في أفضل الديمقراطيات. حينها لا تبقى الثقافة مجرد ماضٍ للشعب، بل تغدو شكل وجوده الذاتي الذي يلفه ويحيط به. فإذا ما جَرَّدْتَ شعباً من ثقافته، فإنك لا تقطعه من شكله فحسب، بل تكون أفنيت روحه المؤدية إليه أيضاً. بالتالي، فالديمقراطية هي النظام السياسي الأنسب لإحياء الشعب على أسس الحرية والمساواة بموجب ثقافته. تتميز المشاكل القومية والإثنية والدينية النابعة من القمع القومي أساساً، بفرصتها في بلوغ أفضل الحلول عبر معايشتها ثقافاتها بحرية في الديمقراطيات. لا يُرى داعياً لممارسة أي شكل من أشكال القمع في البلدان والمناطق التي تسودها الديمقراطيات الحقة، ولا يُسمَح باستثمارها كأداة منفعة. بل يُتَّخَذ التكامل الديمقراطي أساساً، عوضاً عن قوموية الساحق والمسحوق.
لا يمكن الاستهانة بمساهمة الديمقراطيات من الناحية الاقتصادية. فإن كان نظام الديمقراطية سارياً في المجتمع، لا يمكن احتكار القيم الاقتصادية فيه، ولا ترك الأفراد يتخبطون في عقم الإنتاجية. فالديمقراطيات لا تصادق على جشع الربح المفرط، ولا على الكسل واللامبالاة؛ سواء على الصعيد الفردي أو المؤسساتي. في هذا الميدان أيضاً تؤسَّس النقطة المثلى بأفضل أحوالها. فتوازن الاقتصاد العام والخاص سيبلغ النقطة المثلى، عاجلاً أم آجلاً. وقد برهنت الكثير من البحوثات على العلاقة الكامنة بين الديمقراطية والعطاء والتطور الاقتصادي. فالتوزيع العادل بقدر وفرة الإنتاج، والبحوثات اللازمة بقدر الإيداع الملائم؛ إنما يجد وسطه اللازم في أفضل الديمقراطيات. والإنتاج الذي يلبي احتياجات الشعب الحقيقية، هو العامل المؤثر الأساسي في تأسيس التوازن بين العرض والطلب. هكذا تصبح أسعار السوق حاظية بفرصة التمأسس بمعناه الحقيقي. وتحل روح السباق والمنافسة محل الرقابة المميتة. أما ظواهر الخلل الموجود بين العرض والطلب، ارتفاع الأسعار، والتضخم المالي وغيرها من ألاعيب التمويل، والتي تعد من أهم دوافع الأزمات؛ فبالإبقاء عليها في الحدود الصغرى، سيكون بمقدورها إبداء القدرة على الخروج من تلك الأزمات وإيجاد الحلول المناسبة لها. عندئذ ستعثر البطالة المنظمة على حلها الأساسي.
من المهم الاقتراب بخصوصية أكبر من فئة الشباب خلال الكفاح الديمقراطي للمجتمع. حيث تبقى الشبيبة وجهاً لوجه أمام كمائن كبيرة، منصوبة لها على درب مجتمعيتها. إذ ثمة من الجانب الأول مشروطيات المجتمع الذكوري السلطوي التقليدية، ومن الجانب الثاني تتخبط تحت عبء المشروطيات الأيديولوجية للنظام الرسمي السائد. مع ذلك، فهي تتمتع ببنية ذات ديناميكيات منفتحة لكل جديد. إنها غِرّة لأبعد الحدود إزاء المجريات الحاصلة، وبعيدة كل البعد عن كشف ما يُرسَم لها بتأثير مجتمع المسنين. ولا تستطيع التقاط أنفاسها تجاه الآلاف من مكائد وحيَل المجتمع الرأسمالي التي تسلب العقول. كل هذه الحقائق تستلزم بالضرورة تعبئة الشبيبة بتعليم اجتماعي خاص مناسب لخصوصياتها، بحيث يجذبها وينقذها من الشراك المنصوبة. وتعليم الشبيبة عمل يتطلب الصبر والجهود المضنية. مقابل كل ذلك، فهي تتميز بجرأة مِقدامة تخولها لتدوين الملاحم بديناميكياتها. ما من عمل يستعصي عليها النجاح فيه، إن هي استوعبت الأهداف والأساليب المؤدية إليها. فإذا ما رأت في الحياة المميَّزة بالأهداف والأساليب المحددة انضباطاً أولياً لها، واستنفرت طاقاتها بموجبها، وإذا لم تثبط من همتها وصبرها؛ فبمقدورها إبداء أهم المساهمات البارزة في الدعاوي والقضايا التاريخية.
والحملة التي ستتطور في الحركة الشبيبية الديمقراطية، بريادة الكوادر المتحلين بهكذا ميزات، هي حلقة الضمان للانتصار في النضال الديمقراطي للمجتمع. إذا ما افتقرت الحركة الشبيبية لمجتمع ما لديناميكية الشبيبة، ستكون فرصتها في النصر محدودة. فخبرات المسنين وديناميكية الشبيبة ظاهرتان تفرضان وجودهما في كل فترة من فترات التاريخ. ومَن فلح في إقامة الأواصر السليمة بين الظاهرتين في مسيرته، كانت نسبة النجاح لديه مرتفعة في كل زمان. لا يمكن لخيالات شبيبتنا الراهنة السامية أن تجد معناها، إلا في حال إدراكها كيفية نفاذها من أزمة النظام الاجتماعي القائم. وأي شبيبة تنعدم لديها الخيالات، لن تنجو من التردي والانحطاط، ومن خسران الحياة برمتها؛ إلا إذا عادت إلى خيالاتها الحقيقية. الشرط الأولي بالنسبة للشبيبة كي تقوم بانطلاقتها، هو استيعاب حالة الفوضى العارمة للأزمة الأخيرة التي يمر بها النظام الرأسمالي. بالإضافة إلى أن هضمها لقيم المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي، ولقيم حرية الجنس، سيمدها بإمكانات النصر التاريخية، وسيجعلها الصاحبة الحقيقية للدور المنوط بها في بناء المجتمع الذي تتوق إليه، أثناء بنائها لذاتها على نحو صحيح وسليم. كل شيء منوط بالمشاركة الكفوءة والقديرة والصائبة للشبيبة في الحملة الاجتماعية التاريخية.
يتميز الشكل العملياتي والتنظيمي للديمقراطيات بأهمية تماثل ما لتعريفها الجوهري، بأقل تقدير. فبينما يؤدي تعريف الذات إلى تنوير الهدف بالأرجح؛ فالشكل العملياتي والتنظيمي يستدعي التعريف الصحيح للوسائل اللازمة كشرط لا غنى عنه. وبدون تحقيق التناغم بين الهدف والوسيلة، وبدون تحليل التوازن في مقابلتهما بعضهما البعض بشكل صحيح؛ سيكون من الصعب قطع الأشواط في درب الديمقراطيات. تذكّرنا الديمقراطيات المرتكزة إلى الأهداف فقط، أو الوسائل فقط، بالأعرج السائر على قدم واحدة. ولكن، كم ستسير بقدم واحدة، وبأية قوة؟!
يمكننا سرد الأشكال الأولية للتنظيم الديمقراطي على النحو الآتي: المؤتمر كسلطة عليا، وفي القاعدة تكون المشاعات المحلية، الجمعيات التعاونية، منظمات المجتمع المدني، ومنظمات البلدية وحقوق الإنسان. ثمة احتياج لمنظمات كثيرة التعدد وواسعة النطاق حسب المواضيع المعنية بها. تتطلب الديمقراطياتُ المجتمعَ الأكثر تنظيماً. إذ، لا غنى عن التنظيمات بغرض الإعراب عن المطاليب الاجتماعية. والمجتمع العاجز عن تنظيم ذاته، لا يمكنه أن يتدمقرط. الشرط الأساسي هو أن تَخلُق كافة الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تنظيماتها الخاصة بها. لا غنى عن الأحزاب كتنظيمات سياسية أولية للديمقراطية. ومنظمات المجتمع المدني هي الشكل المتصدر للتنظيمات في الميدان الاجتماعي. وفي الميدان القانوني تبرز أهمية منظمات حقوق الإنسان ونقابات المحامين والدُّور والرابطات. أما التنظيمات الرئيسية في الميدان الاقتصادي، فهي الجمعيات التعاونية والمجموعات الناشطة والعديد من التنظيمات التجارية والمالية والصناعية وطرق المواصلات، ذات الأهداف العامة. الصحة والتعليم هي المؤسسات العامة التي يتوجب على الشعب أن ينتظم فيها بالأغلب. والكيانات الفنية والرياضية أيضاً ميادين لا يمكن الاستغناء عنها من ناحية التعبئة العامة للشعب. هذا ومن الضروري تنظيم المختارية وهيئات المسنين على صعيد القرى، كأدوات ديمقراطية أكثر منها أدوات دولة. ضروري أن يتواجد في كل قرية "دار الثقافة الشعبية". وفي المدن، وإلى جانب تلك الأشكال، يجب أن تجد المشاعات معناها كتنظيمات، بدءاً من القاعدة. هذا ولا غنى فيها عن مؤسسات مجالس المدينة أيضاً. تتميز اتحادات البلدية فيما بين المدن بمعناها على الصعيد الإقليمي.
كل هذه المؤسات والمنظمات يجب أن تمثل ذاتها في "المؤتمر الشعبي العام" كسلطة عليا. "مؤتمرات الشعب العامة" هي نماذج تنظيمية خاصة لا غنى عنها في حل المشاكل الأساسية لكل شعب. لا يمكن الحديث عن ديمقراطيات الشعب، ما لم تتواجد مؤتمرات الشعب.
يجب عدم النظر إلى مؤتمرات الشعب كبدائل للدولة، ولا كمؤسسات تابعة لها. فمثلما لا توجد دولة الشعب، فمن غير الممكن أن يهدف مؤتمر الشعب إلى احتلال مكانه محل الدولة الموجودة. الدولة، مثلما تناولناها كثيراً، هي التنظيم الأولي الأقدم والأعلى للمجتمع. وهي لا تتشكل على نحو ديمقراطي، بل تُسيَّر بشكل تقليدي عبر التعيين والترفيع. قد يطبِّق المجتمع الفوقي الديمقراطيةَ في داخله. ويمكن تسميتها بديمقراطية الطبقات الفوقية، التي تعد الغطاء الذي تتدثر به الدولة وتستتر. تتخذ هذه الديمقراطيات الموجودة في أغلب نماذج الجمهوريات الغربية، من الدولة أساساً لها. فحسب قناعاتها، تأتي الدولة قبل الديمقراطية. وهي لا تستطيع التفكير في الديمقراطية بدون الدولة. أما في ديمقراطية الشعب، لا يمكن اتخاذ السلطة والدولة كهدف. والديمقراطية الهادفة إلى تكوين دولة، تكون قد حفرت قبرها بيدها. شوهدت الديمقراطيات القصيرة المدى في دول أوروبا الحديثة وأمريكا، وفي أيام تأسيس السوفييتات في روسيا. لكن، وبمجرد العبور إلى الدولة، بقيت ديمقراطيات أيام التأسيس ضامرة قاصرة، دون أن تتحول إلى نظام. هذا هو الوضع المعاش بالأغلب عبر التاريخ. لقد خاف المجتمع الفوقي من الديمقراطية على الدوام.
