المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (5) الفصل الثالث - الدفاع عن شعب - عبد الله اوجلان



shiyar
04/04/2007, 10:22 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان
++++++++++++++++++++++++++++++++
الفـصـل الثـالـث

الفوضى في حضارة الشرق الأوسط، والحلول المحتملة


مدخل

ثمة حقيقة واقعة تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط تشهد حرباً عالمية ثالثة على نحو خاص بها. لكن هذه الحرب تتميز بخاصيات مختلفة عن الأبعاد العسكرية والسياسية الكلاسيكية. وإلى جانب صحة تعريفها بصراع الحضارات، إلا إنه لا يفسِّر مضمونها بالشكل الصحيح. حيث لا يكشف النقاب على نحو كافٍ عن أبعادها التاريخية والاجتماعية. كذلك ثمة غموض في تحديد الأطراف المعنية فيها، وفي أساليبها ومآربها. ورغم كثرة التطرق إلى المخططات والمشاريع المتعددة فيها، إلا إنها الحرب الأكثر عشوائية وافتقاراً للتخطيط، وكأنها تسير من تلقاء نفسها، أو كأنها وجهاً لوجه أمام حرب تهدف إلى خلق الفوضى، لا غير.
إن مجتمع الشرق الأوسط (ودوله) يعبِّر بكل معنى الكلمة عن ركام متكدس من المشاكل العالقة. فالمشاكل المتنوعة المكبوتة والمتراكمة منذ الماضي الغابر، قد تركت المجتمع مقطوع الأنفاس. أما الأنظمة المفروضة عليه من قِبَل النظام الرأسمالي بغرض إيجاد الحلول لها، فقد أضحت بحد ذاتها منبعاً لخلق المشاكل. فلا الدول المعنية قادرة على إيجاد الحل، ولا هي تفسح المجال للقوى الممتلكة للحل – الداخلية منها والخارجية – بأن تقوم بدورها. إن تسمية المشاكل بأنها مجرد أزمة إسلامية، هو تعبير خاطئ للغاية. حيث ثمة ذهنيات سائدة تتخطى نطاق الأديان التوحيدية، وتمتد بجذورها لتصل إلى العهد النيوليتي.
تشكلت الكثير من النُّسُج والأنظمة الاجتماعية التي لا يمكن تفسيرها بالظاهرة القومية. إذ تكاد كل عائلة، وليس كل عشيرة وحسب، تتضمن اختلاطاً وتعقيداً أشبه بمشكلة الدولة. تعاني الهوّةُ الشاسعة بين المرأة والرجل اغتراباً حاداً، بقدر ما تعانيه الهوة الكائنة بين المجتمع والدولة. وكأنه ثمة فوضى يعج فيها حشر من الصُّمُّ والبُكم والعميان الذين لا يتفاهمون فيما بينهم، وقابعون في قاع برج بابل، مثلما تقول الأسطورة. وكأن تلك الأسطورة انتعشت مرة أخرى في نفس المكان. حيث تَبذل ما يناهز السبعين من القوى القومية جهودها ومساعيها. لكن الخلل يتفاقم يوماً بعد يوم. فالصراع العربي – اليهودي المتبقي من أيام الفراعنة، لم يفقد من وتيرته شيئاً. كذلك تسير التمشيطات المرتبة تجاه الكورتيين (الكرد) بنفس الهمّة والسرعة منذ أيام الملوك السومريين.
إذن، والحال هذه، من الضروري البحث عن جواب أكثر وضوحاً للسؤال التالي: كيف تصل المشاكل مثل هذه الحالة في الشرق الأوسط؟
يشكل مجتمع الشرق الأوسط الخلية النواة لجميع المجتمعات. وهو يستمد قوته من ماهيته هذه. نظريات الخلية النواة دارجة على المجتمعات أيضاً. لقد أبدى النظام الرأسمالي قدرته على التوسع والانتشار من ثقافة القارة الأمريكية إلى أوستراليا الباسيفيكية، ومنها إلى الثقافة الهندية والصينية واليابانية؛ ومن أفريقيا إلى الثقافتين الروسية والسيبيرية الجنوبية. لقد انتصر في حرب هي ضرب من ضروب صراع الحضارات والثقافات. إلا أن نفس النظام لم يستطع تحقيق فتوحاته تلك في منطقة الشرق الأوسط، رغم محاولاته العديدة المتعاقبة منذ أعوام 1800. ولربما مر فيها بحالات أكثر شحناً بالمشاكل من الحروب العالمية. حيث ثمة عناصر تتجاوز حروب الصهر والإذابة. لا شك في أن السبب الأساسي لكل المصاعب المتلقاة ينبع من النسيج الاجتماعي للمنطقة.
إن المَلَكية والإقطاعية اللتين قضت عليهما الثورة الفرنسية تشبهان الشارلية القيصرية والإقطاعية التي قوَّضتهما وأطاحت بهما الثورة الروسية. لكن كلتا الثورتين انشغلتا أثناء ذلك ببنى فوقية لا نسيج غائر لها. مع ذلك، فتشخيص تلك البنى وتفكيكها تضمَّن مصاعب جليلة. بيد أن هاتين الثورتين قامتا في البنى الفوقية، ولم تتخلصا من الالتحام الأعظمي بالنظام الرأسمالي.
وناهيك عن حل مجتمع الشرق الأوسط وبنيته الفوقية للمشاكل، بل انتهى فَرْضُ هذه النماذج عليه بتجذرها أكثر فأكثر. لذا، لا يتبقى من الأمر سوى ضرورة الفهم الحسن لطبيعة صراع الحضارات. الأصح من ذلك هو التساؤل: ما الذي يبقي على حضارة الشرق الأوسط عقيمة ومقاوِمة عنيدة لهذه الدرجة؟ لماذا تُحرَز النتائج المرجوة في كافة الحضارات الشهيرة في العالم لدى المداخلة فيها، في حين أن الحلول الشبيهة تلقى الفشل الذريع في الحضارة الشرق أوسطية؟
يكمن الرد على هذه التساؤلات في حقيقة الحضارة الأم. فكيفما يشبه الابنُ أمَّه بالضرورة – ولا تشبه الأمُّ ابنَها – فالحضارات الوليدة من الحضارة الأم، لا يمكنها أن تشَبِّه أمها بنفسها. بل هي مرغمة على التشبُّه بحضارتها الأم من بعض النواحي بأقل تقدير. إذا ما رجعنا ثانية إلى مثال الخلية النواة، نجد أنه من الممكن العثور على البنى الجينية (الوراثية) الموجودة في جميع الخلايا المتكاثرة ضمن الخلية النواة. في حين أنه من المحال العثور على كافة جينات (مورثات) الخلية النواة في الخلية المتكاثرة منها. لا شك في أن المقارنة المفرطة للظاهرة الاجتماعية بالظواهر البيولوجية تتضمن أخطاء فادحة. لكنها، مع ذلك، تزودنا بالسهولة المتوخاة لتَفَهُّم الاتجاهات الموجودة بشكل صحيح. لذا، جلي للعيان مدى ضرورة أن تتقرب حضارة النظام الرأسمالي بعمق وخصوصية أكبر إزاء الحضارة الشرق أوسطية.
يجب النظر أولاً إلى البنية الذهنية، لدى البدء بتحليل الحضارة الشرق أوسطية. فنشوء وتوطد بنى الأديان التوحيدية الثلاثة في هذه المنطقة، يشكل أحد أهم حقائقها. ثمة العديد من المواضيع الأساسية التي يتوجب على السوسيولوجيا الدينية تحليلها في هذه المنطقة. هذا ومن اللازم تحديد خطوط هذه المحاولات عبر السلوكيات الأدبية والفنية الأخرى أيضاً. علاوة على أن رسم الخريطة الذهنية فيها دون تمييزِ أو فصلِ قيم المجتمع النيوليتي – الذي لا يزال مؤثراً في المنطقة – عن غيرها؛ سيتضمن أخطاء حقيقية. من جانب آخر، لا تزال ظواهر المذاهب والقبائل والعائلة، حقيقة معاشة فيها كوحدات سفلى لظاهرتَي الأمة والدين الملتحمتَين مع السلطة. أما القوالب الذهنية الناجمة عن الرأسمالية، فلا تجد معناها في المنطقة إلا بعد انكسارها وتحطمها.
إن تناول ودراسة جذور القوالب الذهنية ضمن بدايات التاريخ، بل وحتى قبلها في التعددية الألوهية، وفي العالم الميثولوجي، وخاصة ضمن نطاق العلاقة مع الميثولوجيا السومرية؛ سيساعدنا على الفهم الأمثل لخصال الذهنية المتداخلة فيما بينها. إن ثنائيات القول والعمل، المصطلح والظاهرة، الحقيقة والوهم، الدين والحياة، العلم والأيديولوجيا، الفلسفة والدين، وكذلك الأخلاق والقوانين تشهد تخالطاً وتشابكاً وخراباً وفساداً ولا تمايزاً حاداً في راهن منطقة الشرق الأوسط. حيث تكاد جميع الشرائح الذهنية التي شهدتها البشرية مخزَّنة على شكل ركام متكدس من المشاكل العالقة، مع ما نجم عنها من تلوث. ولا تتوانى البنى اللغوية أيضاً – القديمة منها والحديثة – عن عكس الحالات الذهنية القائمة وتصويرها بكل ما تحتويه من تزمت وتصلّب. هذا وتعاني مصطلحات المماليك والأوطان والقوميات والدول المُبَيَّنة حدودها، والمتأسسة في غضون القرن الأخير؛ من جهالة مركَّزة وضيق أفق حاد.
ثمة تزاوج مشحون بالشوائب والعيوب بين عناصر الذهنية المعاصرة من جهة، وعناصر ذهنية العصور الوسطى والأولى من الجهة الثانية. لذا، فأي قصف للبنى الفيزيائية الطبيعية (على الصعيد السياسي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي)، دون قصف البنى الذهنية في واقع الشرق الأوسط؛ لن يُسفِر في مضمونه إلا عن ممارسات وحشية قصوى للمجازر والإرهاب والتعذيب، الرسمية منها وغير الرسمية، مثلما شاهدنا ذلك في يومنا الراهن.
كذلك تشير البنى السلطوية في منطقة الشرق الأوسط إلى فروقات هامة تميزها عن غيرها من الميادين في العالم. كما أن ظاهرتَي الحرب والسلطة ليستا أقل اختلاطاً وتعقيداً من الخصال الذهنية. فرغم كونهما من أقدم المؤسسات القائمة في المنطقة، إلا أن العلاقة بينهما وبين الحياة الاجتماعية والاقتصادية، تعاني من انقطاع ومفارقات مذهلة. والعلاقات المتبادلة بينها، منفتحة لكل أنواع الديماغوجيات والقمع، من أدقها إلى أغلظها. أما العقلانية (المنطق)، فهي "الربح" الأقل معنى وجدوى. وفيما يخص السوسيولوجيا (علم الاجتماع)، فكأنها مصقولة داخل الروابط الدينية والإثنية والاقتصادية والطبقية والسياسية للحرب والسلطة، كظاهرة بعيدة كل البعد عن التحليل والتفسير. من الصعب الحصول على منظر واقعي للشرق الأوسط، دون القيام بتحليلات صحيحة للسلطة والحرب؛ بدءاً من كونهما مصطلح ديني تجريدي للغاية، وحتى كونهما عصا وهراوة غليظة مسلَّطة.
تتضمن مؤسسات البنى الاجتماعية، وبشكل خاص ظاهرة الأسرة، تشابكاً وتعقيداً، يماثل ما عليه في ظاهرة السلطة، بأقل تقدير. فالرجل والمرأة الشرق أوسطيَّين يتميزان بتشابك يستلزم بالضرورة تحليلاً خاصاً بهما. وأي تحليل للأسرة والمرأة والرجل الحاكم، من خلال القوالب السوسيولوجية العامة، سيحتوي نواقص مهمة جداً. فالواقع السياسي والأيديولوجي والأخلاقي ينعكس على الرجل والمرأة، بأكثر جوانبه قساوة وحِلكة. والتناقضات القائمة في مؤسسة الأسرة، ليست أقل مرتبة من تلك التي في مؤسسة الدولة. فالأسرة هنا أبعد من أن تكون مؤسسة اجتماعية، وأدنى إلى أن تكون "الثقب الأسود" للمجتمعات. إذا ما وضعنا المرأة تحت عدسة المجهر، لربما تَمَكّنّا من قراءة جميع دراميات الإنسانية فيها.
تتطلب كل من المجتمعية التاريخية والجيومجتمعية (المجتمعية الطبيعية أو الجيولوجية) الاقتراب من المنطقة ودراستها ضمن روابط دياليكتيكية كثيفة للغاية. فبدون تحليل كل فترة (كل جزء) من فترات (أجزاء) الأزمنة التاريخية والأمكنة الجغرافية؛ لن يكون بمقدورنا الإدراك الكامل لراهننا، ولا للأنظمة الحضارية برمتها. التاريخ اللامكتوب أهم بكثير من التاريخ المكتوب. هذا وحكايات الأمكنة غير المذكورة، وغير والمكتوبة، أهم بكثير أيضاً من تلك المذكورة والشهيرة.
وبدون معالجة التخلف الاقتصادي ضمن كافة هذه الروابط المجتمعية، فإن التحليل عبر المبادئ الجافة والمجدبة للنظريات الاقتصادية، لن يجدي نفعاً يذكر.
علاوة على أن تحليل الكل بعد تجزيئه وتشريحه إلى أقسام صغيرة – والذي يعد مرضاً عاماً يسود علم الاجتماع – سينمّ عن أكثر نتائجه تضمُّناً للأخطاء والنواقص، لدى إسقاطه على الفعاليات الحضارية للشرق الأوسط، وفي مقدمتها الاقتصاد. فالتحليلات الاقتصادية المفتقرة لتداوُل ومعالجة "السلطة والحرب" و"الذهنية والمجتمعية" بشكل متداخل، لن تؤدي سوى إلى تجذير الجهل والافتقار للمعلومات أكثر. إذن، ساطع سطوع النهار أن البحث والتدقيق في منطقة الشرق الأوسط، عبر القوالب التحليلية للحضارة الغربية، يحتوي أخطاء وأغلاطاً نظرية وعملية مهمة. والفوضى القائمة حالياً، هي – لحد ما – ثمرة لمثل هذه التوجهات.
لا يمكن لأحد – بعد الآن – إنكار وجود الفوضى في الشرق الأوسط، كموضوع يكثر عليه الجدل في وقتنا الحالي. لكن المؤسف في الأمر هو أنه، لا المُدَّعون بأنهم أصحاب المنطقة الحقيقيون، ولا دُعاتُها الجدد، يتناولونها بتحليلات ذات جدوى. إنهم يخافون. فالتناول الحقيقي لواقع المنطقة لا يعني فقط فتح فوهة "علبة الباندورا Pandora Box"*. بل وسيعني أيضاً ضرباً من ضروب نزول "سفينة نوح" على سفوح "جبل جودي" الجديدة. حينها لن تزدهر الحياة إلا بنسل جديد (سواء على الصعيد البشري أو الأيكولوجي). فالحياة الحالية مرتدية رداء من الرياء والاستبداد، يغيطها من رأسها حتى أخمصها. ومثلما هي مليئة بحيثيات ورواسب التقربات الاستبدادية والاستغلالية المعمِّرة منذ آلاف السنين، فإن مساماتها الاجتماعية محتقنة بكل أنواع الدعارة والفحوش الممتدة في جذورها إلى دولة الرهبان السومريين المعمِّرة رسمياً خمسة آلاف عاماً. وتلتقط أنفاسها بمشقة بالغة، بحيث – وإن لم تكن ميتة تماماً – تكون بعيدة كل البعد عن الحياة الطبيعية.
تُرى، هل ستسفر الإمبراطوريات الأمريكية (الإسكندراوية المعاصرة – نسبة إلى الإسكندر المقدوني) عن تطورات تذكّرنا بالهيلينية، عبر مشاريعها الشرق أوسطية الأخيرة؟ وهل ستقدر أمريكا عبر تحالفها مع الأرستقراطيين الكرد (مدراء الإقليم العراقي)، أن تخلق مستجدات شبيهة بتلك التي قام بها الإسكندر بتعزيزه للحركة الهيلينية، عبر تحالفاته التي أبرمها مع الأرستقراطيين الكرد الذين كانوا يشكلون بنية خاصة بذاتها داخل الإمبراطورية البرسية؟
الأهم من ذلك، هل من الممكن أن يتكرر الدور الذي لعبته الأصول الكردية الآرية في كونها مهد الحضارة لدى بزوغ فجر التاريخ؟ بمعنى آخر، هل ستلعب دوراً شبيهاً لدورها السابق، أثناء العبور إلى عصر الحضارة الديمقراطية أيضاً في منطقة الشرق الأوسط؟ حيث أنها تمثل بالأرجح دور الأنساب الكردية عبر التاريخ على نحو "التأثير والارتكاس" من الخارج، إزاء الحضارات المجاورة لها. هذا وشهدت تطورات حضارية محدودة العدد في أراضيها. إذ انهمكت بالأغلب بالمقاومة والصمود وحماية الوجود إزاء الاعتداءات والغزوات الخارجية، وذلك على أساس مقاومات الإثنيات (القبائل، العشائر)، والدخول في تحالفات مساعدة على تحقيق مآربها تلك. وهي لا تزال تحافظ على ماهياتها هذه في راهننا أيضاً.
من جانب آخر، لن يكون من السهل المقاومة وصون الوجود وإبرام التحالفات بأساليبها القديمة، تجاه الرأسمالية العالمية الشارعة في شن حملة جديدة. فحتى لو أرادت العوائل الأرستقراطية التقليدية المتواطئة أن تستمر في هذه السياسة، فالشعب لن يكتفي بتلك الأساليب القديمة، بعد أن تجاوز نطاق الإثنية وغدا شعباً ديمقراطياً (شعب النصر serkeftin). وبات من الصعب أن تتحكم به هذه القوة أو تلك.
سيكون من الواقعي أكثر بالنسبة للتحرريين الاجتماعيين، أن يروا في عدم قدرة الكرد – كشعب – على تأسيس دولة كلاسيكية حُسْنَ طالع وفرصة حسنة؛ عوضاً عن تقييمها كخسارة. إذ، كم هو عدد قيم الحرية الاجتماعية، وكم هو عدد التحرريين القادرين على إرضاء شعوبهم بتطلعهم إلى الدولة وتمحورهم حولها؟ كل الشعوب الأمريكية اللاتينية والإفريقية والآسيوية أصبح لها دولها. فهل تمكنت من حل مشاكلها؟ وخلافاً لذلك، ألم تتثاقل مشاكلها أكثر من السابق؟
المهم هنا من الناحية التاريخية، هو توحيد هوية الشعوب المشاعية والديمقراطية كطراز سلوكي أساسي لها، مع إمكانيات وفرص العلم والتقنية، ومأسستها. إن ما تحتاج إليه شعوب الشرق الأوسط في راهننا، هو الديمقراطية، بقدر حاجتها إلى الماء والهواء والطعام. وأي خيار آخر غير الديمقراطية، لن يقدر على تلبية آمال الشعوب وتأمين سعادتها ورغدها. وقد جُرِّب ذلك طيلة التاريخ. إذا ما استنفر الكرد، الذين يحتلون صدارة هذه الشعوب، كل خصائصهم الاجتماعية وزمانهم التاريخي وأراضيهم التي أصبحت عضواً استراتيجياً مهماً إلى أبعد الحدود في منطقة الشرق الأوسط، وإذا ما سخّروها لصالح بناء الحضارة الديمقراطية ونجحوا؛ سيكونون قدّموا أفضل خدمة لجوارهم، وللبشرية جمعاء.

آ – إمكانية الفهم الصحيح للشرق الأوسط
ما هي المشكلة، وكيف تطورت؟

1 – من المهم تسليط الضوء بما فيه الكفاية على الحلول الاصطلاحية، قبل الحلول المؤسساتية. فإنْ لم نقدر على إعطاء تعريف صحيح للمصطلحات التي تغفو وتصحو المجتمعات عليها في تاريخها وحاضرها؛ فستكون القيمة التنويرية للفرضيات المطروحة بخسة بنسبة ملحوظة. على سبيل المثال؛ أيُّ مرحلة تاريخية، وأي مجتمع سنقدر على تعريفه، ما لم نقم بتحليل سوسيولوجي سليم لمصطلح "الله"؟ لم يكن عبثاً أن دارت أغلب جدالات الأوروبيين حول الثيولوجيا (اللاهوت Theodice) على الصعيد الذهني، لدى خروجهم من إقطاعية العصور الوسطى. لقد ناقشوا حول الـ"ثيو = Theo"، يعني حول "الله"، لدرجة تمكنوا من خلالها الإمساك برؤوس خيط العلم والفلسفة. لقد عاشوا أيضاً مرحلة مُرَكّزة من الإيمان بـ"ثيو" وتقديسه. كما قالوا – وهم على حق – بأنه: "ما دمنا نؤمن به ونقدسه لهذه الدرجة، فالموقف الأصح هو أن نعرف معناه أيضاً". إنهم أبدوا الجرأة والجسارة اللازمة للنقاش بأفكار قادرة على دك دعائم الدوغمائية، والإتيان بما هو جديد.
إذن، كان هناك اللاهوت في أساس الجدالات الفكرية الدائرة أثناء الخروج من العصور الوسطى. كانت الأفكار التي تواجدت حينها باسم العلم والفلسفة، مرتبطة عن كثب باللاهوت. لكن المهم هنا هو استنباطهم النتائج اللازمة من تلك الجدالات للوصول إلى العلم المنطقي والفلسفة المنطقية. أما مُنَظِّرو الإسلام، فعوضاً عن استخلاص النتائج من النقاشات، قاموا بتجميد الفكر عبر تقديسهم للدوغمائية. فالإمام غزالي دحض الفلسفة منذ بدايات القرن الثاني عشر، وأوصد أبواب الاجتهاد وأحكمها، ليؤدي بذلك إلى الضياع في ظُلمات القرون الوسطى. وحتى اليوم أيضاً، ما من أحد يتجرأ على طرح النقاشات في هذا الاتجاه. أو بالأحرى، ما من أحد قادر على إبداء هذه الكفاءة والمهارة.
بيد أن العمق الذهني في المجتمعات الشرق أوسطية، يمتد حتى العصر الميثولوجي. ذلك أنها استخدمت مأثورات الرهبان والأدباء السومريين – أمهر خالقي الميثولوجيا – بأشكالها المطوَّرة والمعدَّلة في الأديان التوحيدية الثلاثة. نحن نعرف أن سيدنا إبراهيم هو مؤسس الدين التوحيدي. وقد ترعرع داخل مَلَكيات "نمرود" في السلالة البابلية. فالكل يعرف أن أباه الموظف – الذي لا تزال ذكراه نابضة في أورفا وهو واقف إلى جانب نمرود – كان حارساً في مجمَّع الآلهة الملوك (Panteon)، وأنه شهد تحولاً ذهنياً كمحصلة للفعل وردة الفعل التي مر بها.
إذن، والحال هذه، كيف سنستطيع فهم الدين الإبراهيمي دون معرفة مجمَّع آلهة نمرود؟ فحتى أكفأ الأساتذة المختصين بعلم اللاهوت يقولون في هذا الصدد: "حطم إبراهيم الأوثان بالفأس. وغضب نمرود، وقال: من الذي حطمها؟ فأجاب إبراهيم: الوثن الكبير هو الذي حطمها. فيقول نمرود: وكيف يحطمها وهو وثن جامد لا روح فيه؟ فيرد عليه: أوَليس الوثن إلهاً؟". هكذا يُكمِلون سرد القصة. إن هذا القول لا يتضمن أية قيمة أكثر من كونه سرداً أسطورياً. وبدون القيام بالتحليل السوسيولوجي للميثولوجيا السومرية، التي تشكل دعامة مجمّع آلهة نمرود، لا يمكننا تعريف الثورية الدينية لسيدنا إبراهيم. وبدون تعريفها لا يمكننا إدراك الثورات الدينية لسيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد. ورغم وجود هذا الكم الهائل من الجامعات وكليات فلسفة الإلهيات، ومدارس الإمام الخطيب، ومؤسسات الطرائق والديانات في منطقة الشرق الأوسط؛ إلا أن أياً منها لا تقوم بسلوك فلسفة إلهياتية سوسيولوجية. ذلك أن السِّحْر يَبْطُل إنْ قامت هي بذلك. وحينها "ستسقط القبعة وتنكشف الصلعة". وسيتبدى أنه تتوارى ظاهرتان في أساس فكرة الإله الواحد، ألا وهما: التعبير عن وحدة القوة في الطبيعة، والزعيم والمَلِك الهرميان المتناميان في المجتمع. بمعنى آخر، وبالتطوير المستمر دون كلل أو ملل لأسمى معاني مفهوم المجتمع الحاكم، ومفهوم الطبيعة الحاكمة المرتبط بالمفهوم الأول؛ تم البلوغ إلى "الله" ذي الصفات التسع والتسعين. لم يدُر الجدال في هذا الاتجاه أبداً، بل وتَسَيَّس الإله، وتَعَسكر أيضاً بشكل مباشر، بظهور "حزب الله" في اليوم الحاضر. مع ذلك، لا يزال يُبحَث عنه في كبد السماء كخداع للوجود.
تُعالَج مؤسسة النبوة أيضاً بطراز دوغمائي في علم اللاهوت، حيث تُحوَّل إلى سرد تجريدي، وكأنها لا علاقة لها بالتطور الاجتماعي. بيد أن تقاليد الشامان – الشيخ من جانب، ومؤسسة الوزارة كسلطة تنفيذية عليا تابعة للسلطة المَلكية المتنامية من جانب آخر، تطغيان على هذا الكيان. تنشأ النبوة كسبيل حل للمشاكل المعاشة في التطور الحاصل بين كل من الدولة والهرمية. إنه تطور معني بالسياسة، وله أرضية جماهيرية، وقاعدة عملياتية على السواء. وهو يلعب دوره أيضاً في التطورات الجارية بين الحِكمة والقيادة السياسية. المهم هنا هو البحث عن مكانة النبوة في الواقع الاجتماعي، رغم قدسيتها.
وإنْ حصل ذلك، فقد تُعرَف بعض الشخصيات التاريخية على نحو أفضل حقاً. وحينها سيُنوَّر التاريخ. فالسرد الدوغمائي يترك هذين الجانبين في الظلمات الداكنة. ثمة العديد من المصطلحات اللاهوتية المشابهة تقوم بنفس الوظيفة التعتيمية بمعنى القداسة. ومصطلحا "الجنة" و"جهنم" أكثر لفتاً للأنظار بهذا المعنى. حيث تمتد جذورهما حتى الميثولوجيا السومرية. كما أن علاقتهما بتنامي المجتمع الطبقي واضحة للعيان. فبينما يذكّرنا نظام الطبقات العاملة في أغلب الأحوال بجهنم (جهنم كلفظ هي مكان يسمى "هينوم Hinom" في لبنان اليوم، ومعناها: المكان السيء والدنس، مثل وادي الجثث)، فإن مكان عيش الناهبين لفائض الإنتاج يأخذ شكل الجنة طردياً. على كل حال، وبدلاً من الإكثار من هذه الأمثلة، من المهم تنويرها عبر تحليلات علم الاجتماع.
لا يزال النقاش على الفرق بين الميثولوجيا والدين معلقاً على الرف في الأفكار الشرق أوسطية. بيد أن الميثولوجيا بذاتها لم تفسَّر بعد. ويُكتَفى بالقول بأنها مجرد أقاويل وسفسطائيات، لتُترَك جانباً؛ رغم أن هذا الطراز التفكيري احتل – ولا يزال – ذاكرة المجتمعات على مر آلاف السنين، وغدا الشكل الأساسي للتفكير على طولها. بل وأثَّر في كافة الأشكال الدينية والأدبية اللاحقة له، كسرد شعري للتعبير الرمزي عن الحياة المادية للمجتمعات. ما من دين أو أدب إلا واستنهل مصطلحاته من الميثولوجيا. أما ترْكُ الميثولوجيا جانباً وإهمالها باعتبارها بدعة أسطورية أو ملحمية، فلا يعني سوى حرمان الذات من أغنى مصادر الثقافة. لا يمكن القيام بتحليل سليم للدين والأدب والفن، ما لم تُولَ القيمة السامية الحقة للميثولوجيا كطراز تفكير خاص بمرحلة طفولة البشرية. نحن بحاجة لإنعاش الميثولوجيا، لا لدحضها وإنكارها.
متى، وبأية أشكال كانت الميثولوجيا المنبع العين للدين؟ هذا أيضاً موضوع جدل قائم بحد ذاته. فمثلما يقال: تتحول الميثولوجيا إلى دين، عندما تصبح حُكماً عقائدياً مطلقاً. انطلاقاً من ذلك، فالتدين منوط بالاعتراف بالميثولوجيا كحقيقة أكيدة. ويتضمن التدين قيمتَين في اتجاهَين: ففي المنطق يؤدي إلى مصطلح "الفكر المطلق"، ليتطور بذلك فكر القَوننة (التشريع)، ويلتحم التشريع الإلهي بقانون الطبيعة تصاعدياً. ومن الجانب الآخر، يعيق بروز فكرة الحركية الدياليكتيكية في الطبيعة والمجتمع، حتى قبل ولادتها. وهكذا يفتح الطريق أمام الفكر المثالي بجانبه هذا.
هكذا ينقطع الفكر عن الظواهر أَيَّما انقطاع، ليطرأ عليه بمفرده تطور لا ضابط له ولا قاعدة. يُبعِد الفكرُ المثالي الوالج في مجازفة باطنية لا تنضب، الذهنيةَ الاجتماعيةَ قَدراً آخر عن عالَم الحقائق. ويتحول تطور الفكر الديني إلى دوغمائيات صلبة في العديد من الميادين الأساسية، كالقانون والسياسة والاقتصاد والأخلاق والفن؛ ليكتسب بذلك ماهية تشريعية. إنه في الحقيقة يوفر السهولة الكبرى في الشؤون الإدارية للطبقة الدولتية المتصاعدة. فبإضفاء القيمة القانونية على كل حُكم في الدين، تكون مسألتا التشريع والمشروعية قد حُلّتا معاً. هذه التسهيلات الإدارية التي أمّنها الدين، هي الأساس وراء السمو به لهذه الدرجة في العصور الأولى والوسطى.
الدين أيديولوجية إدارية مصوغة بكل عناية. والطبقة الحاكمة متيقظة دائماً للميزة التجريدية للدين. في حين أن شرائح المجتمع السفلية كانت أُقنِعَت بأنه حقيقة واقعة. كل هذا الإيداع الخاص بالدين، وتمثيله بأماكن التعبد، والطقوس والشعائر؛ منوط عن كثب بوظيفة الدولة الإدارية. من هنا كان حظر النقاش عليه، كي لا يُعرَف وجهه الباطني. ففي حال النقاش عليه ستظهر نتيجتان: تصاعد المَلَكية، والتشريع الطبيعي. وكلاهما مهمتان للغاية. فحينها سيُعرَف كيف أُعلِي من شأن المَلِك الإله، وكذلك السلطان ظل الإله. وبالتالي سيكون الخلاص من مفهوم الإله المخيف للمجتمع والمعاقِب إياه. هذا وستُشرَع الأبواب أمام العلمية فيما يخص الجزء المتعلق بالطبيعة. وستُدرَك المفاهيم السائدة في عالَم الظواهر العلمية الممتدة حتى فيزياء كوسموس وكوانتوم. يكمن التفوق الأوروبي في قيام أوروبا بهذه التحليلات اللاهوتية المركَّزة للغاية، لدى خروجها من العصور الوسطى. لا شك في أنه لا يمكن ربط التطور الفكري بمفرده بالجدالات المتعلقة باللاهوت. لكن، لا يمكن لأبواب الفكر العصري أن تُفتَح، دون ذلك أيضاً. فلولا جدالاات المذهبَين الدومينيكي والفرنسيسكي الدائرة طيلة القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر؛ لما كان للنهضة – بطبيعة الحال – أن تتطور بسهولة.
أَغلَقت طبقة رجالات العلم أبوابها أمام النقاش في منطقة الشرق الأوسط في هذه القرون الثلاثة بالضبط، وفرضت الدوغمائية الصلبة على المجتمع، باتهامها تلك النقاشات بالخروج عن الدين. وقاد هذا التيار، الذي غذّته تقاليد السلطة بكثرة، إلى انتزاع الغرب للريادة من حضارة الشرق الأوسط، لأول مرة في التاريخ. إن القرن الخامس عشر هو قرن الانفكاك والانفصال الأكبر. يكمن الاختلاف في التوجه اللاهوتي وراء هذا التمايز والانفصال، الذي سيتعمق تدريجياً بين الشرق والغرب. في الحقيقة، لقد قطع الفكر الفلسفي أشواطاً ملحوظة في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر في منطقة الشرق الأوسط. في حين أن الغرب اقتصر حينذاك على ترجمة المأثورات ونقلها. كان التفوق الفكري وقتئذ في الشرق الأوسط بكل تأكيد. فمذهب المعتزلة اتخذ من العقلانية والمنطق أساساً في صراعه ضد الدوغمائية. فـ"ابن الرشد" هو أعظم فلاسفة القرن الثاني عشر. كذلك أمثال "منصور الحلاج" و"السحر وردي" البارزين في فلسفة التصوف الإسلامي، كانوا دافعوا عن أفكارهم، ودفعوا حياتهم ثمناً لها. لكن الضغوطات القمعية المتزايدة في نهايات القرن الثاني عشر، ستحدد اللون والطابع الذي سيطغى على الشرق الأوسط حتى يومنا الحالي.
لا يمكن الاستخفاف بنصيب الدوغمائية الدينية في هزل الأدب ووهنه. فبينما كان بمقدور الأدب إحراز أشواط عظمى من التطور ارتباطاً بالمصدر الميثولوجي؛ قام الحظر ذاته بتجفيف هذا الميدان أيضاً. إن "الحرام" والحظر حرّم الإنسانية من أغنى مواردها. أما أوروبا، فقد بدأت بإبراز أولى كلاسيكياتها في هذه الأعوام. وأُسقِطَت الآداب إلى مستوى ابتكار القصائد وتنظيمها بشأن السلاطين وسرد حكاياتهم وإغداقهم بالمديح والثناء المطول. الجانب المؤسف والمؤلم في الأمر، هو أن الغربيين وضعوا أياديهم في راهننا على مسألة تحويل الواقع الديني والميثولوجي للشرق الأوسط إلى آداب، واستحوذوا عليها. فحتى مسألة كيفية القيام بالآداب وتكوينها، هي مشكلة حقيقية بحد ذاتها.
لا تزال الثورة والانفتاحات الذهنية، التي شهدتها أوروبا عبر النهضة والإصلاح والتنوير، بعيدة كل البعد حتى عن مجال الطرح والنقاش في المجتمع الشرق أوسطي. فالاقتباسات المتمفصلة لا تعني النهضة والإصلاح والتنوير. بل ويمكن الحديث فيها عن انتقالٍ في الاتجاه المعاكس أيضاً. فالإسلام الراديكالي لا يعبر أصلاً عن التحديث، بل عن إنعاش التزمّت والتصلب. ومصطلح "الإسلام السياسي" لا معنى له سوى كونه استخدام ديني تقليدي للسلطة. من غير الوارد أن تسلك منطقة الشرق الأوسط درب التطور الذهني بالوثوب على مراحل الذهنية التي شهدها الغرب. فالتشبث الدين، بل وحتى بالعلمية المحضة، أو التوجهات الفلسفية الإيجابية؛ لا يمكنها بمفردها تأمين التحول الذهني. للاتجاهات المذهبية "الاشتراكية المشيدة"، وغير المعتمدة على مراحل الفكر الغربي؛ تأثير مصيري في أساس التخلف القائم في روسيا والصين حالياً.
الثورة الذهنية شرط أولي من أجل تخطي مؤسسات المجتمع المتحولة إلى عقد كأداء، وإعادة بنائها من جديد. لا تقتصر الثورة الذهنية على هضم الفكر الغربي واقتباسه وحسب. فحتى التطورات المحدودة في هذا الميدان لا تذهب أبعد من كونها رقع مهترئة، بسبب نوعيتها المتمفصلة. فحفظ الفكر الغربي عن ظهر قلب، لا ينمّ عن الإبداع. بل يقود إلى العقم والسقم، مثلما يعيق ظهور الثورات الفكرية المحتملة. ورغم كثرة أعداد الاستظهاريين الحفظيين في الأوساط الموجودة، إلا إنه لا يوجد عالِم اجتماع حقيقي. حيث أن الموجودين منهم ليسوا في الحقيقة سوى طَلَبَة دين معاصرين متزمتين إلى آخر درجة. ذلك أنه ثمة تصوف دارج ومتفشٍ على نحو أكثر رجعية حتى من صوفيي العصور الكلاسيكية. ولو بحثنا عن الفلاسفة والعلماء والمثقفين المتنورين الحقيقيين بالمجهر والمصباح، لما وجدناهم. ولا يؤمن أحد بوجود ضرورة كهذه. وقد اقتُبِسَت لوازم الغرب الأيديولوجية بأسوأ الأشكال. فسواء كانت النزعة القوموية، أو الليبرالية والاشتراكية من الصياغات الأيديولوجية المعاصرة؛ فهي لا تذهب في أدوارها أبعد من نطاق الرجعية والتخلف في ذهنية المتنورين الشرق أوسطيين. الكل يدرك انطلاقاً من الممارسات والتطبيقات الجارية، استحالة إيضاح الواقع الشرق أوسطي عبر مثل تلك القوالب الشعاراتية. بل وتعرُّضه أكثر للدنس والتلوث من خلالها.
يجب على الثورة الذهنية أن تملأ فحواها بواقعها الذاتي الخاص بها، إلى جانب استخدامها الصياغات والأشكال الغربية. فبدون تخطي أرضية المعاني التي ترتكز إليها كافة البنى الاجتماعية التاريخية الأولية، عبر قصف ذهني – إن صح التعبير – لا يمكن تكوين قوة المعاني التي ستشكل دعامة البنى الجديدة. أما البنى الخاوية من المعاني، فلا مكانة اجتماعية لها ولا قيمة. هذا ومن الصعب تنوير المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بالسياسة، ما لم تُحلَّل الحقيقة والواقع الاجتماعي الذاتي بالأفكار الخاصة به، وما لم تنوَّر الظواهر الوطنية والقومية والإثنية والدينية عبر تلك الأفكار. تطلبت المستجداتُ المعنية بالتيارات البارزة في الفكر الغربي – من قبيل الدين، القومية، والعرقية – بذلَ الجهود المضنية. وأصبح بالإمكان سيادة براديغما الحياة الجديدة، عبر إيجابية مثل تلك الجهود الدؤوبة.
أما المتنور (والسياسي) الشرق أوسطي، فيسلك مواقف، وكأنه سيبلغ هذه المرحلة عبر الاقتباسات الاستظهارية الحفظية والتكنيكية؛ دون أن يرى داعياً لبذل جهود عظمى توازي تلك المبذولة في الغرب، ولكن حسب واقعه المرئي. ومحصلة ذلك كانت عدم القدرة على إبداء الجرأة في إحداث الثورة الذهنية الذاتية، بل التخبط في التبعية الذهنية والعقم والوهن إزاء الرأسمالية العالمية. لا يمكن تجاوز فوضى الشرق الأوسط لصالح الشعوب، ما لم تعش المنطقة مراحلها الخاصة بها من النهضة والإصلاح والتنوير. وإن لم يحصل ذلك، فلن تنجو المنطقة آنئذ من استبدادية آلاف السنين المموَّهة والمصقولة بمكياجات الغرب خلال القرنين الأخيرين.
2 –الهرمية وتمأسس الدولة هما الظاهرتان الاجتماعيتان الأصعب تحليلاً. كذلك فالقدرة على الغوص في ثقافة الشرق الأوسط، منوطة بتحليل لغة ثقافته السياسية. فالحِبكة والخصال المنسوجة في العلاقات الكائنة بين التمايز الطبقي والميول الدينية والسلالاتية، والعائلة والعشيرة، والمتزامنة مع تصاعد الهرمية والدولة؛ تكاد تُخرِج النظام الاجتماعي القائم خارج دائرة الزمان والمكان. كما تُزيد الألفاظ الميثولوجية والدينية والطبقية والإثنية، من ضبابية الماهية الحقيقية للظواهر.
تعيش المنطقة، التي شكلت المركز النواة للطور النيوليتي للمجتمع المشاعي البدائي، ثقافة تلك المرحلة كذاكرة اجتماعية هي الأعمق على الإطلاق. ولا تزال البنية النيوليتية متفشية فيها على الصعيد المادي أيضاً. ولم تكن القروية – حتى الماضي القريب – مختلفة كثيراً عن المراكز النيوليتية. هذا ويعد نظاما المجتمعين العبودي والإقطاعي أيضاً قيمتَين ثقافيتين جذريتين في المنطقة. لذا، فالثقافة الغربية المضافة إلى هذا المجمّع الثقافي، لا تعني أكثر من كونها قناعاً صاقلاً إياه. بالتالي، فالنظر إلى هذا القناع الصقيل، والانطلاق منه في التحليلات الاجتماعية، يعد مغالطة كبرى.
