المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترى أين الله؟



محمد صباح الحواصلي
20/10/2006, 09:07 PM
ترى أين الله؟

محمد صباح الحواصلي

(1)

نظرة تأمل غضة تنامى في سكونها نواة سؤال:
"أين الله؟"
لا يذكر الآن ما إذا كان الفصل صيفا أم شتاء. كل ما يذكره أن الوقت كان ليلا, وكان الليل يلج في برودة هينة لا زمن لها. خرج من الغرفة إلى الشرفة, من بهر الضوء حيث يرى ألعابه والأشياء التي ألفها وعرف أسماءها بوضوح فج, إلى الظلمة التي تطوي حلكتها عالم الاسرار والتساؤلات المبهمة.

أطلق نظرة في هدأة الليل فيما كان صدى الأذان يتناهى إلى مسامعه من بعيد بكثير من النشوة والرهبة. كان متأهباً لأن يكتشف خبرة جديدة في الظلام, وكان الهدوء مهيأ للحظة الآتية من غياهب الأبدية.. من ذلك البعيد الذي يحمل نشوة الروح بالفتها وغرابتها معاً.

تساءل فيما الأذان البعيد يولج بَرَدَ النشوة في أعطافه:
"أتراه آتياً من اللامكان؟ من نهاية هذه العتمة التي تطوي في قرارها الأحلام كلها؟ أم من خلف النجوم التي لا يخبو بريقها؟"

كان قد بدأ يحس بقلبه الصغير معنى كبيرا نسجه دفق الأذان الحنون المنساب في جداول الليل الهادئة. وعندما لامست صفحة وجهه نسمة هينة فاض ذلك المعنى السرمدي في أعماقه. عرفه على تعذره. بل كاد أن يراه لو لم يتذكر في تلك اللحظة ألعابه المبهجة القابعة في بهر الضوء داخل الغرفة.

(2)

النهار, وتلك الشمس الدافئة, وذاك الدرب الأثير الذي يفضي إلى قلب الأشياء السعيدة, عبرهم بدأت رحلة البداية.. رحلة الفضول والسؤال. في الحواري القديمة نبضتْ الحياة في عروقه وجرتْ مع أنفاسه, وها هو ذا يلعب مع لداته في صحن الجامع الذي يتوسط الحي, وعندما يجتاحه التعب يجلس متربعا على الحصير ويطلق عنان عينيه تسبحان مع الحمائم التي تطوف في فضاء الجامع وتمرح آمنة في صحنه.

لم تكن تلك الأيام خلواً من الأسئلة الكبيرة. كانت تفرض نفسها على عقله الغض فينبهر حائرا أمام هذا العجز الذي ينتابه بيد أنه كان يغيب عن لذة تتوسد شغاف روحه ويتنامى في سكون أعماقه نواة سؤال:
"ترى أين الله؟"

(3)

هي الشمس ذاتها التي تغمر أديم وجهه المستسلم لحجر جدته. لم يعد يشعر الآن بأناملها الوانية وهي تمسد شعره, وغابت بقية الحكاية.. وحتى الإجابة على سؤاله: "أين الله يا جدتي؟" قد غابت بدورها لأنه كان يسامر بعينية النعستين الأطيار في لهوها بين الأشجار اليانعة.

بيد أن جدته كانت تجيبه دون أن تدري أن حفيدها الصغير قد غفا في حجرها في نوم هانيء: "الله يا حبيبي... ..."

(4)

مسحت أمه دموعه وقالت له:
لا تحزن يا ولدي فقطتك الآن في الجنة تمرح سعيدة.
الجنة!!
يا لذلك المكان الأثير اللامتناهي!

يرامق صفحة السماء المتلألئة بمقلتيه الدامعتين, فثمة عالياً توجد الجنة. وهذه الغيوم التي تسير ببطء هيهات لها أن تكشف عن الجنة لأنها أكثر علواً مما نظن.. ياه, كم هي عالية أكثر مما نظن!

وتساءل: "متى سأنعم بالجنة وأرى الله وقطتي والعصافير؟ هناك يمرح الصغار مع الملائكة ذات الأجنحة البيضاء, ويداعبهم الله بكثير من الحَدَبِ والطفولة. وسأرى الله.. سأعرفه, وسأقف أمامه أتملى النظر في بهائه واقول له بكل ما في قبلي من صدق:
"أحبك يا الله.. ولكن لماذا أمتَّ قطتي؟"

(5)

يندفع جسمه الضئيل بين القبور بفضول وإصرار. الهدف هو تلك الخيمة المطوقة بحشد آدمي. هناك سيروي فضوله فيما عَرَفَ أنه الموت. الموت الذي لم يعد مسرحه حكايات جدته فقط, بل ذلك المعنى الطاريء المجهول الذي دَهَمَ كيانه وأصبح جزءاً من حياة حيه الذي كان يلقى فيه الأشياء الخالدة البهيجة.

فمن أحد بيوت الحي خرج النعش, وأهل الحي رفعوه على أكتافهم, وحتى المسجد الذي كان يلقى فيه اليمامات الوديعة بدا له على معرفة وثيقة بالموت فقد استقبل النعش وصلى الناس خلفه. حتى طرقات الحي, التي نبضت في عروقه وكانت في خياله مسرح اللعب والرؤى الجميلة, بدت على حقيقتها معبراً للموتى. كان يتبع النعش المحمل على الأكتاف إلى ذلك المكان الذي عرف أن اسمه المقبرة.

هناك, وقف قرب الحفرة ورمق الوجوه الباكية الحزينة. وعندما تردد اسم الله كثيراً أدرك, للمرة الأولى, أن لله علاقة وثيقة فيما يحصل فنبض في أغوار نفسه الطرية سؤال:
"ترى أين الله؟"

من مجموعة "منمنمات على جدران دمشق القديمة"