إن مخالفة أزمتنا الراهنة لإرادات الشعب، والعجز بالتالي عن تخطيها؛ يستدعي بالضرورة مشاركة الشعب. والمشاركة تعني أن يكون الشعب ديمقراطياً. لا تسير الديمقراطية بدون وجود المؤتمر. كان من الممكن ألا تتشاطر الدولة الرأسمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين سلطة المجتمع عبر مؤتمرات الشعب. لكن دول الأزمات في راهننا ليس بمقدورها خطو خطوة واحدة إلى الأمام في الحل، في حال أخذت الشعب في مواجهتها، أو لم تعترف بمبادرة الشعب. فالشروط الثقيلة الوطأة للأزمة تتطلب بالضرورة الانضمام الشمولي للشعب، وبشكل مؤسساتي راسخ. من هنا، فمشاركات الشعب في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي كانت ذات معاني محدودة للغاية؛ يمكن أن تجد معانيها في ظروفنا الراهنة عبر مؤتمرات الشعب، لا غير. والمؤتمرات بماهيتها هذه، ليست أحزاباً، ولا أشباه دول. إنها ليست كلاهما. بل هي مؤسسات الشعب الوظائفية المتولدة من الشروط التاريخية. وقد ابتعدت الشعوب أكثر فأكثر عن المذاهب الرأسمالية – الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، التحررية الوطنية – ومن ثم عن الدولة؛ لتلج مرحلة المؤتمر. ومثلما لا تُرفَض الدولة بشكل قطعي، فإنه لا يُقبَل بها على حالتها القديمة أيضاً. لذا، من الممكن الاشتراك معاً في حل الأزمات الاجتماعية ضمن إطار مبادئ محددة. فتَقَوُّض الدول وتَقَزُّمها التدريجي، وبروز نماذج جديدة منها؛ يشير إلى الحاجة الأكبر لنموذج المؤتمر.
هذا وبإمكان نماذج المؤتمرات أن تكتسب مرتبة مصيرية كصمامات أمان في البلدان التي تعاني من المشاكل القومية الثقيلة. المؤتمرات ضرورية في المستويات الأدنى أيضاً من أجل العديد من الجماعات والمجموعات. فخصائص كل حزب في توحيد كافة المشاركين من جميع الآراء والمعتقدات، هي مؤشر لاستحالة تسيير الديمقراطية دون ذلك. خلاصة؛ يتلخص التوجه الأكثر واقعية في النظر إلى المؤتمر كنموذج حل يتوازى مع الدولة – بدلاً من التضاد معها – في أوقات المشاكل الثقيلة الوطأة التي لا يمكن للدولة أن تنوء عن حِملها لوحدها؛ وليس كبديل للدولة.
تتحلى الديمقراطية داخل التنظيم بأهمية مصيرية لا غنى عنها، بقدر تعددية الأحزاب؛ بحيث تماثل المعايير الديمقراطية العامة في ذلك كأقل تقدير. فالكيان الديمقراطي والإدارات الديمقراطية شرط أساسي للتنظيمات. والشعوب التي تكون تنظيماتها غير ديمقراطية، يستحيل أن تكون لها ديمقراطياتها. من هنا، فالضمان الأسلم للديمقراطيات العامة هو ديمقراطيات التنظيمات التابعة لمراقبة الشعب المشددة، والمجدِّدة ذاتها عبر الانتخابات الدائمة (مرة في السنة كأقل تقدير).
من الصعب سريان مفعول آليات نظام الديمقراطيات، دون استيعاب طرازها العملياتي. فالديمقراطية المفتقرة إلى العملية أشبه بالإنسان الأبكم. العملية لغة الديمقراطية. كل تحرك للشعب، وكل نشاط للتنظيمات هو عملية. لا يمكن تسيير الديمقراطيات دون القيام بالعمليات المتتالية في زمانها ومكانها المناسبين؛ من أبسطها إلى أعقدها: المظاهرات، الاجتماعات، المسيرات، الانتخابات، التظاهرات والاعتصامات، الاحتجاجات، الإضرابات، وحتى المقاومات والانتفاضات القانونية أثناء الظروف الملائمة. نخص بالذكر هنا أن العمليات وسائل ضرورية للحل في حال التغاضي عن المطاليب الأولية للشعب، أو تدمير وإفساد الكثير من مؤسسات وقواعد وأهداف الديمقراطية. لا يمكن لأي شعب (أو تنظيم) عاجز عن القيام بالعمليات، أن يحقق دمقرطته. حينها يكون في الحقيقة قد مات وزال.
هذا وجلي جلاء النهار أن العمليات تكون عبر التنظيمات، وأن العمليات المفتقرة إلى التنظيم ستبقى جوفاء وفاشلة. بقدر ما تكون الشعوب منظمة، تكون حينئذ عملياتية. يجب عدم النظر إلى العمليات على أنها مجرد احتجاجات ومقاومات. فأغلب عمليات المجتمع المدني بنّاءة. أي أن مفهوم العملية الإيجابية هو الأساس.
متى يمكن للانتفاضات والحروب الشعبية أن تفرض ذاتها؟ يرتبط إعطاء الرد الصحيح على أساليب وظروف هذه العمليات الأساسية المستثمَرة والمستخدَمة على حساب الشعوب، بعبور أهم المنعطفات في تاريخ الشعوب بإحراز النجاح المظفر. لا يمكن للانتفاضات والحروب أن تجد معناها، إلا في حال عدم إثمار كافة أشكال العمليات الأخرى، ولدى معاناة المشاكل القائمة من العقم الجذري. نخص بالذكر هنا ضرورة إبداء الشعوب قدرتها على القيام بالانتفاضات والحروب في سبيل مصالحها الحيوية والمصيرية؛ عوضاً عن العيش في ظل العبودية المُحِطّة للقدر، عندما لا تترك قوى السلطة القتالية أي خيار للحل سوى اللجوء إلى العنف. إذ لا مناص من التركيز الحقيقي والجدي على انتفاضات الشعوب وحروبها، عندما لا تطبَّق القوانين بالتساوي، ويُهمَل دور الديمقراطية في الحل، وتُفرَغ كافة العمليات السلمية من محتواها. بمقدور الإطارَين التاليَين إعطاء الجواب اللازم: عندما لا تترك الدولة أي مجال للحل الديمقراطي، ولا تهتم به بالحساسية المطلوبة، وعندما لا يبقى بحوزة الشعب أي عامل آخر للتأثير على الدولة؛ حينها تبدأ فعالية الانتفاضات الدموية – بنسبة منخفضة كانت أم مرتفعة – أو الحروب الشعبية الدائمة – عالية النسبة كانت أم منخفضة – مثلما شوهد لدى العديد من الشعوب.
لا تهدف كل انتفاضة أو حرب مندلعة إلى الانفصال. بل خلافاً لذلك، إنها تقود بالأرجح إلى التكامل الديمقراطي. لقد مر الزمن على الانتفاضات والحروب التحررية الوطنية القديمة الهادفة إلى بناء الدولة، وعفا الدهر عليها. فالانتفاضات والحركات التحررية الوطنية الهادفة إلى الدولة، ليس من محصلتها سوى إضافة ملحق صغير آخر إلى الدولة الرأسمالية. وكيفما لا يجلب هذا أي حل لأية مشكلة تعانيها الشعوب، فهو يُزيد من وطأتها أيضاً. فمشاكل الشعب العربي، صاحب الاثنين وعشرين دولة، لم تقلّ – حسب الظن – بل تكاثرت.
من هنا، بالإمكان تعريف الانتفاضات والحروب الشعبية للمرحلة الجديدة، بأنها لا تكون هادفة إلى الدولة، بل إلى التفعيل التام للديمقراطية، شكلاً ومضموناً. هكذا يمكن رسم أدوارها الرئيسية. فالانفصال لن يجد معناه، إلا إن كان لا مناص منه. يستدعي خيار الشعوب على الدوام الانحياز للتكامل الديمقراطي. مهما فرض أصحابُ النعرات القوموية المفرطة الانفصالَ والعنف لدى كلا الطرفين، إلا إنه من الضروري أن يكون التكامل الديمقراطي وأقلُّ درجة من العنف هو خيار الشعوب في هذه الظروف. فبقدر ما يكون اللجوء إلى الانتفاضات والحروب قبل نضوج ظروفها وزمانها المناسبين أمراً خطيراً؛ فعدم اللجوء إليها مُحِطّ من القدر ومميت بنفس النسبة من الخطورة، لدى انعدام كافة الخيارات الأخرى.
تتعلق المسألة العملياتية الهامة الأخرى بالنسبة للديمقراطيات بكيفية التصرف في حالة الدفاع المشروع. يجد الدفاع المشروع معناه في ظروف الاحتلال فقط. فإذا ما سُلِّط على الشعب نظام محتل مستعمِر أو قمعي بشكل مختلف، فهذا معناه أنه ثمة احتلال. وكما أن قوة خارجية بمقدورها أن تكون منفردة في احتلالها، ففي بعض الأحايين قد تلجأ في ذلك إلى المتواطئين المحليين. هنا تبرز مهمة الدفاع عن الذات بهدف دحر الاحتلال وتأسيس الديمقراطية. لكن، بما أنه ثمة ظاهرة غريبة (خارجية) في الوسط، فسيكون من الأصح نعته بالدفاع المشروع، أو الدفاع الوطني الديمقراطي. وتكون في هذه الحالة تولدت شروط الحرب والانتفاضات مرة أخرى. لا تؤخذ الحرب التحررية الوطنية الكلاسيكية أساساً هنا. فمن الأنسب القول بأنها حرب الدفاع في سبيل التكامل الديمقراطي الشامل، كضرورة من ضرورات العصر الراهن، حتى وإن كان لها بُعدها الوطني. بالإمكان تطوير مثل هذا النوع من الانتفاضات والحروب في المدن والقرى على السواء، إما بشكل منفرد أو متزامن. وقد جُرِّبَت كافة الأشكال في العديد من البلدان الآسيوية والإفريقية والأمريكية. وعوضاً عن الهدف إلى الدولة، فسيكون من الأنسب الهدف إلى الديمقراطية في واقع الحل الراهن. ورغم وجود البُعد الوطني، إلا أن الأصح هو أن تحارب الشعوب بالتحالف مع بعضها البعض في سبيل تحقيق التكامل الديمقراطي تجاه المحتلين وأذيالهم وأعوانهم المتحركين معاً في القمة. من الضروري في هذه الحالة تطبيق الأشكال العملياتية السلمية الأخرى لآخر درجة. يجب أن يكون الأساس هنا هو تنظيم وتسيير الدفاع المشروع بغرض مؤازرة دمقرطة الشعب، وتطويرها وصونها. يجب عدم النسيان أنه ثمة معنيون بالحل الديمقراطي، حينما يكون الجناح الخفي للقتاليين القمعيين هو المستهدَف. إذ لا يمكن أن تكون مواجهة الدولة برمتها والوطن المعني بكامله استراتيجية صائبة. وعلى الصعيد التكتيكي أيضاً، ليس من الصحيح استهداف كل قوة أجنبية غريبة أو مؤسسات وأفراد القومية المحتلة بأجمعهم. الأساس هنا هو الحد من نطاق القوى المستهدَفة قدر الإمكان، للحصول على النتيجة المرجوة، وزيادة فرص الحل الديمقراطي للشعب، وصون وجوده وكيانه. قد تكون الوسيلة الأولية للخروج من الأزمة الحالية هي التكثيف والاستمرارية في حركة الدفاع المشروع، وتنظيمه إلى أن تقتنع القوى المتسببة في الاحتلال والعقم باستحالة استمرارها في الحرب الباطلة التي تشنها، وإلى أن تُجذَ‍ب إلى درب الحل الديمقراطي اللازم.