تكاد لم تبقَ أي ثغرة أو مسام، إلا وتسربت إليها الهرمية التي تُعرَف أيضاً باسم نظام السلطة الأبوية. ولربما قامت تقاليد هذا النظام على إدارة شؤون المجتمع قبل مؤسسة الدولة بآلاف من السنين. وربما تكون قوة نظام السلطة الأبوية مطوِّقة للشرق الأوسط وخانقة إياه بدرجة لا مثيل لها في أي بقعة من العالم. حيث لا تزال هذه القوة بارزة للعيان، وبنسبة لا يستهان بها، في تأثيرها على مفاهيم شخصية المرأة والرجل، والثقافة الإثنية، والعائلة والشرف؛ التي تُعتَبَر قِيَماً لا تزال حية تنبض في المنطقة. أما المدن التي كان يجب أن تطوِّر الثقافة المضادة لها، فهي مشحونة بالآثار العميقة للثقافة الريفية، وبالتالي لقوة نظام السلطة الأبوية؛ بحيث تبقى كأشباه جزر ضئيلة تسبح في المحيط الريفي.
علاوة على أن الدولة تنامت على الأرضية الثقافية لذاك النظام على مر آلاف السنين. حيث لعبت المجموعات الأبوية السلطوية الوطيدة دورها في تأسسها بشكل أساسي، أكثر مما لعبته العناصر الطبقية فيه. والعنصر الأبرز داخل تلك المجموعات هو الحكيم المسن. ولربما كان هذا الحكيم أقدم سلطة عرفتها القبيلة، باعتباره المسن الخبير ذو التجارب الوفيرة. هذا ومن المحتمل أيضاً أنه، ومن بعد الأم الحكيمة التي لعبت دورها في الثورة الزراعية، تَطَوَّر الحكيمُ العجوز الخبير خطوة خطوة، لتتعزز مكانته الاجتماعية تدريجياً على شكل شامان – شيخ – نبي. ولدى تطور التمايز الطبقي في المجتمع وتوجهه من مؤسسة السلطة الأبوية نحو الدولة؛ يبلغ الحكيم وحلفاؤه منزلة السلالة، ومنها يصل إلى المَلَكية.
هذا ومن الوارد أيضاً أن يكون الراهب انبثق من الشامان، وتشكلت الكتائب العسكرية من الشبان الماهرين في إصابة الهدف، بالارتقاء إلى منزلة أعلى. وبينما يعمل الراهب على تطوير التصورات الأيديولوجية الجديدة، تتجه الكتائب العسكرية نحو التجيش تدريجياً. ومثل هذا النمط من التدوّل أكثر واقعية على أرضية المنطقة. ما من معطيات تشير إلى وجود جيش العبيد مسبقاً. فالاستعباد لم يتطور إلا بعد تعزز مؤسسة الدولة. حيث نشاهد القوة البارزة للرهبان والقبائل قبل مدة طويلة، من خلال المثالين السومري والمصري. لكن الاستعباد لم يحصل بسهولة. بل جرى في خضم صراعات عتيدة وضارية متشابكة.
لربما كان موضوع تعويد المجتمع على العبودية من أكثر الفترات التي تستلزم تحليلها واقتفاء أثرها في ثقافة الشرق الأوسط. تتأتى الأهمية الكبرى للميثولوجيا، كأيديولوجية خاصة بالرهبان السومريين والمصريين، من دورها في ظاهرة التدول. فمثلما أسفر الصراع الذي خاضته الرأسمالية في سبيل بعض الأيديولوجيات – كالقوموية والليبرالية – عن ظهور شكل الدولة الرأسمالية؛ فقوة الألفاظ الميثولوجية أيضاً نمّت عن ظهور شكل العبودية في العصور الأولى. ولولا قوة مشروعية الألفاظ الميثولوجية في تأثيرها على المجتمع، لما كانت تأسست – على ما يُعتَقَد – سلالات الملوك الآلهة المذهلة. وحتى لو كانت تأسست، لما تجذرت ودامت بهذه الدرجة البارزة.
تُعبِّر أقوال فرعون ونمرود عن أقوال الملوك الآلهة في ثقافة الشرق الأوسط، بكل ما للكلمة من معنى. ومصطلح المَلك الإله هو من مبتكرات منطقة الشرق الأوسط. وهو أبعد من كونه مجرد شخص، بل إنه يمثل ثقافة ومؤسسة. ومكانة كافة أعضاء المجتمع تجاه شخصية المَلك الإله، أشبه بمثال النمل الحمّال. لقد بولِغ في الفرق الكامن بين المَلك الإله من جهة، والمجتمع "الآخر" من جهة ثانية. وقُلِبَت موازينه بدرجة برز فيها نَسَبان في نهاية المطاف: الملوك الآلهة الخالدون، والناس الفانون. أََولى المكرُ الميثولوجي (أو الكفاءة الميثولوجية) عنايةً فائقة لعدم اعتبار الشريحة المتدولة من نسل "الإنسان العادي". والديمومة التي تطلبتها الدولة (كمؤسسة) من أجل حياة الحكام، هي التي لعبت الدور البارز – حسب اعتقادي – في تشكل صفة "الخالدون" تلك. فالأواصر الكائنة بين مصطلح "الخلود" في فكرة الإله، وبين الديمومة والسيرورة في مؤسسة الدولة، جلية جلاء النهار. حيث كان يُعتَقَد بوجود الموت لأجل الآلهة أيضاً قبل ظهور التدول. وكانت ثمة أيام خاصة من العام، يموت فيها الإله ويحيا، لدى آلهة الحقبة النيوليتية والتعابير الرامزة إليها. وكانت تُقام مراسيم الحداد أو الاحتفاء المنتشرة آنذاك عبر الطقوس والشعائر الدينية. لكن، ومع اكتساب مؤسسة الدولة صفة الديمومة (الأشخاص مؤقتون، ولكن الدولة دائمة)، أصبح الملوك أيضاً خالدين أبديين.
هنا يبرز الدور المهم الامتيازات التي حظيت بها أنساب الملوك الآلهة وسلالاتهم. فخلودهم وعدم تصنيفهم ضمن الناس العاديين، يزوِّدهم بعظمة خارقة وتمايز واضح. ولدى تأليه طبقة الدولتيين (أصحاب الدولة) على هذا النحو، وتحويلها إلى نَسَب خالد؛ لم يبتقَّ أمام الناس "الآخرين" (كافة أناس المجتمع الآخر) سوى تعبدها.
يختلف هذا التعبد أشد اختلاف عن أشكال التبعية اللاحقة في العبودية الإغريقية والرومانية، تماماً كالفرق بين التبعية للسيد والتبعية للإله. حيث هناك تكامل وطيد للعبادة والعقيدة في التبعية الإلهية. وقد رُتِّبَت التبعية للدولة كمَلِك إله في تقاليد الرهبان، بدهاء حاذق ومكر خارق، لدرجة أن جيش العبيد والرقيق قد تَنَمَّل (تحول إلى نمل) ليغدو خادماً قزماً وحمّالاً للعبء.
يُشار في الميثولوجيا السومرية إلى أن الإنسان خُلِق من براز الآلهة، أو – في مرحلة متقدمة – من التراب (الطين). وزادت دقة خلق الآلهة للإنسان بأكثر الأساليب دناءة وخفية، لتستمر حتى يومنا هذا. فالمرأة هنا منسية لدرجةٍ لا يمكن أن تُخلَق من الإله. بل إنها مخلوقة من ضلع الرجل، وهذا هو نصيبها.
إن هذه السرود مهمة من حيث الإشادة بالنظام الأيديولوجي العظيم الذي ساد أثناء بداية نشوء شريحة الدولة. فتقسيم الناس معمول به لدرجة لا تقتصر فيه الأغلبية الساحقة من المجتمع على المصادقة على ألوهية شريحة الدولة على مر الأجيال، بل وتعبدها أيضاً. وترى في العمل من أجلها أمراً إلهياً مقدساً. هكذا يتوطد العمق الأيديولوجي في هذا الخصوص. وما جرى هنا في الحقيقة، ليس سوى تحويل خاصية مؤسساتية معتمدة على الاستبداد والكذب والرياء، إلى ميتافيزيقيا أو إلى فَتَشية تجريدية تستحق العبادة والقيام بكل شيء من أجلها.
وفيما بعد، تنتشر هذه السمات الأساسية للانطلاقة الحضارية ذات المصدر الشرق أوسطي، في كافة أرجاء العالم على موجات متتالية، عبر قمعها للخصائص النيوليتية القيِّمة والشديدة الغنى في ثقافة المنطقة على وجه الخصوص، وخلقها للميثولوجيا التي شكلت الأرضية الخصبة لأشد الأفكار والعقائد رجعية وتخلفاً. وانطلقت من ذات القنوات لتنتشر في أغلب المجتمعات المتقدمة، وعلى رأسها المجتمع الشرق أوسطي. إنه لَتَأثيرٌ شديد الرسوخ لدرجة إنها استمرت حتى لدى هيغل، الممثل الأعظم والأخير للفلسفة المثالية، والذي قال "الدولة إله مجسَّم" (أي مرئي). لا تزال الألفاظ الحالية بشأن أبدية الدولة وسموها وقدسيتها تستمد مصدرها من هذا النظام التعبدي العتيق.
ثمة تغير ملحوظ ومهم حاصل أثناء العبور من أيديولوجية الدولة ذات الجذور الميثولوجية، إلى مصطلح الدولة المعتمدة على أيديولوجية الدين التوحيدي. حيث يتجسد التناقض الرئيسي ذو النوعية الرمزية بين المسيحية والإمبراطورية الرومانية، في استحالة أن يكون الإمبراطور إلهاً، وفي القبول والاعتراف بسيدنا عيسى المسيح بأنه ابن الإله. وهذه المقولة دارجة في كافة الأديان التوحيدية. يكمن سبب وجود تقاليد النبوة، في رفض وجود الملوك الآلهة، والاعتراف بالأنبياء كرُسُل الإله. إنه انقطاع جذري عن أيديولوجية المَلك الإله.
إذا ما وضعنا نصب العين الرأي الإلهي العالمي السائد في الذهنية الاجتماعية للعصور الأولى والوسطى، سنجد أن ثورة عقلية اجتماعية قد تحققت. يتمثل التعبير الملموس لهذه الظاهرة في الهرب من قوة (وبالتالي من دولة) الفرعون ونمرود. نشاهد الاتجاه ذاته في الممارسة العملية للنبوة، وفي مقدمتها لدى سيدنا إبراهيم، موسى، عيسى، وسيدنا محمد. يجب النظر إلى هذه العمليات، التي يبرز فيها الجانب السياسي بقدر جانبها الاجتماعي، كثورات حقيقية تحققت في تلك الأزمان. أما شعارها الأيديولوجي الأولي، فمفاده: "البشر ليسوا آلهة، ولا يمكن أن يكونوا إلا رُسُل الإله". إذا ما أسقطناه على نحو مرئي أكثر، فإنهم بذلك يفرضون تمرين وتطويع المَلك الإله، وتحقيق وفاقه مع شريحة من مجتمعه بأقل تقدير. أي، تُوضَع الحدود للتصرفات اللامحدودة للمستبد، الذي يدّعي بأنه المَلك الإله الذي يفعل ما يحلو له.
والمستبد الذي ينادي بإصرار "أنا المَلك الإله"، دعك من قيامه بالوفاق، لا يرغب ولا يطيق حتى سماع أصوات عبيده وعبّاده. وقصة سيدنا أيوب غريبة حقاً ومفعمة بالدروس إلى أقصاها في هذا المضمار. إذا ما قمنا بتفسير عميق لبند سيدنا أيوب في الكتاب المقدس، سيكون فحواه على الشكل التالي: كما هو معلوم، يفقد سيدنا أيوب كل شيء لديه، ويئن وجعاً في زاوية مظلمة (أو في غياهب السجون)، بعد أن عشعش الدود في جسده فاحتقن. والمَلك الإله هنا (أي نمرود الموجود في أورفا)، لا يولي أي معنى لتألُّم وتوجُّع عبيده. فالعبد بالنسبة للملوك الآلهة، هو ذاك الأخرس الأبكم الذي لا يتألم، والمكلَّف بخدمتهم. بل حتى أن التألم ذنب وجريمة. تتمثل العملية الكبرى لسيدنا أيوب في هذه الحالة في فرضه على المَلك الإله (أي الدولة) القبول بأنه يتألم. أي أنها المرة الأولى التي "يفهم" فيها المَلك الإله أن العبد يتألم. هذا "الفهم" هو ثورة بحد ذاتها. ما يُرمَز إليه في شخص أيوب هنا، هو تألم الشعب وفاقته وعَوَزه.
لقد عُثِر على ما يقارب الآلاف من جثث الموتى في بعض قبور الملوك الآلهة السومريين والمصريين. وأغلبهم كانوا نساء. نخلص هنا إلى أن كل حاشية المَلك تُدفَن معه لدى وفاته. فالحاشية لا تملك روحاً أخرى غير روح المَلك، حسب مفهوم المَلكية في تلك الأوقات. وكيفما أن الذراعَين والساقَين تموتان بوفاة المَلك، فالحاشية أيضاً تُعتَبَر ذراعه أو ساقه الميتة. بشكل عام، يُعتَبَر المَلك ورعاياه في الأنظمة المطلقة والتوتاليتارية المشابهة كياناً وجسداً واحداً متراصاً كما اللحم والظفر (أو بالأحرى كشَعر البدن). إذ لا حياة أخرى خاصة بالرعايا. إنها "القاعدة الذهبية" التي تأمل كل الدول من رعاياها الامتثال لها، وإنْ بشكل أكثر مرونة ولطفاً. أي أن مفهوم "المَلك الإله – العبد" قد وصل يومنا هذا، دون أن يفقد من مضمونه أو يعدّله، سوى بشكل محدود في الحضارة الغربية.
لقد غدت ثورة أيوب تعبِّر عن الفترة التي بات فيها الناس يعربون عن أوجاعهم، ليباشروا بتمرد من أوهن أشكاله. من هنا تنبع قدسية تلك الثورة التي يجب ألا نستخف بها أبداً. فلربما كانت الثورة الأولى في التاريخ، والتي أعرب فيها الناس عن اعتراضاتهم إزاء الدولة. ورغم عدم إلمامنا الكامل بمدى مرونة الدولة تجاه ذلك آنذاك، إلا أن قوة النبوة المتعاظمة كالسيل الجارف، تؤسِّس في أعوام 1000ق.م أولى دولها الشهيرة بزعامة سيدنا داوود وسيدنا سليمان. إن تأسيس داوود للدولة غريب الأطوار حقاً. تكمن الغرابة في أن داوود لعب دوراً يماثل ما يؤديه الفلسطينيون اليوم، لدى تأسيسه دولته. حيث أسس إمارته في خضم صراعه تجاه الإمارات المحلية القائمة وقتذاك. هكذا انفصل الإله عن المَلك في مرحلة شديدة الشبه براهننا. وغدا كل منهما كيانَين مختلفَين. ورغم مناداة المَلك ونعته بِظِل الإله، إلا أن الإله في الحقيقة أضحى تعبيراً اصطلاحياً وعنصراً تجريدياً للمَلكية.
من المهم استيعاب مسألة "ظل الله" في الأديان التوحيدية. فالتغير الحاصل في قوة الدولة مهم هنا. لكن، يجب الانتباه جيداً إلى أن المضمون لم يتغير. فالمَلكية المُعلاة إلى السماء، تستطيع إنزال أوامرها الخطيرة من هناك أيضاً. بل وتستطيع دفع العبيد للقيام بما تشاء بمكر ودهاء أكبر وأدق، باعتبارها عنصر لا يُرى، عنصر مخفي تماماً عن أبصار العبيد. بل وبإمكانها الغرق في اللامبالاة والبلادة أكثر فأكثر، عبر "ظلها" السلطان، الذي يقول على الدوام "نحن مسؤولون فقط أمام الإله". النقطة الواجب الالتفات إليها هي زيادة متانة الأواصر بين إعلاء الإله ورفعه إلى السماء، وبين تمأسس الدولة التجريدي. فكلما تحولت الدولة إلى كيان مؤسساتي تجريدي (مستقل عن الأشخاص)، كلما اكتسب مفهوم الإله أيضاً الصفة التجريدية، باعتباره انعكاس أيديولوجي لها.
يكاد هذا المفهوم، الذي يتحول إلى تقاليد وأعراف راسخة مع سيدنا إبراهيم وموسى، يغدو الفرضية النظرية الأساسية السائدة في القرآن مع سيدنا محمد. تتجسد المساهمة العظمى لسيدنا محمد هنا في تسليح الإله بتسع وتسعين صفة ليضفي عليه صفة الكمال. فهو الواحد الأحد، الذي لا يُرى ولكنه يرى ما في القلوب، ما من مكان إلا ويبلغه، هو الرحمن الرحيم، وهو المعاقِب المحاسِب، لا شريك له، …الخ. ما ينتصب أمامنا هنا أيضاً، هو مدى تغلغل التجريدية لمؤسسة الدولة. فكلما تصاعدت المؤسساتية، كلما تطلبت معها ألوهية مجردة توازيها وتحاكيها. ورغم أن الأنبياء السابقين لسيدنا عيسى وسيدنا محمد، كانوا أبدوا معارضتهم وسيَّروها ضمن شروط المجتمع العبودي بالأغلب، ورغم أنهم أسسوا أنظمتهم السياسية (التي هي ضرب من إدارة القبيلة أو الدويلات القصيرة العمر) بشكل محدود للغاية؛ إلا أن النبيَّين الأخيرَين قد جهّزا الأرضية المناسبة لانطلاقة الدولة الإقطاعية. أو بشكل أصح، ورغم عدم تواؤم صراعاتهم العظيمة مع أهدافهم بشكل تام، إلا إنها ترسخت في أرضية مؤسسة الدولة الإقطاعية كوفاق ذي أبعاد أوسع. تتزامن الأديان التوحيدية مع واقع الطبقة الوسطى الآخذة في النمو والاتساع. وبينما تتزامن أديان المَلكية الإلهية مع فترات نشوء الدولة الأبوية والعبودية المهيمنة، فإن الألوهية الشخصية والمتعددة تتزامن مع الشروط النيوليتية البارزة على شكل قبائل، ومع شروط تواجد الطبقات السفلى أيضاً.
بمقدورنا استيعاب العلاقة الكامنة بين الإلهيات (اللاهوت) من جهة، وبين المجتمع والسياسة من جهة أخرى، بشرط ألا ننسى إطلاقاً أن القدسية هي التعبير الجماعي المجرد للهوية والإرادة الاجتماعية المتطورة. وبينما تشمل دولة الشرق الأوسط الطبقةَ الوسطى أيضاً في العصور الوسطى، فإننا مقابل ذلك لا نجد أي تغيير حقيقي في سماتها الاستبدادية. فالعنوان الجديد للمَلك هو السلطنة. أي تمثيل السلطة بالشخص. وما من إرادة يمتثل إليها السلطان، سوى إرادة الإله. وطبقة رجالات العلم القائمة على تفسير أوامر الإله، ليست سوى فئة أو نوع من أنواع الجيوش العثمانية القديمة. وهي لا تمثل سوى إرادة السلطان. كما بسط المجتمع الفوقي للدولة نفوذَه بشكل ساحق على المجتمع، مفهوماً وأخلاقاً. وبسطت الدولة المتوطدة في المدينة نفوذها في الضواحي الريفية أيضاً. لقد شهدت دولة العصور الوسطى أوج ازدهارها وانتعاشها مع الإسلام والمسيحية على السواء.
أما في الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، اللتين تُعتبَران الشكل المتردي الأخير لعبودية العصور الوسطى، فقد لوحظ حدوث مرحلة عبور نحو الإقطاعية في القرنين الميلاديين السادس والسابع. ولربما تصدَّرتا قائمة الدول الإسلامية القائمة بانطلاقة راديكالية قاسية نحو الإقطاعية. يمكن اعتبارهما صفحة جديدة في الثقافة الشرق أوسطية. أما الدول العربية الإسلامية التي شهدت أوجها في عهد الأمويين والعباسيين والسلاجقة الأتراك؛ فقد خارت قواها بنسبة ملحوظة مع تعرضها للغزو المغولي من الشرق، والصليبي من الغرب. ودخلت مرحلة السبات والجمود مع تبعثر السلالة الأيوبية في أعوام 1250.
إن النظر إلى العثمانيين كدولة نصف بيزنطية – نصف إسلامية، هو أكثر واقعية. حيث التحمت الخصائص الإقطاعية للدولتين لدى العثمانيين. وبذلت هاتان الدولتان المطبِّقتان لأعتى أشكال الاستبدادية، جهوداً حثيثة للحد من انهيار المجتمع الإقطاعي. في حين أن العثمانيين، الذين كانوا يشكلون قوة طرية حديثة العهد، أكملوا تلك الجهود والمساعي عبر الوفاقات والتحالفات الواسعة، فكانوا آخر دولة إقطاعية أطالت عمرها لهذا الحد الملحوظ في الشرق الأوسط.
كانت الدولة الإقطاعية التي نشهد مرورها بمراحل شبيهة في كل من الصين والهند وأوروبا، لا تعرف الديمقراطية. فالشعار الذي هتفت به الشعوب في تلك الأزمان كان مفاده: "أكبر سعادة في هذه الدنيا هي العيش بعيداً عن الدولة". لقد استمر الاغتراب بين الدولة والمجتمع، رغم كل مساعي الدين التوفيقية. واستمرت الإثنيات والمذاهب المنشقة (غير الرسمية) في الحفاظ على سلوكياتها ومواقفها المشاعية والديمقراطية، بإيواء نفسها في نهاية المطاف في الجبال والبراري وأديرة الراهبات والدراويش، وصون وجودها فيها مقابل مشقات عصيبة وقاسية. لقد بات التمرد على الدولة خاصاً بهذه المجتمعات، لتتحول المقاومة والتصدي إلى طراز حياتها.
غرضنا من تعريف الدولة في الحضارة الشرق أوسطية هو إلقاء الضوء على يومنا الحاضر. ومقابل نشوء الدولة وتكونها في الحضارة الغربية بالارتباط بمنطقة الشرق الأوسط من حيث الجذور، إلا إنها فصلت نفسها عنها وتمايزت مع الزمن. انتقل هذا التمايز المبتدئ مع الدولة في عهد أثينا وإسبارطة، إلى روما أيضاً عبر الهيلينية. واستمر معتقد المَلك الإله فيها مع افتقاده قواه وتأثيره بنسبة ملحوظة، ليكتمل التمايز والانفكاك مع قبول قسطنطين الديانةَ المسيحية واعترافه بها. إن معتقد "دولة الإله" المعمِّر ألف سنة، ليس إلا امتداداً لكلمة "يوم الحشر" القديمة في منطقة الشرق الأوسط. لكنها أكثر دنيوية قياساً بشكلها الشرق أوسطي، حيث لم يتحقق توطد قدسية الدولة تماماً. فعندما انهارت الإمبراطورية الرومانية تحت الضربات القاضية للأقوام البدوية، فقدت حُرمتها ومكانتها أيضاً. كذلك لعبت الأنساب الجرمانية أدواراً مهمة في كشف النقاب عن الوجه الدنيوي للدولة، باعتبار أن هذه الأنساب لم تشهد الدولة كثيراً. ورغم مساعيهم في إحياء وإنعاش الدولة، التي ورثوها عن الإمبراطورية الرومانية، تحت اسم الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة؛ إلا أن الدويلات المدينية والمَلَكيات المونارشية قد جُرِّدت من حصانتها الإلهية جيداً. وبرزت الكيانات السياسية الديمقراطية والوطنية للشعوب والأوطان إلى الميدان، لدى الشروع في إدراك ماهية الدولة. وقطعت الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية أشواطاً بارزة في سيادة النوعية العلمانية على الدولة. كما أدى وضع الحدود والضوابط عبر الدساتير إلى دفن الدولة الاستبدادية بين طيات التاريخ.
أما في منطقة الشرق الأوسط، وكما أن مثل هذه التغيرات لم تحصل في تقاليد الدولة، فقد ولجت مرحلة أكثر تزمتاً وتخلفاً. وما قامت به الدولتان العثمانية والإيرانية، لم يكن سوى إدامة وجودهما مدة أطول عبر الآليات الدفاعية الأخيرة التي بحوزتهما، تجاه الدول الغربية المتصاعدة. وبينما كانت الدولة الشرق أوسطية تتشتت وتتبعثر، لم تكن استعمارية الدولة الغربية قد ترسخت بعد. يُعبِّر القرنان التاسع عشر والعشرون عن مرحلة الأزمة بالنسبة للشرق الأوسط. حيث برزت خلالهما كيانات سياسية يمكن وصفها بشبه الاستعمار الحديث، حيث اتصفت ببعض الجوانب التي تميزها عن غيرها من الساحات في العالم. والتعريف التاريخي الوجيز كافٍ لتسليط الضوء على هذه الفروقات.
نخص بالذكر هنا المقاومة القصوى للعلاقة الكامنة بين الدولة والمجتمع، إزاء التغيير والتجديد، والتي لم تسمح بظهور انطلاقات قصيرة المدى للنفاذ من الأزمة. من جانب آخر، فلا الشروط المساعدة على الهضم السريع لأشكال الدولة الرأسمالية موجودة، ولا إمكانية التفكيك السريع لتقاليد المنطقة موجودة. فالتقاليد الاجتماعية لا تحتوي الديناميكيات الخلاقة المتجاوبة مع كلا التطورين المحتملين. أو بالأحرى، تسمَّرت قوة التقاليد والأعراف في الأرضية الاجتماعية منذ العهد النيوليتي، لدرجة لا يمكنها أن تصحو أو تلملم أشلاءها بهذه السهولة. أما مساعي الشريحة العليا، والتي لم تتخطَّ إطار التواطؤ، فهي بعيدة كل البعد عن جعل تلك المساعي مُلكاً للمجتمع، وعن القدرة على حلها. هذا ولا يمكن تطبيق الشكل الأمريكي، ولا الشكل الياباني الباسيفيكي على هذه الأرضية، بغرض ولوج درب التطور والتقدم على الطراز الغربي.
ليست القوالب الإسلامية فقط هي العائق هنا. بل إن القيم الحضارية برمتها تقاوم وتتحدى. حيث ثمة تعقيد وتشابك كثيف فيها، بدءاً من قيم المجتمع النيوليتي وحتى القيم العبودية السومرية والمصرية، ومن القيم الإسلامية إلى القيم الإثنية الوافرة الغنى. لا تقبل الحضارة الشرق أوسطية اللقاح الغريب بسهولة من أجل التحول. وهي بذلك أشبه بالشجرة العجوز التي لا تحتمل التطعيم. ولأجل التجديد، إما أن تقوم بقلب الشجرة القديمة واقتلاعها من جذورها، أو أن تعثر على نوع جديد من اللقاح. لكن الخيارين غير ممكنين. لقد حاولَت الجونتا التركية وتركيا الكمالية تجريب التلقيح الأول في أعوام 1900. لكنه كان مثل لقاح الاشتراكية المشيدة الفاشل. إذ لم يفلح اللقاح الغربي المُنَقَّع جيداً بماء النعرات القوموية في إعطاء النتيجة، رغم مرور ثمانين عاماً عليه. أما الشاهنشاهية (المَلَكية) الإيرانية والأفغانية، فلم تنجُ من الانهيار السريع عندما برزت بسيماء الحداثة. في حين أن القوموية العربية تحتضر. والحالة التي شهدتها في العراق تبرهن على مدى الصعوبة الملاقاة، حتى في رفع جثتها. تشهد النزعة القوموية الصهيونية الإسرائيلية أيضاً حالة مشابهة. حيث حوَّلت المشكلة الإسرائيلية – الفلسطينية إلى وحشية بكل معنى الكلمة. أما التشبث بالإسلام الراديكالي والحديث، فلا معنى له سوى كونه تهيُّجات وميول انتحارية ناجمة عن الخيبة واليأس تجاه الحملة العالمية الكبرى للرأسمالية. ومن المحال أن تسفر عن إبراز قوة أو حلول أخرى مغايرة.
إن سرداً تاريخياً مختصراً للمصطلحات الأساسية يكفي للإشارة إلى أن ظاهرة الدولة تتخفى في أساس كافة المشاكل القائمة في الشرق الأوسط. لقد خاضت الحضارة الغربية صراعات مريرة في سبيل فك لغز الدولة ذات الأصول الشرق أوسطية. وقد أسدلت النهضة بجانب من جوانبها الستار الأيديولوجي عن الدولة. ومزقت الدروع الميثولوجية الدينية عبر الثورة الذهنية؛ فحققت بالتالي إمكانية تعرية الحقيقة وإبرازها للعيان. أما الإصلاح، فقد حطم حصانة وتكامل أيديولوجية الدولة الإلهية ذاتها وبيروقراطيتها، التي كانت الكنيسة تحميها وتدافع عنها. وأزال من الوجود سلطنة الخوف المسلَّطة على المجتمع، فمهَّد السبيل بذلك ليعبر كل واحد عن معتقداته بحرية. أما في منطقة الشرق الأوسط، فخلاقاً لذلك، تم تهميش المعتزلة وأصحاب المفاهيم المشابهة، والقضاء عليهم.
ساعد انهيار السلطنة الدينية في الغرب على تسريع ظهور حرية الفكر والعقيدة. ووسَّعت مرحلة التنوير آفاقَ التطورات، ونقلتها بين صفوف الجماهير. وبينما عملت الاتجاهات الثلاثة على تحطيم وتمزيق دروع الحصانة المحيطة بالدولة موضوعياً، فقد فتحت الطريق أمام بروز القوة الديمقراطية للمجتمع. هكذا قامت الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية بدك دعائم الدولة الكلاسيكية، لتقود إلى تحديثها على الصعيدين الأيديولوجي والبيروقراطي. وحَدَّت من نطاقها بالدساتير وحقوق الإنسان، لتُسَرِّع من بروز مبادرة القوى الاجتماعية. هكذا حصلت التطورات الحضارية العظمى في القرنين التاسع عشر والعشرين.
أما في منطقة الشرق الأوسط، فاتجهت المرحلة في اتجاه معاكس في هذين القرنين. حيث ساد نفوذ كلي لقوى جناح السلطة القتالية بعد جهود مروِّعة ومريرة، لتنهب وتسلب المجتمع منذ البداية، وبأسوأ الأشكال، تحت ذريعة ضرورة وجود الدولة من أجل منفعة "المجتمع" العامة والأمنية. والتصقت الدولة المستبدة كلياً بظهر المجتمع، كما تلتصق حشرة القُرّادة بظهر الشاة. وما الفترة اللاحقة للقرن الخامس عشر، سوى تعبير عن القصة المأساوية لهذه المرحلة.
وبينما تصاعد الغرب من "المانكا كارتا Manga Charta"* نحو الدساتير العصرية الحديثة، قامت منطقة الشرق الأوسط والاستبدادية الشرقية برمتها بتطوير مختلف أشكالها. والمقولة الشعبية القائلة بأنه "كثيرة هي ألاعيب العثمانيين" هي من بقايا هذه الفترة. والمقولة الأخرى أيضاً "أكبر سعادة في هذه الدنيا، هي العيش بعيداً عن الدولة"؛ إنما تشير إلى هذه الحقيقة. إن المجتمع الشرق أوسطي أشبه بمادة مقيَّدة بمتانة بين يدي الدولة الشرق أوسطية. وأي أمارة تدل على الإشعار أو النمو البسيط فيها، تؤدي إلى استئصالها وانتزاعها. لا يمكن تحجيم الدولة دستورياً هنا، لأنها تتضخم كالديناصور.
تقمصت الدولة الشرق أوسطية المنكمشة على ذاتها والغاصّة في تزمتها تجاه المجتمع داخلياً والغرب خارجياً، الغطاء القوموي في القرن العشرين لتقود إلى تفاقم المشاكل وتثاقلها أكثر فأكثر. وبينما استحدثت نفسها بالنزعة القوموية، وببعض الإصلاحات المحدودة، مع حظيها بدعم حفنة ضئيلة من الدول الأخرى؛ فقد أسفر التعصب والتحجر السائد في المجتمع إلى ظهور ذهنية مغفلة وشاحبة متخلفة، ومريضة، وكأنها تحيا خارج دائرة الزمان والمكان. وبينما افتقدت التقاليد والأعراف قدسيتها كلياً، لم تَقُم العصرية سوى بتكوين شريحة عميلة ملتفة حول الدولة. لم تتحطم الدولة الشرق أوسطية كلياً، بل تجاوبت مع مؤسسة العمالة المنتَظَر انبثاقها من سماتها الموجودة. والغرب بدوره لم يشأ أن تنهار تماماً، لِما في ذلك من منفعة كافية له على المدى القصير. هكذا ساعد على إطالة عمر المونارشيتين العثمانية والإيرانية قرنين من الزمن، عبر التوازنات الخاصة؛ رغم أنه لو تركهما وشأنهما، لانهارتا تلقائياً آنذاك. هذا وكانت "الرأسمالية الكومبرادورية" التي طورها النظام الرأسمالي (المهيمن في الغرب) على الصعيد العالمي، تشكِّل الأرضية الاقتصادية المثلى لهذه العمالة. لكن، دعك من حل مشاكل المجتمع، لم تكن ثمة رغبة آنذاك حتى في رؤية أي مشكلة منها. وكأنه ساد شكل عصري لدولة المَلك الإله. فالقوة العسكرية التقنية المأخوذة من الغرب، كانت كطَوق النجاة بالنسبة للدولة الشرق أوسطية، حيث كان بمقدورها الصمود تجاه مجتمعها بسهولة أكبر عبرها. وبحظيها بمؤازرة أسيادها من الخلف، لم يكن صعباً على جناح السلطة القتالية أن يُطيل من عمره. بل وبصقلها نفسها بأدوات النظام الرأسمالي الاحتياطية (مذاهب الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، والتحرر الوطني)، كانت تَعتَبِر نفسها في ضمان أكبر.
بدأت هذه المرحلة، التي زُعم أنها مرحلة الإصلاح، بالتساقط شَعرة شعرة تجاه الأزمة والفوضى العامة للعولمة الرأسمالية الإمبريالية، والمتسارعة في وتيرتها مع انهيار الاشتراكية المشيدة في أعوام التسعينات. وبات من الصعب على إمبراطورية الفوضى الأمريكية السير مع هذه البنى. فهذا يخالف منطق نظامها القائم. وبينما أخذت من ربح النظام وأمنه أساساً لها، راحت الدولة الشرق أوسطية تُقحِم الآليتَين معاً في مرحلة ديناميتية في ضوء الأوضاع المستجدة. فالدولة الشرق أوسطية تعني الاضطراب والانفلات الأمني، والهدر الذي لا جدوى منه. علاوة على أن انقطاعها عن الحشود الغفيرة من الشعب أدى إلى تفاقم الانفلات الأمني والهدر، ليصل أبعاداً لا تطاق. من العصيب حقاً على الاستبدادية القائمة بحديقتها المرقَّعة وبشكلها المطلي هذا، أن تشكل الجواب المرتقب لمطاليب الشعوب المتخبطة في مشاكلها المتكدسة منذ أيام العهد النيوليتي. تضغط هذه الشعوب على تلك الاستبدادية من الأسفل، في حين تضغط الرأسمالية العالمية عليها من الأعلى. ومن الصعب عليها الرد على كليهما.
3 – تُشَكِّل الذهنية والسلوكيات الاجتماعية المتشكلة حول المرأة والأسرة، مشكلة تساوي في ثقلها ما عليه مشكلة الدولة بأقل تقدير. الدولة في الأعلى والأسرة في الأسفل. كلاهما يشكلان تكاملاً جدلياً أشبه بثنائية الجنة والسعير. فبينما تطبِّق الدولة نموذجها المصغر في الأسرة، تكون الدولة نموذجاً مكبَّراً لمتطلبات الأسرة المتعاظمة. كل عائلة تجد الحل الأمثل في التدول. وانعكاس استبداد الدولة على الأسرة هو الرجل "رب الأسرة"، الذي يظهر كـ"مستبِد صغير". وبقدر ما يسعى المستبد الكبير في الدولة لإضفاء نظام معين على العالم عبر صلاحياته ومواقفه المؤثرة والمزاجية، يقوم الرئيس الصغير بالانهماك في أعمال نظامية مطلقة مماثلة، ليطبقها على حفنة من النساء والأطفال.
سيبقى أي تحليل اجتماعي قديرٍ شديدَ النقصان، بدون تحليل الأسرة في الحضارة الشرق أوسطية على أنها نموذج مصغر للدولة. وإن كانت مشكلة المرأة متفاقمة بقدر مشكلة الدولة – على الأقل – في مجتمعنا الشرق أوسطي الراهن، فالسبب في ذلك يكمن في تاريخ عبوديتها الطويل والمعقد بقدر تاريخ الدولة. لذا، وبدون وضع البنان على مثلث برمودا "المرأة – الأسرة – الرجل" في الخريطة، لن تنجو سفينة أي حل اجتماعي مارٍّ بجانبه من الغوص في أغواره. إذاً، فالأسرة (كدولة مصغرة) في الشرق الأوسط هي مثلث برموذا السابح في المحيط الاجتماعي. ولدى تصاعد الدولة والهرمية، محال ألا تتركا آثارهما على مؤسسة الأسرة بشكل مطلق. وأي هرمية أو دولة لا تعكس صداها على الأسرة، لن تعزز من فرص حياتها، ولن تؤمِّن سيرورتها. يتم تلمس هذه الثنائية الجدلية وتناولها بعناية فائقة، ودون أي إهمال، داخل الحضارة الشرق أوسطية.
من المهم بمكان وضع مشروع تخطيطي يتناول تاريخ عبودية المرأة وتحليلها من الناحية السوسيولوجية – ولو بشكل محدود – باعتبارها الجنس والنَّسَب والطبقة الأقدم في تعرضها للأَسْر والاستعباد؛ وإلا فمن الصعب تفهم الأسرة والرجل، وبالتالي الدولة والمجتمع من الجوانب الأخرى. وسيتضمن فهمنا لها عندئذ نواقص حقيقية لا تُغتَفَر.
لن أكرر تعريف المرأة، كوني سعيتُ لصياغته في الفصل السابق. مع ذلك يجب، وبكل تأكيد، ألا نهمل أو نغفل عن وصف التقييمات التي تنظر إلى المرأة كجنس بيولوجي ناقص وقاصر أثناء ولوجها في المجتمعية، بأنها توجهات أيديولوجية. بل وهي من تصوير وتخطيط وبُدَع الذهنية الذكورية المهيمنة. والعكس صحيح، أي يجب ألا نغض الطرف عن الحقيقة التي برهن عليها العلم في كون المرأة كياناً اجتماعياً وبيولوجياً أكثر كفاءة وقدرة.
منطقة الشرق الأوسط هي مركز ثقافة الأم الأهلية. تشيد المعطيات التي بحوزتنا بأن هذه الثقافة تشهد حالة من التطور المتواصل منذ أعوام 1500ق.م. فوجود النباتات والحيوانات على الحواف الداخلية لسلسلة جبال طوروس وزاغروس، قد زَوَّدها بالإمكانيات الأولية اللازمة من أجل التأهيل. ولعب المناخ والبنية الأرضية الملائمين لزراعة الحبوب وتربية المواشي دوراً رئيسياً في ذلك.
لا يمكن أن تتحقق احتياجات المرأة اللازمة لإنجاب الأطفال وتنشئتهم ورعايتهم بسهولة، إلا في الظروف الاستيطانية المستقرة. ولدى التحام هذه الاحتياجات مع الظروف المناخية المناسبة ووجود الحيوانات والمواشي؛ تولَّدت الشروط الأولية للتأهيل والاستئناس. وفن جمع الثمار والعديد من الفواكه والأعشاب، يلبي الاحتياجات اللازمة من أجل القوت. بالإضافة إلى أن تدجين الماعز والمواشي البرية زاد من وفرة المحاصيل لتلبية الاحتياج اللازم من الصوف والحليب. ومع التجربة، شوهد أن زراعة النباتات والأشجار المفيدة والمثمرة في الحقول يزيد من وفرة الإنتاج أضعافاً مضاعفة. وعوضاً عن قتل الحيوانات مباشرة، سيكون من الناجع أكثر تدجينها ورعايتها والإفادة من حليبها وصوفها، وقتل الجوع بها في أوقات العَوَز والفاقة. كانت المرأة الأم صاحبة خبرة واسعة في كلا المسألتين لتطوير النظام الأهلي من حولها مع أطفالها الذين ترعاهم وتربيهم. قد يكون الخروج من المغاور والكهوف من أجل زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات في الأماكن المناسبة، وبناء البيوت؛ أمراً بسيطاً آنذاك. ولكنه سيلعب فيما بعد دوراً تاريخياً عملاقاً، مثلما لعبه الصعود إلى القمر في أيامنا.