من غير الممكن غض الطرف عن مشكلة الشعوب في الدفاع الذاتي في الظروف الاعتيادية، عدا الحالات الطارئة. يتسم الأمن الذاتي في ظروف الأزمات بأهمية تضاهي ما للأمن العام منها. ليس بمقدور معايير الأمن الكلاسيكية للدولة تلبية احتياجات الأمن لدى الشعب من جهات متعددة. واستيلاء الطغمة الأوليغارشية والقوى الديكتاتورية على سلطة الدولة، يفند الضمان القانوني المحدود الموجود، ويقضي عليه. وتتقطع الدولة إلى أقسام وأجزاء. ويتكاثر في أقصاها عدد ضخم من أصحاب المافيا والعصابات التابعة للبؤر الدولتية. وتهُبّ نفحة الإرهاب التام على رؤوس الشعب. ويحصل الانفجار في الجرائم المرتكبة. وكلما جرت البحوثات فيها تُصان القوى الناطقة والمتحركة باسم الدولة، عوضاً عن سلوك الطرق القانونية. ويتحول القانون إلى حالة أشبه بالسلعة، وتغدو قوى أمن الدولة بذاتها مشكلة أمنية. مقابل مثل هذه المشاكل الأمنية المعاشة اليوم في العديد من البلدان في مراحل الأزمة، يغدو الدفاع عن الذات ضرورة لا مهرب منها؛ حيث يتطلب – بالتأكيد – تشكيل قوات الدفاع الذاتي.
من الأصح النظر إلى قوات الدفاع الشعبية كقوات تقوم على تلبية الحاجات الأمنية الأولية التي لم تحققها الدولة، أو بقيت ناقصة فيها، أو حتى تسببت بها؛ عوضاً عن النظر إليها كقوة مناهضة للدولة أو بديلة لها. قوات الدفاع الشعبية ليست جيشاً أنصارياً كلاسيكياً، ولا جيشاً تحررياً وطنياً. فأنصار التحرر الشعبيون، أو جيش التحرير الوطني، يهدفون بالأرجح إلى الدولة والسلطة، ويسعون لحل مشكلة السلطة. في حين لا يمكن أن تهدف قوات الدفاع الشعبية بشكل خاص إلى الدولة والسلطة (عدا الضرورات الموضوعية). وظيفتها الأساسية – باختصار – هي العمل على حماية الحقوق القانونية والدستورية للشعب لدى تعرضها للانتهاك، أو عندما لا يقوم القضاء بوظائفه؛ وأن تكون الضمان الأولي لمساعي الدمقرطة، والريادة للمقاومة إزاء الاعتداءات، وحماية وجود الكيان الثقافي والبيئي للشعب.
بمقدور وحدات الدفاع الشعبية الانتظام على شكل وحدات مناسبة في المدن والجبال والضواحي. ويمكن وصفها بضرب من ميليشيات الدفاع عن الشعب. بإمكانها تأدية دورها في المهام التي تعجز قوى الأمن المحلية عن القيام بها. كما أن حلها الدائم للبنى الاجتماعية في ظروف الأزمة، يُزيد من حيوية الموضوع بالنسبة للأوساط المشوشة المتزايدة، والدفاع عن الذات وعن وجود الشعب، وإدارته المحلية. ولدى البحث عن الخروج من الأزمة عبر سبل الحل الديمقراطية، بالإمكان النفاذ من أوساط الانفلات الأمني المتزايد، عبر قوات الدفاع الشعبية، وضمن تكامل والتحام رصين مع هذه المرحلة.

2 – تحرير الجنسوية الاجتماعية

تتصدر المرأة ونظام العلاقات والتناقضات المتشكل حولها، قائمة الظواهر الواجب معالجتها بشكل منفرد، إلى جانب تكوين مضمون الدمقرطة. بإمكاننا لدى تناول ظاهرة المرأة أن نرى بوضوح أكبر مدى تأخر ونقصان معالجة العلوم الاجتماعية لها، بما يضاهي ما هي عليه مسألة توازنات السلوكيات المشاعية والديمقراطية. حيث ثمة إجماع عام في كافة المواقف العلمية والأخلاقية والسياسية، يفترض مسبقاً بأن ما تعانيه المرأة هو من دواعي طبيعتها. والمؤسف أكثر أن المرأة أيضاً اعتادت على قبول هذه البراديغما طبيعياً. فطبيعة وقدسية القوالب الثابتة المفروضة على الشعوب منذ آلاف السنين، باتت محفورة في كل خلايا ذهنية المرأة وتصرفاتها بأضعاف مضاعفة. وبقدر ما تم تأنيث الشعوب، اتسمت المرأة أيضاً بالشعبوية. وعندما قال هتلر "الشعوب كالنساء"، إنما قصد هذه الحقيقة. لدى تناولنا ظاهرة المرأة بعمق أكبر، سندرك أنها عومِلت كنَسَب وطبقة وأُمَّة، لتتجاوز كونها جنساً بيولوجياً. إنها النَّسَب والطبقة والأُمَّة الأكثر انسحاقاً. من المهم الإدراك أنه ما من نَسَب أو طبقة أو أُمَّة أُلحِقت بعبودية منتظمة بقدر الأنوثة.
لم يُدوَّن بعد تاريخ عبودية الأنوثة. أما تاريخ الحرية، فلا يزال ينتظر التدوين. يرتبط إبقاء عبودية المرأة في غياهب الظلام الغائرة، بالسلطة الهرمية والدولتية المتصاعدة في المجتمع. حيث أُسِّسَت الهرميات (الإدارات المقدسة صاحبة الامتيازات)، وفُتِحَت درب العبودية أمام شرائح المجتمع الأخرى، مع تعويد المرأة على العبودية. يأتي استعباد الرجل بعد استعباد المرأة. وثمة جوانب لعبودية الجنس، تختلف عن عبودية الطبقة والأُمَّة. فبالإضافة إلى وسائل القمع الدقيقة والمُرَكَّزة لإضفاء المشروعية عليها، يتم ترسيخها عبر الأكاذيب والتلفيقات المشحونة بالعواطف. وتُستثمَر الفوارق البيولوجية وكأنها ذرائع للعبودية. كل ما تقوم به المرأة يؤخذ بعين الاستخفاف، وكأنه "عمل أنثوي" لا قيمة له. ويُطرَح تواجدها في كل ميادين المجتمع العامة على أنه محظور دينياً ومُعيب أخلاقياً. هكذا تُبعَد تدريجياً عن كافة النشاطات الاجتماعية المهمة. ومع انفراد الرجل بالنشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كقوة مهيمنة، يتمأسس ضعف المرأة وهزلها. ويتم تشاطر مفهوم "الجنس الضعيف" كعقيدة راسخة.
بعد أن تتكدس كافة إمكانيات وموارد القوة المادية والمعنوية بيد الرجل، تغدو المرأة كياناً مِربَط رأسه بيد الرجل، ترتجيه أحياناً، وتدوس على عزتها وكرامتها لترضى بقدرها أحايين أخر، وتغتاظ من الحياة دائماً وتعبَس لها؛ لتتقمص رداء الصمت العميق. وبمعنى من المعاني، يمكننا وصفها بالميت الحي. بإمكاننا إبراز الظاهرة أكثر عبر عدة تشبيهات:
التشبيه الأول: العصفور الذي داخل القفص. فأحياناً يكون العصفور بديعاً وزاهياً كالكناري. وأحياناً يكون ذا صوت جميل كالبلبل. كل واحد يُشَبِّه المرأة بعصفور حسبما يرتأيه هو. وغالباً ما يقال فيها: عصفور الدوري.
التشبيه الثاني: القطة التي تموي دائماً في قعر بئر بلا قاع. حيث يستأهلها صاحبها ويدجِّنها جيداً بتغذيتها على بقايا الطعام. قد يكون تشبيهاً فظاً، لكن، ثمة ضرورة ساطعة لإبداء مساعي علمية وأدبية متعددة الاتجاهات، بغرض استيعاب مدى عمق العبودية القائمة. لقد أُسِّس مجتمع جنسوي إلى أبعد الحدود. والفظاظة الحقيقية تكمن في الموقف التالي: بينما يُعتَبَر اغتصاب الرجل للمرأة عنوة بأنه بطولة، وبينما يتلذذ الرجل بذلك ويغتبط لآخر درجة؛ تواجه المرأة كل أنواع الإجحاف بحقها؛ بدءاً من رجمها بالحجارة حتى الموت، وحتى حبسها في بيوت الدعارة، والحكم عليها بعدم الدخول ثانية إلى المجتمع. والفظاظة الأخرى هي: بينما يعتز الرجل بعضوه الجنسي ويتباهى، تكون الأعضاء الجنسية للمرأة مصدر حياء وعار. لم يتوانَ أحد عن استثمار أبسط الفوارق الجسدية على حساب المرأة. بل وغدا كونها "امرأة" موضوع حياء وخجل. حتى في العشق – الذي يُزعَم بأنه عاطفة مقدسة بحاله هذه – ما تعيشه المرأة ليس سوى فرض الرجل ذاته عليها بكل عمى وتهور. أما البنات الصغيرات، فتعانين الازدراء والاشمئزاز على الدوام.
التساؤل الواجب طرحه هنا: لِمَ كل هذه العبودية الغائرة؟ والرد عليه منوط – بكل تأكيد – بظاهرة السلطة. فطبيعة السلطة تتطلب العبودية. فإذا كان نظام السلطة بيد الرجل، فلن يكتفي بتشكيل قسم – فقط – من الجنس البشري حسب تلك السلطة، بل سيشمل الجنس برمته. فكيفما يرى أصحاب السلطة في حدود الدولة حدوداً لبيوتهم، ويُحِقّون لذاتهم القيام بكل الممارسات ضمنها؛ ففي العائلة – التي هي نموذج مصغر لهم – أيضاً يرى الرجل أنه من حقه ممارسة أي عمل (بما فيه القتل إن رأى داعياً لذلك)، باعتباره صاحب السلطة. إن المرأة المنعكفة في البيت مُلك قديم وغائر، لدرجة أن الرجل يقول فيها "إنها لي" بكل عواطفه الاستملاكية اللامحدودة. في حين أن المرأة (المقيَّدة بذريعة الزواج) لا تجرؤ على الزعم بأبسط حق لها على الرجل. أما الرجل، فحقوقه على المرأة والأطفال لا تعرف الحدود.
يجب البحث عن المصدر الأولي للمُلكية – مرة أخرى – في العائلة، وفي التصرف بالمرأة بكل عبودية. حيث تكمن المرأةُ المستعبَدة في مصدر المُلكية. تتفشى العبودية والمُلكية في المرأة على موجات متتالية، لتعم كل المستوى الاجتماعي. هكذا تُرسَّخ كلُّ عاطفة أو فكرة للمُلكية والعبودية، في البنية الذهنيةِ والسلوكيةِ للفرد والمجتمع. ويُؤقلَم المجتمع مع كافة أشكال البنى الهرمية والدولتية. هذا ما معناه بدوره سهولة سيرورة كافة أنواع البنى المسماة بالطبقية، بعد اكتسابها مشروعيتها. هكذا، لا تكون المرأةُ لوحدها خاسرة، بل والمجتمع برمته، عدا حفنة من القوة الهرمية والدولتية.
لا أهمية ملحوظة لمراحل الأزمات الخاصة بالنسبة للمرأة. فهي بالأصل تعيش أزمات مستمرة. المرأة تعني الهوية المتأزمة. المسألة الوحيدة الباعثة على الأمل في خضم فوضى النظام الرأسمالي المعاشة اليوم، هي كون ظاهرة المرأة قد سُلِّط عليها الضوء، ولو بمحدودية. فالفامينية ساهمت بشكل بارز في إظهار حقيقة الأنوثة في الربع الأخير من القرن الأخير؛ وإن لم يكن بشكل مكتمل. وبما أن فرصة التغيير لكل ظاهرة تتزايد مع تصاعد التنوير العالي لها في الفوضى؛ فقد تنمُّ الخطوات التي ستُخطى لصالح الحرية عن انطلاقات وثابة نوعية، وقد تَنْفُذُ حرية المرأة من الأزمة الحالية بمكاسب عظمى.
من الضروري أن تجد حرية المرأة إطاراً وأفقاً مناسباً لتعريف الظاهرة. فقد لا تعني الحرية والمساواة الاجتماعية العامة حرية ومساواة مباشرة بالنسبة للمرأة أيضاً. الأساس هنا هو المساعي والتنظيم الخاص. وأيضاً، قد تَمُد حركة الدمقرطة العامة المرأة ببضعة فرص وإمكانيات. لكنها لا تجلب لها الديمقراطية تلقائياً. على المرأة أن تبذل مساعيها وتؤسس تنظيمها وتحدد أهدافها الخاصة بها بالذات. ثمة حاجة أولية لتعريف الحرية بما يقابل حالة العبودية المعششة في المرأة. لقد تطورت قدرة النظام الرأسمالي الخارقة على تطوير الأدوار والخيالات والتصورات الزائفة عوضاً عن الحقيقة، بحيث ساوى بين الحرية وبين النشاطات الأكثر حطاً من شأن المرأة (كالأدب والفن الإباحي على سبيل المثال).
رغم وجود العديد من العناصر المهمة في مساعي وجهود الفامينية، إلا إنها لا تزال بعيدة عن تخطي آفاق الديمقراطيات ذات النواة الغربية. وبالأساس، يصعب على المرء القول بأنها استوعبت شكل الحياة التي كونتها الرأسمالية بشكل كامل، فما بالك بتخطيها إياها! يستذكرنا هذا الوضع بمفهوم الثورة الاشتراكية لدى لينين. فرغم هذا الكم الهائل من الجهود الدؤوبة، ورغم العديد من المواقع المكتسبة بعد صراع مرير؛ إلا أن اللينينية لم تتخلص في المحصلة من تقديم أثمن المساهمات إلى الرأسمالية من الجانب اليساري. وقد تلقى الفامينية أيضاً عواقب مشابهة. فافتقار مناضلية المرأة إلى الدعامة التنظيمية المتينة، وعجزها عن تطوير فلسفتها بشكل تام؛ إنما يثبط من عزمها على مواجهة المصاعب. ولربما لا يؤدي حتى إلى تأسيس "الاشتراكية المشيدة" لجبهة المرأة. مع ذلك، فمن الأصح النظر إليها كخطوة حقيقية، من ناحية لفت الأنباه إلى المشكلة القائمة.
لا جدال في أن للمرأة طبيعتها، مثلما هي حال كل موجود جنسي. ومع تزايد البراهين في حوزة علم البيولوجيا، تزداد مؤازرته لكون المرأة – كجنس بيولوجي – عضواً مركزياً يتخطى إطار المجتمعية. باختصار، إلى جانب أن جسد المرأة يشمل الرجل، فالعكس غير صحيح. أي أن جسد الرجل لا يمكن أن يشمل المرأة. من هنا نفهم أن الرجل مخلوق من المرأة؛ على خلاف ما ادعته الكتب المقدسة بخلق المرأة من الرجل. فـ"كروموسومات" (صبغيات) المرأة أكثر مما للرجل منها. حتى الدورة الشهرية (الحيض)، التي يُنظَر إليها كسوء طالع للمرأة؛ يجب اعتبارها مؤشراً قاطعاً على مدى حساسية ورِقّة علاقة المرأة بالطبيعة. يجب النظر إلى نزف الرحم كتدفق للحياة الطبيعية المستمرة التي لم تنضب بعد. أي أن جذور شرايين الحياة لم تنضب بعد. واستمرارها دليل على إرادتها. هكذا يجب استيعاب الأمر. أي، ما يقال عنه بأنه أمراض المرأة، ليس سوى ظواهر الحياة بعينها. وهي تنبع من تمثيل المرأة لمركز الحياة ونواتها. إن مشاكل الحياة المعقدة والمتشابكة تجري في رحم المرأة، في بطنها. والوليد المتولّد منها، والحبل السرّي، أشبه بالحلقة الأخيرة لسلسلة الحياة.
مقابل هذه الحقيقة، يبدو الرجل وكأنه ملحق بالمرأة، وامتداد لها. وما يؤكد صحة هذه الظاهرة هو عواطف الحسد والغيرة المفرطة لدى الرجل، والتي لا معنى لها ولا أصل. فبينما تقف طبيعة المرأة أكثر وثوقاً من نفسها إزاءه، لا يهدأ للرجل بال ولا يعرفه السكون. وكأنه بلاء مسلَّط على المرأة، يجول في أطرافها. كل هذه الملاحظات تشير إلى أن جسد المرأة ليس مشحوناً بالضعف، بل هو المركز النواة. انطلاقاً من ذلك، على المرأة أن ترفض، وعلى الفور، تعريف "الناقصة، المريضة" الذي فرضته عليها ثقافة الرجل الحاكم. وعليها أن تُشعِر الرجل بأن العكس هو الصحيح. ونحن نشيد بهذه الحقيقة عندما نقول بضرورة ثقتها بنفسها فيما يخص جسدها.
النتيجة الطبيعية لهذا التكوين الجسدي هي كون الذكاء العاطفي لدى المرأة أقوى. الذكاء العاطفي هو الذكاء اللامنقطع عن الحياة. كما أنه الذكاء المتضمن للاعتناق والتعاطف الوطيدين. حتى لو تطور الذكاء التحليلي لدى المرأة، فانطلاقاً من قوة ورصانة ذكائها العاطفي؛ فهي تكون أكفأ في اتباع سلوك أكثر اتزاناً وتوازناً وارتباطاً بالحياة، وأكثر بُعداً عن التخريب والدمار. لا يفهم الرجل معنى الحياة بقدر المرأة. والمرأة التي تعني الحياة ذاتها (كلمة "Jin" المنتمية إلى مجموعة اللغة الآرية، تعني في اللغة الكردية "الحياة"، وتعني "المرأة" في الوقت عينه)؛ إنما هي عبارة عن المهارة والقدرة على رؤية جميع جوانب الحياة بحالتها الشفافة البعيدة عن الرياء والنفاق. مهارتها هذه راسخة وقوية. ونحن ندرك ذلك جيداً في حياتنا الشخصية أيضاً.
الرجل بذاته هو المسؤول الظالم عن المرأة المتصفة بأنها محتالة ومتردية وفاحشة وغيرها من الصفات. إذ ما من امرأة ترى حاجة للجوء إلى الحيل أو الفحوش، إن تُرِكَت وشأنها. فلا جسدها، ولا كيانها البيولوجي ملائمان لذلك. الرجل هو المبتكِر الحقيقي للحيل والدسائس والفحوش. كلنا نعرف أن أول بيت دعارة مشهور افتُتِح في نيبور، عاصمة السومريين، في أعوام 2500ق.م، تحت اسم "مصاقدين". وكانت سلطة الرجل هي التي افتتحته. مع ذلك، فالرجل لا يخجل من التذكير دوماً بالفحوش، وكأنه من ابتكار المرأة. بل ولا يُنقِص من عصا الضرب وممارسة المجازر على المرأة ولعنها وسبّها بكل ما يخطر على البال من وسائل؛ بعد أن يرمي بأثره هو، وبالجُرم الذي ابتكره هو، على عاتق المرأة، ويطوِّر – بناء عليه – مفهوم الشرف المزيف.
النتيجة التي يمكننا استخلاصها من هذا التعريف الملحَق، هي ضرورة الوقوف أولاً في وجه الهجوم الأيديولوجي للرجل. على المرأة أن تتسلح بأيديولوجيتها التحررية المتجاوزة لنطاق الفامينية بمصدرها الرأسمالي؛ وأن تكافح تجاه الأيديولوجية الذكورية المهيمنة. علاوة على أنه يتوجب الإدراك جيداً لكيفية تعزيز قدراتها الذهنية الطبيعية والتحررية في الميدان الأيديولوجي أولاً، إزاء الذهنية الرجولية السلطوية الحاكمة. ولا ننسى هنا أن الاستسلام الأنثوي التقليدي ليس جسدياً، بل هو اجتماعي. وهو يأتي من العبودية المعششة فيها والمقبول بها. ما دام الأمر هكذا، فمن المهم التغلب على الأفكار والعواطف الاستسلامية في الميدان الأيديولوجي أولاً.