لن يكون من الصعب تحوُّل الأكواخ الصغيرة إلى قرية. يمكننا العثور على بقايا الآثار القوية لهذه الثقافة المستمرة حتى أعوام 11000ق.م، في العديد من مناطق كردستان اليوم، مثل "أرغاني جايونو" في ديار بكر، و"جمه خالان" في باطمان، و"نوالا جوليه" و"كوبه كلي تبه" في أورفا، ومنطقة برادوست، و"ماغ" في هكاري. لم يُعثَر بعد على مواطن استيطانية أقدم من هذه في أي بقعة أخرى من العالم. تأتي في مقدمة البراهين المؤكدة على كثافة ثقافة المرأة الأهلية في هذه المناطق، كون التماثيل المنحوتة هي تماثيل نساء. كما أن البادئات الأنثوية في البنية اللغوية لتلك المناطق أيضاً مثال يُحتَذى به. هذا وكون المرأة ماهرة في نفس المجال من تلك الثقافة، يؤكد صحة هذه الحقيقة.
تشير المصادر السومرية أيضاً إلى مدى نفوذ تأثير هذه الثقافة لدى تأسيس المدن الأولى، وإلى استمرار وجودها بشكل وطيد. والحِبكة الميثولوجية المحبوكة حول الإلهة إينانا (إلهة أوروك) تلقننا دروساً كبرى. نخص بالذكر هنا مقاومتها العنيدة تجاه تصاعد الهيمنة الرجولية، بحيث تضاهي في حِدّة مقاومتها الحركات الفامينية الأكثر وثوقاً بنفسها في راهننا. فإينانا هنا تدافع عن معتقداتها بأن المرأة صاحبة الحضارة، وتتحدى بكل قوتها الإله أنكي (العنصر الممثل لنظام السلطة الأبوية المتصاعدة لدى السومريين). وتسرد إينانا بلغة شعرية بارعة كيف أنها تملك الـ"ما"ءات المائة والأربع (وهي الاكتشافات والمخترعات والمصطلحات الحضارية لتلك الحقبة)، وأن أنكي سرقها منها بالحيلة والمكر، وأنه عليه ردها إليها. يشير هذا السرد الميثولوجي الممتد حتى أعوام 3000ق.م، بشكل ملفت للنظر، إلى دور المرأة فيما بعد الحضارة السومرية. هذا وتعود إينانا في جذورها إلى نينهورساغ، إلهة الجبل القديمة. وكلمة "نينهورساغ" من ناحية علم الصرف والاشتقاق تكون كما يلي: "نين = Nin = إلهة"، "هورhur = kur = = الجبل"، و"ساغ = sag = منطقة". أي أن كلمة نينهورساغ تعني "إلهة منطقة الجبل". وبما أنَّ سلسلة جبال زاغروس وحوافها تأتي على البال بمجرد لفظ كلمة "الجبل" في منطقة ميزوبوتاميا السفلى، فهذا يشير إلى أن ثقافة الإلهة الأنثى قد نزلت من المنطقة الجبلية نحو السهول المنخفضة.
لا تزال ثقافة المرأة الأم مؤثرة كمركز حضاري في الفترة المتراوحة ما بين 4000 – 2000ق.م لدى السومريين. وتتمتع بثقل يوازي ثقل الرجل. وقد انعكس ثقلها هذا على جميع الوثائق الميثولوجية المتعلقة بتلك الحقبة. فمعابد الإلهات الإناث منتشرة في كل مكان. ولم تتطور بعد قوة التوبيخ والتعييب المحيطة بالمرأة. بل وتُسرَد ممارسة الجنس بشكل خاص كعملية مقدسة. دعك من التوبيخ والتعييب، بل ثمة سرد أدبي لا يمكن مصادفته حتى في أروع القصص الجنسية والشَّبَقيّة. كل تصرف أو عملية معنية بممارسة الجنس، تجد معناها كجماليات الحياة وقيمها الثمينة. وجنسية المرأة تلقى جاذبية عظمى وتبجيلاً خارقاً. لم يكن آنذاك ثمة أي تلويم أو تعييب خاص بالمرأة على نحو طراز الحياة التي شكلت الثورة المضادة الكبرى لها فيما بعد. كان جسد المرأة موضع مدح وتقدير على الدوام. ومراسيم الزواج المقدس الحالية تعود إلى تلك الحقبة، وإنْ كانت أصبحت بشكل محرَّف ومشوَّه (عملية تقبيح الرجل لها). تصوِّر العديد من النقاط المعنية بالشكل والمضمون في ملاحم "ممه آلان" و"مم وزين" و"درويش عبدي" – التي لا تزال تُذكَر اليوم في كردستان – المنزلة الرفيعة والمرموقة للمرأة. وبالإمكان القول أنه يمكن العودة بأصل هذه الملاحم إلى فترة أعوام 4000ق.م.
تصوِّر إينانا في حِبكتها الميثولوجية الرجلَ الراعي والرجلَ المزارع كمساعدَين لها. فالراعي "دوموزي" (هذا الاصطلاح هو الأصل الأول لكل ظواهر تصاعد الرجل) والمزارع "أنكومدي" يتبارزان على الإعراب عن ارتباطهما وتقديرهما لإينانا. ولم يبقَ عمل إلا وهرعا إليه كي يكونا مساعدَين أوليَّين لها. وإينانا لا تزال تتمتع بالريادة البارزة، في حين أن الرجل – مزارعاً كان أم راعياً – لا يزال بعيداً عن الهيمنة. نرى أن الوضع ينقلب رأساً على عقب في الملحمة الشهيرة الأخرى للسومريين، ألا وهي الملحمة البابلية "أنوما أليش". فثنائية الإله "ماردوخ"، ممثل الرجل المكتسب للقوة الخارقة، والإلهة "تيامات"، ممثلة الأم الخائرة القوى؛ تلقننا دروساً كبرى. حيث ثمة ثقافة تعييب وتعتيم مروِّعة بحق المرأة الأم والإلهة الأم. وتُقحَم القوالب الأيديولوجية في مصاعب حقيقية بهدف إبراز المرأة ككيان عديم الفضائل، عديم الفائدة، كثير الضرر ومخيف.
نرى أن هذه الثقافة تبدأ بالانتشار اعتباراً من أعوام 2000ق.م. حيث ثمة تغير ملحوظ على حساب المرأة في المكانة الاجتماعية. ويمتلك مجتمع السلطة الأبوية القوة التي تؤهله لتحويل هيمنته ونفوذه إلى ملاحم بطولية. كل شيء معني بالرجل يُعلى من شأنه، ويُنعَت بالبطولة والبسالة؛ في حين أن كل ما يَمُتُّ للمرأة بِصِلة يُحَط من شأنه ويُعاب ويُجرَّد من قيمته.
هكذا حصل انكسار جنسي من النوع الذي ربما سيمهد الطريق لأكبر التغييرات في حياة المجتمع على مر التاريخ. يمكننا تسمية هذا التغيير الأول المعني بالمرأة والجاري في الثقافة الشرق أوسطية بـ"ثورة الانكسار الجنسي المضادة الكبرى الأولى". إننا نقول بأنها ثورة مضادة. بالتالي، فهي لا تساهم في حصول التغييرات الإيجابية في المجتمع. بل، وعلى النقيض، إنها تجلب النفوذ والهيمنة المجحفة للسلطة الأبوية على المجتمع، وتُخرِج المرأة من دائرة المجتمع وتُهَمِّشها؛ لتمهد السبيل بالتالي لسيادة حياة مجدبة وقاحلة. إنها تقود إلى المجتمع الرجولي الأحادي الصوت، بدلاً من المجتمع الثنائي الصوت. ولربما كان هذا الانكسار الحاصل في الحضارة الشرق أوسطية، الخطوة الأولى للسقوط والتهاوي. فنتائجه تزداد دِكنة وحِلكة مع تقدم المراحل. لقد تم العبور إلى ثقافة المجتمع الذكوري المفرط الأحادي البُعد. وبينما يضيع ويخبو ذكاء المرأة العاطفي، صانع المعجزات والحيوي والإنساني إلى أبعد حدوده؛ يتولد الذكاء التحليلي اللعين (أصحابه يصفونه بعكس ذلك) لثقافة ظالمة مستسلمة للدوغمائية، منقطعة عن الطبيعة، تَعتَبِر الحرب فضيلة نبلى، وتتلذذ من سفك دماء البشر حتى الركب، وترى في ذاتها الحق بمعاملة المرأة والرجل المستعبَدين كيفما تشاء وتهوى. وهذا الذكاء (أو نوع التفكير) يتميز ببنية مناقضة كلياً لذكاء المرأة العادل والمتمحور حول الطبيعة الحية والإنتاج الإنساني.
يُلاحَظ بروز جمود وسبات حقيقي في الخلاقية والإبداع، بعد تصاعد البنية الذكورية المهيمنة في المجتمع. فبينما حصلت الآلاف من الاكتشافات والاختراعات في الحقبة ما بين 6000 – 4000ق.م (عهد المرأة الأم)، لوحظ أنه ثمة عدد ضئيل جداً من الاكتشافات المأخوذة على محمل الجد بعد أعوام 2000ق.م. إلى جانب ذلك فقد شهدت هذه الحقبة بروز ثقافة السلطة القتالية ببنيتها التي عمت الأرجاء، واعتَبَرت الفتوحات أسمى مهنة (مهنة الملوك)، وهدفت فيها الدول أساساً إلى الفتح. باختصار، تزامَنَ وتشابَكَ تهميش المرأة مع إيلاء القيمة الكبرى للسلطات ذات البنية الرجولية القتالية والفاتحة. وبينما تُكتَسَب مؤسسة الدولة كبُدعة من بُدع الرجل بكل معنى الكلمة، غدت الحروب الهادفة إلى النهب والسلب وجمع الغنائم، ضرباً من ضروب الإنتاج. وحَلَّ النفوذ الاجتماعي للرجل، والمعتمد على الحروب والغنائم، محل نفوذ المرأة الاجتماعي المستند إلى الإنتاج. ثمة أواصر كثيبة بين أسْر المرأة وبروز ثقافة المجتمع القتالي (المحارب). لكن الحرب لا تنتج، بل تستولي وتنهب وتسلب.
غالباً ما يكون دور العنف سلبياً ومدمِّراً، فيما عدا بعض الظروف الخاصة التي يكون فيها محدِّداً لوجهة التطورات الاجتماعية، مثل شق الطريق إلى الحرية، والتصدي للاحتلال أو الغزو أو الاستعمار. تتغذى ثقافة العنف المهضومة في المجتمع على الحروب. و"سيف" الحرب المسلَّط بين الدول، هو تمثال الهيمنة والنفوذ في "قبضة" الرجل، يسلِّطه داخل العائلة. يتواجد المجتمعان الفوقي والتحتي في مكبس "السيف وقبضة اليد". حيث يُغدِق المديح الدائم لثقافة الهيمنة والتسلط. وتَعتَبِر أشهر الشخصيات أن مَدحها بسفكها الباطل للدماء، وافتخارها بذلك؛ هو أسمى فضيلة لديها. نخص بالذكر هنا الملوك البابليين والآشوريين الذين يَعتَبرون جمع جثث البشر كمحصول لهم، وبناءهم القلاع والأسوار بها؛ مدعاة للفخر الأعظم والشرف الأكبر. وظاهرتا ثقافة العنف الاجتماعية وإرهاب الدولة، اللتان لا تزالان متفشيتان في يومنا الحالي، تستمدان منبعهما من هذه الثقافة.
تقطع "ثورة الانكسار الجنسي المضادة الكبرى الثانية" أشواطاً ملحوظة حول المرأة في عهد الأديان التوحيدية. وفي هذه المرة، تغدو الثقافة البارزة في الانكسار الحاصل في العهد الميثولوجي قانوناً إلهياً. وتُرجَع الممارسات المطبقة بحق المرأة إلى كونها أمر إلهي مقدس. فمحور العلاقة الكامنة بين سيدنا إبراهيم وزوجتيه سارة وهاجر، يشيد بالمصادقة على تفوق الرجل. أي أن السلطة الأبوية مترسخة تماماً. كما وتشكلت حينها مؤسسة الجواري، ويُصادَق على تعدد الزوجات بأعداد كبيرة. أما العلاقة القاسية بين سيدنا موسى وأخته ماريام، فتفيد بأن المرأة لم يعد لها نصيب من الميراث. أي أن مجتمع سيدنا موسى مجتمع ذكوري بكل معنى الكلمة. حيث لا تُناط النساء بأية مهمة أو وظيفة. هذا هو السبب الأصلي للصراع مع ماريام. ومقولة "على المرأة ألا تحشر نفسها في أمور الرجل، ويدها ملوثة بالعجين" تعود إلى هذه الحقبة.
نلاحظ العبور إلى ثقافة الحَرَم النسائي مع عهد داوود وسليمان في المَلكية العبرية المتصاعدة في أواخر أعوام 1000ق.م وما قبلها. وكانت النساء تُهدى آنذاك. إنها بداية مرحلة جديدة تُكبَت فيها أنفاس المرأة أكثر. إذ لا فرق على الإطلاق بين التصرف بالمرأة أو بأي مُلك آخر. ستجد هذه الحالة المعاشة في الدولة الدينية الجديدة انعكاساتها على الأسرة أيضاً. بات من المحال الحديث عن أي دور للمرأة القابعة تحت الهيمنة الثنائية لثقافة السلطة الأبوية من جهة، وثقافة الدولة الدينية من الجهة الثانية. المرأة المثلى هي الأكثر تأقلماً مع رَجُلها، ومع نظام السلطة الأبوية. لقد أصبح الدين أداة للتعتيم على المرأة وتسويدها. فهي (حواء) المرأة الأولى المذنبة، التي سلبت عقل آدم وتسببت في طرده من الجنة. و"ليليت" التي لم تخنع لإله آدم (رمز نظام السلطة الأبوية)، تعمل بأقوال الشيطان (رمز الإنسان الذي لم يسجد لآدم ورفض تَعَبُّده)، وهي صديقة له. أي إنه أُخِذ بالتعتيم الميثولوجي كقدوة، وحُوِّل إلى تعتيم ديني. بل واحتل الزعم الذي كان سائداً في أيام السومريين، والقائل بخلق المرأة من ضلع الرجل؛ مكانه في الكتاب المقدس أيضاً. هذا ولا يوجد نبي واحد "أنثى" من بين ما يقارب الآلاف من الأنبياء الذكور. كما يُنظَر إلى جنسية المرأة كأكبر حرام، لتُعاب وتُعتَّم باستمرار. بل واحتُقِرت، حتى غدا ذلك مبدأ تقليدياً وعرفياً. هكذا غدت المرأة ذات المنزلة المرموقة في المجتمعات السومرية والمصرية، مادةَ معابة وحرام وسالبة للعقول.
ينتصب رمز مريم أمامنا لدى وصولنا إلى عهد سيدنا عيسى، بحيث لا تكون لها أية علاقة بالألوهية، رغم أنها أم "ابن الإله". أي أن عنوان الإلهة الأنثى للإلهة الأم قد ترك محله للأم الصامتة الدامعة العينين. هكذا يستمر السقوط والتهاوي. فالحَمل بنفخ الإله فيها (الرجل المهيمن على المرأة) مصطلح مشحون بالتناقضات. يعبِّر ثالوث "الأب – الابن – الروح القدس" في المسيحية، في حقيقته عن تركيبة جديدة من الأديان المتعددة الآلهة والدين التوحيدي. تشهد هذه المرحلة صراعات ضارية ومتوالية بين الألوهية التوحيدية كعقيدة عِبرية صلبة ومتحجرة من جهة، وبين العقيدتين الغنوسطية (مذهب العرفان والاعتراف بالإله) والوثنية – اللتين كانتا شديدتا الانتشار، ولهما علاقات وطيدة مع المسيحية في تلك الأثناء – من الجهة الأخرى. المحصلة كانت أن انتهى وفاق هذه الاتجاهات الثلاثة بتشكيل دين ثلاثي الآلهة (يُلاحَظ انخفاض بارز في عدد الآلهة. حيث كان ثمة مثل هذه الثلاثية في عهد سيدنا محمد أيضاً). الغريب في الأمر هو أنه، وبينما كان من الواجب أن تكون مريم أيضاً إلهة بأقل تقدير، نُظِر إليها كآلة تنفخ فيها الروح القدس. تشير هذه الظاهرة إلى "تذكير" الألوهية بكل ما للكلمة من معنى. في حين كانت الآلهة والإلهات الإناث متكافئة تقريباً في عهد السومريين والمصريين. بل وحتى في العهد البابلي، كان لا يزال صوت الإلهة الأم جهوراً.
ما وقع على كاهل المرأة مع سيدنا عيسى ومريم، هو أنْ تكون تلك المرأة والأم الدامعة العينين، الهادئة والصامتة. وهي لا يمكن أن تتحدث عن الألوهية عبثاً في أي وقت من الأوقات. بل ستعتني أشد الاعتناء بأطفالها الذكور (أولاد الإله) ذوي القيمة الخاصة في بيتها. إذ ما من دور مُناط بها، سوى أن تكون امرأة منعكفة في منزلها. أما الساحة العامة، فهي موصَدة تماماً في وجهها. أما ممارسة القدِّيسات (العزيزات، النساء العذراوات) في المسيحية، فهي حالة المرأة المنزوية على نفسها للتخلص من ذنوبها الكبرى. لكن، بالإمكان القول أنها أسفرت عن تطور إيجابي لديها، وإنْ ضمن حدود ضيقة. فالقديسات تعني – على الأقل – الخلاص من المصطلحات والتعييبات والتوبيخات الجنسية. ودوافع تفضيلها إياها على الحياة المستعرة في البيت، قوية مادياً ومعنوياً. ما من شك في أنها ممارسة عملية تاريخية. بل ويمكن نعتها بأنها ضرب من ضروب أول حزب للنساء الفقيرات. بل وتعبِّر عن إحياء ثقافة معابد الإلهات الإناث، داخل ثقافة دير الراهبات، وإنْ بشكل باهت.
لممارسة القديسات مكانة مهمة في تاريخ الحضارة الأوروبية. فقد استَلهم الزواج من زوجة واحدة فقط (الزواج الثنائي) فكرته من ممارسة القديسات بنسبة كبرى. ورغم عيش المرأة فيها ضمن شروط شديدة القساوة، فقد ساهمت بعذريتها الجنسية في إعلاء شأن المرأة، وإنْ كانت تَعتَبِر جنسيتها مصدر أخطار ومهالك. أما الجانب السلبي لهذه الممارسة، فهو تقييم المرأة كسلعة جنسية، كَرَدّة فعل متطورة تجاه الزواج الكاثوليكي في الحضارة الأوروبية (حيث الطلاق محظور). بالطبع، فقد برز هذا بفضل الرأسمالية المتنامية.
أما المرتبة الجديدة التي اكتسبتها المرأة مع سيدنا محمد والدين الإسلامي، فتتخذ الثقافة العبرية أساساً لها في مضمونها، رغم تحليها بنسبة معينة من الإيجابيات، نسبةً إلى عامل نظام السلطة الأبوية المترسخ في ثقافة القبائل الصحراوية. فموقع المرأة هذا، والمتخذ شكله تماماً، هو لدى سيدنا محمد مثلما كان عليه لدى داوود وسليمان. إلى جانب ذلك، لا يزال تعدد الزوجات لأغراض سياسية، وحياة الجواري المتزاحمة، أمراً مشروعاً. فرغم تحديد الزواج بأربع نساء، إلا إنه لا يغير من المضمون شيئاً. حيث ينظر المفهوم القائل: "المرأة حقلكم، فاحرثوه كما شئتم"، إلى المرأة المُلك كمعطاة هِبة، لا غير.
مفهوم سيدنا محمد في العشق أيضاً غريب الأطوار. إذ يشير هيامه بعائشة رضي الله عنها، التي تبلغ التاسعة من العمر – رغم أنه في عقده الخامس – إلى رفعة اهتمامه بالمرأة. كما ينمّ مدحه الدائم لزوجته الأولى خديجة، عن القيمة التي يوليها إياها. إنه حساس ويقظ عموماً إزاء المرأة. إلا أن تركه مؤسسة الحَرَم النسائي والجواري وشأنها، وعدم مسه إياها، سيُستخدَم بأسوأ الأشكال من بعده، داخل شرائح الدولة.
عندما تدخلت السيدة عائشة في أمور السلطة والصراع عليها مع الخلفاء الراشدين، بعد وفاة سيدنا محمد، خسرت المعركة. وأدركت بألم شديد قيمة المرأة ومنزلتها، فتذمرت قائلة: "يا رب، ليتك صنعتني قطعة حجر، على أن تخلقني امرأة!". لقد حُدِّد حظر السلطة على المرأة منذ أيام العلاقة القائمة بين موسى وماريام. لم تحصل أية تطورات إيجابية في موقع المرأة داخل الشرق الأوسط في العصور الوسطى الإقطاعية. فالقوالب التاريخية لا تزال دارجة. وحتى في علاقة العشق المرموز إليها في العلاقة بين ليلى ومجنون، ليس هناك نتيجة تنمّ عن الخير والبشرى. أي، لا مكان للعشق في الإقطاعية.
شهدت المرأة أكثر مراحلها تجرداً من الشخصية داخل الأسرة القابعة تحت وطأة السباق القائم بين الدولة ونظام السلطة الأبوية. إنها أسيرة مطلقة لنزوات وشهوات أصحاب السلطة. وهي آلة مكمَّلة لتعزيز سلطاتهم. لقد تجردت من المجتمع عموماً. هكذا باتت امرأة المدينة تتخبط في أغوار العبودية الغائرة. في حين أن المرأة ضمن الجماعات التي تعيش في شروط البداوة والترحال، والحاملة بين طياتها الآثار المتبقية لديها من النظام المشاعي البدائي؛ لا تزال تلقى الاحترام والتقدير.
وبالتدريج يصعب تعريف مكانة المرأة تحت وطأة نظام التسلط والمُلكية. فالمرأة في راهننا تعيش حالة أنقاض وأطلال، كمعطاة من معطيات ممارسةٍ دامت آلاف السنين. فحتى التأثير المُغوي والمفسِد للنظام الرأسمالي، بعيد كل البعد عن الانعكاس والظهور على حقيقته. إنها – المرأة – العضو الأصلي القابع في نواة التخلف السائد في المجتمع الشرق أوسطي. والرجل الشرق أوسطي الفاشل في كل الميادين، يفجر سخطه بفشله هذا على رأس المرأة. فبقدر تعرضه للإهانة والازدراء في الخارج، يُفرغ جام غضبه على المرأة، سواء بوعي أو بشكل تلقائي. والرجل المغتاظ والمشحون بالنقمة لعجزه عن حماية مجتمعه، وعن إيجاد منفذ له؛ يصب جام حنقته على المرأة والأطفال كالمجنون داخل الأسرة، ويفرِّغ عنفه الصارم عليهم. وما ظاهرة "جنايات الشرف" في حقيقتها سوى عملية يقوم بها الرجل الذي يطأ شرفه وكرامته في كافة الميادين الاجتماعية، فيُفرِغ نقمته، وبشكل معكوس، على رأس المرأة. وهو يعتقد بذلك أنه حل قضية الشرف بتظاهر بسيط ورمزي، ولكنْ باهتٍ وفانٍ. إنه يطبق نوعاً من العلاج النفسي*. ما يتوارى تحت المعضلة أصلاً هو تاريخٌ وقضيةٌ اجتماعية مفقودان. من أهم المشاكل التي تواجهنا هي إفهام هذا "الرجل" وإقناعه باستحالة خلاصه من تلطخ شرفه، ما لم يواجه تلك القضية التاريخية الاجتماعية، وما لم يقم بواجباته تجاهها. يجب، وبكل تأكيد، تعليمه أن الشرف الحقيقي لا يمر من عذرية عضو المرأة الجنسي، بل من تأمين العذرية التاريخية والاجتماعية؛ وأن نحثه على تطبيق هذا المبدأ.
إني على قناعة تامة بأنه، وعبر هذا السرد التاريخي الموجز، ظهر لدينا بشكل أوضح، أن المشاكل المعاشة في الأسرة الشرق أوسطية في راهننا، لها من الأهمية ما للمشاكل المعاشة في الدولة منها. فالكبت والقمع والمشاكل الثنائية الاتجاه، تزداد في حدّتها فيها. أما انعكاسات مجتمع الدولة ونظام السلطة الأبوية عليها على مر التاريخ من جهة، وانعكاسات القوالب الحديثة للحضارة الغربية عليها من الجهة الثانية؛ فلا تشكل تركيبة جديدة، بل تخلق معها عقدة كأداء. فالانسداد المخلوق في الدولة يزداد تعقيداً داخل الأسرة. ويُقحِم عجزُ الشبان اليافعين عن إيجاد عمل لهم، الأسرةَ في شلل حقيقي. باتت الأسرةُ المضبوطة حسب الدولة والاقتصاد، عالقةً في درب مسدود لا يمكن السير فيه، عبر هاتين الرابطتين القديمتين. فلا طراز العائلة الغربية متوطد، ولا طراز العائلة الشرقية. هكذا يتحقق التآكل والنخر في جسد الأسرة ضمن هذه الشروط.
يتأتى حفاظ الأسرة على قوَّتها قياساً بالأواصر الاجتماعية المنهارة والمتفككة بسرعة أكبر، من كونها المأوى الاجتماعي الوحيد. علينا بالتأكيد ألا نستخف بالعائلة أو نستصغرها. والانتقادات التي طرحناها لا تستوجب رفض العائلة أو دحضها جذرياً، بل تطرح ضرورة إكسابها معناها وإعادة بنائها.
من المهم طرح مشكلة الرجل أيضاً، والتي هي أكثر وطأة من مشكلة المرأة. فتحليل مصطلح الهيمنة والسلطة في الرجل، لا يقل أهمية عن تحليل عبودية المرأة. بل وقد يكون أكثر صعوبة. فالذي لا ينحاز إلى التحول بالأغلب هو الرجل، لا المرأة. ولو تركنا رمز الرجل المهيمن وشأنه، سيشعر بذاته كالحاكم المفتقد لدولته، فيتخبط في عواطف الفشل والهزيمة. في الحقيقة، علينا أن نُظهِر له بأن هذا الشكل الأجوف للهيمنة والتسلط هو الذي أفقده حريته، وجعله متزمتاً بشكل كلي.
إن القول بتناول مشكلة الدولة أولاً، ومن ثم مشكلة الأسرة؛ هو موقف خاطئ. يجب دراسة هاتين الظاهرتين المرتبطتين ببعضهما بروابط جدلية، ومعالجتهما بشكل متداخل معاً. والنتائج التي أسفر عنها الاعتقاد السائد في الاشتراكية المشيدة بحل مشكلة الدولة أولاً ومن ثم معالجة المجتمع، إنما هي ظاهرة للعيان. لا يمكن حل المشاكل الاجتماعية بإيلاء الأهمية لواحدة منها دون الأخريات. بل إن الأسلوب الأصح والأسلم هو النظر إلى المشاكل الاجتماعية ككل متكامل، وإيلاء المعاني لكل واحدة منها ضمن روابطها مع الأخريات، واتباع الأسلوب عينه لدى العمل على حلها. فبقدر ما يبرز النقص لدى تحليل الدولة دون تحليل الذهنية، أو تحليل الأسرة دون الدولة، أو تحليل الرجل دون المرأة؛ فسيبرز النقصان عينه لدى الهرع نحو الحل دون القيام بخلاف ذلك.
4 – ثمة بضعة ظواهر أخرى تستوجب التعريف داخل المشاكل الشرق أوسطية. فظواهر الإثنية، الأمَّة، الوطن، العنف، الطبقة، المُلكية، والاقتصاد وغيرها؛ لا تزال بعيدة عن التعريف على الصعيد الاصطلاحي. فاصطلاح الظواهر بمستواها التعريفي لا يزال غير منقى من شوائب الدروع الأيديولوجية الشوفينية. ولم تُطرَح بعد القيمة العلمية الحقيقية لهذه الظواهر في الثقافة الشرق أوسطية. حيث يُنظَر إليها بمنظار الأيديولوجية الدينية، أو بمنظار القوموية الشوفينية؛ ليسفر ذلك عن نتائج مشحونة بالعقم والانسداد، حسبما يُرتأى لها. ولا تُطرَح في الميدان بعض التساؤلات، من قبيل: ما هي قيمة ومكانة وثقل ظواهر الإثنية، الأمة، الوطن، العنف، المُلكية والاقتصاد؟ عَمَّ تعبِّر العلاقة فيما بينها؟ بل ويُجعَل من الحقيقة ضحية للإرشادات الأيديولوجية السائدة. أما السياسة، فتقترب منها بتهكم وتهجم أناني عبر إرشادات أشد سوءاً. ولا تُولى أية فرصة لإبداء المواقف العقلانية المنطقية، أو العادلة الديمقراطية. وكأنه ثمة إحساس سائد يفيد بأن تنوير الظواهر بسلوكيات علمية خارج النطاق الأيديولوجي والسياسي، سيُفسِد كل الألاعيب المحاكة. وإبقاء الحقائق متوارية في الظلمات الداكنة في منطقة الشرق الأوسط، هو وظيفة هامة أُنيطت بها السياسة والمجال التعليمي. وبدون النجاح فيها، يستحيل القيام بإجراءات فن السلطة. يمر إبطال السحر من الشفافية والنقاوة.
لقد وضعنا ثقلنا بما فيه الكفاية على الإثنية (جماعات الكلان، القبيلة، العشيرة، والشعب). وسعينا لإظهار مسار نشوئها وتطورها وتحولاتها، وإنْ بشكل غير مباشر. لا تزال الإثنية واقعاً يحافظ على وزنه في الشرق الأوسط، وإنْ ليس بالقدر الذي كانت عليه قديماً. وهي أكثر توطداً في المناطق الجبلية والريفية، في حين أنها تركت محلها في المدن للطرائق الدينية والجماعات المشابهة. وبما أن المواطَنة والديمقراطية لم تترسخا بشكل كامل، فلكلٍ إثنيته وجماعته التي ينتمي إليها. والدول أيضاً تراقب الأشكال الأخرى للوجود الإثني، بقدر مراقبتها للأسرة. ذلك أنه من الصعب الفلاح في السياسة، دون أخذ قوة العشائر الموجودة بعين الحسبان. ويزداد التعقيد الاجتماعي أكثر لكونها لم تنصهر تماماً في بوتقة التمايز الطبقي ولا النزعات القومية. لكن هذا مهم من ناحية حملها لثقافة النَّسَب كعضو مقاوِم تاريخياً. إن الرفض الجاف والمحض لها، ليس بموقف واقعي ولا ناجع. بل من المهم تناول الأواصر الإثنية ودراستها بعناية، وتحليلها بصحة؛ بغرض الفصل بين الإثنية وبين الميول المنزلقة في القوموية المصغرة والسياسة الضيقة كساحة أساسية. فبقدر ما يؤدي الاتجاه الأول إلى نتائج صائبة، قد ينمُّ الثاني عن قدر مماثل من النتائج الخاطئة والوخيمة.
يشكل مصطلحَا "الأمة" و"القومية" مشكلة قائمة في المجتمع الشرق أوسطي، أكثر مما يشكلان الحل. لقد ابتُكِر مصطلح "الأمة" ومن ثم "القومية"، وبُذِِلت المساعي لتحليلهما في فترة المَرْكَنتَلية (الرأسمالية التجارية) كفترة ولادةٍ ونشوء للرأسمالية؛ قبل تحديد احتياجات السوق الوطنية، أو رسم حدود اللغة القديمة. يُعبِّر مصطلح "الأمة" عن مفهوم الأمة الجماعة المعتنقة لدين ما بمعناه المحدود بإطار اللغة. وهو في مضمونه مصطلح سياسي أكثر منه سوسيولوجي. حيث يتم التوجه إليه بمآرب سياسية. وهو يلبي احتياجات المطالبة بتكوين الدولة ضمن حدود أكثر استقراراً وسلامة. لهذا المصطلح أهميته بالنسبة للدول، والتي تنبع من أرضيته السياسية، أكثر مما تنبع من أرضيته الإثنية. فحتى في مفهوم "الأمة النقية" تبرز الحقائق السياسية للعيان بكل وضوح. وبالطبع، تبرز من خلف هذه السياسة أيضاً مشكلة السوق. فالسوق والسياسة هما رَحِم الشعب.
لا يتمتع مصطلح الأمة بالقيمة التي تتمتع بها الإثنية من الناحية السوسيولوجية. فالإثنية هي إحدى الظواهر السوسيولوجية الوطيدة. والإثنية كقوم تشبه الأمة. و"القوم" يختلف في مضمونه عن الأمة، حيث يعتمد على خلفية لم تتطور فيها بعد قيم السوق والسياسة. وفي منطقة الشرق الأوسط يتم الالتفاف حول القومية أكثر منها حول الأمة. والقومية – أو القوموية – تحل محل العلاقات الدينية المتراخية والواهنة. وهي ضرب من الدين الدنيوي. كما أنها آلة أولية لمشروعية الدولة. إذ من الصعب تسيير شؤون الدولة دون الارتكاز إلى الدين والقوموية. فالدين بالأصل هو جينة الدولة. والقوموية هي شكلها الحديث.
لا يتحلى مصطلح الأمة والقومية بأية قيمة للحل الاجتماعي في راهننا. بل، وخلافاً لذلك، فهو يُصَعِّب الحلول ويعقدها بمواراته إياها تحت غطاء الأمة والقوموية. من المهم تعريف هذه الظاهرة والمصطلحات – التي لا يمتد ماضيها حتى قرن واحد فقط – ضمن واقعها هي. قد تفضي السلوكيات والمواقف السياسية والأيديولوجية المستندة إلى القومية أو الأمة بشكل بحت، إلى العديد من الأخطاء. فالأدوار التي لعبتها القوميات البالغة إلى المرتبة الشوفينية، واضحة للعيان في الحروب المندلعة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. هذا ومنشور أمام العيان النتائج التي تقود إليها كافة القومويات عموماً في الشرق الأوسط، والقوموية العربية – الإسرائيلية على وجه التخصيص؛ وما تتسبب فيه من عقم وعمليات دموية وآلام جسيمة، بسبب استثمارها في مآرب سياسية. من المهم بمكان عدم اللجوء إطلاقاً إلى القوموية في السياسة والأنشطة الأيديولوجية، واستخدام ظاهرة "الأمة" كمادة أو عنصر أولي في حال مساهمتها في الحلول الاجتماعية، لا غير. وإلا، ففي حالة العكس، لن ينمّ الأمر عن نتائج، سوى تجذير الفوضى بسبب الاشتراطات الأيديولوجية (مثلما هي الحال في أوروبا) التي تتميز أصلاً بأرضية متينة في منطقة الشرق الأوسط.
إلى جانب امتداد مصطلح "الوطن" إلى القديم الغابر كمكان للاستيطان والاستقرار، إلا إنه حديث باعتباره الجغرافيا التي تستند إليها الدولة القومية، حيث تعمل بالحدود السياسية أساساً بدلاً من الحدود الإثنية. والفارق الكامن بين الشرق الأوسط وأوروبا، هو أن الحدود التي تستند إليها الدولة، لا الحدود اللغوية، هي التي تحدد التخوم القومية في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذه الحالة يغدو الوطن ظاهرة سياسية. فكل دولة تشكل وطناً بمعناه العصري. لا يمكننا صياغة تعريف صحيح للوطن عبر الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية. هذا ولا تكفي الحدود اللغوية أيضاً لتشكيل الوطن. لذا، فتقييمنا له كمصطلح ثقافي سيقرِّبنا من الحقيقة أكثر. يمكن إطلاق تسمية الوطن على المساحات الجغرافية التي تتجاوز نطاق القومية السياسية وتمتلك تاريخاً أقدم منها بكثير، حيث استقرت فيها الشعوب القديمة على مر التاريخ الطويل. ومثلما يقال أنه لكل شعب وطن، فثمة أوطان مشتركة للشعوب المتعايشة بشكل متداخل أيضاً.
إذا ما تناولنا الشرق الأوسط ككل متكامل، فإن تقسيمه ضمن حدود على الطراز الأوروبي يخلق معه مصاعب شتى. ذلك أن التكامل والخاصيات متوطدان للغاية. فالروابط الاقتصادية والاجتماعية هي التي تحدد تسمية مكان ما بالاسم اللازم. أما التقسيمات السياسية الإرغامية، فليست وطيدة بقدر القيم المخلوقة عبر التاريخ. أدت الحدود السياسية المرسومة في نهايات الحرب العالمية الأولى، إلى تحريف مصطلح الوطن؛ أو بالأحرى إلى ولادة المشاكل المعنية بالوطن الحقيقي. إن الواقع السياسي المتكامل لمنطقة الشرق الأوسط يشل من واقعية الخريطة السياسية المعروفة اليوم. كما تستلزم ديناميكية السياسة تكامُلَ الساحات الجغرافية على نحو مغاير لما هي عليه. والوضع القائم يتطلب صراعاً دولياً عالمياً، ويؤجج النعرات القوموية، كما هي الحال في المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية، أو في مشكلة كردستان العراق.
تقاليد الإمبراطورية الشرق أوسطية أقرب إلى الفيدرالية. فالبنية الإدارية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة كانت فيدرالية، منذ أولى الإمبراطوريات وحتى الإمبراطورية العثمانية الأخيرة. إنها فيدرالية مرتكزة إلى المناطق الواسعة الخاصة، وأشبه بحال الولايات المتحدة الأمريكية في راهننا. تنبع المشكلة الاساسية للشرق الأوسط فيما يخص موضوع الوطن، من عدم العودة ثانية إلى الوضعية الفيدرالية التقليدية المألوفة، وإلى التجزئات والتقسيمات غير الواقعية، وغير اللازمة، وغير المجدية، فيما بين العديد من الدول القومية. ومن دون تخطي هذا الوضع، سيكون من الصعب بلوغ مفهوم أكثر واقعية بشأن الوطن والمواطَنة.
تتميز ظاهرة "الطبقة" بمعاني سوسيولوجية أقل مما يُتَصوَّر لها في أنظمة المجتمعات. فالروابط الأكثر تأثيراً في المجتمع هي الروابط الأيديولوجية والسياسية والإثنية، وغيرها من المجموعات والأصناف. في حين أن الحركية ذات الوعي الطبقي تكون محدودة. يكون التمايز الطبقي ضرورة لا بد منها في المجتمعات الهرمية والدولتية. ذلك أنه لا يمكن للهرمية أو الدولة أن تتطور، دون تَشَكل ظاهرة الطبقة. لكن، ومن الجانب الآخر، لا يمكن القضاء على أية بنية للدولة أو الهرمية من قِبَل الطبقة الاجتماعية السفلى التي تشكل دعامة أساسية لها. التمايز الطبقي والتدول ظاهرتان تشترطان وجود بعضهما البعض، ومنوطتان ببعضهما البعض. قد يكون ثمة صراع ضارٍ بينهما. لكن وفاقهما أمر لا مفر منه في منتهى المآل. تُشَكِّل الطبقة الحاكمة على الدولة، والطبقة المحكومة من قِبَلها قريناً (ثنائية) جدلياً. وتكون الدولة هي الواقع القائم والسلوك المتبع فيما بين هذه الثنائية، بحيث لا يمكنها الصمود أو الثبات في حال غياب أحد عنصرَيها. فبغياب الطبقة لا تتشكل الدولة. في حين أن الإصرار على تشكيل الطبقة يعني تماماً الإصرار على الدولة. أما مديح الطبقة المسحوقة، فيتحول في آخر المطاف إلى مديح للدولة المهضومة والمقبولة، بشكل أو بآخر.
إن القول بـ"دولة الطبقةالعمالية" خاطئ كمصطلح. فهذا القول لا يعني سوى "إني أخلق بورجوازيتي بيدي". والتجربة السوفييتية برهان ضارب للنظر في هذا المضمار. أما الشكل الأصح في موضوع الصراع الطبقي، فيتمثل في عدم عيش التمايز الطبقي على الصعيدين الأيديولوجي والعملي. وهذا ما مفاده العيش على شكل "فرد حر" أو "مجموعة إثنية" أو أي ضرب من ضروب الجماعات. حينها لا يتبقى من الدولة سوى جهاز تنسيقي، أو منظومة تسمى "الأمن العام والمصلحة العامة المشتركة"، والتي تحدَّد وفق إرادة المجتمع المشتركة.
يُعاش التمايز الطبقي بأنقى أشكاله وأكثرها أصالة في الحضارة الشرق أوسطية، في عهد نشوء الحضارة السومرية والمصرية. حيث يجد معناه في الميثولوجيا على شكل مخلوقات إلهية، وأخري طينية. إنه تمايز جذري. وقد تحول هذا التمايز في الأديان التوحيدية، ليتخذ شكل "أهالي الأنبياء" (أهل البيت) و"الأمة". في حين يمنح سيدنا موسى صلاحية "الكهانة" للقبيلة الأقرب إليه من بين القبائل العبرية؛ ليباشر بذلك بإبراز تمايز طبقي خاص به. أما سيدنا عيسى، فتتبين منزلته بالبدء بتمرد الفقراء تجاه طبقة الكهنة بالأرجح. وشهدت المسيحية أيضاً تمايزاً طبقياً فيما بعد، بحذوها حذو الإمبراطورية الرومانية. فبينما أسَّست الطبقة العليا للكنيسة دولتها الدينية، تمكنت من تطوير تمايز طبقي خاص في الأسفل بين صفوف الشعب، تحت غطاء ديني.