على المرأة أن تعي أنه عندما تتوجه حريتها صوب الميدان السياسي، تكون حينئذ في مواجهة أشد جوانب الصراع حدة ومشقة. وبدون معرفة كيفية إحراز النصر في الميدان السياسي، لا يمكن أن يكون أي انتصار آخر راسخاً أو دائمياً. لا يعني الانتصارُ في هذا الميدان حركةَ تدوُّل المرأة. بل وخلافاً لذلك، يعني الصراع مع البنى الدولتية والهرمية، وخلق كيانات سياسية لا تهدف إلى الدولة؛ بل تكون ديمقراطية تهدف إلى حرية الجنس وبناء المجتمع الأيكولوجي. فالهرمية والدولتية هما أكثر الظواهر تضارباً وتنافراً مع طبيعة المرأة. انطلاقاً من ذلك، على حركة حرية المرأة أن تؤدي دورها الريادي في سبيل تأسيس الكيانات السياسية الخارجة عن نطاق الدولة، والمناهِضة للهرمية. وانهيار العبودية في الميدان السياسي، يكون في مضمونه بمعرفة كيفية الانتصار في هذا الميدان. يستلزم النضالُ والصراع في هذا الميدان التنظيمَ والنضالَ الديمقراطي الشامل للمرأة. فكل أنواع منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والإدارات المحلية، هي الساحات التي سيتطور فيها نضالها وينتظم. وطبقاً لما هي عليه الحال في الاشتراكية؛ فالدرب المؤدية إلى حرية المرأة ومساواتها، تمر من النضال الديمقراطي المظفر والأشمل على الإطلاق. لا يمكن لحركة المرأة العاجزة عن كسب الديمقراطية، أن تظفر بحريتها ومساواتها.
يشكِّل واقع الأسرة والزواج المشكلة الأهم بالنسبة للحرية في الميدان الاجتماعي. إنهما أشبه ببئر بلا قاع. وهاتان المؤسستان الباديتان وكأنهما سبيل الخلاص للمرأة، ليستا سوى انتقالاً من قفص إلى آخر، بسبب الذهنية الاجتماعية الحالية. بل ويحصل ذلك بالاضطرار لتَرْك شباب المرأة الحيوي والعنفواني لرحمة ذهنية قصّاب ظالم. من الضروري رؤية الأسرة كانعكاس (صورة) للمجتمع الفوقي (مجتمع السلطة) داخل الشعب، وكمؤسسة عميلة له. الرجل هو ممثل السلطة الموجودة داخل المجتمع، ضمن العائلة؛ والتعبير المكثف لها. في الحقيقة، عندما تتزوج المرأة فهي تُستعبَد. إذ من العصيب تصور وجود مؤسسة استعبادية أخرى، بقدر ما هي عليه مؤسسة الزواج. والعبوديات الأشمل بمعناها الحقيقي، تتأسس مع هذه المؤسسة، وتستمر في الأسرة مع تجذرها فيها أكثر فأكثر.
نحن لا نتكلم هنا عن الحياة المشتركة. فهذه نقطة يمكن أن تكسب معناها وفقاً لمفهوم كل شخص في الحرية والمساواة. بل نتكلم عن الزواج والأسرة بمعانيهما التقليدية الكلاسيكية المترسخة، والتي لا تعني سوى التملُّك الأكيد على حساب المرأة، وانسحابها من كافة الميادين السياسية والذهنية والاجتماعية والاقتصادية، وعدم قدرتها على لململة أشلائها بالسهولة المتصوَّرة. قد تؤدي الزيجات والعلاقات القائمة، والنابعة من الضوائق الفردية والغرائزية ومن مفهوم الأسرة التقليدية، دوراً يماثل أخطر أنواع الانحرافات على درب الحياة الحرة؛ ما لم تتوطد مقومات الحياة المشتركة الديمقراطية والحرة الهادفة إلى حرية الجنس، بعد تمرير الأشكال الموجودة منها من محاكمة راديكالية أساسية. تتمثل الحاجة الماسة في الأمر في تحليل الذهنية والميدان الديمقراطي والسياسي، بغرض الترسيخ الكامل لحرية الجنس، وإبراز إرادات الحياة المشتركة الملائمة لذلك، والمنسجمة وإياه.
أما موضوع العشق الذي تتداوله الأفواه كالعلكة في عالمنا الراهن؛ فهو يشهد أكثر مراحله خزياً وافتقاراً للمضمون والمعنى. إذ لم تسقط مرتبة العشق تحت الأقدام بهذه الدرجة في أي مرحلة أخرى من التاريخ. فحتى أخطر نماذج العلاقات وأقبحها، تسمى بالعشق، بدءاً من العشق اللحظي وحتى أكثر السلوكيات إباحية للجنس. لا يمكن تصوُّر علاقة مطبِّقة لمفهوم حياة النظام الرأسمالي بأفضل حال، أكثر من تلك العلاقات. إن ظواهر العشق الراهنة هي اعتراف صريح لا غبار عليه للأحوال التي وقعت فيها الذهنية التي فرضها النظام الحاكم على المجتمع والفرد، حتى في أقدس الميادين.
إحياء العشق هو أحد أصعب المهام الثورية. إذ يتطلب الكدح العظيم والتنور الذهني والحب الإنساني. ومن أهم شروط العشق:
أولاً: النظر إلى العصر ضمن آفاق الحكمة، والحذو حذوها. ثانياً: فرض السلوكيات العظيمة إزاء طيش النظام وتهوراته. ثالثاً: القبول باستحالة تواجه الجنسين أو النظر إلى بعضهما البعض في حالة غياب الحرية والتحرر؛ وهضم ذلك كسلوك أخلاقي أساسي. رابعاً: أسْر الغريزة الجنسية وضبطها بموجب متطلبات النقاط الثلاث السابقة. بمعنى آخر؛ يجب الإدراك يقيناً بأن أية خطوة تُخطى على درب العشق ستكون إنكاراً للعشق؛ ما لم ترتبط الغريزة الجنسية فيها بالحكمة وبأخلاق الحرية وحقيقة النضال والصراع السياسي والعسكري. كل من يعجز عن تأمين فرصةٍ يؤسس فيها المرء عشه الزوجي الحر بقدر العصفور الطليق، ويتكلم بالمقابل عن العشق والعلاقة والزيجة؛ إنما يشير بكل جلاء إلى استسلامه لعبودية النظام الاجتماعي السائد، وإلى جهله بالقيم النبيلة السامية لنضال الحرية.
إنْ كان لا بد من الحديث عن حقيقة العشق في راهننا، فهذا غير ممكن إلا باكتساب الشخصيات التي تتجاوز في عشقها ما كان عليه "ليلى ومجنون" بأشواط ملحوظة، وتتخطى كل أهل التصوف، وتتحلى بدقةِ وحساسيةِ رجل العلم، وتؤدي إلى الخروج من الأزمة الحالية والتوجه نحو الحرية الاجتماعية، وتبرهن على عشقها ببسالاتها وتضحياتها وانتصاراتها المظفرة.
بإمكان مشاكل المساواة الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية للمرأة أن تلقى الرد اللازم لها بالنجاح الموفق في عملية الدمقرطة؛ عبر تحليل وتفكيك السلطة السياسية أولاً. إذ ما من شائبة في أن الحرية القانونية القحطة والمجدبة، لن تفي بشيء، ولن تكتسب معناها؛ ما لم يُحرَز التقدم على درب الحرية، وما لم يُعمَل بالسياسة الديمقراطية.
الأصح هو تناول موضوع المرأة كثورة ثقافية. إذ من العصيب إيجاد حل تحرري ذي معاني راقية بالثقافة القائمة؛ مهما كانت النوايا حسنة، ومهما بُذِلَت الجهود الدؤوبة. وذلك بسبب المشكلة القائمة في الظاهرة ذاتها، وبنية العلاقات فيها. واكتساب الهوية التحررية الأكثر راديكالية أمر ممكن فقط بالدنو من المرأة. أو بالأحرى باستيعاب النظام القائم في العلاقات بين الجنسين ككل متكامل، وتخطيه. يجب الإدراك جيداً أنه لا يمكن قطع مسافة، ولو بمثقال ذرّة، بمقارنة مسألة الحجاب بالتقاليد والأعراف، ومقارنة الإباحية الجنسية بالعصرية. إذ ثمة حاجة ماسة لاستيعاب أغوار الحرية وإكسابها إرادتها، بقدر التعمق في أغوار العبودية وتفهمها. على كل القاصرين عن قطع مسافة ملحوظة في درب حرية المرأة، وبالتالي في درب تحرير الذات؛ أن يعرفوا أنهم بذلك لن يكونوا قادرين على إبداء قدرة الحل والتحول في أي ميدان اجتماعي، ولا في مجال الحرية السياسية أيضاً. يجب اعتماد المفهوم القائل بأن كل نضال تحرري عاجز عن تخطي ثنائية "الرجل الحاكم – المرأة العبدة" لن يتمكن من توطيد الهوية الحرة أو اكتسابها؛ كمعيار أولي للحرية. إذ لن تتحقق العلاقة الحرة بين المرأة والرجل، بدون تحطيم علاقة المُلكية والسلطة المسلَّطة على المرأة.
من الواقعي أيضاً اعتبار قرننا مرحلة اجتماعية ستتصاعد فيها إرادة المرأة الحرة. لذا، يتوجب التفكير في المؤسسات الراسخة اللازمة للمرأة وتأسيسها، ربما لأجل القرن بأكمله. وقد تتولد الحاجة لأحزاب حرية المرأة. حينها ستكون ذرائع تأسيس هذه الأحزاب ومهامها الرئيسية متمثلة في توطيد المبادئ الأيديولوجية والسياسية الأولية للحرية، وإدراجها حيز التنفيذ، والإشراف على ذلك وتسييره.
بالنسبة للجماهير النسائية، وبالأخص تلك القاطنة في المدن، يجب تكوين مساحات الحرية لها، لا دُور الالتجاء والاعتصام. وقد تكون "منتديات الثقافة النسائية الحرة" هي الشكل الأنسب، والتي بإمكانها أن تؤدي دَور معابد المرأة العصرية كمساحات تشمل الوحدات التعليمية والإنتاجية والخدماتية للفتيات اللواتي تعجز عوائلهن عن تعليمهن. كما أنها تعد حاجة ضرورية وشكلاً ملائماً من أجل الفتيات والنساء، بسبب وجود البنى التعليمية المدرسية الحالية في النظام القائم.
يقال أنه لا حياة بدون المرأة. لكن، لا يمكن العيش مع المرأة الحالية أيضاً. فحسب قناعتي، إن العلاقة الذكورية – الأنثوية الغارقة في العبودية حتى حلقها، تُغرِق أصحابها معها أكثر من غيرها من العلاقات. ما دام الأمر كذلك، فما هو منتَظَر من أصحاب العشق الحقيقي للخروج من فوضى النظام الرأسمالي الأخيرة، هو خلق القدرة العظيمة المتمحورة حول المرأة، وتحقيق الانطلاقة بها. أظن أن هذا من أقدس وأنبل الأعمال التي سيقوم بها أبطال العشق الحقيقيين، الذين وهبواً أفئدتهم وعقولهم للعشق بكل طواعية.

3 – العودة إلى الأيكولوجيا الاجتماعية

السبيل الأكثر واقعية هو البحث عن جذور الأزمة الأيكولوجية المتجذرة طرداً مع أزمة النظام الاجتماعي، في بدايات نشوء الحضارة. يجب الإدراك أنه كلما تطور الاغتراب عن الإنسان بسبب التحكم والتسلط القائم داخل المجتمع، كلما قاد ذلك إلى الاغتراب عن الطبيعة أيضاً، وبشكل متداخل. فالمجتمع في مضمونه ظاهرة أيكولوجية. أما ما يُقصَد بـ"الأيكولوجيا" فهو الطبيعة الفيزيائية والبيولوجية بين التكون الفيزيائي والتكون البيولوجي للكوكب الأرضي. يُعد هذا أحد أهم الميادين التي أحرز فيها العلم نجاحات مظفرة حقيقية. إذ يمكن تحليل وتعليل ظواهر بدء الحياة في أعماق المياه، وانتشارها فيما بعد إلى اليابسة، ومن ثم تطور عدد لا حصر له من الفصيلات الحيوانية والنباتية من أحشاء أول نبتة وحيوان بدائيين.
تُعلَّل وتحلَّل البيئة الفيزيائية والبيولوجية، التي اعتمد عليها الجنس البشري في تطوره، ارتباطاً بتلك التطورات. وإحدى فرضيات الربط بينه وبين تلك التطورات هي تلك القائلة بأن الجنس البشري هو الحلقة الأخيرة من سلسلة التطور الطبيعي للكائنات الحية عموماً، ولعالَم الحيوانات على وجه التخصيص. النتيجة الأولية والأهم على الإطلاق، والتي يمكننا استخلاصها من ذلك، هي أنه من المحال على النوع البشري أن يعيش بشكل عشوائي؛ وأنه كلما ظل مرتبطاً بسلسلة التطور الطبيعي تلك، وبقي ممتثلاً لمتطلباتها؛ كلما تمكن من إدامة ذاته. أما في حال إعطابه لحقوق التطور الطبيعي الذي يرتكز إليه، فلا مفر حينئذ من غياب التكامل البيولوجي؛ وبالتالي مواجهة خطر عدم إدامة الذات بالتأكيد. وقد برهن العلم بكل وضوح على أن تكامل سياق التطور الطبيعي في الطبيعة منوط بالأواصر المتبادلة للأجناس والكائنات الموجودة فيها، على نحو أكثر مما يظن البعض. وإذا ما افتُقِدَت تلك الأواصر المتبادلة، فستحدث انقطاعات وثغرات كبرى بين حلقات التطور الطبيعي؛ ليغدو عدد لا يستهان به من الفصائل والكائنات وجهاً لوجه أمام مشكلة إدامة جنسه.
مقابل هذه الحقيقة العلمية، فالمشكلة التي خلقتها الحضارة – إنْ لم تُتَّخَذ الإجراءات والتدابير اللازمة – تكمن في أنها شرعت الأبواب على مصاريعها أمام جهنم السعير. الدافع الأساسي لخلق الحضارة لهذه المشكلة، هو حقيقة الاستبداد والجهالة التي تتميز بها (أو بالأحرى ضرورة كونها مخادعة وكاذبة). ذلك أن الهرمية والدولة لا تستطيعان ترسيخ وجودهما، بالارتكاز فقط إلى القمع والعنف أثناء تكونهما. بل لا مفر لهما من اللجوء إلى الكذب والرياء لمواراة حقيقة المجريات وقصتها. فالهيمنة السلطوية تتطلب الهيمنة الذهنية أيضاً. وهذه الأخيرة لا يمكن أن تزوّد السلطة بالضمان والحصانة، إلا بإدراجها موضوع "الخروج عن الحقائق" حيز التنفيذ. أما الجانب الفظ لقوة السلطة، فسيعمل دائماً على تسليط وإنعاش هذا النوع من الذهنية، كجانب دقيق وخفي له. هذا الطراز من تكوين الذهنية يشكل الأرضية الخصبة للاغتراب عن الطبيعة وما فيها. كلما استمر إنكار الأواصر المشاعية الخالقة للمجتمع والمكونة إياه، واتُّخِذَت الهرمية وقوى الدولة – المتطورتان كانحراف وتضليل – أساساً عوضاً عنها؛ فستكون حالة الذهنية منفتحة أمام نسيان الروابط الكامنة بين الطبيعة والحياة، وفقدانها أهميتها. وكل ارتقاء وتصاعد على هذه الأرضية – دعامة الحضارة – سينعكس على أرض الواقع على صورة انقطاع عن الطبيعة وتدمير للبيئة. حينها لن ترى أبصار القوى الحضارية الضرورات الطبيعية. ومهما تكن الحال، فالشرائح السفلية المغذية إياها، تمدها بكل شيء جاهز ترغب به.
لقد ابتُدِعَت يوتوبيا "الألوهية والجنة" المذكورة في الكتب المقدسة على تلك الأرضية، كميثولوجيات للسومريين أصحاب القوى الحضارية الأولى. ونُقِشَت في عقل الإنسان كقوالب ذهنية أولية، منذ مرحلة الطفولة. الإله والجنة كيانان تجريديان للطبيعة. أو بالأصح، هما تَصَوُّران لعالَم قوى السلطة الزائفة المتصاعدة، والتي حلت محل الطبيعة الحقيقية. يتلخص فحواه في: "نحن المستألِهين (المتحولين إلى آلهة) نحيا في جنات النعيم". الشكل الثاني لمضمونه هو: "السلاطنة ظلال الإله، يعيشون كأهل الجنة". أما شكله الثالث فهو: "الإنسان المستعمِر يعيش كما في الجنة". باتت هذه المفاهيم المترسخة كقوالب ذهنية مهيمنة في المجتمع، والمصوَّرة على أنها حقائق إلهية سامية؛ ناسية تماماً لـ"الطبيعة الأم". بل وذهبت أبعد من ذلك، لتتنافر في علاقاتها مع الطبيعة ضمن اغتراب شديد، بابتكارها فرضيات "الطبيعة الوحشية، الطبيعة العمياء، الطبيعة التي يجب تذليلها". إن إمكانية صنع حياة مناهضة للطبيعة، عبر تلك التراكمات الناجمة عن استبدادية ورياء وزيف قوة السلطة؛ تُشكِّل أساس المشاكل الأيكولوجية المعاشة. حيث سيُقال في الطبيعة بأنها "القوة العمياء"، طالما يتم إنكار دورها في الحياة، وطالما تترسخ عوضاً عنها العناصر الدينية المزيفة وصائغوها. يشكل التأثير الشديد لهذه الذهنية حتى يومنا الراهن – بشكل خاص – السبب الأولي لعدم تطور العقلية العلمية. فالعقلية العلمية لا يمكنها أن تتطور، إلا بالإدراك الحقيقي والصحيح لقوى الطبيعة. أما النظام العقائدي الذي يُحِيل كل شيء إلى الإله والجِنّ، فلن يولي أي معنى على الإطلاق لنسيجٍ خارق كالطبيعة. بل وسيتملص من العلمية بإلحاحه العنيد على أن الطبيعة الفيزيائية والبيولوجية برمتها، هي مصطلحات تجريدية من صنع الإله.
وقد رأينا بأم أعيننا كيف أن هذا الإله المجرد هو من إيجاد عقلية أول شريحة استعمارية متنامية، بغرض إكساب ذاتها صفة المشروعية. لا تتمثل في مخاطرها في ربطها العبيد والرقيق بذاتها وحسب، بل وفي فصلها إياهم عن الوقائع الحقيقية. إنها تقطع الأواصر الصحيحة والسليمة لذهنية الإنسان مع الطبيعة، وتُغَرِّبها عنها. فتترك "الطبيعة الأم" – قديماً – مكانها لـ"الطبيعة الظالمة" على يد الظالمين الحقيقيين. إذا ما تمحصنا محطات تلك الذهنية طيلة المسار التاريخي، فلن نتمالك أنفسنا من الذهول حقاً. وما المواجهات المُعَدّة بين الإنسان والحيوانات المفترسة في مراسيم الإمبراطورية الرومانية، سوى ثمرة لتلك الذهنية. إذ ثمة أواصر وطيدة بين تلك الممارسات الظالمة، وبين قوة السلطة لدى توجهها نحو تحييد العقول والاهتمامات عن عالم الحيوانات والنباتات، وتعتيمها وتطويقها بالغموض المظلم. أو بالأحرى، يرمز تأليب الإنسان والحيوان على بعضهما بهذا الشكل، في حقيقته الضمنية، إلى الاغتراب عن الطبيعة.
لدى وصولنا إلى إقطاعية العصور الوسطى، نرى أن وجه البسيطة غدا خاناً يجب تركه على الفور، بل ومكاناً مدنساً يقيِّد الإنسان ويدفعه إلى الحرام والسوء. فماذا يمكن أن تعنيه الطبيعة مقابل سموّ الإله! إذاً، فترك الحياة الدنيا والطبيعة قبل لحظة، أصبح هدفاً عقائدياً سامياً. لكن حياة جنات النعيم في الشريحة الفوقية ستدوم بكل عربدتها. ونحن إنما نقصد هذا التحريف والتشويه عندما نقول بضلال وزيغ الذهنية الأكبر.
تشيد النهضة في فحواها بإعادة تأسيس الأواصر المقطوعة بين العقل والطبيعة. لقد قامت النهضة بثورتها الذهنية على خلفية حيوية الطبيعة وخلاقيتها وعطائها وقدسيتها. وعملت بالمبدأ "كل شيء موجود في الطبيعة" كمعتقد أساس لها. وصوَّرت جماليات الطبيعة على نحو أمثل عبر الفن. وفتحت آفاق الطبيعة بالتوجه العلمي نحوها. واتخذت الإنسان أساساً لها، فاعتبرت تعريف حقيقته برمتها من وظائف العلم والفن. هذا التغيير في الذهنية هو الذي ولَّد العصر الحديث. وعلى خلاف ما يُعتقَد، فالمجتمع الرأسمالي لم يكن نتيجة طبيعية لهذه المرحلة، بل كان محرِّفها ومضلِّلها، ولعب دوره في تقهقرها وجَزْرها. فالإدارات المستعمِرة للإنسان طُوِّرت بالتوازي مع استغلال الطبيعة. والتحمت الهيمنة على الإنسان مع الهيمنة على الطبيعة والتحكم بها. وابتدأت أشد أشكال الهجوم التي شهدها التاريخ على الطبيعة، بحيث اعتَبَرَت تلك الإدارات أن استغلال الطبيعة وظيفة ثورية، ضاربة بذلك عرض الحائط كل قدسياتها وحيويتها وتوازناتها. وهمَّشَت على نحو تام القدسية التي كانت موجودة – وإن بشكل منحرف – في الذهنيات السابقة. ورأت أنه من حقها التصرف بالطبيعة كيفما تشاء، دون أي رادع أو ريبة.