أما في الديانة الإسلامية، فيُعاش التمايز الطبقي على نحو مختلف. فبينما تتأسس الدولة الإسلامية على يد الخلفاء الراشدين المفتقرين إلى العمق الأيديولوجي، وعلى أرضية تتكون بالأرجح من بقايا الدولتين البيزنطية والساسانية؛ تحولت الأمة، كمجموعة واسعة من المؤمنين، إلى دعامة أساسية لهذه الدولة. و"الأمة" هنا، تعبِّر عن شريحة المجتمع المؤمنة كلياً بالدولة الإسلامية، والمعتادة على الطاعة المطلقة لها. إن غطاء الأمة يدثر وجه التمايز الطبقي الحقيقي، ويجذبه نحو الوفاق.
وهنا تظهر أمامنا الهوية الاجتماعية الديمقراطية للأديان التوحيدية: إنها الوفاق الوطني. يمثل سيدنا عيسى في حقيقته ثورية الطبقة الراديكالية. فـ"الآريوسية" (Ariusçuluk) في الديانة المسيحية، وخاصة في فترة التدول، تمثل المقاومة الطبقية الضارية والعتيدة للفقراء. ويُشاهَد الاتجاه عينه في ظاهرة تمثيل المذهب العلوي للفقراء ولمجموعات الشعب المسحوقة في الديانة الإسلامية، في نفس الوقت الذي يتدول فيه المذهب السنّي. أي أن الطبقات لا تظهر ببناها العارية المكشوفة في منطقة الشرق الأوسط. بل تنتصب أمامنا على الدوام متقمصة أغطية إثنية ودينية ومذهبية. بمعنى آخر، يجب العثور على التمايز الطبقي في أعماق الأغطية الأيديولوجية والإثنية والمذهبية الغائرة. والصراعات الحاصلة إنما تُشِيد بالخصائص نفسها. يتواجد على الدوام مضمون طبقي في كل صراع إثني أو ديني أو مذهبي أو فكري أو …الخ. يجب وضع هذه الحقيقة نصب العين دائماً لدى القيام بتحليل أي ظاهرة اجتماعية كانت.
لدى تصارع الطبقات في الشرق الأوسط الراهن على الدولة (كما في العراق مثلاً)، يبرز ذلك في العلاقات القائمة بين المذاهب العربية، العلوية الشيعية منها والسنية من جهة، وبين الإثنية الكردية وجماعات الأقليات الأخرى من الجهة الثانية. أي أن الظاهرة الطبقية تعاش في أغوار البنى الأيديولوجية والدينية والإثنية للدولة وللشعب كرعيّة تابعة، على السواء. لهذا السبب، لا تتسم الأحزاب الطبقية العلنية ذات الطراز الغربي بمعنى حقيقي فيها. لذا، سيكون من الأنجع ألا نهمل مسألة التمايز الطبقي أو نغفل عنها إطلاقاً، ولكن أن نراقب شكلها المرئي الخاص بها بعين واقعية. وبالتالي، أن نعمل على تحليلها دون الوقوع في مفهوم الإسقاط الزائد أو الانزلاق في المفهوم الطبقي الفظ (كالقول بالطبقة العمالية أو القروية مثلاً)؛ وأن نطور الممارسات العملية ونطبقها بموجب ذلك. وإلا، ففي حالة العكس، ستغدو ظاهرة الطبقية آلة أو وسيلة تقبع في أعماق العقم واللاحل، مثلما هو عليه الأمر في يومنا الحاضر.
لم تنجُ الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية، والديمقراطية الاجتماعية، والتحررية الوطنية من ملاقاة الفشل والهزيمة، بسبب توجهاتها الطبقية الحديثة الفظة، والتي لها دور بارز في عدم فلاح الأحزاب الشيوعية والديمقراطية الاجتماعية والقومية الراديكالية، بأي شكل من الأشكال، في كل من إيران، العراق، تركيا، مصر، وسوريا. بل، وخلافاً لذلك، أدت – ورغم مساعيها المهمة – إلى هزيمتها النكراء تجاه التيارات التي عرفت كيف تستخدم الغطاء الديني بمهارة في الصراع على السلطة (كالشيعة، الإخوان المسلمين، حركة حماس، حزب الله، وغيرها).
تتشكل ظاهرة "المُلكية" أيضاً في أغوار عواطف الانتساب الاجتماعي والهوية الاجتماعية، إلى جانب بروزها إلى الوسط في فترة التمايز الطبقي من سياق التطور الاجتماعي. قد يكون من الناجع الفصل بين شكلين من أشكال المُلكية. حيث بالمقدور تعريف المُلكية الجماعية أساساً بأنها إرادة التصرف بأي شيء تستدعيه الضرورة المشتركة من أجل مجموعة منظمة معينة. فكل فرد من الجماعة له نفس الحق في التصرف (الانتفاع من إرادة الاستخدام والاستهلاك) بالشيء المعني. في الحقيقة، لا يمكن القول بأنها مُلكية بكل معنى الكلمة، انطلاقاً من ماهيتها هذه. فالجماعية تعني إنكار المُلكية الخاصة.
أما المُلكية الخاصة، فتعني إرادة التصرف والاستهلاك المتزايدة من قِبَل الفرد أو مجموعة الأفراد، على حساب المُلكية الجماعية العامة. تمثل الحضارةُ الشرق أوسطية المجتمعَ الأقدم الذي شهد المُلكية، انطلاقاً من نوعيتها الأقدم في معايشتها التمايز الطبقي. وقد تَشَكَّل التدوُّل بتأسيس مُلكية في أطرافه، بحيث تشهد النوعين الجماعي والخاص من المُلكية بشكل متداخل. بمعنى آخر، فقد تشكل نظام مُلكي جماعي وخاص متداخل مع التدول، وليس على الشاكلة التي تقول بتأسس أصحاب المُلكية الخاصة أولاً، ومن ثم بناء نموذج الاستيلاء على الدولة. وبقدر تدول الشريحة العليا، تكون صاحبة للمُلكية. فالدولة بحد ذاتها تعني الإعلان عن الحدود التي تهمين عليها كمُلك لها. والدولة ذاتها هي أكبر شراكة مُلكية. وهي وحدة للمُلكية الخاصة. كما أنها تسمح بوجود محدود للمُلكية الخاصة في الشرائح السفلية والوسطى، والتي بدورها لا تتخلص أبداً من مصادرتها على التوالي. لهذا السبب لا تتطور المُلكية الخاصة فيما بينها كثيراً. ذلك أنه ما من ضمان جدي للمُلكية الخاصة خارج إطار الدولة. يوضح هذا الوضع – بما فيه الكفاية – أسباب عدم تطور المُلكية الخاصة بقدر ما تطورت في الغرب. فطراز تكوُّن الدولة عامل مؤثر أولي في تحديد كيفية تطوير التملك.
إن تحجيم الدولة الغربية منذ بدايتها من قِبَل الشرائح البورجوازية الأرستقراطية المتميزة بمكانتها الراسخة من حيث المُلكية الخاصة، أفسح المجال لتكوين مؤسسة المُلكية الخاصة بشكل أقوى وأكثر تعزيزاً. وقد برهنت تجربة الحضارة الغربية على أن المُلكية الخاصة أكثر إبداعاً وخلاقية من مُلكية الدولة.
أما المُلكية الجماعية الكامنة في أغوار المجتمع، فغالباً ما استمرت في تواجدها ضمن العائلة والقبيلة والمذهب وغيرها من المجموعات والجماعات. ثمة أهمية قصوى يتميز بها موضوع عدم الخلط بين هذه المُلكية الجماعية، وبين المُلكية الجماعية – الخاصة الموجودة في الدولة. فشكلُ المُلكية الأكثر رجعية وطفيلية وافتقاراً للإبداع هو ذاك الموجود في الدولة. يجب رؤية الإفراط في المُلكية داخل الدولة كأهم عامل للتخلف الاقتصادي السائد في منطقة الشرق الأوسط. تُكبَتُ أنفاسُ المجتمع على يد الدولة ونظامها المُلكي المتعاظم كورم اجتماعي خبيث. وغالباً ما تتطابق معاني المُلكية والدولة معاً. وتداخُل معاني "المُلك – المَلِك – التملك" يشير إلى هذه الظاهرة ويُبرِزها. وإذا ما قمنا بتعميم تصنيفي، فسنحصل على النتائج التالية: "الإله = صاحب كل شيء"، "دولة المَلك الإله = المَلك الإله صاحب كل شيء"، "المَلك الإله = مؤسسة الدولة"، "مؤسسة الدولة = الدولة صاحبة كل شيء". سيكون من الصعب جداً تحقيق التطور الاجتماعي، ما لم تحلَّل هذه العلاقة الكائنة بين الدولة والمُلكية بالمستوى الأمثل. إن الكل المتكامل للدولة المقيِّدة للعلاقة السليمة الكائنة بين الفرد والمجتمع، وكذلك للأموال المقتصَدة التي استولت عليها؛ إنما هو مُلكية.
الاقتصاد مصطلح كوني. ويمكن تعريفه بأعم الأشكال بأنه إجراءات البيع والشراء وتبادل السلع، كما في حادثة الأيض (التغيرات الكيماوية) الحاصلة في عالم الأحياء. فالحصول على مادة حية من المادة الجامدة، واستهلاكها وتحويلها ثانية إلى مادة جامدة؛ إنما يشكل مضمون الأنشطة الاقتصادية. جلي بسطوع تام استحالة افتقار المجتمع لهذه الأنشطة في تكونه وديمومة وجوده. لكن الحقيقة الأخرى المتعلقة بهذا الشأن هي أنه لا اقتصاد بلا حيوية (يمكن تعريف هذه الحيوية بالذهنية أو الروح). بالتالي، فوضْعُ الثقل على عنصر واحد فقط لدى تحليل هذه الظاهرة، يفضي إلى نتائج خاطئة. إذن، فالأسلوب الأصح والأسلم هو تحليل الذهنية والاقتصاد بشكل متداخل (المجموعات الاجتماعية البينية، الدولة والعائلة، وبشكل أعم الظواهر السياسية والاجتماعية معاً). أما التحليلات المعنية بالاقتصاد لوحده، أو بالذهنية بشكل منفرد؛ فتؤدي إلى أخطاء تماثل ما لتعريف الفيل بشَعره. بقدر ما تكون الذهنية خلاقة ومنتجة، يكون التأثير الاقتصادي معطاء ومثمراً. يتضح من الأمثلة التاريخية أن الفترة ما بين 6000 – 4000ق.م التي شهدت الثورة النيوليتية، هي إحدى الحقب التي كانت عقلية الإنسان فيها في ذروة عطائها (وقد حصل هذا في الحواف الداخلية لسلسلة جبال أمانوس وطوروس وزاغروس، والمعروفة باسم الهلال الخصيب). هذا وقد أسفر العطاء الاقتصادي على ضفاف بحر إيجة عن ولادة الحضارات الكريتية والإغريقية والرومانية. وارتباطاً بذلك، حدثت الثورات الفكرية والفلسفية والعلمية. علاوة على أن ذهنية النهضة أدت إلى ولادة أعظم اقتصاد أوروبي. التأثيرات إذاًَ متبادلة ومغذية لبعضها البعض.
إن العصور الاقتصادية الناجمة عن التطور الذهني بارزة في الحضارة الشرق أوسطية. مقابل ذلك، فما حصل في هذه الذهنية من انقطاع عن عالَم الظواهر، والانقطاع المتتالي عن الفيزياء في عالم الميتافيزيقيا، والغوص في عالم الخيال والأوهام والتصورات المبهمة والضبابية؛ كان مؤثراً أساسياً في انخفاض مستوى العطاء الاقتصادي. فبقدر انفصال ميتافيزيقية الشرق الأوسط عن عالَم الظواهر (الميثولوجية منها والدينية والفلسفية) وانهماكها بالمصطلحات المجردة؛ مهَّدت السبيل للانحسار والتدهور الاقتصادي. إن التركيز على الإلهيات، وسلوك اتجاه العداوة تجاه الفلسفة المؤدية إلى صياغة التعريف الصحيح للعالَم الطبيعي على وجه الخصوص، وعدم تطوير الفكر الفلسفي والعلمي؛ قاد في المجال الاقتصادي أيضاً إلى التخبط في عقم أشد وأعمق، وعدم التطور، بل والتسمر في الأساليب النيوليتية التي كانت شائعة قبل الآن بآلاف السنين.
من المحال حدوث ازدهار ونمو اقتصادي راسخ ودائمي ومؤسساتي في الشرق الأوسط، ما لم تمر المنطقة بتطورات ذهنية على شاكلة النهضة والإصلاح والتنوير. هذه هي الحقيقة المتوارية خلف دوافع العجز عن القيام بالإنماء، سواء على يد الدولة، أو عن طريق الأفراد بشكل خاص؛ وخلف أسباب السفالة والبطالة المتفاقمة التي تجترها الجماهير. لا يمكن أن تفلح هذه المنطقة الأغنى بمواردها، في ثورتها الاقتصادية، ما لم تمر بالثورة الذهنية الجذرية. حينها بالتالي، لن تقدر على النوء عن عبء المشاكل المتفاقمة كالبطالة والفاقة والعَوَز. لن يسفر البحث عن الحل عن أية نتائج في الشرق الأوسط، ما لم توضع الثورة الذهنية والديمقراطية في نواة الحل الاقتصادي. وحتى إن حدثت التطورات، فلن تذهب أبعد من لعب دور الضمادات. إذاً، فالأسلوب الأصح هو اتخاذ العلاقة الموجودة بين الاقتصاد والذهنية والديمقراطية أساساً، والتوجه نحو الحل بناءً على هذه الخلفية.
من المهم تسليط الضوء على ظاهرتَي السلالة والطرائقية ارتباطاً بالدولة والدين، أثناء توضيحنا لبعض المصطلحات. حيث أن إكمال التعريف سيبقى محمَّلاً بالنواقص، إنْ لم نُلقِ الضوء على دور السلالة والطرائقية في الحضارة الشرق أوسطية.
السلالاتية ظاهرة ملفتة للنظر، متصاعدة داخل العائلة والدولة، ومشحونة بالعناصر الإثنية والميثولوجية الدينية. وفي كل الأزمان لعبت سلالة محددة دورها البالغ الأهمية في كل تصاعد أو انهيار للعوائل والدول. ويندر التفكير بدولة بلا سلالة. تسري هذه القاعدة، حتى في يومنا الحالي بنسبة كبيرة. بالإمكان الإشارة إلى قوة ومتانة بنية العائلة البطرياركية كسبب لذلك. إنها جينة الدولة البطرياركية. بالتالي، بمقدور أقوى العائلات البطرياركية التسامي إلى طابق دولة السلالة. هكذا تصبح السلالة دولة بذاتها. السلالاتية مؤسسة يمكن إرجاع أصولها إلى ما قبل آلاف السنين. ولها آثارها العريضة جداً في الدولة والمجتمع على السواء. إنها أشبه بمجمع للطبقة الحاكمة والمجموعة الإثنية والعقيدة الدينية. ويكمن حُسْن طالعها – من جانب آخر – في تأثيرها عبر سلالات النَّسَب أزماناً طويلة. هذا وتُعَد مُساعِدة أيضاً من أجل التوسع المكاني عبر الزيجات الحاصلة بين السلالات. هذه المزايا توضح بجلاء دوافع تأسيس الدولة داخل السلالات أولاً.
من المهم عدم غض الطرف عن المؤسسة السلالاتية، باعتبارها تشكل بؤرة متينة في التطور الدولتي بقدر التطور الاجتماعي. والحضارة الشرق أوسطية، بمعنى من معانيها، تُحمَل وتُنقَل عبر السلالات. نخص بالذكر هنا سلالات الدولة كأمثلة تركت بصماتها على التاريخ أكثر من غيرها. فبينما تتميز السلالات الخارجة عن نطاق الدولة بثقلها الراجح في الحضارة الغربية، تبرز نجومية وشهرة السلالات المرتبطة بالدولة أكثر في الشرق. السلالاتية في الوقت نفسه مدرسة، ونموذج اجتماعي. فبعد حدوث التطورات المهمة في مدرسة أو أنموذج السلالة، يتم نقلها إلى المجتمع. وحتى المجموعات الإثنية والشعوب، كثيراً ما تُعرَف بأسماء السلالات. والحوادث التي تلعب فيها الأدوار الرئيسية، ليست بقليلة العدد. فأقوى الإثنيات والشعوب يتم ذكرها بذكر اسم أو قوة السلالات التي أبرزوها من ضمنهم. فالأمويون، العباسيون، الأيوبيون، السلاجقة والعثمانيون والبرامكة؛ إنما يعنون في الوقت نفسه الشعب العربي أو التركي أو الكردي أو الفارسي.
من الجوهري عدم إنكار واقع السلالة، ولا إعلاء شأنها، باعتبارها لا تزال تحافظ على وجودها في الأوساط الذهنية والمادية في راهننا. والسبيل الأكثر واقعية هو تناولها كظاهرة اجتماعية، وجذبها إلى الأرضية الديمقراطية الاعتيادية. فبقدر عدم الوقوع في الشغف بالسلالاتية، من المهم تناولها بشكل تحليلي، مع الإدراك التام بأنها واقعة اجتماعية. وإلا، فقد يقود الاقتراب المعاكس إلى إفراز نتائج سياسية واجتماعية وخيمة بحق، وإلى تجذير الأزمات أكثر. ستُدرَك أهمية الموضوع بجلاء أكبر، إذا ما أشرنا إلى النتائج المأساوية المروِّعة التي أفرزها مرض السلالة الصَّدَّامية في العراق مؤخراً.
الطرائقية أيضاً كالسلالاتية. لكنها تنتشر بالأرجح في الميدان الديني والمذهبي. وهي تعتمد أساساً على تطبيق المبادئ الدينية العامة حسب المراحل الزمنية والمكانية الملموسة. يتم تعبئة الثغرات الناجمة عن ضعف التنظيم الديني العام، عبر التنظيمات الطرائقية. غالباً ما تتحول الأديان إلى قوة تنظيمية ملموسة عبر الطرائق والمذاهب. لذا، من الطبيعي أن تتواجد الطرائق والمذاهب في كل أماكن تواجد الأديان. والطرائقية حادثة معايشة الدين بحالة أكثر كثافة وتنظيماً. وما دامت كذلك، فإن شخصيات وزعماء الطرائق والمنظِّمين لها تلعب دوراً مهماً. فأينما يتواجد فراغ أو ثغرة ما، تكون الطريقة الدينية هناك. نخص بالذكر هنا الجماهير التي لا تروي الدولة ظمأها، فتهرع إلى تنظيمات على شاكلة الطريقة الدينية. وفي الظروف التي تكون فيها العائلة ضيقة النطاق، والدولة مكاناً صعب المنال؛ يكون احتمال وجود التنظيمات الطرائقية قوياً، في حال غابت فيها التنظيمات الاجتماعية الأقوى.
أما التنظيم المذهبي، فهو الحالة الأكثر تقليدية والأوسع نطاقاً للطرائقية. ثمة العديد من الطرائق التي ترى حاجة في أن تكون نصف علنية بهدف الحماية من الدولة، وتخطي حدود العائلة الضيقة الآفاق. وبينما تكون بعضها تابعة للدولة، يكون البعض الآخر منها مناهضاً حاداً لها. عادة ما يكون الشرق الأوسط أشبه بمجتمع من الطرائق الدينية. وقد لعبت الطرائق الدينية أدواراً مهمة لدى بروزها في الفترات التاريخية التي عجزت فيها الإثنية عن تلبية متطلباتها بشكل تام (وخاصة في المدن)، وبقيت فيها العائلة ضيقة الآفاق، واعتَبَرَت الدولة نفسها أنها تشكل الكل بالكل بمفردها. في الحقيقة، فالطرائق الباطنية السرية البارزة في العصور الوسطى، ليست سوى أحزاب لطبقة الفقراء. ومن أشهرها الطريقة الباطنية لـ"حسن الصبّاح" (1100 – 1250م)، حيث قَضَّت مضاجع السلاطنة والوزراء السلاجقة، الذين كانوا يمثلون السلالة الحاكمة والمذهب الحاكم، وأدمَت أفئدتهم وعقولهم. والفاطميون، والخوارج، والعلويون أيضاً يمثلون تقاليد مشابهة. إن الطرائق الدينية والجماعات الشبيهة بها في الحقيقة ضرب من ضروب مؤسسات المجتمع المدني في المجتمع الشرق أوسطي.
بما أن ظاهرة الطريقة الدينية تنبع من الفراغ الاجتماعي، فهي تستدعي دراسة موضوعية. وبما أنها مؤسسات شبه سياسية وشبه اجتماعية، فإن أدوارها تتميز بأهمية ملحوظة، سواء بالنسبة للسلطة أو المعارضة. إذ لا مفر من تواجد مثل هذه التنظيمات في الأماكن والفترات التي تكون التطورات العلمية فيها محدودة، والمفاهيم الديمقراطية غائبة. يكمن السبيل لتجاوز كل ذلك، في تطوير علم الاجتماع والنضال والصراع الديمقراطي. أي أن الطريق الصحيح للانشغال بالطرائق المتردية بنسبة ملحوظة، والتي تلعب دوراً أشبه بدور الشركات ذات العلاقات المنفعية المتعددة في يومنا الراهن؛ تتمثل في تعبئة الشعب بالعلم والديمقراطية، وتحقيقهما له. هذا بدوره يتطلب الإيمان بالعلم بقدر عمق إيمان أصحاب الطرائق كأقل تقدير، وإيلائه قيمته، وسلوك المواقف العازمة والعنيدة الدائمة في سبيل الديمقراطية. والأسلوب الأكثر تأثيراً في حل التزمُّت وتفكيكه هو، عدم إنكار المجموعات الجماعاتية الممتدة في جذورها إلى ما قبل مئات السنين. بل الإدراك بوجود مكان لها أيضاً ضمن الديمقراطية، وإبداء الموقف الديمقراطي منها بموجب ذلك.
بالمقدور إبداء مواقف مشابهة من أجل بعض التنظيمات الحزبية السياسية وبعض منظمات المجتمع المدني، التي يمكننا تسميتها بالطرائق الحديثة بالمعنى الأوسع نطاقاً. يتحلى النظر من آفاق أوسع إلى ظاهرة المجتمع المدني بأهمية كبرى في حاضرنا، في الشروط التي تتشابك فيها الأواصر العائلية والقَبَلية والعقائدية مع الأواصر الأيديولوجية الأكثر عمومية. هذا وقد يسفر توحيد العناصر الكلاسيكية للمجتمع المدني مع العناصر العصرية، عن نتائج أكثر عطاء وإثماراً. ذلك أن مؤسسات المجتمع المدني التي لا ترتكز إلى الماضي والتقاليد، قد تمر بمشكلة الأصول والجذور. بالتالي، ثمة خطر جفافها السريع أيضاً. بمعنى آخر، فأي حركة أيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية أو فنية تعجز عن عقد علاقتها مع التقاليد، لن تكون فرصتها في النجاح دائمة، ولن تنجو من كونها وقتية ومؤقتة كالموضة. نخص بالذكر هنا ضرورة استنباط الدروس من فشل اليسار الذي استخف بالتقاليد وازدراها، لدى تأسيس مؤسسات المجتمع المدني والحركات السياسية الديمقراطية ذات الآفاق الشاسعة، والعاقدة أواصرها مجدداً مع التقاليد. حينها ستكون قادرة على صياغة الحل في النفاذ من الأزمة، وبالتالي تكون ناجحة وموفقة.
5 – رغم العمل بالديكتاتورية والعنف وتفعيلهما ارتباطاً بالدولة في الحضارة الشرق أوسطية، إلا إنه من الضروري تحليل السلطة بشأن الشكل والعنف عبر تعاريف أعمق. وبشكل عام، يكون مضمون الدولة ذاته في كل مكان. حيث يمثل التقاليد المتأسسة على خلفية فائض الإنتاج والقيمة الزائدة. أما عندما يكون الموضوع متعلقاً بشكلها، فتبرز أمامنا متغيرات كبرى. تلعب الشروط الزمانية والمكانية دورها في ذلك. حيث تتولد أشكال مختلفة للعديد من الدول على اختلاف الفترات والظروف. مع ذلك، يلفت نظرنا وجود اتجاهين عامين في ثنائية (قرين) الشرق – الغرب. فبينما نصادف الأشكال الجمهورياتية والديمقراطية في الغرب بشكل أكثر، تكون الاستبدادية هي الشكل الرئيسي في الشرق.
تشاهَد الجمهورية في النظام العبودي الكلاسيكي، وبعض الدول المدينية في العصور الوسطى، إلى جانب وجودها في أوروبا العصر الحديث. يكمن الفرق الأولي بين الجمهورية والاستبدادية في الميدان القانوني. ورغم أن شرائح الأسياد المهيمنة هي التي تلعب دورها في كلا الشكلين، إلا إن القواعد المحدَّدة عبر صراع اجتماعي كثيف ومتوالٍ هي الدارجة والفعالة في الشكل الجمهورياتي. وتكون هناك بنية اجتماعية ديناميكية، تقوم بتحديد حقوقها. بل وتدافع عنها بالعنف أيضاً إن دعت الحاجة. إذاًَ، فالجمهورية تمثل المجتمع الديناميكي (الحركي). أما في الاستبدادية، فالعكس هو الصحيح. فشخص واحد هو الذي يفرض عملياته الكيفية على المجتمع كقاعدة أو حُكم صارم، وبشكل أحادي الجانب. في الحقيقة، لا فرق جدي بينها وبين المونارشية. يكمن الفرق – فقط – في أن المونارشية تعتمد على السلالة المحدَّدة سلفاً، وتكون موضِّحة بتعبير أكثر تقليدية عن تحديد المونارشي (المَلك) الذي سيُختار للعرش، عبر قواعد محدَّدة. أي أن القواعد الإدارية تقليدية. وتظهر الأحوال الطارئة في أوقات المآزق والفوضى بين الفينة والفينة. حينها، إما أن تعتلي العرش سلالة جديدة، أو أن تبقى السابقة مع تغيير المَلك، ليبدأ الجديد بإجراء حكمه ونفوذه. أما في الاستبدادية، فقواعدها قابلة للتغيير من المستبد ذاته. وكثيراً ما يسن القواعد الكيفية أو يغيرها. المونارشية الموجودة في الشرق الأوسط أدنى إلى الاستبدادية. وما "الفرمان" (أوامر السلطة) في مضمونه سوى أحكام استبدادية رسمية. ورغم التعامل معه على أنه قانون رسمي، إلا أنه لا علاقة له بالقانون كثمرة من ثمار الصراع الاجتماعي.
أما الديكتاتورية، فهي شكل مغاير. وهي تفيد بالشروط التمهيدية لظهور الأباطرة، أو هي نموذج مصغر عنهم. ويتم إجراؤها من قِبَل شخص سياسي (أو عدة أشخاص) بعد تسلحه (تسلحهم) بالصلاحيات الخارقة. الفرق بينه وبين المستبد هو زيادة ثقل القوة المراقِبة والمتربصة من حوله. حيث أن الوسط الذي يحاسِب الديكتاتور ويسائله متواجد على الدوام. ورغم أن الإمبراطورية نظام دائمي راسخ، إلا أن الديكتاتورية وقتية مؤقتة. حيث يُلجأ إليها في الأحوال الطارئة. ورغم دنو تشكيلة الدولة في الشرق الأوسط من الاستبدادية أكثر، إلا إنها قريبة أيضاً من المونارشية والإمبراطورية. بالمقدور القول أن الاستبدادية والمونارشية والإمبراطورية قد التحمت في شخصية رئيس الدولة في الشرق الأوسط. تشير هذه الحقيقة إلى مدى تأثير الرئيس ونفوذه بوضعه نفسَه مع الدولة في كفة واحدة. ولربما كانت أكثر أشكال الإرادة كثافة وتأثيراً تتجسد في رئاسة الدولة في الشرق الأوسط. لهذا علاقته بمضمون الدولة ذاتها. حيث تتحد تقاليد السلطة الأبوية والمشيخة والبيكاوية (الآغاوية) والسيادية القوية والوطيدة في رئاسة الدولة، لتتكون مجدداً كقوة عظمى. لأجل ذلك، من الصعب جداً البحث عن الأشكال الجمهورياتية أو الديمقراطية في الدولة الشرق أوسطية، ولو من قبيل الاستثناء. وكأن الدولة تتحرك وفق محتواها ذاك كلياً، وتسعى لإثبات قوتها وقدرتها ليكون شكلها وحيداً. علاوة على أن الدولة الثابتة التي لا تتغير، تَعتَبِر أن الحفاظ على صورتها راسخة دون المساس بشكلها، مهارة وفضيلة سياسية بالنسبة لها.
بالإضافة إلى أن نقش مفهوم "المَلك الإله والدولة" في ذاكرة المجتمع على مر قرون مديدة، له دور بارز في عدم تطور الجمهورياتية. فتَدَخُّل البشر العبيد في شؤون الدولة الإله منافٍ للتقاليد. والتدخل في شؤون الإله (الدولة) أكبر ذنب يمكن أن يقترفه المرء. وما المقولة المكرر ذكرها بكثرة في الكتب المقدسة، والتي مفادها "لا تتدخلوا في شؤون الإله، الإله لا يحاسَب، لا تفكروا في شراكة الإله الذي لا شريك له"؛ إنما تعني مضموناً ما يلي: "لا تتدخلوا في شؤون رئيس الدولة، الرئيس لا يحاسَب، لا تشاركوه السلطة والصلاحيات". ولكنها تقال بتعبير ديني. قد يدّعي البعض أن هذه المقولة ذُكِرَت في الكتاب المقدس خصيصاً لإبراز حاكم يحكم القبيلة العبرية. وهو رأي له نصيبه من الصحة. بل وحتى يقال بأن سيدنا موسى يأتي من الإمارة المصرية. وإعلانه حكمه ومخططه بشأنه عبر التوراة، أمر مفهوم. إضافة إلى أن سيدنا عيسى قُبِض عليه واعتُقِل أثناء محاولاته للاستحواذ على حُكم القدس التي أسماها "بنت الصهيون". والسرد الأكثر فصاحة وعلانية موجود في القرآن. كما أن أقوال سيدنا محمد التي طالما ذكرها، سواء كآية قرآنية أو على شكل أحاديث نبوية، والتي تقول ما معناه: "لا شريك للإله، لا تتدخلوا في شؤون الإله، الإله يحاسبنا جميعاً ولا يحاسبه أحد"؛ قد مهدت الطريق لظهور رئاسة الدولة في العصور الوسطى، سواء على شكل سلطنة باشوية أو إمارة. وقد حصل ذلك سواء كان سيدنا محمد قصده عن وعي أو بدونه. والقرآن بجانبه هذا أقرب إلى بلاغ الدولة أو وثيقة لها. بل ويحدِّد ببصيرته المستقبلية الثاقبة مخطط الإدارة، ويُبلِغ بها وكأنها ستحكم على مدى القرون اللاحقة أيضاً. سيكون من الناجع حقاً تحليل القرآن وفق وجهة نظر النظرية السياسية. بالطبع، فموقعه الكائن بين تبعية الأمة لله، وتبعيتها للدولة، أكثر علانية وتلقيناً للدروس والعظات. كل الوثائق الدينية البارزة في العصور الوسطى، سواء في الإسلام أو المسيحية، أو في أديان الشرق الأقصى كما في الصين والهند؛ أشبه بإعلانات أو تصريحات تمهيدية تُبلِغ عن شكل الدولة التي ستلد بعدها. إنها عبارة عن حكاية نشوء وتطور دولة العصور الوسطى المُبَلَّغ والمبشَّر بها.
إن تعرية الدولة من سماتها الاستبدادية وتطهيرها منها في شرقنا الأوسط الراهن، من أصعب المهام الواجب النجاح فيها. ورغم وجود بعض الدول المسماة بـ"الجمهورية" في الميدان، إلا إنه من الصعب القول بأنها تخطت نوعياتها الاستبدادية. فالجمهورية تستدعي الاتفاق الجماعي والرضائي بين الطبقات. ولا توجد أي دولة دستورية أو جمهورية في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط على مر التاريخ، تم تحديدها بالإجماع والاتفاق الرضائي الاجتماعي. فهي لا تتناغم مع الجمهورية، باعتبارها أنظمة معتمدة على إرادة شخص واحد؛ أياً كانت مكانتها، تقدمية كانت أم رجعية. يكون تواؤم أو وفاق إرادة عدة أشخاص متكافئين في القوة والقدرات لا شخص واحد، هو الأساس في الجمهورية. إن هزل ووهن الطبقات الاجتماعية، عجزها عن تطوير الإرادة السياسية، التعبُّد التقليدي للدولة، وغياب التقاليد الجمهورياتية؛ يلعب دوراً بارزاً في ترسيخه. أياً كانت أسماء الدول في الشرق الأوسط، وأياً كانت الفوارق بينها؛ فمن المهم القول والإدراك بأنها لم تتخطّ ماهية الدولة الاستبدادية. هذا مهم من أجل النضال في سبيل السياسة الديمقراطية والجمهورياتية والصراع من أجلهما.
الأهم من ذلك هو تحليل ثقافة العنف في الحضارة الشرق أوسطية. بالإمكان القول أنه تكاد لا توجد أي مؤسسة أو ثغرة (مسام)، إلا ودخلها العنف وحدَّد إطارها في مجتمع الشرق الأوسط. بشكل عام، يُجمَع على الرأي القائل بأن العنف لعب دوراً مصيرياً في البنى السياسية والاجتماعية، بل وحتى الاقتصادية. كما يُجمَع على أن السلطة والعنف توأم حقيقي. لكنه لم يكن مصيرياً في دوره بقدر ما كان عليه في البنية الفوقية والتحتية على السواء في المجتمع الشرق أوسطي، بحيث من الصعب مصادفة مؤسسة متشكلة دون أن تقبع تحت تأثير العنف.
لا أرى جدوى في اللجوء إلى الأطروحات البيولوجية، بل وحتى الطبيعية، لدى تعريف العنف. فجذور العنف الاجتماعية علنية وعارية. كما أن أواصرها مع التمايز الطبقي المرتكز إلى فائض الإنتاج والقيمة الزائدة، ومع سلطة الدولة أيضاً واضحة للعيان. يتم تشاطر هذه الخواص كآراء مجمَع عليها عموماً في علم الاجتماع.
ما يهم هنا ويلفت النظر بشأن العنف، هو ندرة التحليلات المحدَّدة بحقه. حيث يُنظَر إليه كظاهرة استثنائية لا أهمية لها، في المجتمعات المتعرفة على السلطة؛ رغم أن للعنف فيها دوره المصيري البارز. لا يمكن الادعاء بغياب الحروب والصراعات الوحشية في مجتمع الحيوانات. الحرب هي التعبير المُرَكَّز للعنف. بل وتُذكر الذرائع المتتالية لتبرير ضرورتها. يتم تبيان الذريعة الوحيدة للحرب – عدا الدفاع الاضطراري عن النفس، وحماية الوجود وصون الحرية – لأجل الاستفراد بزخم القيم الاجتماعية المتراكمة ونهبها وسلبها، التحكم والهيمنة، بسط النفوذ على المجتمع بالاستناد دائماً إلى سلطة الدولة، وإعطائه شكلاً يوافق تلك المصالح المنفعية. رغم أن هذا الجواب شفاف ومفهوم إلى أقصى الحدود، إلا إنه – مع ذلك – تُبذَل المحاولات لمواراة هذه الحقيقة بألف حيلة وحيلة (كمن يجلب الماء من ألف نهر لتطهيرها)، عبر صياغة التعاريف الناقصة والخاطئة. أما الظاهرة التي طالما ضلَّلها وحرَّفها الدين والميثولوجيا والفلسفة، وأخيراً ما يُزعَم بأنه علم الاجتماع؛ فهي كون العنف العملية الأكثر خروجاً عن نطاق الإنسانية، والأكثر وحشية بيد الطفيليين الاجتماعيين المهيمنين المتسلطين والاستعماريين.
هذا التعريف الصحيح عموماً، تبرز صحته من أجل الواقع الاجتماعي للشرق الأوسط بشكل خاص. تُبَيِّن الأمثلةُ الشعبية من قبيل "العصا من الجنة" (من غرفة الحكام)، و"العنف أحلى من العسل" مصدرَه بكل جلاء. للعنف دوره المعيِّن في بقاء المجتمع مكتوم الأنفاس وضالاًّ تائهاً. لقد تشكلت المواقع وحُمِيَت المؤسسات بدروع الحصانة في كل أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، بالاعتماد على العنف. وأي مؤسسة لم يطوِّقها العنف، لن تجد فرصتها في الحياة أبداً.
جلي جلاء النهار استحالة تطور المجتمع الحر أو التمدن في ظل هذه الشروط. بل وحتى الأفكار لا يمكن أن تُقبَل، إلا بعد تمريرها من مصفاة العنف. لذا، لا يتشكل الفكر الخلاق في مثل هذه الأوساط، بل تُسيَّر أمور العالم وفاقاً للألفاظ المسبوكة بقوالب جاهزة ومجمَع عليها. ويكون رئيس الدولة أو رئيس المنزل على حد سواء، مدركين تمام الإدراك أن قوتهما منوطة بسلطتهما وعنفهما. وعندما يقولان "لنمنح العالَم النظام"، إنما يشيران إلى العنف ويقصدانه. فالعنف الذي قد سلَّل كل تأثيراته إلى كافة مسامات المجمع، لا يترك حيزاً مهماً لقوة المعنى والمعرفة. بالتالي، تتواجد المؤسسات الاجتماعية من الناحية الشكلية فقط. من الساطع بما لا جدال فيه أنه لا يمكن انتظار حصول التطور الحر في مجتمع مؤلَّف من مؤسسات بعيدة عن الخلاقية والإبداع تنشط بنخزها وإثارتها من الخارج؛ بسبب سلب حيز المعاني منها وتجريدها منه.
أما في العائلة، فتُكتَم الأنفاس أكثر فأكثر، باعتبارها خلية سفلى قابعة تحت وطأة التقاليد المقتاتة على العنف في المجتمع. بل وتُشَكِّل حالةً من الحرب الخفية والمستترة على المرأة بشكل خاص. وكأنه لا تبقى خلية في وجود المرأة إلا وترتعش من وطأة العنف. وحال الأطفال مثيلة لها. فالأسلوب التعليمي الأساسي الملقَّن لهم هو العنف. بيِّنٌ تماماً أن الطفل المروَّض والمربَّى على العنف، سيُنتَظَر منه السلوك ذاته عندما يكبر، حيث يتفاخر بهيمنته المعتمدة على العنف ويتباهى ويتلذذ بها. وبينما يتوجب النظر إلى عاطفة القوة المعتمدة على السلطة والعنف كأخطر مرض اجتماعي، يُعلَن عنها بأنها أسمى العواطف وأكثرها بعثاً على الغبطة. هكذا تُقدَّم الظاهرة التي تتوجب لعنتها، على أنها الفضيلة الأسمى.
وفي يومنا الراهن أيضاً، لا يمكن التفكير في مؤسسات المجتمع الشرق أوسطي – دون استثناء – بلا عنف. حيث يقدَّم العنف ويفعَّل كوسيلة لحل كل أنواع المشاكل الأساسية؛ بدءاً من عنف الدولة وحتى العنف داخل الأسرة، ومن عنف التنظيم الثوري إلى العنف الفاشي والديني والقوموي. بيد أن ما حقق تفوق الحضارة الغربية هو الحالة المناقضة لذلك تماماً. حيث أنهم أحرزوا نجاحات مظفرة وعظمى لأنهم أولَوا الأهمية أولاً للقول والحوار المفعم بالمعاني إلى أقصى الحدود. ولدى انسداد الحل لجؤوا إلى العنف كأسلوب. والغرب نسبةً إلى الشرق قد حل مسألة العنف لديه واستنبط الدروس منها. يقدم الاتحاد الأوروبي نقده الذاتي بكل شمولية، ويتوخى الحساسية الفائقة في هذا الموضوع. وأمريكا أيضاً تكون حلاّلة للمشاكل لدى استخدامها العنف. أي أنها لا تستخدمه عبثاً. وهي تدرك يقيناً أنها مدينة في نجاحاتها إلى قدرة الحل الفائقة لديها، وأن فشلها ينبع من التحليلات الخاطئة. لقد استخلصت درسها بشكل حسن.
يشكل تطهير مجتمع الشرق الأوسط من العنف مشكلة منوطة، وعن كثب، بالتعليم الشمولي لأقصاه. فالشرط الأولي لإحراز النجاح هو الثقة بقوة المعنى، وتطبيق العنف – فقط وفقط – في الظروف الاضطرارية، وبشرط الحصول على النتائج المرجوة. إن التقييم الصحيح لأبعاد وآفاق العنف المتعلق بكل الميادين – وليس ذاك المنحصر في مواضيع الحرب والثورة والثورة المضادة وحسب – وإعداد العنف المضاد لدى مناهضة العنف، وتطبيقه بشكل سليم وصائب ومثمر؛ إنما يستلزم التحلي بمهارات فائقة. أما إيلاء الحيز الأوسع لقوة الحوار والتنظيم والمعنى، وعدم الثقة بالعنف فيما عدا دوره الاضطراري كحاضنة لدى إعادة "بعث" المجتمع المقلي والمطهي في بوتقة تقاليد العنف على مر آلاف السنين؛ فيجب النظر إليه بأنه الأسلوب الحلاّل للنفاذ من الأزمة، وبالتالي تطبيقه على أرض الواقع.

shiyar
04/04/2007, 10:22 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان
++++++++++++++++++++++++++++++++
الفـصـل الثـالـث

الفوضى في حضارة الشرق الأوسط، والحلول المحتملة


مدخل

ثمة حقيقة واقعة تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط تشهد حرباً عالمية ثالثة على نحو خاص بها. لكن هذه الحرب تتميز بخاصيات مختلفة عن الأبعاد العسكرية والسياسية الكلاسيكية. وإلى جانب صحة تعريفها بصراع الحضارات، إلا إنه لا يفسِّر مضمونها بالشكل الصحيح. حيث لا يكشف النقاب على نحو كافٍ عن أبعادها التاريخية والاجتماعية. كذلك ثمة غموض في تحديد الأطراف المعنية فيها، وفي أساليبها ومآربها. ورغم كثرة التطرق إلى المخططات والمشاريع المتعددة فيها، إلا إنها الحرب الأكثر عشوائية وافتقاراً للتخطيط، وكأنها تسير من تلقاء نفسها، أو كأنها وجهاً لوجه أمام حرب تهدف إلى خلق الفوضى، لا غير.
إن مجتمع الشرق الأوسط (ودوله) يعبِّر بكل معنى الكلمة عن ركام متكدس من المشاكل العالقة. فالمشاكل المتنوعة المكبوتة والمتراكمة منذ الماضي الغابر، قد تركت المجتمع مقطوع الأنفاس. أما الأنظمة المفروضة عليه من قِبَل النظام الرأسمالي بغرض إيجاد الحلول لها، فقد أضحت بحد ذاتها منبعاً لخلق المشاكل. فلا الدول المعنية قادرة على إيجاد الحل، ولا هي تفسح المجال للقوى الممتلكة للحل – الداخلية منها والخارجية – بأن تقوم بدورها. إن تسمية المشاكل بأنها مجرد أزمة إسلامية، هو تعبير خاطئ للغاية. حيث ثمة ذهنيات سائدة تتخطى نطاق الأديان التوحيدية، وتمتد بجذورها لتصل إلى العهد النيوليتي.
تشكلت الكثير من النُّسُج والأنظمة الاجتماعية التي لا يمكن تفسيرها بالظاهرة القومية. إذ تكاد كل عائلة، وليس كل عشيرة وحسب، تتضمن اختلاطاً وتعقيداً أشبه بمشكلة الدولة. تعاني الهوّةُ الشاسعة بين المرأة والرجل اغتراباً حاداً، بقدر ما تعانيه الهوة الكائنة بين المجتمع والدولة. وكأنه ثمة فوضى يعج فيها حشر من الصُّمُّ والبُكم والعميان الذين لا يتفاهمون فيما بينهم، وقابعون في قاع برج بابل، مثلما تقول الأسطورة. وكأن تلك الأسطورة انتعشت مرة أخرى في نفس المكان. حيث تَبذل ما يناهز السبعين من القوى القومية جهودها ومساعيها. لكن الخلل يتفاقم يوماً بعد يوم. فالصراع العربي – اليهودي المتبقي من أيام الفراعنة، لم يفقد من وتيرته شيئاً. كذلك تسير التمشيطات المرتبة تجاه الكورتيين (الكرد) بنفس الهمّة والسرعة منذ أيام الملوك السومريين.
إذن، والحال هذه، من الضروري البحث عن جواب أكثر وضوحاً للسؤال التالي: كيف تصل المشاكل مثل هذه الحالة في الشرق الأوسط؟
يشكل مجتمع الشرق الأوسط الخلية النواة لجميع المجتمعات. وهو يستمد قوته من ماهيته هذه. نظريات الخلية النواة دارجة على المجتمعات أيضاً. لقد أبدى النظام الرأسمالي قدرته على التوسع والانتشار من ثقافة القارة الأمريكية إلى أوستراليا الباسيفيكية، ومنها إلى الثقافة الهندية والصينية واليابانية؛ ومن أفريقيا إلى الثقافتين الروسية والسيبيرية الجنوبية. لقد انتصر في حرب هي ضرب من ضروب صراع الحضارات والثقافات. إلا أن نفس النظام لم يستطع تحقيق فتوحاته تلك في منطقة الشرق الأوسط، رغم محاولاته العديدة المتعاقبة منذ أعوام 1800. ولربما مر فيها بحالات أكثر شحناً بالمشاكل من الحروب العالمية. حيث ثمة عناصر تتجاوز حروب الصهر والإذابة. لا شك في أن السبب الأساسي لكل المصاعب المتلقاة ينبع من النسيج الاجتماعي للمنطقة.
إن المَلَكية والإقطاعية اللتين قضت عليهما الثورة الفرنسية تشبهان الشارلية القيصرية والإقطاعية التي قوَّضتهما وأطاحت بهما الثورة الروسية. لكن كلتا الثورتين انشغلتا أثناء ذلك ببنى فوقية لا نسيج غائر لها. مع ذلك، فتشخيص تلك البنى وتفكيكها تضمَّن مصاعب جليلة. بيد أن هاتين الثورتين قامتا في البنى الفوقية، ولم تتخلصا من الالتحام الأعظمي بالنظام الرأسمالي.
وناهيك عن حل مجتمع الشرق الأوسط وبنيته الفوقية للمشاكل، بل انتهى فَرْضُ هذه النماذج عليه بتجذرها أكثر فأكثر. لذا، لا يتبقى من الأمر سوى ضرورة الفهم الحسن لطبيعة صراع الحضارات. الأصح من ذلك هو التساؤل: ما الذي يبقي على حضارة الشرق الأوسط عقيمة ومقاوِمة عنيدة لهذه الدرجة؟ لماذا تُحرَز النتائج المرجوة في كافة الحضارات الشهيرة في العالم لدى المداخلة فيها، في حين أن الحلول الشبيهة تلقى الفشل الذريع في الحضارة الشرق أوسطية؟
يكمن الرد على هذه التساؤلات في حقيقة الحضارة الأم. فكيفما يشبه الابنُ أمَّه بالضرورة – ولا تشبه الأمُّ ابنَها – فالحضارات الوليدة من الحضارة الأم، لا يمكنها أن تشَبِّه أمها بنفسها. بل هي مرغمة على التشبُّه بحضارتها الأم من بعض النواحي بأقل تقدير. إذا ما رجعنا ثانية إلى مثال الخلية النواة، نجد أنه من الممكن العثور على البنى الجينية (الوراثية) الموجودة في جميع الخلايا المتكاثرة ضمن الخلية النواة. في حين أنه من المحال العثور على كافة جينات (مورثات) الخلية النواة في الخلية المتكاثرة منها. لا شك في أن المقارنة المفرطة للظاهرة الاجتماعية بالظواهر البيولوجية تتضمن أخطاء فادحة. لكنها، مع ذلك، تزودنا بالسهولة المتوخاة لتَفَهُّم الاتجاهات الموجودة بشكل صحيح. لذا، جلي للعيان مدى ضرورة أن تتقرب حضارة النظام الرأسمالي بعمق وخصوصية أكبر إزاء الحضارة الشرق أوسطية.
يجب النظر أولاً إلى البنية الذهنية، لدى البدء بتحليل الحضارة الشرق أوسطية. فنشوء وتوطد بنى الأديان التوحيدية الثلاثة في هذه المنطقة، يشكل أحد أهم حقائقها. ثمة العديد من المواضيع الأساسية التي يتوجب على السوسيولوجيا الدينية تحليلها في هذه المنطقة. هذا ومن اللازم تحديد خطوط هذه المحاولات عبر السلوكيات الأدبية والفنية الأخرى أيضاً. علاوة على أن رسم الخريطة الذهنية فيها دون تمييزِ أو فصلِ قيم المجتمع النيوليتي – الذي لا يزال مؤثراً في المنطقة – عن غيرها؛ سيتضمن أخطاء حقيقية. من جانب آخر، لا تزال ظواهر المذاهب والقبائل والعائلة، حقيقة معاشة فيها كوحدات سفلى لظاهرتَي الأمة والدين الملتحمتَين مع السلطة. أما القوالب الذهنية الناجمة عن الرأسمالية، فلا تجد معناها في المنطقة إلا بعد انكسارها وتحطمها.
إن تناول ودراسة جذور القوالب الذهنية ضمن بدايات التاريخ، بل وحتى قبلها في التعددية الألوهية، وفي العالم الميثولوجي، وخاصة ضمن نطاق العلاقة مع الميثولوجيا السومرية؛ سيساعدنا على الفهم الأمثل لخصال الذهنية المتداخلة فيما بينها. إن ثنائيات القول والعمل، المصطلح والظاهرة، الحقيقة والوهم، الدين والحياة، العلم والأيديولوجيا، الفلسفة والدين، وكذلك الأخلاق والقوانين تشهد تخالطاً وتشابكاً وخراباً وفساداً ولا تمايزاً حاداً في راهن منطقة الشرق الأوسط. حيث تكاد جميع الشرائح الذهنية التي شهدتها البشرية مخزَّنة على شكل ركام متكدس من المشاكل العالقة، مع ما نجم عنها من تلوث. ولا تتوانى البنى اللغوية أيضاً – القديمة منها والحديثة – عن عكس الحالات الذهنية القائمة وتصويرها بكل ما تحتويه من تزمت وتصلّب. هذا وتعاني مصطلحات المماليك والأوطان والقوميات والدول المُبَيَّنة حدودها، والمتأسسة في غضون القرن الأخير؛ من جهالة مركَّزة وضيق أفق حاد.
ثمة تزاوج مشحون بالشوائب والعيوب بين عناصر الذهنية المعاصرة من جهة، وعناصر ذهنية العصور الوسطى والأولى من الجهة الثانية. لذا، فأي قصف للبنى الفيزيائية الطبيعية (على الصعيد السياسي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي)، دون قصف البنى الذهنية في واقع الشرق الأوسط؛ لن يُسفِر في مضمونه إلا عن ممارسات وحشية قصوى للمجازر والإرهاب والتعذيب، الرسمية منها وغير الرسمية، مثلما شاهدنا ذلك في يومنا الراهن.
كذلك تشير البنى السلطوية في منطقة الشرق الأوسط إلى فروقات هامة تميزها عن غيرها من الميادين في العالم. كما أن ظاهرتَي الحرب والسلطة ليستا أقل اختلاطاً وتعقيداً من الخصال الذهنية. فرغم كونهما من أقدم المؤسسات القائمة في المنطقة، إلا أن العلاقة بينهما وبين الحياة الاجتماعية والاقتصادية، تعاني من انقطاع ومفارقات مذهلة. والعلاقات المتبادلة بينها، منفتحة لكل أنواع الديماغوجيات والقمع، من أدقها إلى أغلظها. أما العقلانية (المنطق)، فهي "الربح" الأقل معنى وجدوى. وفيما يخص السوسيولوجيا (علم الاجتماع)، فكأنها مصقولة داخل الروابط الدينية والإثنية والاقتصادية والطبقية والسياسية للحرب والسلطة، كظاهرة بعيدة كل البعد عن التحليل والتفسير. من الصعب الحصول على منظر واقعي للشرق الأوسط، دون القيام بتحليلات صحيحة للسلطة والحرب؛ بدءاً من كونهما مصطلح ديني تجريدي للغاية، وحتى كونهما عصا وهراوة غليظة مسلَّطة.
تتضمن مؤسسات البنى الاجتماعية، وبشكل خاص ظاهرة الأسرة، تشابكاً وتعقيداً، يماثل ما عليه في ظاهرة السلطة، بأقل تقدير. فالرجل والمرأة الشرق أوسطيَّين يتميزان بتشابك يستلزم بالضرورة تحليلاً خاصاً بهما. وأي تحليل للأسرة والمرأة والرجل الحاكم، من خلال القوالب السوسيولوجية العامة، سيحتوي نواقص مهمة جداً. فالواقع السياسي والأيديولوجي والأخلاقي ينعكس على الرجل والمرأة، بأكثر جوانبه قساوة وحِلكة. والتناقضات القائمة في مؤسسة الأسرة، ليست أقل مرتبة من تلك التي في مؤسسة الدولة. فالأسرة هنا أبعد من أن تكون مؤسسة اجتماعية، وأدنى إلى أن تكون "الثقب الأسود" للمجتمعات. إذا ما وضعنا المرأة تحت عدسة المجهر، لربما تَمَكّنّا من قراءة جميع دراميات الإنسانية فيها.
تتطلب كل من المجتمعية التاريخية والجيومجتمعية (المجتمعية الطبيعية أو الجيولوجية) الاقتراب من المنطقة ودراستها ضمن روابط دياليكتيكية كثيفة للغاية. فبدون تحليل كل فترة (كل جزء) من فترات (أجزاء) الأزمنة التاريخية والأمكنة الجغرافية؛ لن يكون بمقدورنا الإدراك الكامل لراهننا، ولا للأنظمة الحضارية برمتها. التاريخ اللامكتوب أهم بكثير من التاريخ المكتوب. هذا وحكايات الأمكنة غير المذكورة، وغير والمكتوبة، أهم بكثير أيضاً من تلك المذكورة والشهيرة.
وبدون معالجة التخلف الاقتصادي ضمن كافة هذه الروابط المجتمعية، فإن التحليل عبر المبادئ الجافة والمجدبة للنظريات الاقتصادية، لن يجدي نفعاً يذكر.
علاوة على أن تحليل الكل بعد تجزيئه وتشريحه إلى أقسام صغيرة – والذي يعد مرضاً عاماً يسود علم الاجتماع – سينمّ عن أكثر نتائجه تضمُّناً للأخطاء والنواقص، لدى إسقاطه على الفعاليات الحضارية للشرق الأوسط، وفي مقدمتها الاقتصاد. فالتحليلات الاقتصادية المفتقرة لتداوُل ومعالجة "السلطة والحرب" و"الذهنية والمجتمعية" بشكل متداخل، لن تؤدي سوى إلى تجذير الجهل والافتقار للمعلومات أكثر. إذن، ساطع سطوع النهار أن البحث والتدقيق في منطقة الشرق الأوسط، عبر القوالب التحليلية للحضارة الغربية، يحتوي أخطاء وأغلاطاً نظرية وعملية مهمة. والفوضى القائمة حالياً، هي – لحد ما – ثمرة لمثل هذه التوجهات.
لا يمكن لأحد – بعد الآن – إنكار وجود الفوضى في الشرق الأوسط، كموضوع يكثر عليه الجدل في وقتنا الحالي. لكن المؤسف في الأمر هو أنه، لا المُدَّعون بأنهم أصحاب المنطقة الحقيقيون، ولا دُعاتُها الجدد، يتناولونها بتحليلات ذات جدوى. إنهم يخافون. فالتناول الحقيقي لواقع المنطقة لا يعني فقط فتح فوهة "علبة الباندورا Pandora Box"*. بل وسيعني أيضاً ضرباً من ضروب نزول "سفينة نوح" على سفوح "جبل جودي" الجديدة. حينها لن تزدهر الحياة إلا بنسل جديد (سواء على الصعيد البشري أو الأيكولوجي). فالحياة الحالية مرتدية رداء من الرياء والاستبداد، يغيطها من رأسها حتى أخمصها. ومثلما هي مليئة بحيثيات ورواسب التقربات الاستبدادية والاستغلالية المعمِّرة منذ آلاف السنين، فإن مساماتها الاجتماعية محتقنة بكل أنواع الدعارة والفحوش الممتدة في جذورها إلى دولة الرهبان السومريين المعمِّرة رسمياً خمسة آلاف عاماً. وتلتقط أنفاسها بمشقة بالغة، بحيث – وإن لم تكن ميتة تماماً – تكون بعيدة كل البعد عن الحياة الطبيعية.
تُرى، هل ستسفر الإمبراطوريات الأمريكية (الإسكندراوية المعاصرة – نسبة إلى الإسكندر المقدوني) عن تطورات تذكّرنا بالهيلينية، عبر مشاريعها الشرق أوسطية الأخيرة؟ وهل ستقدر أمريكا عبر تحالفها مع الأرستقراطيين الكرد (مدراء الإقليم العراقي)، أن تخلق مستجدات شبيهة بتلك التي قام بها الإسكندر بتعزيزه للحركة الهيلينية، عبر تحالفاته التي أبرمها مع الأرستقراطيين الكرد الذين كانوا يشكلون بنية خاصة بذاتها داخل الإمبراطورية البرسية؟
الأهم من ذلك، هل من الممكن أن يتكرر الدور الذي لعبته الأصول الكردية الآرية في كونها مهد الحضارة لدى بزوغ فجر التاريخ؟ بمعنى آخر، هل ستلعب دوراً شبيهاً لدورها السابق، أثناء العبور إلى عصر الحضارة الديمقراطية أيضاً في منطقة الشرق الأوسط؟ حيث أنها تمثل بالأرجح دور الأنساب الكردية عبر التاريخ على نحو "التأثير والارتكاس" من الخارج، إزاء الحضارات المجاورة لها. هذا وشهدت تطورات حضارية محدودة العدد في أراضيها. إذ انهمكت بالأغلب بالمقاومة والصمود وحماية الوجود إزاء الاعتداءات والغزوات الخارجية، وذلك على أساس مقاومات الإثنيات (القبائل، العشائر)، والدخول في تحالفات مساعدة على تحقيق مآربها تلك. وهي لا تزال تحافظ على ماهياتها هذه في راهننا أيضاً.
من جانب آخر، لن يكون من السهل المقاومة وصون الوجود وإبرام التحالفات بأساليبها القديمة، تجاه الرأسمالية العالمية الشارعة في شن حملة جديدة. فحتى لو أرادت العوائل الأرستقراطية التقليدية المتواطئة أن تستمر في هذه السياسة، فالشعب لن يكتفي بتلك الأساليب القديمة، بعد أن تجاوز نطاق الإثنية وغدا شعباً ديمقراطياً (شعب النصر serkeftin). وبات من الصعب أن تتحكم به هذه القوة أو تلك.
سيكون من الواقعي أكثر بالنسبة للتحرريين الاجتماعيين، أن يروا في عدم قدرة الكرد – كشعب – على تأسيس دولة كلاسيكية حُسْنَ طالع وفرصة حسنة؛ عوضاً عن تقييمها كخسارة. إذ، كم هو عدد قيم الحرية الاجتماعية، وكم هو عدد التحرريين القادرين على إرضاء شعوبهم بتطلعهم إلى الدولة وتمحورهم حولها؟ كل الشعوب الأمريكية اللاتينية والإفريقية والآسيوية أصبح لها دولها. فهل تمكنت من حل مشاكلها؟ وخلافاً لذلك، ألم تتثاقل مشاكلها أكثر من السابق؟
المهم هنا من الناحية التاريخية، هو توحيد هوية الشعوب المشاعية والديمقراطية كطراز سلوكي أساسي لها، مع إمكانيات وفرص العلم والتقنية، ومأسستها. إن ما تحتاج إليه شعوب الشرق الأوسط في راهننا، هو الديمقراطية، بقدر حاجتها إلى الماء والهواء والطعام. وأي خيار آخر غير الديمقراطية، لن يقدر على تلبية آمال الشعوب وتأمين سعادتها ورغدها. وقد جُرِّب ذلك طيلة التاريخ. إذا ما استنفر الكرد، الذين يحتلون صدارة هذه الشعوب، كل خصائصهم الاجتماعية وزمانهم التاريخي وأراضيهم التي أصبحت عضواً استراتيجياً مهماً إلى أبعد الحدود في منطقة الشرق الأوسط، وإذا ما سخّروها لصالح بناء الحضارة الديمقراطية ونجحوا؛ سيكونون قدّموا أفضل خدمة لجوارهم، وللبشرية جمعاء.

آ – إمكانية الفهم الصحيح للشرق الأوسط
ما هي المشكلة، وكيف تطورت؟

1 – من المهم تسليط الضوء بما فيه الكفاية على الحلول الاصطلاحية، قبل الحلول المؤسساتية. فإنْ لم نقدر على إعطاء تعريف صحيح للمصطلحات التي تغفو وتصحو المجتمعات عليها في تاريخها وحاضرها؛ فستكون القيمة التنويرية للفرضيات المطروحة بخسة بنسبة ملحوظة. على سبيل المثال؛ أيُّ مرحلة تاريخية، وأي مجتمع سنقدر على تعريفه، ما لم نقم بتحليل سوسيولوجي سليم لمصطلح "الله"؟ لم يكن عبثاً أن دارت أغلب جدالات الأوروبيين حول الثيولوجيا (اللاهوت Theodice) على الصعيد الذهني، لدى خروجهم من إقطاعية العصور الوسطى. لقد ناقشوا حول الـ"ثيو = Theo"، يعني حول "الله"، لدرجة تمكنوا من خلالها الإمساك برؤوس خيط العلم والفلسفة. لقد عاشوا أيضاً مرحلة مُرَكّزة من الإيمان بـ"ثيو" وتقديسه. كما قالوا – وهم على حق – بأنه: "ما دمنا نؤمن به ونقدسه لهذه الدرجة، فالموقف الأصح هو أن نعرف معناه أيضاً". إنهم أبدوا الجرأة والجسارة اللازمة للنقاش بأفكار قادرة على دك دعائم الدوغمائية، والإتيان بما هو جديد.
إذن، كان هناك اللاهوت في أساس الجدالات الفكرية الدائرة أثناء الخروج من العصور الوسطى. كانت الأفكار التي تواجدت حينها باسم العلم والفلسفة، مرتبطة عن كثب باللاهوت. لكن المهم هنا هو استنباطهم النتائج اللازمة من تلك الجدالات للوصول إلى العلم المنطقي والفلسفة المنطقية. أما مُنَظِّرو الإسلام، فعوضاً عن استخلاص النتائج من النقاشات، قاموا بتجميد الفكر عبر تقديسهم للدوغمائية. فالإمام غزالي دحض الفلسفة منذ بدايات القرن الثاني عشر، وأوصد أبواب الاجتهاد وأحكمها، ليؤدي بذلك إلى الضياع في ظُلمات القرون الوسطى. وحتى اليوم أيضاً، ما من أحد يتجرأ على طرح النقاشات في هذا الاتجاه. أو بالأحرى، ما من أحد قادر على إبداء هذه الكفاءة والمهارة.
بيد أن العمق الذهني في المجتمعات الشرق أوسطية، يمتد حتى العصر الميثولوجي. ذلك أنها استخدمت مأثورات الرهبان والأدباء السومريين – أمهر خالقي الميثولوجيا – بأشكالها المطوَّرة والمعدَّلة في الأديان التوحيدية الثلاثة. نحن نعرف أن سيدنا إبراهيم هو مؤسس الدين التوحيدي. وقد ترعرع داخل مَلَكيات "نمرود" في السلالة البابلية. فالكل يعرف أن أباه الموظف – الذي لا تزال ذكراه نابضة في أورفا وهو واقف إلى جانب نمرود – كان حارساً في مجمَّع الآلهة الملوك (Panteon)، وأنه شهد تحولاً ذهنياً كمحصلة للفعل وردة الفعل التي مر بها.
إذن، والحال هذه، كيف سنستطيع فهم الدين الإبراهيمي دون معرفة مجمَّع آلهة نمرود؟ فحتى أكفأ الأساتذة المختصين بعلم اللاهوت يقولون في هذا الصدد: "حطم إبراهيم الأوثان بالفأس. وغضب نمرود، وقال: من الذي حطمها؟ فأجاب إبراهيم: الوثن الكبير هو الذي حطمها. فيقول نمرود: وكيف يحطمها وهو وثن جامد لا روح فيه؟ فيرد عليه: أوَليس الوثن إلهاً؟". هكذا يُكمِلون سرد القصة. إن هذا القول لا يتضمن أية قيمة أكثر من كونه سرداً أسطورياً. وبدون القيام بالتحليل السوسيولوجي للميثولوجيا السومرية، التي تشكل دعامة مجمّع آلهة نمرود، لا يمكننا تعريف الثورية الدينية لسيدنا إبراهيم. وبدون تعريفها لا يمكننا إدراك الثورات الدينية لسيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد. ورغم وجود هذا الكم الهائل من الجامعات وكليات فلسفة الإلهيات، ومدارس الإمام الخطيب، ومؤسسات الطرائق والديانات في منطقة الشرق الأوسط؛ إلا أن أياً منها لا تقوم بسلوك فلسفة إلهياتية سوسيولوجية. ذلك أن السِّحْر يَبْطُل إنْ قامت هي بذلك. وحينها "ستسقط القبعة وتنكشف الصلعة". وسيتبدى أنه تتوارى ظاهرتان في أساس فكرة الإله الواحد، ألا وهما: التعبير عن وحدة القوة في الطبيعة، والزعيم والمَلِك الهرميان المتناميان في المجتمع. بمعنى آخر، وبالتطوير المستمر دون كلل أو ملل لأسمى معاني مفهوم المجتمع الحاكم، ومفهوم الطبيعة الحاكمة المرتبط بالمفهوم الأول؛ تم البلوغ إلى "الله" ذي الصفات التسع والتسعين. لم يدُر الجدال في هذا الاتجاه أبداً، بل وتَسَيَّس الإله، وتَعَسكر أيضاً بشكل مباشر، بظهور "حزب الله" في اليوم الحاضر. مع ذلك، لا يزال يُبحَث عنه في كبد السماء كخداع للوجود.
تُعالَج مؤسسة النبوة أيضاً بطراز دوغمائي في علم اللاهوت، حيث تُحوَّل إلى سرد تجريدي، وكأنها لا علاقة لها بالتطور الاجتماعي. بيد أن تقاليد الشامان – الشيخ من جانب، ومؤسسة الوزارة كسلطة تنفيذية عليا تابعة للسلطة المَلكية المتنامية من جانب آخر، تطغيان على هذا الكيان. تنشأ النبوة كسبيل حل للمشاكل المعاشة في التطور الحاصل بين كل من الدولة والهرمية. إنه تطور معني بالسياسة، وله أرضية جماهيرية، وقاعدة عملياتية على السواء. وهو يلعب دوره أيضاً في التطورات الجارية بين الحِكمة والقيادة السياسية. المهم هنا هو البحث عن مكانة النبوة في الواقع الاجتماعي، رغم قدسيتها.
وإنْ حصل ذلك، فقد تُعرَف بعض الشخصيات التاريخية على نحو أفضل حقاً. وحينها سيُنوَّر التاريخ. فالسرد الدوغمائي يترك هذين الجانبين في الظلمات الداكنة. ثمة العديد من المصطلحات اللاهوتية المشابهة تقوم بنفس الوظيفة التعتيمية بمعنى القداسة. ومصطلحا "الجنة" و"جهنم" أكثر لفتاً للأنظار بهذا المعنى. حيث تمتد جذورهما حتى الميثولوجيا السومرية. كما أن علاقتهما بتنامي المجتمع الطبقي واضحة للعيان. فبينما يذكّرنا نظام الطبقات العاملة في أغلب الأحوال بجهنم (جهنم كلفظ هي مكان يسمى "هينوم Hinom" في لبنان اليوم، ومعناها: المكان السيء والدنس، مثل وادي الجثث)، فإن مكان عيش الناهبين لفائض الإنتاج يأخذ شكل الجنة طردياً. على كل حال، وبدلاً من الإكثار من هذه الأمثلة، من المهم تنويرها عبر تحليلات علم الاجتماع.
لا يزال النقاش على الفرق بين الميثولوجيا والدين معلقاً على الرف في الأفكار الشرق أوسطية. بيد أن الميثولوجيا بذاتها لم تفسَّر بعد. ويُكتَفى بالقول بأنها مجرد أقاويل وسفسطائيات، لتُترَك جانباً؛ رغم أن هذا الطراز التفكيري احتل – ولا يزال – ذاكرة المجتمعات على مر آلاف السنين، وغدا الشكل الأساسي للتفكير على طولها. بل وأثَّر في كافة الأشكال الدينية والأدبية اللاحقة له، كسرد شعري للتعبير الرمزي عن الحياة المادية للمجتمعات. ما من دين أو أدب إلا واستنهل مصطلحاته من الميثولوجيا. أما ترْكُ الميثولوجيا جانباً وإهمالها باعتبارها بدعة أسطورية أو ملحمية، فلا يعني سوى حرمان الذات من أغنى مصادر الثقافة. لا يمكن القيام بتحليل سليم للدين والأدب والفن، ما لم تُولَ القيمة السامية الحقة للميثولوجيا كطراز تفكير خاص بمرحلة طفولة البشرية. نحن بحاجة لإنعاش الميثولوجيا، لا لدحضها وإنكارها.
متى، وبأية أشكال كانت الميثولوجيا المنبع العين للدين؟ هذا أيضاً موضوع جدل قائم بحد ذاته. فمثلما يقال: تتحول الميثولوجيا إلى دين، عندما تصبح حُكماً عقائدياً مطلقاً. انطلاقاً من ذلك، فالتدين منوط بالاعتراف بالميثولوجيا كحقيقة أكيدة. ويتضمن التدين قيمتَين في اتجاهَين: ففي المنطق يؤدي إلى مصطلح "الفكر المطلق"، ليتطور بذلك فكر القَوننة (التشريع)، ويلتحم التشريع الإلهي بقانون الطبيعة تصاعدياً. ومن الجانب الآخر، يعيق بروز فكرة الحركية الدياليكتيكية في الطبيعة والمجتمع، حتى قبل ولادتها. وهكذا يفتح الطريق أمام الفكر المثالي بجانبه هذا.
هكذا ينقطع الفكر عن الظواهر أَيَّما انقطاع، ليطرأ عليه بمفرده تطور لا ضابط له ولا قاعدة. يُبعِد الفكرُ المثالي الوالج في مجازفة باطنية لا تنضب، الذهنيةَ الاجتماعيةَ قَدراً آخر عن عالَم الحقائق. ويتحول تطور الفكر الديني إلى دوغمائيات صلبة في العديد من الميادين الأساسية، كالقانون والسياسة والاقتصاد والأخلاق والفن؛ ليكتسب بذلك ماهية تشريعية. إنه في الحقيقة يوفر السهولة الكبرى في الشؤون الإدارية للطبقة الدولتية المتصاعدة. فبإضفاء القيمة القانونية على كل حُكم في الدين، تكون مسألتا التشريع والمشروعية قد حُلّتا معاً. هذه التسهيلات الإدارية التي أمّنها الدين، هي الأساس وراء السمو به لهذه الدرجة في العصور الأولى والوسطى.
الدين أيديولوجية إدارية مصوغة بكل عناية. والطبقة الحاكمة متيقظة دائماً للميزة التجريدية للدين. في حين أن شرائح المجتمع السفلية كانت أُقنِعَت بأنه حقيقة واقعة. كل هذا الإيداع الخاص بالدين، وتمثيله بأماكن التعبد، والطقوس والشعائر؛ منوط عن كثب بوظيفة الدولة الإدارية. من هنا كان حظر النقاش عليه، كي لا يُعرَف وجهه الباطني. ففي حال النقاش عليه ستظهر نتيجتان: تصاعد المَلَكية، والتشريع الطبيعي. وكلاهما مهمتان للغاية. فحينها سيُعرَف كيف أُعلِي من شأن المَلِك الإله، وكذلك السلطان ظل الإله. وبالتالي سيكون الخلاص من مفهوم الإله المخيف للمجتمع والمعاقِب إياه. هذا وستُشرَع الأبواب أمام العلمية فيما يخص الجزء المتعلق بالطبيعة. وستُدرَك المفاهيم السائدة في عالَم الظواهر العلمية الممتدة حتى فيزياء كوسموس وكوانتوم. يكمن التفوق الأوروبي في قيام أوروبا بهذه التحليلات اللاهوتية المركَّزة للغاية، لدى خروجها من العصور الوسطى. لا شك في أنه لا يمكن ربط التطور الفكري بمفرده بالجدالات المتعلقة باللاهوت. لكن، لا يمكن لأبواب الفكر العصري أن تُفتَح، دون ذلك أيضاً. فلولا جدالاات المذهبَين الدومينيكي والفرنسيسكي الدائرة طيلة القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر؛ لما كان للنهضة – بطبيعة الحال – أن تتطور بسهولة.
أَغلَقت طبقة رجالات العلم أبوابها أمام النقاش في منطقة الشرق الأوسط في هذه القرون الثلاثة بالضبط، وفرضت الدوغمائية الصلبة على المجتمع، باتهامها تلك النقاشات بالخروج عن الدين. وقاد هذا التيار، الذي غذّته تقاليد السلطة بكثرة، إلى انتزاع الغرب للريادة من حضارة الشرق الأوسط، لأول مرة في التاريخ. إن القرن الخامس عشر هو قرن الانفكاك والانفصال الأكبر. يكمن الاختلاف في التوجه اللاهوتي وراء هذا التمايز والانفصال، الذي سيتعمق تدريجياً بين الشرق والغرب. في الحقيقة، لقد قطع الفكر الفلسفي أشواطاً ملحوظة في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر في منطقة الشرق الأوسط. في حين أن الغرب اقتصر حينذاك على ترجمة المأثورات ونقلها. كان التفوق الفكري وقتئذ في الشرق الأوسط بكل تأكيد. فمذهب المعتزلة اتخذ من العقلانية والمنطق أساساً في صراعه ضد الدوغمائية. فـ"ابن الرشد" هو أعظم فلاسفة القرن الثاني عشر. كذلك أمثال "منصور الحلاج" و"السحر وردي" البارزين في فلسفة التصوف الإسلامي، كانوا دافعوا عن أفكارهم، ودفعوا حياتهم ثمناً لها. لكن الضغوطات القمعية المتزايدة في نهايات القرن الثاني عشر، ستحدد اللون والطابع الذي سيطغى على الشرق الأوسط حتى يومنا الحالي.
لا يمكن الاستخفاف بنصيب الدوغمائية الدينية في هزل الأدب ووهنه. فبينما كان بمقدور الأدب إحراز أشواط عظمى من التطور ارتباطاً بالمصدر الميثولوجي؛ قام الحظر ذاته بتجفيف هذا الميدان أيضاً. إن "الحرام" والحظر حرّم الإنسانية من أغنى مواردها. أما أوروبا، فقد بدأت بإبراز أولى كلاسيكياتها في هذه الأعوام. وأُسقِطَت الآداب إلى مستوى ابتكار القصائد وتنظيمها بشأن السلاطين وسرد حكاياتهم وإغداقهم بالمديح والثناء المطول. الجانب المؤسف والمؤلم في الأمر، هو أن الغربيين وضعوا أياديهم في راهننا على مسألة تحويل الواقع الديني والميثولوجي للشرق الأوسط إلى آداب، واستحوذوا عليها. فحتى مسألة كيفية القيام بالآداب وتكوينها، هي مشكلة حقيقية بحد ذاتها.
لا تزال الثورة والانفتاحات الذهنية، التي شهدتها أوروبا عبر النهضة والإصلاح والتنوير، بعيدة كل البعد حتى عن مجال الطرح والنقاش في المجتمع الشرق أوسطي. فالاقتباسات المتمفصلة لا تعني النهضة والإصلاح والتنوير. بل ويمكن الحديث فيها عن انتقالٍ في الاتجاه المعاكس أيضاً. فالإسلام الراديكالي لا يعبر أصلاً عن التحديث، بل عن إنعاش التزمّت والتصلب. ومصطلح "الإسلام السياسي" لا معنى له سوى كونه استخدام ديني تقليدي للسلطة. من غير الوارد أن تسلك منطقة الشرق الأوسط درب التطور الذهني بالوثوب على مراحل الذهنية التي شهدها الغرب. فالتشبث الدين، بل وحتى بالعلمية المحضة، أو التوجهات الفلسفية الإيجابية؛ لا يمكنها بمفردها تأمين التحول الذهني. للاتجاهات المذهبية "الاشتراكية المشيدة"، وغير المعتمدة على مراحل الفكر الغربي؛ تأثير مصيري في أساس التخلف القائم في روسيا والصين حالياً.
الثورة الذهنية شرط أولي من أجل تخطي مؤسسات المجتمع المتحولة إلى عقد كأداء، وإعادة بنائها من جديد. لا تقتصر الثورة الذهنية على هضم الفكر الغربي واقتباسه وحسب. فحتى التطورات المحدودة في هذا الميدان لا تذهب أبعد من كونها رقع مهترئة، بسبب نوعيتها المتمفصلة. فحفظ الفكر الغربي عن ظهر قلب، لا ينمّ عن الإبداع. بل يقود إلى العقم والسقم، مثلما يعيق ظهور الثورات الفكرية المحتملة. ورغم كثرة أعداد الاستظهاريين الحفظيين في الأوساط الموجودة، إلا إنه لا يوجد عالِم اجتماع حقيقي. حيث أن الموجودين منهم ليسوا في الحقيقة سوى طَلَبَة دين معاصرين متزمتين إلى آخر درجة. ذلك أنه ثمة تصوف دارج ومتفشٍ على نحو أكثر رجعية حتى من صوفيي العصور الكلاسيكية. ولو بحثنا عن الفلاسفة والعلماء والمثقفين المتنورين الحقيقيين بالمجهر والمصباح، لما وجدناهم. ولا يؤمن أحد بوجود ضرورة كهذه. وقد اقتُبِسَت لوازم الغرب الأيديولوجية بأسوأ الأشكال. فسواء كانت النزعة القوموية، أو الليبرالية والاشتراكية من الصياغات الأيديولوجية المعاصرة؛ فهي لا تذهب في أدوارها أبعد من نطاق الرجعية والتخلف في ذهنية المتنورين الشرق أوسطيين. الكل يدرك انطلاقاً من الممارسات والتطبيقات الجارية، استحالة إيضاح الواقع الشرق أوسطي عبر مثل تلك القوالب الشعاراتية. بل وتعرُّضه أكثر للدنس والتلوث من خلالها.
يجب على الثورة الذهنية أن تملأ فحواها بواقعها الذاتي الخاص بها، إلى جانب استخدامها الصياغات والأشكال الغربية. فبدون تخطي أرضية المعاني التي ترتكز إليها كافة البنى الاجتماعية التاريخية الأولية، عبر قصف ذهني – إن صح التعبير – لا يمكن تكوين قوة المعاني التي ستشكل دعامة البنى الجديدة. أما البنى الخاوية من المعاني، فلا مكانة اجتماعية لها ولا قيمة. هذا ومن الصعب تنوير المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بالسياسة، ما لم تُحلَّل الحقيقة والواقع الاجتماعي الذاتي بالأفكار الخاصة به، وما لم تنوَّر الظواهر الوطنية والقومية والإثنية والدينية عبر تلك الأفكار. تطلبت المستجداتُ المعنية بالتيارات البارزة في الفكر الغربي – من قبيل الدين، القومية، والعرقية – بذلَ الجهود المضنية. وأصبح بالإمكان سيادة براديغما الحياة الجديدة، عبر إيجابية مثل تلك الجهود الدؤوبة.
أما المتنور (والسياسي) الشرق أوسطي، فيسلك مواقف، وكأنه سيبلغ هذه المرحلة عبر الاقتباسات الاستظهارية الحفظية والتكنيكية؛ دون أن يرى داعياً لبذل جهود عظمى توازي تلك المبذولة في الغرب، ولكن حسب واقعه المرئي. ومحصلة ذلك كانت عدم القدرة على إبداء الجرأة في إحداث الثورة الذهنية الذاتية، بل التخبط في التبعية الذهنية والعقم والوهن إزاء الرأسمالية العالمية. لا يمكن تجاوز فوضى الشرق الأوسط لصالح الشعوب، ما لم تعش المنطقة مراحلها الخاصة بها من النهضة والإصلاح والتنوير. وإن لم يحصل ذلك، فلن تنجو المنطقة آنئذ من استبدادية آلاف السنين المموَّهة والمصقولة بمكياجات الغرب خلال القرنين الأخيرين.
2 –الهرمية وتمأسس الدولة هما الظاهرتان الاجتماعيتان الأصعب تحليلاً. كذلك فالقدرة على الغوص في ثقافة الشرق الأوسط، منوطة بتحليل لغة ثقافته السياسية. فالحِبكة والخصال المنسوجة في العلاقات الكائنة بين التمايز الطبقي والميول الدينية والسلالاتية، والعائلة والعشيرة، والمتزامنة مع تصاعد الهرمية والدولة؛ تكاد تُخرِج النظام الاجتماعي القائم خارج دائرة الزمان والمكان. كما تُزيد الألفاظ الميثولوجية والدينية والطبقية والإثنية، من ضبابية الماهية الحقيقية للظواهر.
تعيش المنطقة، التي شكلت المركز النواة للطور النيوليتي للمجتمع المشاعي البدائي، ثقافة تلك المرحلة كذاكرة اجتماعية هي الأعمق على الإطلاق. ولا تزال البنية النيوليتية متفشية فيها على الصعيد المادي أيضاً. ولم تكن القروية – حتى الماضي القريب – مختلفة كثيراً عن المراكز النيوليتية. هذا ويعد نظاما المجتمعين العبودي والإقطاعي أيضاً قيمتَين ثقافيتين جذريتين في المنطقة. لذا، فالثقافة الغربية المضافة إلى هذا المجمّع الثقافي، لا تعني أكثر من كونها قناعاً صاقلاً إياه. بالتالي، فالنظر إلى هذا القناع الصقيل، والانطلاق منه في التحليلات الاجتماعية، يعد مغالطة كبرى.