كانت المحصلة أن التحمت أزمة البيئة بالأزمة الاجتماعية. وحالما نَقَل مضمون النظام القائم الأزمةَ الاجتماعية إلى مساحة الفوضى البينية، بدأت البيئة تطلق صيحات الإغاثة من أجل الحياة، لِما لحق بها من كوارث وفواجع. فالمدن المتعاظمة والمتفشية كداء السرطان، تلوث الهواء، انشقاق طبقة الأوزون، التناقض الحاد الأقصى في أجناس الحيوانات والنباتات، تدمير الغابات وكسحها، تلوث المياه الجارية، النفايات المكدَّسة والمتعالية كالجبال في كل الأرجاء، تلوث جميع المياه بالنفايات والمخلَّفات المبيدة، والانفجار السكاني؛ كل ذلك دفع بالطبيعة إلى التمرد مع بدء الفوضى. إذ ثمة تَوجُّه جنوني طائش صوب الربح الأعظمي، دون الأخذ بالحسبان مدى قدرة كوكبنا على تحمل هذا الكم الهائل من المدن والبشر والمعامل ووسائل المواصلات والمواد الاصطناعية وتلوث الهواء والمياه.
هذه التطورات ليست قدراً محتوماً. بل هي حصيلة الاستثمار المختل للعلم والتقنية في حوزة السلطة. من الخطأ تحميل العلم والتقنية مسؤولية هذه المرحلة، إذ لا يمكنهما لعب أدوارهما بمفردهما. بل إنهما يؤديانها وفاقاً لنوعية قوى النظام القائم في المجتمع. وكيفما أَقحَمَت تلك القوى الطبيعة في المستنقع وأغرقتها، فهي قادرة أيضاً على معالجتها ومداواتها. أي أن المشكلة اجتماعية محضة. إذ ثمة تناقض حاد بين المستوى العلمي والتقني الموجود، وبين مستوى الأحوال المعيشية للغالبية الساحقة من البشر. تنجم هذه الحالة عن مصالح ومنافع حفنة أقلية تتحكم بالعلم والتقنية على نحو مطلق. أما الدور الذي سيؤديه العلم والتقنية في المجتمع الديمقراطي والتحرري، فهو دور أيكولوجي.
الأيكولوجيا بحد ذاتها علم. إنها العلم المعني بالبحث في العلاقة القائمة بين المجتمع والبيئة. ورغم حداثة عهدها، إلا إنها ستلعب دوراً ريادياً تصاعدياً في تأمين تخطي التناقض الموجود بين المجتمع والطبيعة، بشكل متداخل مع بقية العلوم الأخرى. أما الوعي البيئي المتطور بحدود، فسيحقق وثبة ثورية ملحوظة مع الأيكولوجيا. لقد كان يشكل الرابطة مع الطبيعة في المجتمع المشاعي، كرابطة الجنين بأمه. حيث ينظر إلى الطبيعة بعين حيوية. كانت القاعدة الأولية للدين آنذاك، هي عدم الوقوف في وجه الطبيعة أو التعرض لعقابها. دين الطبيعة هو دين المجتمع المشاعي البدائي. وما من تناقض أو أمر غير اعتيادي في تكوّن ذاك المجتمع إزاء الطبيعة. والفلسفة ذاتها تُعرِّف الإنسان بأنه "الطبيعة الواعية لذاتها". فالإنسان في فحواه هو أرقى أجزاء الطبيعة تقدماً.
هكذا ينسدل الستار عن حقيقة النظام الاجتماعي المناقض للطبيعة، وغير المتآلف معها، وصانع التناقض بين الطبيعة وبين أرقى أجزائها تقدماً. فإيصال الإنسان إلى حالة يصبح فيها بلاء على الطبيعة، بعد أن كان ملتحماً بها بتناغم أشبه بنشوة الأعياد وبهجتها (الأعياد في حقيقتها ليست سوى صورة عن الاتحاد المثمر والمعطاء بين الطبيعة والنشوة)؛ يشكل – على ما يُظَن – برهاناً قاطعاً على مدى بلاء هذا النظام.
لا يشمل التكامل مع البيئة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وحسب. فاستيعاب الطبيعة على الصعيد الفلسفي أيضاً يعد شغفاً لا يستغنى عنه. إنها مسألة متبادلة في حقيقتها. فبينما تبرهن الطبيعة على الفضول وحب الاستطلاع الكبير لديها، وعلى قدرتها في الخَلق لدى استئناسها؛ فالإنسان أيضاً يدرك ذاته ويعيها لدى استيعابه الطبيعة (إن رؤية السومريين للحرية "أماركي" في العودة إلى الأم "الطبيعة" أمر يحثنا على التفكير فيه). ثمة علاقة العاشق والمعشوق بين كليهما. إنها مغامرة عشق وهيام كبرى. وأظن أن إفسادها أو الانفصال عنها أكبر حرام (حسب التعبير الديني). ذلك إنه من المحال خلق قوة معاني أسمى منها. ارتباطاً بهذه المسألة، فالمعنى الملفت للنظر، والذي أضفيناه على حيض المرأة بأنه إشارة إلى التمايز عن الطبيعة وإلى الانبثاق منها في الوقت نفسه؛ إنما يفرض ذاته هنا مرة أخرى، ويُشعِرنا بوجوده. تتأتى طبيعة المرأة من دنوها الكبير إلى الطبيعة. ويكمن لغز جاذبيتها الساحرة في هذه الحقيقة بالذات.
لا يمكن بتاتاً الدفاع عن أخلاقية أو عقلانية* أيِّ نظام اجتماعي غير متكامل مع الطبيعة. لهذا السبب يتم تجاوز كل نظام يكون على خلاف أكبر مع البيئة الطبيعية؛ سواء على الصعيد الأخلاقي أو العقلاني (العقلي). نستخلص من هذا التعريف المقتضب أن العلاقة جدلية بين الفوضى التي يمر بها نظام المجتمع الرأسمالي، وبين الكوارث البيئية القائمة. لا يمكن تخطي تلك التناقضات الجذرية مع الطبيعة، إلا بالنفاذ من ذاك النظام وتجاوزه. والعجز عن حل تلك التناقضات عبر الحركات المعنية بالبيئة لوحدها؛ إنما يتأتى من طبيعة ومزايا تلك التناقضات ذاتها. من جانب آخر، يستدعي المجتمع الأيكولوجي تحولاً أخلاقياً بالضرورة. ولا يمكن التخلص من مناهضة الرأسمالية للأخلاقيات، إلا بالسلوك الأيكولوجي. تتطلب العلاقة الكامنة بين الأخلاق والضمير (الوجدان)، روحانية تعاطفية واعتناقاً (تقمصاً) عاطفياً. وهذه بدورها لن تكتسب قيمتها الحقيقية، إلا بالتعبئة الأيكولوجية القديرة. تعني الأيكولوجيا صداقة الطبيعة، والاعتقاد بالدين الطبيعي. وهي بجانبها هذا تفيد بالالتحام مجدداً، وبوعي يقظ وحساس، مع المجتمع العضوي الطبيعي المتناسق والمتكامل.
المشاكل العملية للحياة الأيكولوجية أيضاً هي مشاكل راهنة. تتمثل المهام والوظائف العملياتية في هذا الشأن في توطيد كم كبير من المنظمات المؤسَّسة بغرض الحد من كوارث البيئة الطبيعية، وجعلها جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الديمقراطي، والتعاون والتعاضد مع الحركات النسائية الفامينية والتحررية. يُعَد ترسيخ التعبئة والتوعية والتنظيم بصدد البيئة، أحد أهم النشاطات الأولية للدمقرطة. إننا مضطرون لترتيب حملات توعية مُرَكَّزة بصدد الديمقراطية والبيئة، مثلما كانت عليه الحال في وقت من الأوقات بالنسبة للتوعيات الطبقية والوطنية والقومية المُرَكَّزة. والعمليات الهادفة إلى رعاية حقوق الحيوانات، وحتى حماية الغابات، والعمل على نشر الغابات وتشجير كل الأماكن والأرجاء بسرعة؛ يجب أن تكون جزءاً لا يستغنى عنه في العمليات المجتمعية. كل من يفتقد إلى الحساسية البيولوجية، تكون حساسيته ونباهته الاجتماعية معتلة وناقصة. أما الحساسية والنباهة الحقيقية، فتمر من رؤية الأواصر الكثيبة بين كلتا الظاهرتين. يجب أن تشهد – وستشهد – أيامنا المستقبلية نضالات شاملة ومحاولات ستُبذَل بغرض تحويل طبيعتنا إلى غطاء أخضر معشب وزاهٍ، ترعى فيه الحيوانات؛ بعد أن غدت الآن صحراء مجدبة. يجب إفساح الفرصة لنشر الغابات في الطبيعة وتشجيرها. وأظن أن شعار " تمر الوطنية المثلى من التشجير ونشر الغابات"، سيكون من أثمن الشعارات وأقدسها. وسيُدرَك بجلاء أكبر، أن من لا يحب الحيوانات، ومن لا يرعاها أو يحميها، لن يقدر على حب الناس أيضاً. وكلما أدركنا أن النباتات والحيوانات هي أمانة اؤتُمِن عليها الإنسان، ستزداد حينئذ قيمة الإنسان مرتبة أخرى.
لن تنجو أية تعبئة اجتماعية مفتقرة للوعي الأيكولوجي، من الانهيار والتردي، مثلما لوحظ ذلك بكل سطوع في ظاهرة الاشتراكية المشيدة. الوعي الأيكولوجي هو وعي أيديولوجي أولي. وهو أشبه بالجسر الرابط بين حدود الفلسفة والآفاق الأخلاقية. والسياسة الهادفة إلى الخلاص من الأزمة العصرية الراهنة، لن تفضي إلى نظام اجتماعي صحيح، ما لم تكن سياسة أيكولوجية. ومثلما هي الحال في معضلة حرية المرأة، فمفهوم السلطة الأبوية الدولتية المهيمنة هو الذي لعب دوراً أساسياً في الحياة المشحونة بهذا الكم الهائل من الأخطاء والإمهال في حل المشاكل الأيكولوجية. كلما طورنا من الأيكولوجيا والفامينية، فستختل كافة توازنات نظام السلطة الأبوية الدولتية الحاكمة. لن يتسم أي نضال أو صراع حقيقي في سبيل الديمقراطية والاشتراكية بالتكامل، إلا لدى تطلعه إلى حرية المرأة وتحرر البيئة كمأرب أولي. وصراع نظام اجتماعي جديد متكامل على هذه الشاكلة، إنما هو أحد أشكال النفاذ من الفوضى الحالية بأسمى المعاني.