تكاد لم تبقَ أي ثغرة أو مسام، إلا وتسربت إليها الهرمية التي تُعرَف أيضاً باسم نظام السلطة الأبوية. ولربما قامت تقاليد هذا النظام على إدارة شؤون المجتمع قبل مؤسسة الدولة بآلاف من السنين. وربما تكون قوة نظام السلطة الأبوية مطوِّقة للشرق الأوسط وخانقة إياه بدرجة لا مثيل لها في أي بقعة من العالم. حيث لا تزال هذه القوة بارزة للعيان، وبنسبة لا يستهان بها، في تأثيرها على مفاهيم شخصية المرأة والرجل، والثقافة الإثنية، والعائلة والشرف؛ التي تُعتَبَر قِيَماً لا تزال حية تنبض في المنطقة. أما المدن التي كان يجب أن تطوِّر الثقافة المضادة لها، فهي مشحونة بالآثار العميقة للثقافة الريفية، وبالتالي لقوة نظام السلطة الأبوية؛ بحيث تبقى كأشباه جزر ضئيلة تسبح في المحيط الريفي.
علاوة على أن الدولة تنامت على الأرضية الثقافية لذاك النظام على مر آلاف السنين. حيث لعبت المجموعات الأبوية السلطوية الوطيدة دورها في تأسسها بشكل أساسي، أكثر مما لعبته العناصر الطبقية فيه. والعنصر الأبرز داخل تلك المجموعات هو الحكيم المسن. ولربما كان هذا الحكيم أقدم سلطة عرفتها القبيلة، باعتباره المسن الخبير ذو التجارب الوفيرة. هذا ومن المحتمل أيضاً أنه، ومن بعد الأم الحكيمة التي لعبت دورها في الثورة الزراعية، تَطَوَّر الحكيمُ العجوز الخبير خطوة خطوة، لتتعزز مكانته الاجتماعية تدريجياً على شكل شامان – شيخ – نبي. ولدى تطور التمايز الطبقي في المجتمع وتوجهه من مؤسسة السلطة الأبوية نحو الدولة؛ يبلغ الحكيم وحلفاؤه منزلة السلالة، ومنها يصل إلى المَلَكية.
هذا ومن الوارد أيضاً أن يكون الراهب انبثق من الشامان، وتشكلت الكتائب العسكرية من الشبان الماهرين في إصابة الهدف، بالارتقاء إلى منزلة أعلى. وبينما يعمل الراهب على تطوير التصورات الأيديولوجية الجديدة، تتجه الكتائب العسكرية نحو التجيش تدريجياً. ومثل هذا النمط من التدوّل أكثر واقعية على أرضية المنطقة. ما من معطيات تشير إلى وجود جيش العبيد مسبقاً. فالاستعباد لم يتطور إلا بعد تعزز مؤسسة الدولة. حيث نشاهد القوة البارزة للرهبان والقبائل قبل مدة طويلة، من خلال المثالين السومري والمصري. لكن الاستعباد لم يحصل بسهولة. بل جرى في خضم صراعات عتيدة وضارية متشابكة.
لربما كان موضوع تعويد المجتمع على العبودية من أكثر الفترات التي تستلزم تحليلها واقتفاء أثرها في ثقافة الشرق الأوسط. تتأتى الأهمية الكبرى للميثولوجيا، كأيديولوجية خاصة بالرهبان السومريين والمصريين، من دورها في ظاهرة التدول. فمثلما أسفر الصراع الذي خاضته الرأسمالية في سبيل بعض الأيديولوجيات – كالقوموية والليبرالية – عن ظهور شكل الدولة الرأسمالية؛ فقوة الألفاظ الميثولوجية أيضاً نمّت عن ظهور شكل العبودية في العصور الأولى. ولولا قوة مشروعية الألفاظ الميثولوجية في تأثيرها على المجتمع، لما كانت تأسست – على ما يُعتَقَد – سلالات الملوك الآلهة المذهلة. وحتى لو كانت تأسست، لما تجذرت ودامت بهذه الدرجة البارزة.
تُعبِّر أقوال فرعون ونمرود عن أقوال الملوك الآلهة في ثقافة الشرق الأوسط، بكل ما للكلمة من معنى. ومصطلح المَلك الإله هو من مبتكرات منطقة الشرق الأوسط. وهو أبعد من كونه مجرد شخص، بل إنه يمثل ثقافة ومؤسسة. ومكانة كافة أعضاء المجتمع تجاه شخصية المَلك الإله، أشبه بمثال النمل الحمّال. لقد بولِغ في الفرق الكامن بين المَلك الإله من جهة، والمجتمع "الآخر" من جهة ثانية. وقُلِبَت موازينه بدرجة برز فيها نَسَبان في نهاية المطاف: الملوك الآلهة الخالدون، والناس الفانون. أََولى المكرُ الميثولوجي (أو الكفاءة الميثولوجية) عنايةً فائقة لعدم اعتبار الشريحة المتدولة من نسل "الإنسان العادي". والديمومة التي تطلبتها الدولة (كمؤسسة) من أجل حياة الحكام، هي التي لعبت الدور البارز – حسب اعتقادي – في تشكل صفة "الخالدون" تلك. فالأواصر الكائنة بين مصطلح "الخلود" في فكرة الإله، وبين الديمومة والسيرورة في مؤسسة الدولة، جلية جلاء النهار. حيث كان يُعتَقَد بوجود الموت لأجل الآلهة أيضاً قبل ظهور التدول. وكانت ثمة أيام خاصة من العام، يموت فيها الإله ويحيا، لدى آلهة الحقبة النيوليتية والتعابير الرامزة إليها. وكانت تُقام مراسيم الحداد أو الاحتفاء المنتشرة آنذاك عبر الطقوس والشعائر الدينية. لكن، ومع اكتساب مؤسسة الدولة صفة الديمومة (الأشخاص مؤقتون، ولكن الدولة دائمة)، أصبح الملوك أيضاً خالدين أبديين.
هنا يبرز الدور المهم الامتيازات التي حظيت بها أنساب الملوك الآلهة وسلالاتهم. فخلودهم وعدم تصنيفهم ضمن الناس العاديين، يزوِّدهم بعظمة خارقة وتمايز واضح. ولدى تأليه طبقة الدولتيين (أصحاب الدولة) على هذا النحو، وتحويلها إلى نَسَب خالد؛ لم يبتقَّ أمام الناس "الآخرين" (كافة أناس المجتمع الآخر) سوى تعبدها.
يختلف هذا التعبد أشد اختلاف عن أشكال التبعية اللاحقة في العبودية الإغريقية والرومانية، تماماً كالفرق بين التبعية للسيد والتبعية للإله. حيث هناك تكامل وطيد للعبادة والعقيدة في التبعية الإلهية. وقد رُتِّبَت التبعية للدولة كمَلِك إله في تقاليد الرهبان، بدهاء حاذق ومكر خارق، لدرجة أن جيش العبيد والرقيق قد تَنَمَّل (تحول إلى نمل) ليغدو خادماً قزماً وحمّالاً للعبء.
يُشار في الميثولوجيا السومرية إلى أن الإنسان خُلِق من براز الآلهة، أو – في مرحلة متقدمة – من التراب (الطين). وزادت دقة خلق الآلهة للإنسان بأكثر الأساليب دناءة وخفية، لتستمر حتى يومنا هذا. فالمرأة هنا منسية لدرجةٍ لا يمكن أن تُخلَق من الإله. بل إنها مخلوقة من ضلع الرجل، وهذا هو نصيبها.
إن هذه السرود مهمة من حيث الإشادة بالنظام الأيديولوجي العظيم الذي ساد أثناء بداية نشوء شريحة الدولة. فتقسيم الناس معمول به لدرجة لا تقتصر فيه الأغلبية الساحقة من المجتمع على المصادقة على ألوهية شريحة الدولة على مر الأجيال، بل وتعبدها أيضاً. وترى في العمل من أجلها أمراً إلهياً مقدساً. هكذا يتوطد العمق الأيديولوجي في هذا الخصوص. وما جرى هنا في الحقيقة، ليس سوى تحويل خاصية مؤسساتية معتمدة على الاستبداد والكذب والرياء، إلى ميتافيزيقيا أو إلى فَتَشية تجريدية تستحق العبادة والقيام بكل شيء من أجلها.
وفيما بعد، تنتشر هذه السمات الأساسية للانطلاقة الحضارية ذات المصدر الشرق أوسطي، في كافة أرجاء العالم على موجات متتالية، عبر قمعها للخصائص النيوليتية القيِّمة والشديدة الغنى في ثقافة المنطقة على وجه الخصوص، وخلقها للميثولوجيا التي شكلت الأرضية الخصبة لأشد الأفكار والعقائد رجعية وتخلفاً. وانطلقت من ذات القنوات لتنتشر في أغلب المجتمعات المتقدمة، وعلى رأسها المجتمع الشرق أوسطي. إنه لَتَأثيرٌ شديد الرسوخ لدرجة إنها استمرت حتى لدى هيغل، الممثل الأعظم والأخير للفلسفة المثالية، والذي قال "الدولة إله مجسَّم" (أي مرئي). لا تزال الألفاظ الحالية بشأن أبدية الدولة وسموها وقدسيتها تستمد مصدرها من هذا النظام التعبدي العتيق.
ثمة تغير ملحوظ ومهم حاصل أثناء العبور من أيديولوجية الدولة ذات الجذور الميثولوجية، إلى مصطلح الدولة المعتمدة على أيديولوجية الدين التوحيدي. حيث يتجسد التناقض الرئيسي ذو النوعية الرمزية بين المسيحية والإمبراطورية الرومانية، في استحالة أن يكون الإمبراطور إلهاً، وفي القبول والاعتراف بسيدنا عيسى المسيح بأنه ابن الإله. وهذه المقولة دارجة في كافة الأديان التوحيدية. يكمن سبب وجود تقاليد النبوة، في رفض وجود الملوك الآلهة، والاعتراف بالأنبياء كرُسُل الإله. إنه انقطاع جذري عن أيديولوجية المَلك الإله.
إذا ما وضعنا نصب العين الرأي الإلهي العالمي السائد في الذهنية الاجتماعية للعصور الأولى والوسطى، سنجد أن ثورة عقلية اجتماعية قد تحققت. يتمثل التعبير الملموس لهذه الظاهرة في الهرب من قوة (وبالتالي من دولة) الفرعون ونمرود. نشاهد الاتجاه ذاته في الممارسة العملية للنبوة، وفي مقدمتها لدى سيدنا إبراهيم، موسى، عيسى، وسيدنا محمد. يجب النظر إلى هذه العمليات، التي يبرز فيها الجانب السياسي بقدر جانبها الاجتماعي، كثورات حقيقية تحققت في تلك الأزمان. أما شعارها الأيديولوجي الأولي، فمفاده: "البشر ليسوا آلهة، ولا يمكن أن يكونوا إلا رُسُل الإله". إذا ما أسقطناه على نحو مرئي أكثر، فإنهم بذلك يفرضون تمرين وتطويع المَلك الإله، وتحقيق وفاقه مع شريحة من مجتمعه بأقل تقدير. أي، تُوضَع الحدود للتصرفات اللامحدودة للمستبد، الذي يدّعي بأنه المَلك الإله الذي يفعل ما يحلو له.
والمستبد الذي ينادي بإصرار "أنا المَلك الإله"، دعك من قيامه بالوفاق، لا يرغب ولا يطيق حتى سماع أصوات عبيده وعبّاده. وقصة سيدنا أيوب غريبة حقاً ومفعمة بالدروس إلى أقصاها في هذا المضمار. إذا ما قمنا بتفسير عميق لبند سيدنا أيوب في الكتاب المقدس، سيكون فحواه على الشكل التالي: كما هو معلوم، يفقد سيدنا أيوب كل شيء لديه، ويئن وجعاً في زاوية مظلمة (أو في غياهب السجون)، بعد أن عشعش الدود في جسده فاحتقن. والمَلك الإله هنا (أي نمرود الموجود في أورفا)، لا يولي أي معنى لتألُّم وتوجُّع عبيده. فالعبد بالنسبة للملوك الآلهة، هو ذاك الأخرس الأبكم الذي لا يتألم، والمكلَّف بخدمتهم. بل حتى أن التألم ذنب وجريمة. تتمثل العملية الكبرى لسيدنا أيوب في هذه الحالة في فرضه على المَلك الإله (أي الدولة) القبول بأنه يتألم. أي أنها المرة الأولى التي "يفهم" فيها المَلك الإله أن العبد يتألم. هذا "الفهم" هو ثورة بحد ذاتها. ما يُرمَز إليه في شخص أيوب هنا، هو تألم الشعب وفاقته وعَوَزه.
لقد عُثِر على ما يقارب الآلاف من جثث الموتى في بعض قبور الملوك الآلهة السومريين والمصريين. وأغلبهم كانوا نساء. نخلص هنا إلى أن كل حاشية المَلك تُدفَن معه لدى وفاته. فالحاشية لا تملك روحاً أخرى غير روح المَلك، حسب مفهوم المَلكية في تلك الأوقات. وكيفما أن الذراعَين والساقَين تموتان بوفاة المَلك، فالحاشية أيضاً تُعتَبَر ذراعه أو ساقه الميتة. بشكل عام، يُعتَبَر المَلك ورعاياه في الأنظمة المطلقة والتوتاليتارية المشابهة كياناً وجسداً واحداً متراصاً كما اللحم والظفر (أو بالأحرى كشَعر البدن). إذ لا حياة أخرى خاصة بالرعايا. إنها "القاعدة الذهبية" التي تأمل كل الدول من رعاياها الامتثال لها، وإنْ بشكل أكثر مرونة ولطفاً. أي أن مفهوم "المَلك الإله – العبد" قد وصل يومنا هذا، دون أن يفقد من مضمونه أو يعدّله، سوى بشكل محدود في الحضارة الغربية.
لقد غدت ثورة أيوب تعبِّر عن الفترة التي بات فيها الناس يعربون عن أوجاعهم، ليباشروا بتمرد من أوهن أشكاله. من هنا تنبع قدسية تلك الثورة التي يجب ألا نستخف بها أبداً. فلربما كانت الثورة الأولى في التاريخ، والتي أعرب فيها الناس عن اعتراضاتهم إزاء الدولة. ورغم عدم إلمامنا الكامل بمدى مرونة الدولة تجاه ذلك آنذاك، إلا أن قوة النبوة المتعاظمة كالسيل الجارف، تؤسِّس في أعوام 1000ق.م أولى دولها الشهيرة بزعامة سيدنا داوود وسيدنا سليمان. إن تأسيس داوود للدولة غريب الأطوار حقاً. تكمن الغرابة في أن داوود لعب دوراً يماثل ما يؤديه الفلسطينيون اليوم، لدى تأسيسه دولته. حيث أسس إمارته في خضم صراعه تجاه الإمارات المحلية القائمة وقتذاك. هكذا انفصل الإله عن المَلك في مرحلة شديدة الشبه براهننا. وغدا كل منهما كيانَين مختلفَين. ورغم مناداة المَلك ونعته بِظِل الإله، إلا أن الإله في الحقيقة أضحى تعبيراً اصطلاحياً وعنصراً تجريدياً للمَلكية.
من المهم استيعاب مسألة "ظل الله" في الأديان التوحيدية. فالتغير الحاصل في قوة الدولة مهم هنا. لكن، يجب الانتباه جيداً إلى أن المضمون لم يتغير. فالمَلكية المُعلاة إلى السماء، تستطيع إنزال أوامرها الخطيرة من هناك أيضاً. بل وتستطيع دفع العبيد للقيام بما تشاء بمكر ودهاء أكبر وأدق، باعتبارها عنصر لا يُرى، عنصر مخفي تماماً عن أبصار العبيد. بل وبإمكانها الغرق في اللامبالاة والبلادة أكثر فأكثر، عبر "ظلها" السلطان، الذي يقول على الدوام "نحن مسؤولون فقط أمام الإله". النقطة الواجب الالتفات إليها هي زيادة متانة الأواصر بين إعلاء الإله ورفعه إلى السماء، وبين تمأسس الدولة التجريدي. فكلما تحولت الدولة إلى كيان مؤسساتي تجريدي (مستقل عن الأشخاص)، كلما اكتسب مفهوم الإله أيضاً الصفة التجريدية، باعتباره انعكاس أيديولوجي لها.
يكاد هذا المفهوم، الذي يتحول إلى تقاليد وأعراف راسخة مع سيدنا إبراهيم وموسى، يغدو الفرضية النظرية الأساسية السائدة في القرآن مع سيدنا محمد. تتجسد المساهمة العظمى لسيدنا محمد هنا في تسليح الإله بتسع وتسعين صفة ليضفي عليه صفة الكمال. فهو الواحد الأحد، الذي لا يُرى ولكنه يرى ما في القلوب، ما من مكان إلا ويبلغه، هو الرحمن الرحيم، وهو المعاقِب المحاسِب، لا شريك له، …الخ. ما ينتصب أمامنا هنا أيضاً، هو مدى تغلغل التجريدية لمؤسسة الدولة. فكلما تصاعدت المؤسساتية، كلما تطلبت معها ألوهية مجردة توازيها وتحاكيها. ورغم أن الأنبياء السابقين لسيدنا عيسى وسيدنا محمد، كانوا أبدوا معارضتهم وسيَّروها ضمن شروط المجتمع العبودي بالأغلب، ورغم أنهم أسسوا أنظمتهم السياسية (التي هي ضرب من إدارة القبيلة أو الدويلات القصيرة العمر) بشكل محدود للغاية؛ إلا أن النبيَّين الأخيرَين قد جهّزا الأرضية المناسبة لانطلاقة الدولة الإقطاعية. أو بشكل أصح، ورغم عدم تواؤم صراعاتهم العظيمة مع أهدافهم بشكل تام، إلا إنها ترسخت في أرضية مؤسسة الدولة الإقطاعية كوفاق ذي أبعاد أوسع. تتزامن الأديان التوحيدية مع واقع الطبقة الوسطى الآخذة في النمو والاتساع. وبينما تتزامن أديان المَلكية الإلهية مع فترات نشوء الدولة الأبوية والعبودية المهيمنة، فإن الألوهية الشخصية والمتعددة تتزامن مع الشروط النيوليتية البارزة على شكل قبائل، ومع شروط تواجد الطبقات السفلى أيضاً.
بمقدورنا استيعاب العلاقة الكامنة بين الإلهيات (اللاهوت) من جهة، وبين المجتمع والسياسة من جهة أخرى، بشرط ألا ننسى إطلاقاً أن القدسية هي التعبير الجماعي المجرد للهوية والإرادة الاجتماعية المتطورة. وبينما تشمل دولة الشرق الأوسط الطبقةَ الوسطى أيضاً في العصور الوسطى، فإننا مقابل ذلك لا نجد أي تغيير حقيقي في سماتها الاستبدادية. فالعنوان الجديد للمَلك هو السلطنة. أي تمثيل السلطة بالشخص. وما من إرادة يمتثل إليها السلطان، سوى إرادة الإله. وطبقة رجالات العلم القائمة على تفسير أوامر الإله، ليست سوى فئة أو نوع من أنواع الجيوش العثمانية القديمة. وهي لا تمثل سوى إرادة السلطان. كما بسط المجتمع الفوقي للدولة نفوذَه بشكل ساحق على المجتمع، مفهوماً وأخلاقاً. وبسطت الدولة المتوطدة في المدينة نفوذها في الضواحي الريفية أيضاً. لقد شهدت دولة العصور الوسطى أوج ازدهارها وانتعاشها مع الإسلام والمسيحية على السواء.
أما في الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، اللتين تُعتبَران الشكل المتردي الأخير لعبودية العصور الوسطى، فقد لوحظ حدوث مرحلة عبور نحو الإقطاعية في القرنين الميلاديين السادس والسابع. ولربما تصدَّرتا قائمة الدول الإسلامية القائمة بانطلاقة راديكالية قاسية نحو الإقطاعية. يمكن اعتبارهما صفحة جديدة في الثقافة الشرق أوسطية. أما الدول العربية الإسلامية التي شهدت أوجها في عهد الأمويين والعباسيين والسلاجقة الأتراك؛ فقد خارت قواها بنسبة ملحوظة مع تعرضها للغزو المغولي من الشرق، والصليبي من الغرب. ودخلت مرحلة السبات والجمود مع تبعثر السلالة الأيوبية في أعوام 1250.
إن النظر إلى العثمانيين كدولة نصف بيزنطية – نصف إسلامية، هو أكثر واقعية. حيث التحمت الخصائص الإقطاعية للدولتين لدى العثمانيين. وبذلت هاتان الدولتان المطبِّقتان لأعتى أشكال الاستبدادية، جهوداً حثيثة للحد من انهيار المجتمع الإقطاعي. في حين أن العثمانيين، الذين كانوا يشكلون قوة طرية حديثة العهد، أكملوا تلك الجهود والمساعي عبر الوفاقات والتحالفات الواسعة، فكانوا آخر دولة إقطاعية أطالت عمرها لهذا الحد الملحوظ في الشرق الأوسط.
كانت الدولة الإقطاعية التي نشهد مرورها بمراحل شبيهة في كل من الصين والهند وأوروبا، لا تعرف الديمقراطية. فالشعار الذي هتفت به الشعوب في تلك الأزمان كان مفاده: "أكبر سعادة في هذه الدنيا هي العيش بعيداً عن الدولة". لقد استمر الاغتراب بين الدولة والمجتمع، رغم كل مساعي الدين التوفيقية. واستمرت الإثنيات والمذاهب المنشقة (غير الرسمية) في الحفاظ على سلوكياتها ومواقفها المشاعية والديمقراطية، بإيواء نفسها في نهاية المطاف في الجبال والبراري وأديرة الراهبات والدراويش، وصون وجودها فيها مقابل مشقات عصيبة وقاسية. لقد بات التمرد على الدولة خاصاً بهذه المجتمعات، لتتحول المقاومة والتصدي إلى طراز حياتها.
غرضنا من تعريف الدولة في الحضارة الشرق أوسطية هو إلقاء الضوء على يومنا الحاضر. ومقابل نشوء الدولة وتكونها في الحضارة الغربية بالارتباط بمنطقة الشرق الأوسط من حيث الجذور، إلا إنها فصلت نفسها عنها وتمايزت مع الزمن. انتقل هذا التمايز المبتدئ مع الدولة في عهد أثينا وإسبارطة، إلى روما أيضاً عبر الهيلينية. واستمر معتقد المَلك الإله فيها مع افتقاده قواه وتأثيره بنسبة ملحوظة، ليكتمل التمايز والانفكاك مع قبول قسطنطين الديانةَ المسيحية واعترافه بها. إن معتقد "دولة الإله" المعمِّر ألف سنة، ليس إلا امتداداً لكلمة "يوم الحشر" القديمة في منطقة الشرق الأوسط. لكنها أكثر دنيوية قياساً بشكلها الشرق أوسطي، حيث لم يتحقق توطد قدسية الدولة تماماً. فعندما انهارت الإمبراطورية الرومانية تحت الضربات القاضية للأقوام البدوية، فقدت حُرمتها ومكانتها أيضاً. كذلك لعبت الأنساب الجرمانية أدواراً مهمة في كشف النقاب عن الوجه الدنيوي للدولة، باعتبار أن هذه الأنساب لم تشهد الدولة كثيراً. ورغم مساعيهم في إحياء وإنعاش الدولة، التي ورثوها عن الإمبراطورية الرومانية، تحت اسم الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة؛ إلا أن الدويلات المدينية والمَلَكيات المونارشية قد جُرِّدت من حصانتها الإلهية جيداً. وبرزت الكيانات السياسية الديمقراطية والوطنية للشعوب والأوطان إلى الميدان، لدى الشروع في إدراك ماهية الدولة. وقطعت الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية أشواطاً بارزة في سيادة النوعية العلمانية على الدولة. كما أدى وضع الحدود والضوابط عبر الدساتير إلى دفن الدولة الاستبدادية بين طيات التاريخ.
أما في منطقة الشرق الأوسط، وكما أن مثل هذه التغيرات لم تحصل في تقاليد الدولة، فقد ولجت مرحلة أكثر تزمتاً وتخلفاً. وما قامت به الدولتان العثمانية والإيرانية، لم يكن سوى إدامة وجودهما مدة أطول عبر الآليات الدفاعية الأخيرة التي بحوزتهما، تجاه الدول الغربية المتصاعدة. وبينما كانت الدولة الشرق أوسطية تتشتت وتتبعثر، لم تكن استعمارية الدولة الغربية قد ترسخت بعد. يُعبِّر القرنان التاسع عشر والعشرون عن مرحلة الأزمة بالنسبة للشرق الأوسط. حيث برزت خلالهما كيانات سياسية يمكن وصفها بشبه الاستعمار الحديث، حيث اتصفت ببعض الجوانب التي تميزها عن غيرها من الساحات في العالم. والتعريف التاريخي الوجيز كافٍ لتسليط الضوء على هذه الفروقات.
نخص بالذكر هنا المقاومة القصوى للعلاقة الكامنة بين الدولة والمجتمع، إزاء التغيير والتجديد، والتي لم تسمح بظهور انطلاقات قصيرة المدى للنفاذ من الأزمة. من جانب آخر، فلا الشروط المساعدة على الهضم السريع لأشكال الدولة الرأسمالية موجودة، ولا إمكانية التفكيك السريع لتقاليد المنطقة موجودة. فالتقاليد الاجتماعية لا تحتوي الديناميكيات الخلاقة المتجاوبة مع كلا التطورين المحتملين. أو بالأحرى، تسمَّرت قوة التقاليد والأعراف في الأرضية الاجتماعية منذ العهد النيوليتي، لدرجة لا يمكنها أن تصحو أو تلملم أشلاءها بهذه السهولة. أما مساعي الشريحة العليا، والتي لم تتخطَّ إطار التواطؤ، فهي بعيدة كل البعد عن جعل تلك المساعي مُلكاً للمجتمع، وعن القدرة على حلها. هذا ولا يمكن تطبيق الشكل الأمريكي، ولا الشكل الياباني الباسيفيكي على هذه الأرضية، بغرض ولوج درب التطور والتقدم على الطراز الغربي.
ليست القوالب الإسلامية فقط هي العائق هنا. بل إن القيم الحضارية برمتها تقاوم وتتحدى. حيث ثمة تعقيد وتشابك كثيف فيها، بدءاً من قيم المجتمع النيوليتي وحتى القيم العبودية السومرية والمصرية، ومن القيم الإسلامية إلى القيم الإثنية الوافرة الغنى. لا تقبل الحضارة الشرق أوسطية اللقاح الغريب بسهولة من أجل التحول. وهي بذلك أشبه بالشجرة العجوز التي لا تحتمل التطعيم. ولأجل التجديد، إما أن تقوم بقلب الشجرة القديمة واقتلاعها من جذورها، أو أن تعثر على نوع جديد من اللقاح. لكن الخيارين غير ممكنين. لقد حاولَت الجونتا التركية وتركيا الكمالية تجريب التلقيح الأول في أعوام 1900. لكنه كان مثل لقاح الاشتراكية المشيدة الفاشل. إذ لم يفلح اللقاح الغربي المُنَقَّع جيداً بماء النعرات القوموية في إعطاء النتيجة، رغم مرور ثمانين عاماً عليه. أما الشاهنشاهية (المَلَكية) الإيرانية والأفغانية، فلم تنجُ من الانهيار السريع عندما برزت بسيماء الحداثة. في حين أن القوموية العربية تحتضر. والحالة التي شهدتها في العراق تبرهن على مدى الصعوبة الملاقاة، حتى في رفع جثتها. تشهد النزعة القوموية الصهيونية الإسرائيلية أيضاً حالة مشابهة. حيث حوَّلت المشكلة الإسرائيلية – الفلسطينية إلى وحشية بكل معنى الكلمة. أما التشبث بالإسلام الراديكالي والحديث، فلا معنى له سوى كونه تهيُّجات وميول انتحارية ناجمة عن الخيبة واليأس تجاه الحملة العالمية الكبرى للرأسمالية. ومن المحال أن تسفر عن إبراز قوة أو حلول أخرى مغايرة.
إن سرداً تاريخياً مختصراً للمصطلحات الأساسية يكفي للإشارة إلى أن ظاهرة الدولة تتخفى في أساس كافة المشاكل القائمة في الشرق الأوسط. لقد خاضت الحضارة الغربية صراعات مريرة في سبيل فك لغز الدولة ذات الأصول الشرق أوسطية. وقد أسدلت النهضة بجانب من جوانبها الستار الأيديولوجي عن الدولة. ومزقت الدروع الميثولوجية الدينية عبر الثورة الذهنية؛ فحققت بالتالي إمكانية تعرية الحقيقة وإبرازها للعيان. أما الإصلاح، فقد حطم حصانة وتكامل أيديولوجية الدولة الإلهية ذاتها وبيروقراطيتها، التي كانت الكنيسة تحميها وتدافع عنها. وأزال من الوجود سلطنة الخوف المسلَّطة على المجتمع، فمهَّد السبيل بذلك ليعبر كل واحد عن معتقداته بحرية. أما في منطقة الشرق الأوسط، فخلاقاً لذلك، تم تهميش المعتزلة وأصحاب المفاهيم المشابهة، والقضاء عليهم.
ساعد انهيار السلطنة الدينية في الغرب على تسريع ظهور حرية الفكر والعقيدة. ووسَّعت مرحلة التنوير آفاقَ التطورات، ونقلتها بين صفوف الجماهير. وبينما عملت الاتجاهات الثلاثة على تحطيم وتمزيق دروع الحصانة المحيطة بالدولة موضوعياً، فقد فتحت الطريق أمام بروز القوة الديمقراطية للمجتمع. هكذا قامت الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية بدك دعائم الدولة الكلاسيكية، لتقود إلى تحديثها على الصعيدين الأيديولوجي والبيروقراطي. وحَدَّت من نطاقها بالدساتير وحقوق الإنسان، لتُسَرِّع من بروز مبادرة القوى الاجتماعية. هكذا حصلت التطورات الحضارية العظمى في القرنين التاسع عشر والعشرين.
أما في منطقة الشرق الأوسط، فاتجهت المرحلة في اتجاه معاكس في هذين القرنين. حيث ساد نفوذ كلي لقوى جناح السلطة القتالية بعد جهود مروِّعة ومريرة، لتنهب وتسلب المجتمع منذ البداية، وبأسوأ الأشكال، تحت ذريعة ضرورة وجود الدولة من أجل منفعة "المجتمع" العامة والأمنية. والتصقت الدولة المستبدة كلياً بظهر المجتمع، كما تلتصق حشرة القُرّادة بظهر الشاة. وما الفترة اللاحقة للقرن الخامس عشر، سوى تعبير عن القصة المأساوية لهذه المرحلة.
وبينما تصاعد الغرب من "المانكا كارتا Manga Charta"* نحو الدساتير العصرية الحديثة، قامت منطقة الشرق الأوسط والاستبدادية الشرقية برمتها بتطوير مختلف أشكالها. والمقولة الشعبية القائلة بأنه "كثيرة هي ألاعيب العثمانيين" هي من بقايا هذه الفترة. والمقولة الأخرى أيضاً "أكبر سعادة في هذه الدنيا، هي العيش بعيداً عن الدولة"؛ إنما تشير إلى هذه الحقيقة. إن المجتمع الشرق أوسطي أشبه بمادة مقيَّدة بمتانة بين يدي الدولة الشرق أوسطية. وأي أمارة تدل على الإشعار أو النمو البسيط فيها، تؤدي إلى استئصالها وانتزاعها. لا يمكن تحجيم الدولة دستورياً هنا، لأنها تتضخم كالديناصور.
تقمصت الدولة الشرق أوسطية المنكمشة على ذاتها والغاصّة في تزمتها تجاه المجتمع داخلياً والغرب خارجياً، الغطاء القوموي في القرن العشرين لتقود إلى تفاقم المشاكل وتثاقلها أكثر فأكثر. وبينما استحدثت نفسها بالنزعة القوموية، وببعض الإصلاحات المحدودة، مع حظيها بدعم حفنة ضئيلة من الدول الأخرى؛ فقد أسفر التعصب والتحجر السائد في المجتمع إلى ظهور ذهنية مغفلة وشاحبة متخلفة، ومريضة، وكأنها تحيا خارج دائرة الزمان والمكان. وبينما افتقدت التقاليد والأعراف قدسيتها كلياً، لم تَقُم العصرية سوى بتكوين شريحة عميلة ملتفة حول الدولة. لم تتحطم الدولة الشرق أوسطية كلياً، بل تجاوبت مع مؤسسة العمالة المنتَظَر انبثاقها من سماتها الموجودة. والغرب بدوره لم يشأ أن تنهار تماماً، لِما في ذلك من منفعة كافية له على المدى القصير. هكذا ساعد على إطالة عمر المونارشيتين العثمانية والإيرانية قرنين من الزمن، عبر التوازنات الخاصة؛ رغم أنه لو تركهما وشأنهما، لانهارتا تلقائياً آنذاك. هذا وكانت "الرأسمالية الكومبرادورية" التي طورها النظام الرأسمالي (المهيمن في الغرب) على الصعيد العالمي، تشكِّل الأرضية الاقتصادية المثلى لهذه العمالة. لكن، دعك من حل مشاكل المجتمع، لم تكن ثمة رغبة آنذاك حتى في رؤية أي مشكلة منها. وكأنه ساد شكل عصري لدولة المَلك الإله. فالقوة العسكرية التقنية المأخوذة من الغرب، كانت كطَوق النجاة بالنسبة للدولة الشرق أوسطية، حيث كان بمقدورها الصمود تجاه مجتمعها بسهولة أكبر عبرها. وبحظيها بمؤازرة أسيادها من الخلف، لم يكن صعباً على جناح السلطة القتالية أن يُطيل من عمره. بل وبصقلها نفسها بأدوات النظام الرأسمالي الاحتياطية (مذاهب الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، والتحرر الوطني)، كانت تَعتَبِر نفسها في ضمان أكبر.
بدأت هذه المرحلة، التي زُعم أنها مرحلة الإصلاح، بالتساقط شَعرة شعرة تجاه الأزمة والفوضى العامة للعولمة الرأسمالية الإمبريالية، والمتسارعة في وتيرتها مع انهيار الاشتراكية المشيدة في أعوام التسعينات. وبات من الصعب على إمبراطورية الفوضى الأمريكية السير مع هذه البنى. فهذا يخالف منطق نظامها القائم. وبينما أخذت من ربح النظام وأمنه أساساً لها، راحت الدولة الشرق أوسطية تُقحِم الآليتَين معاً في مرحلة ديناميتية في ضوء الأوضاع المستجدة. فالدولة الشرق أوسطية تعني الاضطراب والانفلات الأمني، والهدر الذي لا جدوى منه. علاوة على أن انقطاعها عن الحشود الغفيرة من الشعب أدى إلى تفاقم الانفلات الأمني والهدر، ليصل أبعاداً لا تطاق. من العصيب حقاً على الاستبدادية القائمة بحديقتها المرقَّعة وبشكلها المطلي هذا، أن تشكل الجواب المرتقب لمطاليب الشعوب المتخبطة في مشاكلها المتكدسة منذ أيام العهد النيوليتي. تضغط هذه الشعوب على تلك الاستبدادية من الأسفل، في حين تضغط الرأسمالية العالمية عليها من الأعلى. ومن الصعب عليها الرد على كليهما.
3 – تُشَكِّل الذهنية والسلوكيات الاجتماعية المتشكلة حول المرأة والأسرة، مشكلة تساوي في ثقلها ما عليه مشكلة الدولة بأقل تقدير. الدولة في الأعلى والأسرة في الأسفل. كلاهما يشكلان تكاملاً جدلياً أشبه بثنائية الجنة والسعير. فبينما تطبِّق الدولة نموذجها المصغر في الأسرة، تكون الدولة نموذجاً مكبَّراً لمتطلبات الأسرة المتعاظمة. كل عائلة تجد الحل الأمثل في التدول. وانعكاس استبداد الدولة على الأسرة هو الرجل "رب الأسرة"، الذي يظهر كـ"مستبِد صغير". وبقدر ما يسعى المستبد الكبير في الدولة لإضفاء نظام معين على العالم عبر صلاحياته ومواقفه المؤثرة والمزاجية، يقوم الرئيس الصغير بالانهماك في أعمال نظامية مطلقة مماثلة، ليطبقها على حفنة من النساء والأطفال.
سيبقى أي تحليل اجتماعي قديرٍ شديدَ النقصان، بدون تحليل الأسرة في الحضارة الشرق أوسطية على أنها نموذج مصغر للدولة. وإن كانت مشكلة المرأة متفاقمة بقدر مشكلة الدولة – على الأقل – في مجتمعنا الشرق أوسطي الراهن، فالسبب في ذلك يكمن في تاريخ عبوديتها الطويل والمعقد بقدر تاريخ الدولة. لذا، وبدون وضع البنان على مثلث برمودا "المرأة – الأسرة – الرجل" في الخريطة، لن تنجو سفينة أي حل اجتماعي مارٍّ بجانبه من الغوص في أغواره. إذاً، فالأسرة (كدولة مصغرة) في الشرق الأوسط هي مثلث برموذا السابح في المحيط الاجتماعي. ولدى تصاعد الدولة والهرمية، محال ألا تتركا آثارهما على مؤسسة الأسرة بشكل مطلق. وأي هرمية أو دولة لا تعكس صداها على الأسرة، لن تعزز من فرص حياتها، ولن تؤمِّن سيرورتها. يتم تلمس هذه الثنائية الجدلية وتناولها بعناية فائقة، ودون أي إهمال، داخل الحضارة الشرق أوسطية.
من المهم بمكان وضع مشروع تخطيطي يتناول تاريخ عبودية المرأة وتحليلها من الناحية السوسيولوجية – ولو بشكل محدود – باعتبارها الجنس والنَّسَب والطبقة الأقدم في تعرضها للأَسْر والاستعباد؛ وإلا فمن الصعب تفهم الأسرة والرجل، وبالتالي الدولة والمجتمع من الجوانب الأخرى. وسيتضمن فهمنا لها عندئذ نواقص حقيقية لا تُغتَفَر.
لن أكرر تعريف المرأة، كوني سعيتُ لصياغته في الفصل السابق. مع ذلك يجب، وبكل تأكيد، ألا نهمل أو نغفل عن وصف التقييمات التي تنظر إلى المرأة كجنس بيولوجي ناقص وقاصر أثناء ولوجها في المجتمعية، بأنها توجهات أيديولوجية. بل وهي من تصوير وتخطيط وبُدَع الذهنية الذكورية المهيمنة. والعكس صحيح، أي يجب ألا نغض الطرف عن الحقيقة التي برهن عليها العلم في كون المرأة كياناً اجتماعياً وبيولوجياً أكثر كفاءة وقدرة.
منطقة الشرق الأوسط هي مركز ثقافة الأم الأهلية. تشيد المعطيات التي بحوزتنا بأن هذه الثقافة تشهد حالة من التطور المتواصل منذ أعوام 1500ق.م. فوجود النباتات والحيوانات على الحواف الداخلية لسلسلة جبال طوروس وزاغروس، قد زَوَّدها بالإمكانيات الأولية اللازمة من أجل التأهيل. ولعب المناخ والبنية الأرضية الملائمين لزراعة الحبوب وتربية المواشي دوراً رئيسياً في ذلك.
لا يمكن أن تتحقق احتياجات المرأة اللازمة لإنجاب الأطفال وتنشئتهم ورعايتهم بسهولة، إلا في الظروف الاستيطانية المستقرة. ولدى التحام هذه الاحتياجات مع الظروف المناخية المناسبة ووجود الحيوانات والمواشي؛ تولَّدت الشروط الأولية للتأهيل والاستئناس. وفن جمع الثمار والعديد من الفواكه والأعشاب، يلبي الاحتياجات اللازمة من أجل القوت. بالإضافة إلى أن تدجين الماعز والمواشي البرية زاد من وفرة المحاصيل لتلبية الاحتياج اللازم من الصوف والحليب. ومع التجربة، شوهد أن زراعة النباتات والأشجار المفيدة والمثمرة في الحقول يزيد من وفرة الإنتاج أضعافاً مضاعفة. وعوضاً عن قتل الحيوانات مباشرة، سيكون من الناجع أكثر تدجينها ورعايتها والإفادة من حليبها وصوفها، وقتل الجوع بها في أوقات العَوَز والفاقة. كانت المرأة الأم صاحبة خبرة واسعة في كلا المسألتين لتطوير النظام الأهلي من حولها مع أطفالها الذين ترعاهم وتربيهم. قد يكون الخروج من المغاور والكهوف من أجل زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات في الأماكن المناسبة، وبناء البيوت؛ أمراً بسيطاً آنذاك. ولكنه سيلعب فيما بعد دوراً تاريخياً عملاقاً، مثلما لعبه الصعود إلى القمر في أيامنا.
لن يكون من الصعب تحوُّل الأكواخ الصغيرة إلى قرية. يمكننا العثور على بقايا الآثار القوية لهذه الثقافة المستمرة حتى أعوام 11000ق.م، في العديد من مناطق كردستان اليوم، مثل "أرغاني جايونو" في ديار بكر، و"جمه خالان" في باطمان، و"نوالا جوليه" و"كوبه كلي تبه" في أورفا، ومنطقة برادوست، و"ماغ" في هكاري. لم يُعثَر بعد على مواطن استيطانية أقدم من هذه في أي بقعة أخرى من العالم. تأتي في مقدمة البراهين المؤكدة على كثافة ثقافة المرأة الأهلية في هذه المناطق، كون التماثيل المنحوتة هي تماثيل نساء. كما أن البادئات الأنثوية في البنية اللغوية لتلك المناطق أيضاً مثال يُحتَذى به. هذا وكون المرأة ماهرة في نفس المجال من تلك الثقافة، يؤكد صحة هذه الحقيقة.
تشير المصادر السومرية أيضاً إلى مدى نفوذ تأثير هذه الثقافة لدى تأسيس المدن الأولى، وإلى استمرار وجودها بشكل وطيد. والحِبكة الميثولوجية المحبوكة حول الإلهة إينانا (إلهة أوروك) تلقننا دروساً كبرى. نخص بالذكر هنا مقاومتها العنيدة تجاه تصاعد الهيمنة الرجولية، بحيث تضاهي في حِدّة مقاومتها الحركات الفامينية الأكثر وثوقاً بنفسها في راهننا. فإينانا هنا تدافع عن معتقداتها بأن المرأة صاحبة الحضارة، وتتحدى بكل قوتها الإله أنكي (العنصر الممثل لنظام السلطة الأبوية المتصاعدة لدى السومريين). وتسرد إينانا بلغة شعرية بارعة كيف أنها تملك الـ"ما"ءات المائة والأربع (وهي الاكتشافات والمخترعات والمصطلحات الحضارية لتلك الحقبة)، وأن أنكي سرقها منها بالحيلة والمكر، وأنه عليه ردها إليها. يشير هذا السرد الميثولوجي الممتد حتى أعوام 3000ق.م، بشكل ملفت للنظر، إلى دور المرأة فيما بعد الحضارة السومرية. هذا وتعود إينانا في جذورها إلى نينهورساغ، إلهة الجبل القديمة. وكلمة "نينهورساغ" من ناحية علم الصرف والاشتقاق تكون كما يلي: "نين = Nin = إلهة"، "هورhur = kur = = الجبل"، و"ساغ = sag = منطقة". أي أن كلمة نينهورساغ تعني "إلهة منطقة الجبل". وبما أنَّ سلسلة جبال زاغروس وحوافها تأتي على البال بمجرد لفظ كلمة "الجبل" في منطقة ميزوبوتاميا السفلى، فهذا يشير إلى أن ثقافة الإلهة الأنثى قد نزلت من المنطقة الجبلية نحو السهول المنخفضة.
لا تزال ثقافة المرأة الأم مؤثرة كمركز حضاري في الفترة المتراوحة ما بين 4000 – 2000ق.م لدى السومريين. وتتمتع بثقل يوازي ثقل الرجل. وقد انعكس ثقلها هذا على جميع الوثائق الميثولوجية المتعلقة بتلك الحقبة. فمعابد الإلهات الإناث منتشرة في كل مكان. ولم تتطور بعد قوة التوبيخ والتعييب المحيطة بالمرأة. بل وتُسرَد ممارسة الجنس بشكل خاص كعملية مقدسة. دعك من التوبيخ والتعييب، بل ثمة سرد أدبي لا يمكن مصادفته حتى في أروع القصص الجنسية والشَّبَقيّة. كل تصرف أو عملية معنية بممارسة الجنس، تجد معناها كجماليات الحياة وقيمها الثمينة. وجنسية المرأة تلقى جاذبية عظمى وتبجيلاً خارقاً. لم يكن آنذاك ثمة أي تلويم أو تعييب خاص بالمرأة على نحو طراز الحياة التي شكلت الثورة المضادة الكبرى لها فيما بعد. كان جسد المرأة موضع مدح وتقدير على الدوام. ومراسيم الزواج المقدس الحالية تعود إلى تلك الحقبة، وإنْ كانت أصبحت بشكل محرَّف ومشوَّه (عملية تقبيح الرجل لها). تصوِّر العديد من النقاط المعنية بالشكل والمضمون في ملاحم "ممه آلان" و"مم وزين" و"درويش عبدي" – التي لا تزال تُذكَر اليوم في كردستان – المنزلة الرفيعة والمرموقة للمرأة. وبالإمكان القول أنه يمكن العودة بأصل هذه الملاحم إلى فترة أعوام 4000ق.م.
تصوِّر إينانا في حِبكتها الميثولوجية الرجلَ الراعي والرجلَ المزارع كمساعدَين لها. فالراعي "دوموزي" (هذا الاصطلاح هو الأصل الأول لكل ظواهر تصاعد الرجل) والمزارع "أنكومدي" يتبارزان على الإعراب عن ارتباطهما وتقديرهما لإينانا. ولم يبقَ عمل إلا وهرعا إليه كي يكونا مساعدَين أوليَّين لها. وإينانا لا تزال تتمتع بالريادة البارزة، في حين أن الرجل – مزارعاً كان أم راعياً – لا يزال بعيداً عن الهيمنة. نرى أن الوضع ينقلب رأساً على عقب في الملحمة الشهيرة الأخرى للسومريين، ألا وهي الملحمة البابلية "أنوما أليش". فثنائية الإله "ماردوخ"، ممثل الرجل المكتسب للقوة الخارقة، والإلهة "تيامات"، ممثلة الأم الخائرة القوى؛ تلقننا دروساً كبرى. حيث ثمة ثقافة تعييب وتعتيم مروِّعة بحق المرأة الأم والإلهة الأم. وتُقحَم القوالب الأيديولوجية في مصاعب حقيقية بهدف إبراز المرأة ككيان عديم الفضائل، عديم الفائدة، كثير الضرر ومخيف.
نرى أن هذه الثقافة تبدأ بالانتشار اعتباراً من أعوام 2000ق.م. حيث ثمة تغير ملحوظ على حساب المرأة في المكانة الاجتماعية. ويمتلك مجتمع السلطة الأبوية القوة التي تؤهله لتحويل هيمنته ونفوذه إلى ملاحم بطولية. كل شيء معني بالرجل يُعلى من شأنه، ويُنعَت بالبطولة والبسالة؛ في حين أن كل ما يَمُتُّ للمرأة بِصِلة يُحَط من شأنه ويُعاب ويُجرَّد من قيمته.
هكذا حصل انكسار جنسي من النوع الذي ربما سيمهد الطريق لأكبر التغييرات في حياة المجتمع على مر التاريخ. يمكننا تسمية هذا التغيير الأول المعني بالمرأة والجاري في الثقافة الشرق أوسطية بـ"ثورة الانكسار الجنسي المضادة الكبرى الأولى". إننا نقول بأنها ثورة مضادة. بالتالي، فهي لا تساهم في حصول التغييرات الإيجابية في المجتمع. بل، وعلى النقيض، إنها تجلب النفوذ والهيمنة المجحفة للسلطة الأبوية على المجتمع، وتُخرِج المرأة من دائرة المجتمع وتُهَمِّشها؛ لتمهد السبيل بالتالي لسيادة حياة مجدبة وقاحلة. إنها تقود إلى المجتمع الرجولي الأحادي الصوت، بدلاً من المجتمع الثنائي الصوت. ولربما كان هذا الانكسار الحاصل في الحضارة الشرق أوسطية، الخطوة الأولى للسقوط والتهاوي. فنتائجه تزداد دِكنة وحِلكة مع تقدم المراحل. لقد تم العبور إلى ثقافة المجتمع الذكوري المفرط الأحادي البُعد. وبينما يضيع ويخبو ذكاء المرأة العاطفي، صانع المعجزات والحيوي والإنساني إلى أبعد حدوده؛ يتولد الذكاء التحليلي اللعين (أصحابه يصفونه بعكس ذلك) لثقافة ظالمة مستسلمة للدوغمائية، منقطعة عن الطبيعة، تَعتَبِر الحرب فضيلة نبلى، وتتلذذ من سفك دماء البشر حتى الركب، وترى في ذاتها الحق بمعاملة المرأة والرجل المستعبَدين كيفما تشاء وتهوى. وهذا الذكاء (أو نوع التفكير) يتميز ببنية مناقضة كلياً لذكاء المرأة العادل والمتمحور حول الطبيعة الحية والإنتاج الإنساني.
يُلاحَظ بروز جمود وسبات حقيقي في الخلاقية والإبداع، بعد تصاعد البنية الذكورية المهيمنة في المجتمع. فبينما حصلت الآلاف من الاكتشافات والاختراعات في الحقبة ما بين 6000 – 4000ق.م (عهد المرأة الأم)، لوحظ أنه ثمة عدد ضئيل جداً من الاكتشافات المأخوذة على محمل الجد بعد أعوام 2000ق.م. إلى جانب ذلك فقد شهدت هذه الحقبة بروز ثقافة السلطة القتالية ببنيتها التي عمت الأرجاء، واعتَبَرت الفتوحات أسمى مهنة (مهنة الملوك)، وهدفت فيها الدول أساساً إلى الفتح. باختصار، تزامَنَ وتشابَكَ تهميش المرأة مع إيلاء القيمة الكبرى للسلطات ذات البنية الرجولية القتالية والفاتحة. وبينما تُكتَسَب مؤسسة الدولة كبُدعة من بُدع الرجل بكل معنى الكلمة، غدت الحروب الهادفة إلى النهب والسلب وجمع الغنائم، ضرباً من ضروب الإنتاج. وحَلَّ النفوذ الاجتماعي للرجل، والمعتمد على الحروب والغنائم، محل نفوذ المرأة الاجتماعي المستند إلى الإنتاج. ثمة أواصر كثيبة بين أسْر المرأة وبروز ثقافة المجتمع القتالي (المحارب). لكن الحرب لا تنتج، بل تستولي وتنهب وتسلب.
غالباً ما يكون دور العنف سلبياً ومدمِّراً، فيما عدا بعض الظروف الخاصة التي يكون فيها محدِّداً لوجهة التطورات الاجتماعية، مثل شق الطريق إلى الحرية، والتصدي للاحتلال أو الغزو أو الاستعمار. تتغذى ثقافة العنف المهضومة في المجتمع على الحروب. و"سيف" الحرب المسلَّط بين الدول، هو تمثال الهيمنة والنفوذ في "قبضة" الرجل، يسلِّطه داخل العائلة. يتواجد المجتمعان الفوقي والتحتي في مكبس "السيف وقبضة اليد". حيث يُغدِق المديح الدائم لثقافة الهيمنة والتسلط. وتَعتَبِر أشهر الشخصيات أن مَدحها بسفكها الباطل للدماء، وافتخارها بذلك؛ هو أسمى فضيلة لديها. نخص بالذكر هنا الملوك البابليين والآشوريين الذين يَعتَبرون جمع جثث البشر كمحصول لهم، وبناءهم القلاع والأسوار بها؛ مدعاة للفخر الأعظم والشرف الأكبر. وظاهرتا ثقافة العنف الاجتماعية وإرهاب الدولة، اللتان لا تزالان متفشيتان في يومنا الحالي، تستمدان منبعهما من هذه الثقافة.
تقطع "ثورة الانكسار الجنسي المضادة الكبرى الثانية" أشواطاً ملحوظة حول المرأة في عهد الأديان التوحيدية. وفي هذه المرة، تغدو الثقافة البارزة في الانكسار الحاصل في العهد الميثولوجي قانوناً إلهياً. وتُرجَع الممارسات المطبقة بحق المرأة إلى كونها أمر إلهي مقدس. فمحور العلاقة الكامنة بين سيدنا إبراهيم وزوجتيه سارة وهاجر، يشيد بالمصادقة على تفوق الرجل. أي أن السلطة الأبوية مترسخة تماماً. كما وتشكلت حينها مؤسسة الجواري، ويُصادَق على تعدد الزوجات بأعداد كبيرة. أما العلاقة القاسية بين سيدنا موسى وأخته ماريام، فتفيد بأن المرأة لم يعد لها نصيب من الميراث. أي أن مجتمع سيدنا موسى مجتمع ذكوري بكل معنى الكلمة. حيث لا تُناط النساء بأية مهمة أو وظيفة. هذا هو السبب الأصلي للصراع مع ماريام. ومقولة "على المرأة ألا تحشر نفسها في أمور الرجل، ويدها ملوثة بالعجين" تعود إلى هذه الحقبة.
نلاحظ العبور إلى ثقافة الحَرَم النسائي مع عهد داوود وسليمان في المَلكية العبرية المتصاعدة في أواخر أعوام 1000ق.م وما قبلها. وكانت النساء تُهدى آنذاك. إنها بداية مرحلة جديدة تُكبَت فيها أنفاس المرأة أكثر. إذ لا فرق على الإطلاق بين التصرف بالمرأة أو بأي مُلك آخر. ستجد هذه الحالة المعاشة في الدولة الدينية الجديدة انعكاساتها على الأسرة أيضاً. بات من المحال الحديث عن أي دور للمرأة القابعة تحت الهيمنة الثنائية لثقافة السلطة الأبوية من جهة، وثقافة الدولة الدينية من الجهة الثانية. المرأة المثلى هي الأكثر تأقلماً مع رَجُلها، ومع نظام السلطة الأبوية. لقد أصبح الدين أداة للتعتيم على المرأة وتسويدها. فهي (حواء) المرأة الأولى المذنبة، التي سلبت عقل آدم وتسببت في طرده من الجنة. و"ليليت" التي لم تخنع لإله آدم (رمز نظام السلطة الأبوية)، تعمل بأقوال الشيطان (رمز الإنسان الذي لم يسجد لآدم ورفض تَعَبُّده)، وهي صديقة له. أي إنه أُخِذ بالتعتيم الميثولوجي كقدوة، وحُوِّل إلى تعتيم ديني. بل واحتل الزعم الذي كان سائداً في أيام السومريين، والقائل بخلق المرأة من ضلع الرجل؛ مكانه في الكتاب المقدس أيضاً. هذا ولا يوجد نبي واحد "أنثى" من بين ما يقارب الآلاف من الأنبياء الذكور. كما يُنظَر إلى جنسية المرأة كأكبر حرام، لتُعاب وتُعتَّم باستمرار. بل واحتُقِرت، حتى غدا ذلك مبدأ تقليدياً وعرفياً. هكذا غدت المرأة ذات المنزلة المرموقة في المجتمعات السومرية والمصرية، مادةَ معابة وحرام وسالبة للعقول.
ينتصب رمز مريم أمامنا لدى وصولنا إلى عهد سيدنا عيسى، بحيث لا تكون لها أية علاقة بالألوهية، رغم أنها أم "ابن الإله". أي أن عنوان الإلهة الأنثى للإلهة الأم قد ترك محله للأم الصامتة الدامعة العينين. هكذا يستمر السقوط والتهاوي. فالحَمل بنفخ الإله فيها (الرجل المهيمن على المرأة) مصطلح مشحون بالتناقضات. يعبِّر ثالوث "الأب – الابن – الروح القدس" في المسيحية، في حقيقته عن تركيبة جديدة من الأديان المتعددة الآلهة والدين التوحيدي. تشهد هذه المرحلة صراعات ضارية ومتوالية بين الألوهية التوحيدية كعقيدة عِبرية صلبة ومتحجرة من جهة، وبين العقيدتين الغنوسطية (مذهب العرفان والاعتراف بالإله) والوثنية – اللتين كانتا شديدتا الانتشار، ولهما علاقات وطيدة مع المسيحية في تلك الأثناء – من الجهة الأخرى. المحصلة كانت أن انتهى وفاق هذه الاتجاهات الثلاثة بتشكيل دين ثلاثي الآلهة (يُلاحَظ انخفاض بارز في عدد الآلهة. حيث كان ثمة مثل هذه الثلاثية في عهد سيدنا محمد أيضاً). الغريب في الأمر هو أنه، وبينما كان من الواجب أن تكون مريم أيضاً إلهة بأقل تقدير، نُظِر إليها كآلة تنفخ فيها الروح القدس. تشير هذه الظاهرة إلى "تذكير" الألوهية بكل ما للكلمة من معنى. في حين كانت الآلهة والإلهات الإناث متكافئة تقريباً في عهد السومريين والمصريين. بل وحتى في العهد البابلي، كان لا يزال صوت الإلهة الأم جهوراً.
ما وقع على كاهل المرأة مع سيدنا عيسى ومريم، هو أنْ تكون تلك المرأة والأم الدامعة العينين، الهادئة والصامتة. وهي لا يمكن أن تتحدث عن الألوهية عبثاً في أي وقت من الأوقات. بل ستعتني أشد الاعتناء بأطفالها الذكور (أولاد الإله) ذوي القيمة الخاصة في بيتها. إذ ما من دور مُناط بها، سوى أن تكون امرأة منعكفة في منزلها. أما الساحة العامة، فهي موصَدة تماماً في وجهها. أما ممارسة القدِّيسات (العزيزات، النساء العذراوات) في المسيحية، فهي حالة المرأة المنزوية على نفسها للتخلص من ذنوبها الكبرى. لكن، بالإمكان القول أنها أسفرت عن تطور إيجابي لديها، وإنْ ضمن حدود ضيقة. فالقديسات تعني – على الأقل – الخلاص من المصطلحات والتعييبات والتوبيخات الجنسية. ودوافع تفضيلها إياها على الحياة المستعرة في البيت، قوية مادياً ومعنوياً. ما من شك في أنها ممارسة عملية تاريخية. بل ويمكن نعتها بأنها ضرب من ضروب أول حزب للنساء الفقيرات. بل وتعبِّر عن إحياء ثقافة معابد الإلهات الإناث، داخل ثقافة دير الراهبات، وإنْ بشكل باهت.
لممارسة القديسات مكانة مهمة في تاريخ الحضارة الأوروبية. فقد استَلهم الزواج من زوجة واحدة فقط (الزواج الثنائي) فكرته من ممارسة القديسات بنسبة كبرى. ورغم عيش المرأة فيها ضمن شروط شديدة القساوة، فقد ساهمت بعذريتها الجنسية في إعلاء شأن المرأة، وإنْ كانت تَعتَبِر جنسيتها مصدر أخطار ومهالك. أما الجانب السلبي لهذه الممارسة، فهو تقييم المرأة كسلعة جنسية، كَرَدّة فعل متطورة تجاه الزواج الكاثوليكي في الحضارة الأوروبية (حيث الطلاق محظور). بالطبع، فقد برز هذا بفضل الرأسمالية المتنامية.
أما المرتبة الجديدة التي اكتسبتها المرأة مع سيدنا محمد والدين الإسلامي، فتتخذ الثقافة العبرية أساساً لها في مضمونها، رغم تحليها بنسبة معينة من الإيجابيات، نسبةً إلى عامل نظام السلطة الأبوية المترسخ في ثقافة القبائل الصحراوية. فموقع المرأة هذا، والمتخذ شكله تماماً، هو لدى سيدنا محمد مثلما كان عليه لدى داوود وسليمان. إلى جانب ذلك، لا يزال تعدد الزوجات لأغراض سياسية، وحياة الجواري المتزاحمة، أمراً مشروعاً. فرغم تحديد الزواج بأربع نساء، إلا إنه لا يغير من المضمون شيئاً. حيث ينظر المفهوم القائل: "المرأة حقلكم، فاحرثوه كما شئتم"، إلى المرأة المُلك كمعطاة هِبة، لا غير.
مفهوم سيدنا محمد في العشق أيضاً غريب الأطوار. إذ يشير هيامه بعائشة رضي الله عنها، التي تبلغ التاسعة من العمر – رغم أنه في عقده الخامس – إلى رفعة اهتمامه بالمرأة. كما ينمّ مدحه الدائم لزوجته الأولى خديجة، عن القيمة التي يوليها إياها. إنه حساس ويقظ عموماً إزاء المرأة. إلا أن تركه مؤسسة الحَرَم النسائي والجواري وشأنها، وعدم مسه إياها، سيُستخدَم بأسوأ الأشكال من بعده، داخل شرائح الدولة.
عندما تدخلت السيدة عائشة في أمور السلطة والصراع عليها مع الخلفاء الراشدين، بعد وفاة سيدنا محمد، خسرت المعركة. وأدركت بألم شديد قيمة المرأة ومنزلتها، فتذمرت قائلة: "يا رب، ليتك صنعتني قطعة حجر، على أن تخلقني امرأة!". لقد حُدِّد حظر السلطة على المرأة منذ أيام العلاقة القائمة بين موسى وماريام. لم تحصل أية تطورات إيجابية في موقع المرأة داخل الشرق الأوسط في العصور الوسطى الإقطاعية. فالقوالب التاريخية لا تزال دارجة. وحتى في علاقة العشق المرموز إليها في العلاقة بين ليلى ومجنون، ليس هناك نتيجة تنمّ عن الخير والبشرى. أي، لا مكان للعشق في الإقطاعية.
شهدت المرأة أكثر مراحلها تجرداً من الشخصية داخل الأسرة القابعة تحت وطأة السباق القائم بين الدولة ونظام السلطة الأبوية. إنها أسيرة مطلقة لنزوات وشهوات أصحاب السلطة. وهي آلة مكمَّلة لتعزيز سلطاتهم. لقد تجردت من المجتمع عموماً. هكذا باتت امرأة المدينة تتخبط في أغوار العبودية الغائرة. في حين أن المرأة ضمن الجماعات التي تعيش في شروط البداوة والترحال، والحاملة بين طياتها الآثار المتبقية لديها من النظام المشاعي البدائي؛ لا تزال تلقى الاحترام والتقدير.
وبالتدريج يصعب تعريف مكانة المرأة تحت وطأة نظام التسلط والمُلكية. فالمرأة في راهننا تعيش حالة أنقاض وأطلال، كمعطاة من معطيات ممارسةٍ دامت آلاف السنين. فحتى التأثير المُغوي والمفسِد للنظام الرأسمالي، بعيد كل البعد عن الانعكاس والظهور على حقيقته. إنها – المرأة – العضو الأصلي القابع في نواة التخلف السائد في المجتمع الشرق أوسطي. والرجل الشرق أوسطي الفاشل في كل الميادين، يفجر سخطه بفشله هذا على رأس المرأة. فبقدر تعرضه للإهانة والازدراء في الخارج، يُفرغ جام غضبه على المرأة، سواء بوعي أو بشكل تلقائي. والرجل المغتاظ والمشحون بالنقمة لعجزه عن حماية مجتمعه، وعن إيجاد منفذ له؛ يصب جام حنقته على المرأة والأطفال كالمجنون داخل الأسرة، ويفرِّغ عنفه الصارم عليهم. وما ظاهرة "جنايات الشرف" في حقيقتها سوى عملية يقوم بها الرجل الذي يطأ شرفه وكرامته في كافة الميادين الاجتماعية، فيُفرِغ نقمته، وبشكل معكوس، على رأس المرأة. وهو يعتقد بذلك أنه حل قضية الشرف بتظاهر بسيط ورمزي، ولكنْ باهتٍ وفانٍ. إنه يطبق نوعاً من العلاج النفسي*. ما يتوارى تحت المعضلة أصلاً هو تاريخٌ وقضيةٌ اجتماعية مفقودان. من أهم المشاكل التي تواجهنا هي إفهام هذا "الرجل" وإقناعه باستحالة خلاصه من تلطخ شرفه، ما لم يواجه تلك القضية التاريخية الاجتماعية، وما لم يقم بواجباته تجاهها. يجب، وبكل تأكيد، تعليمه أن الشرف الحقيقي لا يمر من عذرية عضو المرأة الجنسي، بل من تأمين العذرية التاريخية والاجتماعية؛ وأن نحثه على تطبيق هذا المبدأ.
إني على قناعة تامة بأنه، وعبر هذا السرد التاريخي الموجز، ظهر لدينا بشكل أوضح، أن المشاكل المعاشة في الأسرة الشرق أوسطية في راهننا، لها من الأهمية ما للمشاكل المعاشة في الدولة منها. فالكبت والقمع والمشاكل الثنائية الاتجاه، تزداد في حدّتها فيها. أما انعكاسات مجتمع الدولة ونظام السلطة الأبوية عليها على مر التاريخ من جهة، وانعكاسات القوالب الحديثة للحضارة الغربية عليها من الجهة الثانية؛ فلا تشكل تركيبة جديدة، بل تخلق معها عقدة كأداء. فالانسداد المخلوق في الدولة يزداد تعقيداً داخل الأسرة. ويُقحِم عجزُ الشبان اليافعين عن إيجاد عمل لهم، الأسرةَ في شلل حقيقي. باتت الأسرةُ المضبوطة حسب الدولة والاقتصاد، عالقةً في درب مسدود لا يمكن السير فيه، عبر هاتين الرابطتين القديمتين. فلا طراز العائلة الغربية متوطد، ولا طراز العائلة الشرقية. هكذا يتحقق التآكل والنخر في جسد الأسرة ضمن هذه الشروط.
يتأتى حفاظ الأسرة على قوَّتها قياساً بالأواصر الاجتماعية المنهارة والمتفككة بسرعة أكبر، من كونها المأوى الاجتماعي الوحيد. علينا بالتأكيد ألا نستخف بالعائلة أو نستصغرها. والانتقادات التي طرحناها لا تستوجب رفض العائلة أو دحضها جذرياً، بل تطرح ضرورة إكسابها معناها وإعادة بنائها.
من المهم طرح مشكلة الرجل أيضاً، والتي هي أكثر وطأة من مشكلة المرأة. فتحليل مصطلح الهيمنة والسلطة في الرجل، لا يقل أهمية عن تحليل عبودية المرأة. بل وقد يكون أكثر صعوبة. فالذي لا ينحاز إلى التحول بالأغلب هو الرجل، لا المرأة. ولو تركنا رمز الرجل المهيمن وشأنه، سيشعر بذاته كالحاكم المفتقد لدولته، فيتخبط في عواطف الفشل والهزيمة. في الحقيقة، علينا أن نُظهِر له بأن هذا الشكل الأجوف للهيمنة والتسلط هو الذي أفقده حريته، وجعله متزمتاً بشكل كلي.
إن القول بتناول مشكلة الدولة أولاً، ومن ثم مشكلة الأسرة؛ هو موقف خاطئ. يجب دراسة هاتين الظاهرتين المرتبطتين ببعضهما بروابط جدلية، ومعالجتهما بشكل متداخل معاً. والنتائج التي أسفر عنها الاعتقاد السائد في الاشتراكية المشيدة بحل مشكلة الدولة أولاً ومن ثم معالجة المجتمع، إنما هي ظاهرة للعيان. لا يمكن حل المشاكل الاجتماعية بإيلاء الأهمية لواحدة منها دون الأخريات. بل إن الأسلوب الأصح والأسلم هو النظر إلى المشاكل الاجتماعية ككل متكامل، وإيلاء المعاني لكل واحدة منها ضمن روابطها مع الأخريات، واتباع الأسلوب عينه لدى العمل على حلها. فبقدر ما يبرز النقص لدى تحليل الدولة دون تحليل الذهنية، أو تحليل الأسرة دون الدولة، أو تحليل الرجل دون المرأة؛ فسيبرز النقصان عينه لدى الهرع نحو الحل دون القيام بخلاف ذلك.
4 – ثمة بضعة ظواهر أخرى تستوجب التعريف داخل المشاكل الشرق أوسطية. فظواهر الإثنية، الأمَّة، الوطن، العنف، الطبقة، المُلكية، والاقتصاد وغيرها؛ لا تزال بعيدة عن التعريف على الصعيد الاصطلاحي. فاصطلاح الظواهر بمستواها التعريفي لا يزال غير منقى من شوائب الدروع الأيديولوجية الشوفينية. ولم تُطرَح بعد القيمة العلمية الحقيقية لهذه الظواهر في الثقافة الشرق أوسطية. حيث يُنظَر إليها بمنظار الأيديولوجية الدينية، أو بمنظار القوموية الشوفينية؛ ليسفر ذلك عن نتائج مشحونة بالعقم والانسداد، حسبما يُرتأى لها. ولا تُطرَح في الميدان بعض التساؤلات، من قبيل: ما هي قيمة ومكانة وثقل ظواهر الإثنية، الأمة، الوطن، العنف، المُلكية والاقتصاد؟ عَمَّ تعبِّر العلاقة فيما بينها؟ بل ويُجعَل من الحقيقة ضحية للإرشادات الأيديولوجية السائدة. أما السياسة، فتقترب منها بتهكم وتهجم أناني عبر إرشادات أشد سوءاً. ولا تُولى أية فرصة لإبداء المواقف العقلانية المنطقية، أو العادلة الديمقراطية. وكأنه ثمة إحساس سائد يفيد بأن تنوير الظواهر بسلوكيات علمية خارج النطاق الأيديولوجي والسياسي، سيُفسِد كل الألاعيب المحاكة. وإبقاء الحقائق متوارية في الظلمات الداكنة في منطقة الشرق الأوسط، هو وظيفة هامة أُنيطت بها السياسة والمجال التعليمي. وبدون النجاح فيها، يستحيل القيام بإجراءات فن السلطة. يمر إبطال السحر من الشفافية والنقاوة.
لقد وضعنا ثقلنا بما فيه الكفاية على الإثنية (جماعات الكلان، القبيلة، العشيرة، والشعب). وسعينا لإظهار مسار نشوئها وتطورها وتحولاتها، وإنْ بشكل غير مباشر. لا تزال الإثنية واقعاً يحافظ على وزنه في الشرق الأوسط، وإنْ ليس بالقدر الذي كانت عليه قديماً. وهي أكثر توطداً في المناطق الجبلية والريفية، في حين أنها تركت محلها في المدن للطرائق الدينية والجماعات المشابهة. وبما أن المواطَنة والديمقراطية لم تترسخا بشكل كامل، فلكلٍ إثنيته وجماعته التي ينتمي إليها. والدول أيضاً تراقب الأشكال الأخرى للوجود الإثني، بقدر مراقبتها للأسرة. ذلك أنه من الصعب الفلاح في السياسة، دون أخذ قوة العشائر الموجودة بعين الحسبان. ويزداد التعقيد الاجتماعي أكثر لكونها لم تنصهر تماماً في بوتقة التمايز الطبقي ولا النزعات القومية. لكن هذا مهم من ناحية حملها لثقافة النَّسَب كعضو مقاوِم تاريخياً. إن الرفض الجاف والمحض لها، ليس بموقف واقعي ولا ناجع. بل من المهم تناول الأواصر الإثنية ودراستها بعناية، وتحليلها بصحة؛ بغرض الفصل بين الإثنية وبين الميول المنزلقة في القوموية المصغرة والسياسة الضيقة كساحة أساسية. فبقدر ما يؤدي الاتجاه الأول إلى نتائج صائبة، قد ينمُّ الثاني عن قدر مماثل من النتائج الخاطئة والوخيمة.
يشكل مصطلحَا "الأمة" و"القومية" مشكلة قائمة في المجتمع الشرق أوسطي، أكثر مما يشكلان الحل. لقد ابتُكِر مصطلح "الأمة" ومن ثم "القومية"، وبُذِِلت المساعي لتحليلهما في فترة المَرْكَنتَلية (الرأسمالية التجارية) كفترة ولادةٍ ونشوء للرأسمالية؛ قبل تحديد احتياجات السوق الوطنية، أو رسم حدود اللغة القديمة. يُعبِّر مصطلح "الأمة" عن مفهوم الأمة الجماعة المعتنقة لدين ما بمعناه المحدود بإطار اللغة. وهو في مضمونه مصطلح سياسي أكثر منه سوسيولوجي. حيث يتم التوجه إليه بمآرب سياسية. وهو يلبي احتياجات المطالبة بتكوين الدولة ضمن حدود أكثر استقراراً وسلامة. لهذا المصطلح أهميته بالنسبة للدول، والتي تنبع من أرضيته السياسية، أكثر مما تنبع من أرضيته الإثنية. فحتى في مفهوم "الأمة النقية" تبرز الحقائق السياسية للعيان بكل وضوح. وبالطبع، تبرز من خلف هذه السياسة أيضاً مشكلة السوق. فالسوق والسياسة هما رَحِم الشعب.
لا يتمتع مصطلح الأمة بالقيمة التي تتمتع بها الإثنية من الناحية السوسيولوجية. فالإثنية هي إحدى الظواهر السوسيولوجية الوطيدة. والإثنية كقوم تشبه الأمة. و"القوم" يختلف في مضمونه عن الأمة، حيث يعتمد على خلفية لم تتطور فيها بعد قيم السوق والسياسة. وفي منطقة الشرق الأوسط يتم الالتفاف حول القومية أكثر منها حول الأمة. والقومية – أو القوموية – تحل محل العلاقات الدينية المتراخية والواهنة. وهي ضرب من الدين الدنيوي. كما أنها آلة أولية لمشروعية الدولة. إذ من الصعب تسيير شؤون الدولة دون الارتكاز إلى الدين والقوموية. فالدين بالأصل هو جينة الدولة. والقوموية هي شكلها الحديث.
لا يتحلى مصطلح الأمة والقومية بأية قيمة للحل الاجتماعي في راهننا. بل، وخلافاً لذلك، فهو يُصَعِّب الحلول ويعقدها بمواراته إياها تحت غطاء الأمة والقوموية. من المهم تعريف هذه الظاهرة والمصطلحات – التي لا يمتد ماضيها حتى قرن واحد فقط – ضمن واقعها هي. قد تفضي السلوكيات والمواقف السياسية والأيديولوجية المستندة إلى القومية أو الأمة بشكل بحت، إلى العديد من الأخطاء. فالأدوار التي لعبتها القوميات البالغة إلى المرتبة الشوفينية، واضحة للعيان في الحروب المندلعة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. هذا ومنشور أمام العيان النتائج التي تقود إليها كافة القومويات عموماً في الشرق الأوسط، والقوموية العربية – الإسرائيلية على وجه التخصيص؛ وما تتسبب فيه من عقم وعمليات دموية وآلام جسيمة، بسبب استثمارها في مآرب سياسية. من المهم بمكان عدم اللجوء إطلاقاً إلى القوموية في السياسة والأنشطة الأيديولوجية، واستخدام ظاهرة "الأمة" كمادة أو عنصر أولي في حال مساهمتها في الحلول الاجتماعية، لا غير. وإلا، ففي حالة العكس، لن ينمّ الأمر عن نتائج، سوى تجذير الفوضى بسبب الاشتراطات الأيديولوجية (مثلما هي الحال في أوروبا) التي تتميز أصلاً بأرضية متينة في منطقة الشرق الأوسط.
إلى جانب امتداد مصطلح "الوطن" إلى القديم الغابر كمكان للاستيطان والاستقرار، إلا إنه حديث باعتباره الجغرافيا التي تستند إليها الدولة القومية، حيث تعمل بالحدود السياسية أساساً بدلاً من الحدود الإثنية. والفارق الكامن بين الشرق الأوسط وأوروبا، هو أن الحدود التي تستند إليها الدولة، لا الحدود اللغوية، هي التي تحدد التخوم القومية في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذه الحالة يغدو الوطن ظاهرة سياسية. فكل دولة تشكل وطناً بمعناه العصري. لا يمكننا صياغة تعريف صحيح للوطن عبر الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية. هذا ولا تكفي الحدود اللغوية أيضاً لتشكيل الوطن. لذا، فتقييمنا له كمصطلح ثقافي سيقرِّبنا من الحقيقة أكثر. يمكن إطلاق تسمية الوطن على المساحات الجغرافية التي تتجاوز نطاق القومية السياسية وتمتلك تاريخاً أقدم منها بكثير، حيث استقرت فيها الشعوب القديمة على مر التاريخ الطويل. ومثلما يقال أنه لكل شعب وطن، فثمة أوطان مشتركة للشعوب المتعايشة بشكل متداخل أيضاً.
إذا ما تناولنا الشرق الأوسط ككل متكامل، فإن تقسيمه ضمن حدود على الطراز الأوروبي يخلق معه مصاعب شتى. ذلك أن التكامل والخاصيات متوطدان للغاية. فالروابط الاقتصادية والاجتماعية هي التي تحدد تسمية مكان ما بالاسم اللازم. أما التقسيمات السياسية الإرغامية، فليست وطيدة بقدر القيم المخلوقة عبر التاريخ. أدت الحدود السياسية المرسومة في نهايات الحرب العالمية الأولى، إلى تحريف مصطلح الوطن؛ أو بالأحرى إلى ولادة المشاكل المعنية بالوطن الحقيقي. إن الواقع السياسي المتكامل لمنطقة الشرق الأوسط يشل من واقعية الخريطة السياسية المعروفة اليوم. كما تستلزم ديناميكية السياسة تكامُلَ الساحات الجغرافية على نحو مغاير لما هي عليه. والوضع القائم يتطلب صراعاً دولياً عالمياً، ويؤجج النعرات القوموية، كما هي الحال في المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية، أو في مشكلة كردستان العراق.
تقاليد الإمبراطورية الشرق أوسطية أقرب إلى الفيدرالية. فالبنية الإدارية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة كانت فيدرالية، منذ أولى الإمبراطوريات وحتى الإمبراطورية العثمانية الأخيرة. إنها فيدرالية مرتكزة إلى المناطق الواسعة الخاصة، وأشبه بحال الولايات المتحدة الأمريكية في راهننا. تنبع المشكلة الاساسية للشرق الأوسط فيما يخص موضوع الوطن، من عدم العودة ثانية إلى الوضعية الفيدرالية التقليدية المألوفة، وإلى التجزئات والتقسيمات غير الواقعية، وغير اللازمة، وغير المجدية، فيما بين العديد من الدول القومية. ومن دون تخطي هذا الوضع، سيكون من الصعب بلوغ مفهوم أكثر واقعية بشأن الوطن والمواطَنة.
تتميز ظاهرة "الطبقة" بمعاني سوسيولوجية أقل مما يُتَصوَّر لها في أنظمة المجتمعات. فالروابط الأكثر تأثيراً في المجتمع هي الروابط الأيديولوجية والسياسية والإثنية، وغيرها من المجموعات والأصناف. في حين أن الحركية ذات الوعي الطبقي تكون محدودة. يكون التمايز الطبقي ضرورة لا بد منها في المجتمعات الهرمية والدولتية. ذلك أنه لا يمكن للهرمية أو الدولة أن تتطور، دون تَشَكل ظاهرة الطبقة. لكن، ومن الجانب الآخر، لا يمكن القضاء على أية بنية للدولة أو الهرمية من قِبَل الطبقة الاجتماعية السفلى التي تشكل دعامة أساسية لها. التمايز الطبقي والتدول ظاهرتان تشترطان وجود بعضهما البعض، ومنوطتان ببعضهما البعض. قد يكون ثمة صراع ضارٍ بينهما. لكن وفاقهما أمر لا مفر منه في منتهى المآل. تُشَكِّل الطبقة الحاكمة على الدولة، والطبقة المحكومة من قِبَلها قريناً (ثنائية) جدلياً. وتكون الدولة هي الواقع القائم والسلوك المتبع فيما بين هذه الثنائية، بحيث لا يمكنها الصمود أو الثبات في حال غياب أحد عنصرَيها. فبغياب الطبقة لا تتشكل الدولة. في حين أن الإصرار على تشكيل الطبقة يعني تماماً الإصرار على الدولة. أما مديح الطبقة المسحوقة، فيتحول في آخر المطاف إلى مديح للدولة المهضومة والمقبولة، بشكل أو بآخر.
إن القول بـ"دولة الطبقةالعمالية" خاطئ كمصطلح. فهذا القول لا يعني سوى "إني أخلق بورجوازيتي بيدي". والتجربة السوفييتية برهان ضارب للنظر في هذا المضمار. أما الشكل الأصح في موضوع الصراع الطبقي، فيتمثل في عدم عيش التمايز الطبقي على الصعيدين الأيديولوجي والعملي. وهذا ما مفاده العيش على شكل "فرد حر" أو "مجموعة إثنية" أو أي ضرب من ضروب الجماعات. حينها لا يتبقى من الدولة سوى جهاز تنسيقي، أو منظومة تسمى "الأمن العام والمصلحة العامة المشتركة"، والتي تحدَّد وفق إرادة المجتمع المشتركة.
يُعاش التمايز الطبقي بأنقى أشكاله وأكثرها أصالة في الحضارة الشرق أوسطية، في عهد نشوء الحضارة السومرية والمصرية. حيث يجد معناه في الميثولوجيا على شكل مخلوقات إلهية، وأخري طينية. إنه تمايز جذري. وقد تحول هذا التمايز في الأديان التوحيدية، ليتخذ شكل "أهالي الأنبياء" (أهل البيت) و"الأمة". في حين يمنح سيدنا موسى صلاحية "الكهانة" للقبيلة الأقرب إليه من بين القبائل العبرية؛ ليباشر بذلك بإبراز تمايز طبقي خاص به. أما سيدنا عيسى، فتتبين منزلته بالبدء بتمرد الفقراء تجاه طبقة الكهنة بالأرجح. وشهدت المسيحية أيضاً تمايزاً طبقياً فيما بعد، بحذوها حذو الإمبراطورية الرومانية. فبينما أسَّست الطبقة العليا للكنيسة دولتها الدينية، تمكنت من تطوير تمايز طبقي خاص في الأسفل بين صفوف الشعب، تحت غطاء ديني.