لقد ولجت عولمة النظام الرأسمالي في مرحلة الأزمة والفوضى العارمة بكل معنى الكلمة، مع انهيار النظام الاشتراكي المشيد في 1989 لأسباب داخلية. والنظام الآن يسعى لإدامة سلطته بزعامة أمريكا، عبر "إمبراطورية الفوضى". تشهد إمبراطورية الفوضى الأمريكية مرحلةً مشابهة لمرحلة انهيار الإمبراطورية الرومانية، لكنْ، مع وجود الفوارق الخاصة بالنظام الرأسمالي، والتي يجب معرفتها بكل جوانبها. كما تسعى بلدان الاتحاد الأوروبي المتخلصة من دائرة الهيمنة الأمريكية، للحفاظ على مقاومتها وصون جمهورياتها وديمقراطياتها ودولها القومية التقليدية، عبر جدالاتها ومناظراتها المحدودة بصدد الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومقابل العولمة الرأسمالية، فالدولة القومية التي تشكل حجر عثرة على درب الاتحاد الأوروبي، تُرغِمه على البقاء دوماً في حالة من الوحدة السياسية المتعددة القوميات، ولكن الهزيلة والواهنة. ليس وارداً في المستقبل القريب أن تتكون بؤرة عالمية ثالثة في المحيط الهادي بزعامة الصين واليابان. حيث تنضم روسيا والبرازيل وغيرهما إلى مثل هذا النمط من الدول، لتضطر جميعها للحفاظ على دولها القومية بالأرجح. وثمة العديد العديد من الدول والقوميات والبلدان في العالم، والتي تلاقي مشقات حقيقية في إحياء نماذج دولها القومية المعتمدة على التوازنات الأمريكية – الروسية بعد أعوام 1945؛ فتتقوض بالأغلب ضمن إطار إمبراطورية الفوضى الأمريكية، لتبقى وجهاً لوجه أمام التشتت الكلي أو النسبي، وبالتالي أمام مشكلة إعادة البناء. ثمة الكثير من الأقاليم التي تمر بهذه المرحلة بكثافة، وعلى رأسها الشرق الأوسط، دول البلقان والقفقاس.
لا تُدار شؤون إمبراطورية الفوضى – التي يمكننا نعتها أيضاً بالحرب العالمية الثالثة، بمعنى من معانيها – بالأساليب العسكرية والسياسية وحسب. بل وتُدار – وبشكل أكثر تعييناً وتركُّزاً – عبر الشركات الاقتصادية العالمية والمؤسسات الإعلامية أيضاً. فالشركات الاقتصادية والإعلامية العالمية لا تلاقي مصاعب تذكر في الإبقاء على المجتمعات ضمن حالة من المجاعة المَعِدِيّة والذهنية، لتقوم على توجيهها كيفما تشاء، وتسخّرها في أغراضها وأطماعها. وبتفعيلها لهيمناتها العلمية والتقنية، تسعى لإنقاذ نظام المجتمع الرأسمالي من الفوضى؛ إما بنفاذه منها أكثر تعززاً وتوطداً، وإلا فبأقل قدر من الخسائر، أو بإعادة بنائه من جديد. حيث لا يمكن توجيه النظام وصونه وتأمين سيرورته بالتغييرات الجزئية أثناء الفوضى، عبر السلوكيات والأساليب القديمة. من الواقعي أكثر أن تُدرَس السلوكيات والممارسات الاستراتيجية والتكتيكية التي تسلكها أمريكا حديثاً، مع خصائص مرحلة الفوضى، بشكل متداخل.
مقابل ذلك، يجب أن تُعزَّز السلوكيات المشاعية والديمقراطية التي سلكتها الشعوب بالأرجح طيلة التاريخ، بتحديثاتٍ نظرية وتكتيكية تخولها لتخطي الفوضى القائمة. فالمفاهيم "اليسارية" القديمة المُسفِرة عن الاشتراكية المشيدة، وكذلك الحركات "اليسارية الحديثة" و"الأيكولوجية" و"الفامينية" واجتماعات "بروتو آللاغرا" البارزة في الماضي القريب؛ تفتقر جميعها للكفاءات والقدرات التي تمكِّنها من استيعاب الفوضى وتخطيها. وبدون إنكار تلك الحركات، ثمة احتياج شديد لحلول ونقاشات مكثفة على الصعيد العالمي، بحيث تكون معنية بالتكتيكات المحلية الخاصة، وبالإرشادات النظرية العامة حول "المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي والتحرري الجنسوي". أول الشروط الأساسية الواجب تأمينها أثناء القيام بذلك، هو قول "الوداع" للمواقف والسلوكيات القديمة، النظرية منها والتكتيكية، والمتمحورة حول الحلول الهادفة إلى السلطة؛ والتي مفادها "إما هدم الدولة أو الاستيلاء عليها". فإنْ لم يتم التخلي عن الأساليب والذهنيات التحررية الإنمائية المتمحورة حول الدولة، لن يكون ثمة نجاة من خدمة النظام الرأسمالي – مثلما شوهد في الاشتراكية المشيدة – وبأسوأ الأشكال. هذا بالإضافة إلى أنه من المحال تلبية متطلبات الشعوب في الحرية الحقيقية والمساواة الحقيقية، عبر شن الحروب أو استنهاض الجماهير بمناهج وشعارات تتخذ من الدولة والاشتراكية والقومية، ومن تحرير الوطن والدين أساساً لها، على خلفية المصطلحات القديمة التي يطغى عليها الجانب الأيديولوجي التجريدي والتعميمي؛ من قبيل: الوطن، القومية، الطبقة والدين. وحتى لو لُبِّيَت تلك المتطلبات، فإنها في نهاية المطاف لن تذهب أبعد من الانصهار في بوتقة النظام الرأسمالي أو تعزيزها إياه أكثر فأكثر.
كل شيء يمر من الدرب التي يجب فيها على الرأسمالية العالمية في مرحلتها الجديدة أن تُبرِز إرادات ووعي كافة الشعوب والمجموعات المُشَكِّلة لها، بالاعتماد على هوياتها وثقافاتها الذاتية؛ وأن تبحث عن الحلول المحلية والفَوقومية، وتنظمها وتطبقها على أرض الواقع. إذ لا مناص من تطوير تنظيم المجتمع الديمقراطي على شكل شبكة اجتماعية واسعة الآفاق، بدءاً من حركات البلديات الديمقراطية – التي تمثل الأجهزة الأساسية للإدارات المحلية – وحتى مشاعات القرى والمحلات، ومن الجمعيات التعاونية حتى منظمات المجتمع المدني الواسعة الآفاق، ومن حقوق الإنسان إلى حقوق الأطفال والحيوانات، ومن حرية المرأة إلى التنظيمات الأيكولوجية والشبيبية الريادية.
كما أن تأسيس الأحزاب السياسية المتمحورة حول السياسة الديمقراطية كأجهزة أيديولوجية ونظرية وإدارية منسِّقة لمثل هذا النموذج من المجتمع الديمقراطي، يتمتع بأهمية مصيرية. ذلك أنه من العبث بناء المجتمع الديمقراطي دون تطوير الأحزاب والتحالفات الديمقراطية.
هذا ويُعَدّ تتويج هذا النموذج بـ"المؤتمرات الشعبية" كممثلة عليا لبؤرة المجتمع الديمقراطي والسياسة الديمقراطية، وظيفة أولية لا مهرب منها من أجل كل مجموعة شعبية. فأثناء النفاذ من الفوضى العارمة في راهننا، تتصدر "المؤتمرات الشعبية" قائمة الأجهزة الديمقراطية الواجب العمل بها أساساً، باعتبارها ليست بدائل للدولة، ولكنها لا تستسلم لها أيضاً، ولا تدحضها. بل إنها منفتحة لعقد وفاق مبدئي معها، عندما تدعو الضرورة. يمكن تفعيل "المؤتمرات الشعبية" بشكل أساسي بتأديتها واجباتها في المراقبة وسن التشريعات وتأسيس المؤسسات المناسبة لتلبية متطلبات المجتمع الديمقراطي على صعيد الدفاع الذاتي، وعلى جميع الأصعدة السياسية والقانونية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والعلمية والفنية.
بالإمكان ترتيب الشعارات الأساسية المعبِّرة عن آمال الشعوب كما يلي: وطن حر وأُمَّة حرة، اشتراكية تمر من جميع الممارسات الأشمل للديمقراطية (بمعنى آخر، مفهوم في المساواة لا يكون شكلياً، بل يعتمد على رفع التمييز)، حرية العقائد الدينية، وتأسيس المؤتمرات الديمقراطية التي ليست بدولة.
إذا ما وضعنا نصب العين الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والعلمية العملاقة التي تنفرد بها الرأسمالية العالمية؛ فإن كل أنواع العمليات القانونية الديمقراطية، وكذلك الانتفاضات المنظمة، والحروب الأنصارية المعتمدة على الدفاع الذاتي؛ يمكن اعتبارها أساليب للرد على النظام القائم، في حال الإخلال بالتطبيق المتساوي والعادل للقوانين، وفي حال العمل بالنظام الاستبدادي.
لا استغناء عن التحرك وفق نظرية وممارسة عملية أخلاقيتين، كمبدأ وسلوك أولي مصيري، لدى إنشاء المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي التحرري الجنسوي؛ ذلك لأن المجتمع الرأسمالي تأسس على أساس إنكار الأخلاق ودحضها.
هذا ويشكل العلم والفن الأرضية الذهنية الأساسية التي سنستند إليها في تخطي مجتمع الفوضى. وبما أن التعليم الرسمي المفروض – بدءاً من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية – يتخذ من تكوين الإنسان التابع للدولة والهرمية، والمغترب عن الفرد والمجتمع والبيئة، أساساً له من حيث الشكل والمضمون؛ فمن الضروري تجاوز مثل هذه الأفخاخ التعليمية والتدريبية، وتَقَبُّل وهضم وإحياء مفهوم (بارديغما) علمي وفني جديد؛ بحيث يُعرِّف الإنسان والمجتمع على حقيقتهما وواقعهما التاريخي، وينقلهما إلى المستقبل الواعد مع صونه لحرية اللحظة على خلفية ثورة ذهنية حقيقية قبل كل شيء. هذا ويجب نشر النماذج الجديدة من الأكاديميات والمدارس العلمية، وفقاً للحاجة.
بناء عليه، فالتوجه نحو "حضارة الشعوب العالمية الديمقراطية" مقابل إمبراطورية الفوضى العالمية للرأسمالية، إنما يعني إبداء التقدير والتبجيل لتقاليد المقاومة الماضية، بقدر ما يؤدي إلى بناء عالم مستقبلي ديمقراطي حر ومتساوٍ، أكثر من أي وقت مضى.