أما في الديانة الإسلامية، فيُعاش التمايز الطبقي على نحو مختلف. فبينما تتأسس الدولة الإسلامية على يد الخلفاء الراشدين المفتقرين إلى العمق الأيديولوجي، وعلى أرضية تتكون بالأرجح من بقايا الدولتين البيزنطية والساسانية؛ تحولت الأمة، كمجموعة واسعة من المؤمنين، إلى دعامة أساسية لهذه الدولة. و"الأمة" هنا، تعبِّر عن شريحة المجتمع المؤمنة كلياً بالدولة الإسلامية، والمعتادة على الطاعة المطلقة لها. إن غطاء الأمة يدثر وجه التمايز الطبقي الحقيقي، ويجذبه نحو الوفاق.
وهنا تظهر أمامنا الهوية الاجتماعية الديمقراطية للأديان التوحيدية: إنها الوفاق الوطني. يمثل سيدنا عيسى في حقيقته ثورية الطبقة الراديكالية. فـ"الآريوسية" (Ariusçuluk) في الديانة المسيحية، وخاصة في فترة التدول، تمثل المقاومة الطبقية الضارية والعتيدة للفقراء. ويُشاهَد الاتجاه عينه في ظاهرة تمثيل المذهب العلوي للفقراء ولمجموعات الشعب المسحوقة في الديانة الإسلامية، في نفس الوقت الذي يتدول فيه المذهب السنّي. أي أن الطبقات لا تظهر ببناها العارية المكشوفة في منطقة الشرق الأوسط. بل تنتصب أمامنا على الدوام متقمصة أغطية إثنية ودينية ومذهبية. بمعنى آخر، يجب العثور على التمايز الطبقي في أعماق الأغطية الأيديولوجية والإثنية والمذهبية الغائرة. والصراعات الحاصلة إنما تُشِيد بالخصائص نفسها. يتواجد على الدوام مضمون طبقي في كل صراع إثني أو ديني أو مذهبي أو فكري أو …الخ. يجب وضع هذه الحقيقة نصب العين دائماً لدى القيام بتحليل أي ظاهرة اجتماعية كانت.
لدى تصارع الطبقات في الشرق الأوسط الراهن على الدولة (كما في العراق مثلاً)، يبرز ذلك في العلاقات القائمة بين المذاهب العربية، العلوية الشيعية منها والسنية من جهة، وبين الإثنية الكردية وجماعات الأقليات الأخرى من الجهة الثانية. أي أن الظاهرة الطبقية تعاش في أغوار البنى الأيديولوجية والدينية والإثنية للدولة وللشعب كرعيّة تابعة، على السواء. لهذا السبب، لا تتسم الأحزاب الطبقية العلنية ذات الطراز الغربي بمعنى حقيقي فيها. لذا، سيكون من الأنجع ألا نهمل مسألة التمايز الطبقي أو نغفل عنها إطلاقاً، ولكن أن نراقب شكلها المرئي الخاص بها بعين واقعية. وبالتالي، أن نعمل على تحليلها دون الوقوع في مفهوم الإسقاط الزائد أو الانزلاق في المفهوم الطبقي الفظ (كالقول بالطبقة العمالية أو القروية مثلاً)؛ وأن نطور الممارسات العملية ونطبقها بموجب ذلك. وإلا، ففي حالة العكس، ستغدو ظاهرة الطبقية آلة أو وسيلة تقبع في أعماق العقم واللاحل، مثلما هو عليه الأمر في يومنا الحاضر.
لم تنجُ الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية، والديمقراطية الاجتماعية، والتحررية الوطنية من ملاقاة الفشل والهزيمة، بسبب توجهاتها الطبقية الحديثة الفظة، والتي لها دور بارز في عدم فلاح الأحزاب الشيوعية والديمقراطية الاجتماعية والقومية الراديكالية، بأي شكل من الأشكال، في كل من إيران، العراق، تركيا، مصر، وسوريا. بل، وخلافاً لذلك، أدت – ورغم مساعيها المهمة – إلى هزيمتها النكراء تجاه التيارات التي عرفت كيف تستخدم الغطاء الديني بمهارة في الصراع على السلطة (كالشيعة، الإخوان المسلمين، حركة حماس، حزب الله، وغيرها).
تتشكل ظاهرة "المُلكية" أيضاً في أغوار عواطف الانتساب الاجتماعي والهوية الاجتماعية، إلى جانب بروزها إلى الوسط في فترة التمايز الطبقي من سياق التطور الاجتماعي. قد يكون من الناجع الفصل بين شكلين من أشكال المُلكية. حيث بالمقدور تعريف المُلكية الجماعية أساساً بأنها إرادة التصرف بأي شيء تستدعيه الضرورة المشتركة من أجل مجموعة منظمة معينة. فكل فرد من الجماعة له نفس الحق في التصرف (الانتفاع من إرادة الاستخدام والاستهلاك) بالشيء المعني. في الحقيقة، لا يمكن القول بأنها مُلكية بكل معنى الكلمة، انطلاقاً من ماهيتها هذه. فالجماعية تعني إنكار المُلكية الخاصة.
أما المُلكية الخاصة، فتعني إرادة التصرف والاستهلاك المتزايدة من قِبَل الفرد أو مجموعة الأفراد، على حساب المُلكية الجماعية العامة. تمثل الحضارةُ الشرق أوسطية المجتمعَ الأقدم الذي شهد المُلكية، انطلاقاً من نوعيتها الأقدم في معايشتها التمايز الطبقي. وقد تَشَكَّل التدوُّل بتأسيس مُلكية في أطرافه، بحيث تشهد النوعين الجماعي والخاص من المُلكية بشكل متداخل. بمعنى آخر، فقد تشكل نظام مُلكي جماعي وخاص متداخل مع التدول، وليس على الشاكلة التي تقول بتأسس أصحاب المُلكية الخاصة أولاً، ومن ثم بناء نموذج الاستيلاء على الدولة. وبقدر تدول الشريحة العليا، تكون صاحبة للمُلكية. فالدولة بحد ذاتها تعني الإعلان عن الحدود التي تهمين عليها كمُلك لها. والدولة ذاتها هي أكبر شراكة مُلكية. وهي وحدة للمُلكية الخاصة. كما أنها تسمح بوجود محدود للمُلكية الخاصة في الشرائح السفلية والوسطى، والتي بدورها لا تتخلص أبداً من مصادرتها على التوالي. لهذا السبب لا تتطور المُلكية الخاصة فيما بينها كثيراً. ذلك أنه ما من ضمان جدي للمُلكية الخاصة خارج إطار الدولة. يوضح هذا الوضع – بما فيه الكفاية – أسباب عدم تطور المُلكية الخاصة بقدر ما تطورت في الغرب. فطراز تكوُّن الدولة عامل مؤثر أولي في تحديد كيفية تطوير التملك.
إن تحجيم الدولة الغربية منذ بدايتها من قِبَل الشرائح البورجوازية الأرستقراطية المتميزة بمكانتها الراسخة من حيث المُلكية الخاصة، أفسح المجال لتكوين مؤسسة المُلكية الخاصة بشكل أقوى وأكثر تعزيزاً. وقد برهنت تجربة الحضارة الغربية على أن المُلكية الخاصة أكثر إبداعاً وخلاقية من مُلكية الدولة.
أما المُلكية الجماعية الكامنة في أغوار المجتمع، فغالباً ما استمرت في تواجدها ضمن العائلة والقبيلة والمذهب وغيرها من المجموعات والجماعات. ثمة أهمية قصوى يتميز بها موضوع عدم الخلط بين هذه المُلكية الجماعية، وبين المُلكية الجماعية – الخاصة الموجودة في الدولة. فشكلُ المُلكية الأكثر رجعية وطفيلية وافتقاراً للإبداع هو ذاك الموجود في الدولة. يجب رؤية الإفراط في المُلكية داخل الدولة كأهم عامل للتخلف الاقتصادي السائد في منطقة الشرق الأوسط. تُكبَتُ أنفاسُ المجتمع على يد الدولة ونظامها المُلكي المتعاظم كورم اجتماعي خبيث. وغالباً ما تتطابق معاني المُلكية والدولة معاً. وتداخُل معاني "المُلك – المَلِك – التملك" يشير إلى هذه الظاهرة ويُبرِزها. وإذا ما قمنا بتعميم تصنيفي، فسنحصل على النتائج التالية: "الإله = صاحب كل شيء"، "دولة المَلك الإله = المَلك الإله صاحب كل شيء"، "المَلك الإله = مؤسسة الدولة"، "مؤسسة الدولة = الدولة صاحبة كل شيء". سيكون من الصعب جداً تحقيق التطور الاجتماعي، ما لم تحلَّل هذه العلاقة الكائنة بين الدولة والمُلكية بالمستوى الأمثل. إن الكل المتكامل للدولة المقيِّدة للعلاقة السليمة الكائنة بين الفرد والمجتمع، وكذلك للأموال المقتصَدة التي استولت عليها؛ إنما هو مُلكية.
الاقتصاد مصطلح كوني. ويمكن تعريفه بأعم الأشكال بأنه إجراءات البيع والشراء وتبادل السلع، كما في حادثة الأيض (التغيرات الكيماوية) الحاصلة في عالم الأحياء. فالحصول على مادة حية من المادة الجامدة، واستهلاكها وتحويلها ثانية إلى مادة جامدة؛ إنما يشكل مضمون الأنشطة الاقتصادية. جلي بسطوع تام استحالة افتقار المجتمع لهذه الأنشطة في تكونه وديمومة وجوده. لكن الحقيقة الأخرى المتعلقة بهذا الشأن هي أنه لا اقتصاد بلا حيوية (يمكن تعريف هذه الحيوية بالذهنية أو الروح). بالتالي، فوضْعُ الثقل على عنصر واحد فقط لدى تحليل هذه الظاهرة، يفضي إلى نتائج خاطئة. إذن، فالأسلوب الأصح والأسلم هو تحليل الذهنية والاقتصاد بشكل متداخل (المجموعات الاجتماعية البينية، الدولة والعائلة، وبشكل أعم الظواهر السياسية والاجتماعية معاً). أما التحليلات المعنية بالاقتصاد لوحده، أو بالذهنية بشكل منفرد؛ فتؤدي إلى أخطاء تماثل ما لتعريف الفيل بشَعره. بقدر ما تكون الذهنية خلاقة ومنتجة، يكون التأثير الاقتصادي معطاء ومثمراً. يتضح من الأمثلة التاريخية أن الفترة ما بين 6000 – 4000ق.م التي شهدت الثورة النيوليتية، هي إحدى الحقب التي كانت عقلية الإنسان فيها في ذروة عطائها (وقد حصل هذا في الحواف الداخلية لسلسلة جبال أمانوس وطوروس وزاغروس، والمعروفة باسم الهلال الخصيب). هذا وقد أسفر العطاء الاقتصادي على ضفاف بحر إيجة عن ولادة الحضارات الكريتية والإغريقية والرومانية. وارتباطاً بذلك، حدثت الثورات الفكرية والفلسفية والعلمية. علاوة على أن ذهنية النهضة أدت إلى ولادة أعظم اقتصاد أوروبي. التأثيرات إذاًَ متبادلة ومغذية لبعضها البعض.
إن العصور الاقتصادية الناجمة عن التطور الذهني بارزة في الحضارة الشرق أوسطية. مقابل ذلك، فما حصل في هذه الذهنية من انقطاع عن عالَم الظواهر، والانقطاع المتتالي عن الفيزياء في عالم الميتافيزيقيا، والغوص في عالم الخيال والأوهام والتصورات المبهمة والضبابية؛ كان مؤثراً أساسياً في انخفاض مستوى العطاء الاقتصادي. فبقدر انفصال ميتافيزيقية الشرق الأوسط عن عالَم الظواهر (الميثولوجية منها والدينية والفلسفية) وانهماكها بالمصطلحات المجردة؛ مهَّدت السبيل للانحسار والتدهور الاقتصادي. إن التركيز على الإلهيات، وسلوك اتجاه العداوة تجاه الفلسفة المؤدية إلى صياغة التعريف الصحيح للعالَم الطبيعي على وجه الخصوص، وعدم تطوير الفكر الفلسفي والعلمي؛ قاد في المجال الاقتصادي أيضاً إلى التخبط في عقم أشد وأعمق، وعدم التطور، بل والتسمر في الأساليب النيوليتية التي كانت شائعة قبل الآن بآلاف السنين.
من المحال حدوث ازدهار ونمو اقتصادي راسخ ودائمي ومؤسساتي في الشرق الأوسط، ما لم تمر المنطقة بتطورات ذهنية على شاكلة النهضة والإصلاح والتنوير. هذه هي الحقيقة المتوارية خلف دوافع العجز عن القيام بالإنماء، سواء على يد الدولة، أو عن طريق الأفراد بشكل خاص؛ وخلف أسباب السفالة والبطالة المتفاقمة التي تجترها الجماهير. لا يمكن أن تفلح هذه المنطقة الأغنى بمواردها، في ثورتها الاقتصادية، ما لم تمر بالثورة الذهنية الجذرية. حينها بالتالي، لن تقدر على النوء عن عبء المشاكل المتفاقمة كالبطالة والفاقة والعَوَز. لن يسفر البحث عن الحل عن أية نتائج في الشرق الأوسط، ما لم توضع الثورة الذهنية والديمقراطية في نواة الحل الاقتصادي. وحتى إن حدثت التطورات، فلن تذهب أبعد من لعب دور الضمادات. إذاً، فالأسلوب الأصح هو اتخاذ العلاقة الموجودة بين الاقتصاد والذهنية والديمقراطية أساساً، والتوجه نحو الحل بناءً على هذه الخلفية.
من المهم تسليط الضوء على ظاهرتَي السلالة والطرائقية ارتباطاً بالدولة والدين، أثناء توضيحنا لبعض المصطلحات. حيث أن إكمال التعريف سيبقى محمَّلاً بالنواقص، إنْ لم نُلقِ الضوء على دور السلالة والطرائقية في الحضارة الشرق أوسطية.
السلالاتية ظاهرة ملفتة للنظر، متصاعدة داخل العائلة والدولة، ومشحونة بالعناصر الإثنية والميثولوجية الدينية. وفي كل الأزمان لعبت سلالة محددة دورها البالغ الأهمية في كل تصاعد أو انهيار للعوائل والدول. ويندر التفكير بدولة بلا سلالة. تسري هذه القاعدة، حتى في يومنا الحالي بنسبة كبيرة. بالإمكان الإشارة إلى قوة ومتانة بنية العائلة البطرياركية كسبب لذلك. إنها جينة الدولة البطرياركية. بالتالي، بمقدور أقوى العائلات البطرياركية التسامي إلى طابق دولة السلالة. هكذا تصبح السلالة دولة بذاتها. السلالاتية مؤسسة يمكن إرجاع أصولها إلى ما قبل آلاف السنين. ولها آثارها العريضة جداً في الدولة والمجتمع على السواء. إنها أشبه بمجمع للطبقة الحاكمة والمجموعة الإثنية والعقيدة الدينية. ويكمن حُسْن طالعها – من جانب آخر – في تأثيرها عبر سلالات النَّسَب أزماناً طويلة. هذا وتُعَد مُساعِدة أيضاً من أجل التوسع المكاني عبر الزيجات الحاصلة بين السلالات. هذه المزايا توضح بجلاء دوافع تأسيس الدولة داخل السلالات أولاً.
من المهم عدم غض الطرف عن المؤسسة السلالاتية، باعتبارها تشكل بؤرة متينة في التطور الدولتي بقدر التطور الاجتماعي. والحضارة الشرق أوسطية، بمعنى من معانيها، تُحمَل وتُنقَل عبر السلالات. نخص بالذكر هنا سلالات الدولة كأمثلة تركت بصماتها على التاريخ أكثر من غيرها. فبينما تتميز السلالات الخارجة عن نطاق الدولة بثقلها الراجح في الحضارة الغربية، تبرز نجومية وشهرة السلالات المرتبطة بالدولة أكثر في الشرق. السلالاتية في الوقت نفسه مدرسة، ونموذج اجتماعي. فبعد حدوث التطورات المهمة في مدرسة أو أنموذج السلالة، يتم نقلها إلى المجتمع. وحتى المجموعات الإثنية والشعوب، كثيراً ما تُعرَف بأسماء السلالات. والحوادث التي تلعب فيها الأدوار الرئيسية، ليست بقليلة العدد. فأقوى الإثنيات والشعوب يتم ذكرها بذكر اسم أو قوة السلالات التي أبرزوها من ضمنهم. فالأمويون، العباسيون، الأيوبيون، السلاجقة والعثمانيون والبرامكة؛ إنما يعنون في الوقت نفسه الشعب العربي أو التركي أو الكردي أو الفارسي.
من الجوهري عدم إنكار واقع السلالة، ولا إعلاء شأنها، باعتبارها لا تزال تحافظ على وجودها في الأوساط الذهنية والمادية في راهننا. والسبيل الأكثر واقعية هو تناولها كظاهرة اجتماعية، وجذبها إلى الأرضية الديمقراطية الاعتيادية. فبقدر عدم الوقوع في الشغف بالسلالاتية، من المهم تناولها بشكل تحليلي، مع الإدراك التام بأنها واقعة اجتماعية. وإلا، فقد يقود الاقتراب المعاكس إلى إفراز نتائج سياسية واجتماعية وخيمة بحق، وإلى تجذير الأزمات أكثر. ستُدرَك أهمية الموضوع بجلاء أكبر، إذا ما أشرنا إلى النتائج المأساوية المروِّعة التي أفرزها مرض السلالة الصَّدَّامية في العراق مؤخراً.
الطرائقية أيضاً كالسلالاتية. لكنها تنتشر بالأرجح في الميدان الديني والمذهبي. وهي تعتمد أساساً على تطبيق المبادئ الدينية العامة حسب المراحل الزمنية والمكانية الملموسة. يتم تعبئة الثغرات الناجمة عن ضعف التنظيم الديني العام، عبر التنظيمات الطرائقية. غالباً ما تتحول الأديان إلى قوة تنظيمية ملموسة عبر الطرائق والمذاهب. لذا، من الطبيعي أن تتواجد الطرائق والمذاهب في كل أماكن تواجد الأديان. والطرائقية حادثة معايشة الدين بحالة أكثر كثافة وتنظيماً. وما دامت كذلك، فإن شخصيات وزعماء الطرائق والمنظِّمين لها تلعب دوراً مهماً. فأينما يتواجد فراغ أو ثغرة ما، تكون الطريقة الدينية هناك. نخص بالذكر هنا الجماهير التي لا تروي الدولة ظمأها، فتهرع إلى تنظيمات على شاكلة الطريقة الدينية. وفي الظروف التي تكون فيها العائلة ضيقة النطاق، والدولة مكاناً صعب المنال؛ يكون احتمال وجود التنظيمات الطرائقية قوياً، في حال غابت فيها التنظيمات الاجتماعية الأقوى.
أما التنظيم المذهبي، فهو الحالة الأكثر تقليدية والأوسع نطاقاً للطرائقية. ثمة العديد من الطرائق التي ترى حاجة في أن تكون نصف علنية بهدف الحماية من الدولة، وتخطي حدود العائلة الضيقة الآفاق. وبينما تكون بعضها تابعة للدولة، يكون البعض الآخر منها مناهضاً حاداً لها. عادة ما يكون الشرق الأوسط أشبه بمجتمع من الطرائق الدينية. وقد لعبت الطرائق الدينية أدواراً مهمة لدى بروزها في الفترات التاريخية التي عجزت فيها الإثنية عن تلبية متطلباتها بشكل تام (وخاصة في المدن)، وبقيت فيها العائلة ضيقة الآفاق، واعتَبَرَت الدولة نفسها أنها تشكل الكل بالكل بمفردها. في الحقيقة، فالطرائق الباطنية السرية البارزة في العصور الوسطى، ليست سوى أحزاب لطبقة الفقراء. ومن أشهرها الطريقة الباطنية لـ"حسن الصبّاح" (1100 – 1250م)، حيث قَضَّت مضاجع السلاطنة والوزراء السلاجقة، الذين كانوا يمثلون السلالة الحاكمة والمذهب الحاكم، وأدمَت أفئدتهم وعقولهم. والفاطميون، والخوارج، والعلويون أيضاً يمثلون تقاليد مشابهة. إن الطرائق الدينية والجماعات الشبيهة بها في الحقيقة ضرب من ضروب مؤسسات المجتمع المدني في المجتمع الشرق أوسطي.
بما أن ظاهرة الطريقة الدينية تنبع من الفراغ الاجتماعي، فهي تستدعي دراسة موضوعية. وبما أنها مؤسسات شبه سياسية وشبه اجتماعية، فإن أدوارها تتميز بأهمية ملحوظة، سواء بالنسبة للسلطة أو المعارضة. إذ لا مفر من تواجد مثل هذه التنظيمات في الأماكن والفترات التي تكون التطورات العلمية فيها محدودة، والمفاهيم الديمقراطية غائبة. يكمن السبيل لتجاوز كل ذلك، في تطوير علم الاجتماع والنضال والصراع الديمقراطي. أي أن الطريق الصحيح للانشغال بالطرائق المتردية بنسبة ملحوظة، والتي تلعب دوراً أشبه بدور الشركات ذات العلاقات المنفعية المتعددة في يومنا الراهن؛ تتمثل في تعبئة الشعب بالعلم والديمقراطية، وتحقيقهما له. هذا بدوره يتطلب الإيمان بالعلم بقدر عمق إيمان أصحاب الطرائق كأقل تقدير، وإيلائه قيمته، وسلوك المواقف العازمة والعنيدة الدائمة في سبيل الديمقراطية. والأسلوب الأكثر تأثيراً في حل التزمُّت وتفكيكه هو، عدم إنكار المجموعات الجماعاتية الممتدة في جذورها إلى ما قبل مئات السنين. بل الإدراك بوجود مكان لها أيضاً ضمن الديمقراطية، وإبداء الموقف الديمقراطي منها بموجب ذلك.
بالمقدور إبداء مواقف مشابهة من أجل بعض التنظيمات الحزبية السياسية وبعض منظمات المجتمع المدني، التي يمكننا تسميتها بالطرائق الحديثة بالمعنى الأوسع نطاقاً. يتحلى النظر من آفاق أوسع إلى ظاهرة المجتمع المدني بأهمية كبرى في حاضرنا، في الشروط التي تتشابك فيها الأواصر العائلية والقَبَلية والعقائدية مع الأواصر الأيديولوجية الأكثر عمومية. هذا وقد يسفر توحيد العناصر الكلاسيكية للمجتمع المدني مع العناصر العصرية، عن نتائج أكثر عطاء وإثماراً. ذلك أن مؤسسات المجتمع المدني التي لا ترتكز إلى الماضي والتقاليد، قد تمر بمشكلة الأصول والجذور. بالتالي، ثمة خطر جفافها السريع أيضاً. بمعنى آخر، فأي حركة أيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية أو فنية تعجز عن عقد علاقتها مع التقاليد، لن تكون فرصتها في النجاح دائمة، ولن تنجو من كونها وقتية ومؤقتة كالموضة. نخص بالذكر هنا ضرورة استنباط الدروس من فشل اليسار الذي استخف بالتقاليد وازدراها، لدى تأسيس مؤسسات المجتمع المدني والحركات السياسية الديمقراطية ذات الآفاق الشاسعة، والعاقدة أواصرها مجدداً مع التقاليد. حينها ستكون قادرة على صياغة الحل في النفاذ من الأزمة، وبالتالي تكون ناجحة وموفقة.
5 – رغم العمل بالديكتاتورية والعنف وتفعيلهما ارتباطاً بالدولة في الحضارة الشرق أوسطية، إلا إنه من الضروري تحليل السلطة بشأن الشكل والعنف عبر تعاريف أعمق. وبشكل عام، يكون مضمون الدولة ذاته في كل مكان. حيث يمثل التقاليد المتأسسة على خلفية فائض الإنتاج والقيمة الزائدة. أما عندما يكون الموضوع متعلقاً بشكلها، فتبرز أمامنا متغيرات كبرى. تلعب الشروط الزمانية والمكانية دورها في ذلك. حيث تتولد أشكال مختلفة للعديد من الدول على اختلاف الفترات والظروف. مع ذلك، يلفت نظرنا وجود اتجاهين عامين في ثنائية (قرين) الشرق – الغرب. فبينما نصادف الأشكال الجمهورياتية والديمقراطية في الغرب بشكل أكثر، تكون الاستبدادية هي الشكل الرئيسي في الشرق.
تشاهَد الجمهورية في النظام العبودي الكلاسيكي، وبعض الدول المدينية في العصور الوسطى، إلى جانب وجودها في أوروبا العصر الحديث. يكمن الفرق الأولي بين الجمهورية والاستبدادية في الميدان القانوني. ورغم أن شرائح الأسياد المهيمنة هي التي تلعب دورها في كلا الشكلين، إلا إن القواعد المحدَّدة عبر صراع اجتماعي كثيف ومتوالٍ هي الدارجة والفعالة في الشكل الجمهورياتي. وتكون هناك بنية اجتماعية ديناميكية، تقوم بتحديد حقوقها. بل وتدافع عنها بالعنف أيضاً إن دعت الحاجة. إذاًَ، فالجمهورية تمثل المجتمع الديناميكي (الحركي). أما في الاستبدادية، فالعكس هو الصحيح. فشخص واحد هو الذي يفرض عملياته الكيفية على المجتمع كقاعدة أو حُكم صارم، وبشكل أحادي الجانب. في الحقيقة، لا فرق جدي بينها وبين المونارشية. يكمن الفرق – فقط – في أن المونارشية تعتمد على السلالة المحدَّدة سلفاً، وتكون موضِّحة بتعبير أكثر تقليدية عن تحديد المونارشي (المَلك) الذي سيُختار للعرش، عبر قواعد محدَّدة. أي أن القواعد الإدارية تقليدية. وتظهر الأحوال الطارئة في أوقات المآزق والفوضى بين الفينة والفينة. حينها، إما أن تعتلي العرش سلالة جديدة، أو أن تبقى السابقة مع تغيير المَلك، ليبدأ الجديد بإجراء حكمه ونفوذه. أما في الاستبدادية، فقواعدها قابلة للتغيير من المستبد ذاته. وكثيراً ما يسن القواعد الكيفية أو يغيرها. المونارشية الموجودة في الشرق الأوسط أدنى إلى الاستبدادية. وما "الفرمان" (أوامر السلطة) في مضمونه سوى أحكام استبدادية رسمية. ورغم التعامل معه على أنه قانون رسمي، إلا أنه لا علاقة له بالقانون كثمرة من ثمار الصراع الاجتماعي.
أما الديكتاتورية، فهي شكل مغاير. وهي تفيد بالشروط التمهيدية لظهور الأباطرة، أو هي نموذج مصغر عنهم. ويتم إجراؤها من قِبَل شخص سياسي (أو عدة أشخاص) بعد تسلحه (تسلحهم) بالصلاحيات الخارقة. الفرق بينه وبين المستبد هو زيادة ثقل القوة المراقِبة والمتربصة من حوله. حيث أن الوسط الذي يحاسِب الديكتاتور ويسائله متواجد على الدوام. ورغم أن الإمبراطورية نظام دائمي راسخ، إلا أن الديكتاتورية وقتية مؤقتة. حيث يُلجأ إليها في الأحوال الطارئة. ورغم دنو تشكيلة الدولة في الشرق الأوسط من الاستبدادية أكثر، إلا إنها قريبة أيضاً من المونارشية والإمبراطورية. بالمقدور القول أن الاستبدادية والمونارشية والإمبراطورية قد التحمت في شخصية رئيس الدولة في الشرق الأوسط. تشير هذه الحقيقة إلى مدى تأثير الرئيس ونفوذه بوضعه نفسَه مع الدولة في كفة واحدة. ولربما كانت أكثر أشكال الإرادة كثافة وتأثيراً تتجسد في رئاسة الدولة في الشرق الأوسط. لهذا علاقته بمضمون الدولة ذاتها. حيث تتحد تقاليد السلطة الأبوية والمشيخة والبيكاوية (الآغاوية) والسيادية القوية والوطيدة في رئاسة الدولة، لتتكون مجدداً كقوة عظمى. لأجل ذلك، من الصعب جداً البحث عن الأشكال الجمهورياتية أو الديمقراطية في الدولة الشرق أوسطية، ولو من قبيل الاستثناء. وكأن الدولة تتحرك وفق محتواها ذاك كلياً، وتسعى لإثبات قوتها وقدرتها ليكون شكلها وحيداً. علاوة على أن الدولة الثابتة التي لا تتغير، تَعتَبِر أن الحفاظ على صورتها راسخة دون المساس بشكلها، مهارة وفضيلة سياسية بالنسبة لها.
بالإضافة إلى أن نقش مفهوم "المَلك الإله والدولة" في ذاكرة المجتمع على مر قرون مديدة، له دور بارز في عدم تطور الجمهورياتية. فتَدَخُّل البشر العبيد في شؤون الدولة الإله منافٍ للتقاليد. والتدخل في شؤون الإله (الدولة) أكبر ذنب يمكن أن يقترفه المرء. وما المقولة المكرر ذكرها بكثرة في الكتب المقدسة، والتي مفادها "لا تتدخلوا في شؤون الإله، الإله لا يحاسَب، لا تفكروا في شراكة الإله الذي لا شريك له"؛ إنما تعني مضموناً ما يلي: "لا تتدخلوا في شؤون رئيس الدولة، الرئيس لا يحاسَب، لا تشاركوه السلطة والصلاحيات". ولكنها تقال بتعبير ديني. قد يدّعي البعض أن هذه المقولة ذُكِرَت في الكتاب المقدس خصيصاً لإبراز حاكم يحكم القبيلة العبرية. وهو رأي له نصيبه من الصحة. بل وحتى يقال بأن سيدنا موسى يأتي من الإمارة المصرية. وإعلانه حكمه ومخططه بشأنه عبر التوراة، أمر مفهوم. إضافة إلى أن سيدنا عيسى قُبِض عليه واعتُقِل أثناء محاولاته للاستحواذ على حُكم القدس التي أسماها "بنت الصهيون". والسرد الأكثر فصاحة وعلانية موجود في القرآن. كما أن أقوال سيدنا محمد التي طالما ذكرها، سواء كآية قرآنية أو على شكل أحاديث نبوية، والتي تقول ما معناه: "لا شريك للإله، لا تتدخلوا في شؤون الإله، الإله يحاسبنا جميعاً ولا يحاسبه أحد"؛ قد مهدت الطريق لظهور رئاسة الدولة في العصور الوسطى، سواء على شكل سلطنة باشوية أو إمارة. وقد حصل ذلك سواء كان سيدنا محمد قصده عن وعي أو بدونه. والقرآن بجانبه هذا أقرب إلى بلاغ الدولة أو وثيقة لها. بل ويحدِّد ببصيرته المستقبلية الثاقبة مخطط الإدارة، ويُبلِغ بها وكأنها ستحكم على مدى القرون اللاحقة أيضاً. سيكون من الناجع حقاً تحليل القرآن وفق وجهة نظر النظرية السياسية. بالطبع، فموقعه الكائن بين تبعية الأمة لله، وتبعيتها للدولة، أكثر علانية وتلقيناً للدروس والعظات. كل الوثائق الدينية البارزة في العصور الوسطى، سواء في الإسلام أو المسيحية، أو في أديان الشرق الأقصى كما في الصين والهند؛ أشبه بإعلانات أو تصريحات تمهيدية تُبلِغ عن شكل الدولة التي ستلد بعدها. إنها عبارة عن حكاية نشوء وتطور دولة العصور الوسطى المُبَلَّغ والمبشَّر بها.
إن تعرية الدولة من سماتها الاستبدادية وتطهيرها منها في شرقنا الأوسط الراهن، من أصعب المهام الواجب النجاح فيها. ورغم وجود بعض الدول المسماة بـ"الجمهورية" في الميدان، إلا إنه من الصعب القول بأنها تخطت نوعياتها الاستبدادية. فالجمهورية تستدعي الاتفاق الجماعي والرضائي بين الطبقات. ولا توجد أي دولة دستورية أو جمهورية في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط على مر التاريخ، تم تحديدها بالإجماع والاتفاق الرضائي الاجتماعي. فهي لا تتناغم مع الجمهورية، باعتبارها أنظمة معتمدة على إرادة شخص واحد؛ أياً كانت مكانتها، تقدمية كانت أم رجعية. يكون تواؤم أو وفاق إرادة عدة أشخاص متكافئين في القوة والقدرات لا شخص واحد، هو الأساس في الجمهورية. إن هزل ووهن الطبقات الاجتماعية، عجزها عن تطوير الإرادة السياسية، التعبُّد التقليدي للدولة، وغياب التقاليد الجمهورياتية؛ يلعب دوراً بارزاً في ترسيخه. أياً كانت أسماء الدول في الشرق الأوسط، وأياً كانت الفوارق بينها؛ فمن المهم القول والإدراك بأنها لم تتخطّ ماهية الدولة الاستبدادية. هذا مهم من أجل النضال في سبيل السياسة الديمقراطية والجمهورياتية والصراع من أجلهما.
الأهم من ذلك هو تحليل ثقافة العنف في الحضارة الشرق أوسطية. بالإمكان القول أنه تكاد لا توجد أي مؤسسة أو ثغرة (مسام)، إلا ودخلها العنف وحدَّد إطارها في مجتمع الشرق الأوسط. بشكل عام، يُجمَع على الرأي القائل بأن العنف لعب دوراً مصيرياً في البنى السياسية والاجتماعية، بل وحتى الاقتصادية. كما يُجمَع على أن السلطة والعنف توأم حقيقي. لكنه لم يكن مصيرياً في دوره بقدر ما كان عليه في البنية الفوقية والتحتية على السواء في المجتمع الشرق أوسطي، بحيث من الصعب مصادفة مؤسسة متشكلة دون أن تقبع تحت تأثير العنف.
لا أرى جدوى في اللجوء إلى الأطروحات البيولوجية، بل وحتى الطبيعية، لدى تعريف العنف. فجذور العنف الاجتماعية علنية وعارية. كما أن أواصرها مع التمايز الطبقي المرتكز إلى فائض الإنتاج والقيمة الزائدة، ومع سلطة الدولة أيضاً واضحة للعيان. يتم تشاطر هذه الخواص كآراء مجمَع عليها عموماً في علم الاجتماع.
ما يهم هنا ويلفت النظر بشأن العنف، هو ندرة التحليلات المحدَّدة بحقه. حيث يُنظَر إليه كظاهرة استثنائية لا أهمية لها، في المجتمعات المتعرفة على السلطة؛ رغم أن للعنف فيها دوره المصيري البارز. لا يمكن الادعاء بغياب الحروب والصراعات الوحشية في مجتمع الحيوانات. الحرب هي التعبير المُرَكَّز للعنف. بل وتُذكر الذرائع المتتالية لتبرير ضرورتها. يتم تبيان الذريعة الوحيدة للحرب – عدا الدفاع الاضطراري عن النفس، وحماية الوجود وصون الحرية – لأجل الاستفراد بزخم القيم الاجتماعية المتراكمة ونهبها وسلبها، التحكم والهيمنة، بسط النفوذ على المجتمع بالاستناد دائماً إلى سلطة الدولة، وإعطائه شكلاً يوافق تلك المصالح المنفعية. رغم أن هذا الجواب شفاف ومفهوم إلى أقصى الحدود، إلا إنه – مع ذلك – تُبذَل المحاولات لمواراة هذه الحقيقة بألف حيلة وحيلة (كمن يجلب الماء من ألف نهر لتطهيرها)، عبر صياغة التعاريف الناقصة والخاطئة. أما الظاهرة التي طالما ضلَّلها وحرَّفها الدين والميثولوجيا والفلسفة، وأخيراً ما يُزعَم بأنه علم الاجتماع؛ فهي كون العنف العملية الأكثر خروجاً عن نطاق الإنسانية، والأكثر وحشية بيد الطفيليين الاجتماعيين المهيمنين المتسلطين والاستعماريين.
هذا التعريف الصحيح عموماً، تبرز صحته من أجل الواقع الاجتماعي للشرق الأوسط بشكل خاص. تُبَيِّن الأمثلةُ الشعبية من قبيل "العصا من الجنة" (من غرفة الحكام)، و"العنف أحلى من العسل" مصدرَه بكل جلاء. للعنف دوره المعيِّن في بقاء المجتمع مكتوم الأنفاس وضالاًّ تائهاً. لقد تشكلت المواقع وحُمِيَت المؤسسات بدروع الحصانة في كل أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، بالاعتماد على العنف. وأي مؤسسة لم يطوِّقها العنف، لن تجد فرصتها في الحياة أبداً.
جلي جلاء النهار استحالة تطور المجتمع الحر أو التمدن في ظل هذه الشروط. بل وحتى الأفكار لا يمكن أن تُقبَل، إلا بعد تمريرها من مصفاة العنف. لذا، لا يتشكل الفكر الخلاق في مثل هذه الأوساط، بل تُسيَّر أمور العالم وفاقاً للألفاظ المسبوكة بقوالب جاهزة ومجمَع عليها. ويكون رئيس الدولة أو رئيس المنزل على حد سواء، مدركين تمام الإدراك أن قوتهما منوطة بسلطتهما وعنفهما. وعندما يقولان "لنمنح العالَم النظام"، إنما يشيران إلى العنف ويقصدانه. فالعنف الذي قد سلَّل كل تأثيراته إلى كافة مسامات المجمع، لا يترك حيزاً مهماً لقوة المعنى والمعرفة. بالتالي، تتواجد المؤسسات الاجتماعية من الناحية الشكلية فقط. من الساطع بما لا جدال فيه أنه لا يمكن انتظار حصول التطور الحر في مجتمع مؤلَّف من مؤسسات بعيدة عن الخلاقية والإبداع تنشط بنخزها وإثارتها من الخارج؛ بسبب سلب حيز المعاني منها وتجريدها منه.
أما في العائلة، فتُكتَم الأنفاس أكثر فأكثر، باعتبارها خلية سفلى قابعة تحت وطأة التقاليد المقتاتة على العنف في المجتمع. بل وتُشَكِّل حالةً من الحرب الخفية والمستترة على المرأة بشكل خاص. وكأنه لا تبقى خلية في وجود المرأة إلا وترتعش من وطأة العنف. وحال الأطفال مثيلة لها. فالأسلوب التعليمي الأساسي الملقَّن لهم هو العنف. بيِّنٌ تماماً أن الطفل المروَّض والمربَّى على العنف، سيُنتَظَر منه السلوك ذاته عندما يكبر، حيث يتفاخر بهيمنته المعتمدة على العنف ويتباهى ويتلذذ بها. وبينما يتوجب النظر إلى عاطفة القوة المعتمدة على السلطة والعنف كأخطر مرض اجتماعي، يُعلَن عنها بأنها أسمى العواطف وأكثرها بعثاً على الغبطة. هكذا تُقدَّم الظاهرة التي تتوجب لعنتها، على أنها الفضيلة الأسمى.
وفي يومنا الراهن أيضاً، لا يمكن التفكير في مؤسسات المجتمع الشرق أوسطي – دون استثناء – بلا عنف. حيث يقدَّم العنف ويفعَّل كوسيلة لحل كل أنواع المشاكل الأساسية؛ بدءاً من عنف الدولة وحتى العنف داخل الأسرة، ومن عنف التنظيم الثوري إلى العنف الفاشي والديني والقوموي. بيد أن ما حقق تفوق الحضارة الغربية هو الحالة المناقضة لذلك تماماً. حيث أنهم أحرزوا نجاحات مظفرة وعظمى لأنهم أولَوا الأهمية أولاً للقول والحوار المفعم بالمعاني إلى أقصى الحدود. ولدى انسداد الحل لجؤوا إلى العنف كأسلوب. والغرب نسبةً إلى الشرق قد حل مسألة العنف لديه واستنبط الدروس منها. يقدم الاتحاد الأوروبي نقده الذاتي بكل شمولية، ويتوخى الحساسية الفائقة في هذا الموضوع. وأمريكا أيضاً تكون حلاّلة للمشاكل لدى استخدامها العنف. أي أنها لا تستخدمه عبثاً. وهي تدرك يقيناً أنها مدينة في نجاحاتها إلى قدرة الحل الفائقة لديها، وأن فشلها ينبع من التحليلات الخاطئة. لقد استخلصت درسها بشكل حسن.
يشكل تطهير مجتمع الشرق الأوسط من العنف مشكلة منوطة، وعن كثب، بالتعليم الشمولي لأقصاه. فالشرط الأولي لإحراز النجاح هو الثقة بقوة المعنى، وتطبيق العنف – فقط وفقط – في الظروف الاضطرارية، وبشرط الحصول على النتائج المرجوة. إن التقييم الصحيح لأبعاد وآفاق العنف المتعلق بكل الميادين – وليس ذاك المنحصر في مواضيع الحرب والثورة والثورة المضادة وحسب – وإعداد العنف المضاد لدى مناهضة العنف، وتطبيقه بشكل سليم وصائب ومثمر؛ إنما يستلزم التحلي بمهارات فائقة. أما إيلاء الحيز الأوسع لقوة الحوار والتنظيم والمعنى، وعدم الثقة بالعنف فيما عدا دوره الاضطراري كحاضنة لدى إعادة "بعث" المجتمع المقلي والمطهي في بوتقة تقاليد العنف على مر آلاف السنين؛ فيجب النظر إليه بأنه الأسلوب الحلاّل للنفاذ من الأزمة، وبالتالي تطبيقه على أرض الواقع.