المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (9) تتمة الفصل الخامس - الدفاع عن شعب - عبد الله اوجلان



shiyar
04/04/2007, 11:02 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان
++++++++++++++++++++++++++++

4 - مهام عملية إعادة البناء في PKK، مرحلة KOMA GEL

إن الدراسات التي قمنا بها باسم PKK، وعمليات النقد والنقد الذاتي، ومواقفنا التي أبديناها بصدد مشاكل إعادة البناء فيه، تنورنا وتنبهنا في آن معاً إلى مهامنا المنتظرة. في حين أن تناولنا للحل الديمقراطي يزودنا بإمكانيات الاستيعاب الأفضل لموضوع KOMA GEL.
1- علينا معرفة أسباب بطلان مفعول الهيكلية القديمة، ووضعها نصب الأنظار، عندما نتوجه نحو عملية إعادة بناء PKK. لقد انتقدنا الهيكلية القديمة في نقاط ثلاث أساسية:
أولها: رؤية مصطلح "الحزب" كامتداد لمصطلح "الدولة" وموصل إليها. فالحزب المتمحور حول الدولة في تناقض ديالكتيكي مع الديمقراطية والحرية والمساواة شكلاً ومضموناً. وPKK لم ينقذ نفسه كلياً من هذا المفهوم.
موضوع النقد الذاتي الثاني كان بصدد وجهة النظر إلى "السلطة". فالحزب المتكون حسب هدف بلوغ السلطة، سيُرجىء الدمقرطة المجتمعية ويؤخرها على الدوام، ولن يقوم بتفعيلها. وغالباً ما تلجأ الكوادر الناشئة بموجب ذلك، إما إلى بلوغ السلطة بذاتها أو الاعتماد عليها، عوضاً عن الاعتماد على الشعب. وما يجذب اهتمامهم دائماً هو الحياة المعتمدة على سمسرة السلطة. لقد بيّنا أن هذا الاتجاه بالذات حوَّل ثلاثة تيارات ثورية هامة إلى مذاهب للرأسمالية. فتيارات الاشتراكية المشيدة والديمقراطية الاجتماعية والتحررية الوطنية، وبسبب اتخاذها بلوغ السلطة المبكرة أساساً لها بدل الديمقراطية، عانت التشرذم والانحلال أولاً، لتصبح مجرد حركات احتياطية للنظام الرأسمالي فيما بعد.
أما النقد الذاتي الثالث، فيخص موضوع "الحرب". حيث اعتُبرت وسيلة مقدسة – أياً كان نوعها – دون استيعاب طبيعتها وماهيتها. بيد أن كل حرب خارجة عن نطاق الدفاع المصيري الاضطراري، تُعتَبَر جناية بحد ذاتها. وقد تواجدت الحروب وراء كل الهيمنات الاستعمارية البارزة في التاريخ. حتى الأحكام والقواعد والتمأسسات المجتمعية، كانت متمحورة حول الحرب. كان يُعتَقَد بأن الظفر في الحرب هو دعامة لكل الحقوق. وكان ساطعاً عجز هذا المفهوم عن أن يكون اشتراكياً وديمقراطياً. إذن، كان لا بد لأي حزب اشتراكي أن لا يتمحور حول الدولة، ولا يهدف إلى السلطة، ولا يتمركز حسب الحرب، باعتبارها العنصر المصيري التعييني الذي يتوارى وراء كل الأمور الأخرى. كما ونَوَّهنا بحساسية فائقة إلى أن التوجه نحو عملية إعادة البناء دون معرفة الذات، سيؤدي للوقوع مجدداً في نواقص وأخطاء جدية.
إذن، والحال هذه، يجب أن يتطابق تعريفنا لمصطلح "الحزب" مع عمليات النقد والنقد الذاتي تلك. أي يلزمنا تعريف للحزب بحيث لا يتمحور حول الدولة، ولا يضع السلطة والحرب في مركز التحولات المجتمعية الجديدة. وبما أن السلطة والحرب تتواجدان في أُسّ الرأسمالية كآخر نظام للمجتمع الطبقي، فعلى الحزب الرامي إلى تجاوز الرأسمالية أن يُخرج السلطة والحرب من أساس المجتمع. لا يتحقق هذا بدوره، سوى بتحويل الوجود المشاعي والموقف الديمقراطي للمجتمع إلى مجتمع ديمقراطي حر وعادل متساوٍ. إذا ما أخذنا هذه العناصر نصب الأعين، سيكون تعريفنا للحزب متمثلاً في أنه التنظيم الرُّكن لحركة اجتماعية تصوغ برنامجها بموجب هدف التوجه إلى مجتمع ديمقراطي وحر ومتساوٍ، وإجراء التحولات اللازمة لذلك، وتَلُمّ شمل كافة الفئات والشرائح الاجتماعية المنتفعة من هذا البرنامج تحت لواء استراتيجية مشتركة، وتعتمد على أشكال عملياتية وتنظيمية واسعة النطاق، وعلى رأسها منظمات المجتمع المدني إلى جانب الحركات المعنية بالبيئة والفامينية والثقافية، ولا تهمل الدفاع المشروع كتكتيك أساسي.
أما الاسم الذي بمقدورنا إطلاقه على نظريتنا كوجهة نظر أساسية تحدد المسار لمضمون تعريفنا للحزب، فممكن أن يكون مجدداً "الاشتراكية العلمية"، بشرط أن يكون بموجب هذا التعريف. أو يمكن تسميتها بـ"الاشتراكية الديمقراطية"، كتعبير مشترك للثلاثي الأساسي: الفلسفة التي تعتبر التعميم الأشمل لعلم الاجتماع، والأخلاق باعتبارها الوعي الحر للمجتمع، والسياسة التي تفيد بإرادة التحويل والتغيير. المهم هنا تعريف المضمون، لا الاسم.
لا حزب بدون نظرية. فمثلما لا يمكن التفكير بجسد دون عقل، لا يمكن التفكير أيضاً بحزب دون نظرية. يجب أن تشمل النظرية مسألة الأخلاق، وأن تستوعب السياسة كفن يعبر عن إرادة تغيير المجتمع، بقدر استيعابها للتعبير الأعمّ للتطور العلمي، إلى أن يتم استخدام علم الاجتماع والأخلاق والسياسة معاً بشكل متواصل، ويتحول هذا الثلاثي إلى ظاهرة تسير بآلية تلقائية في تغيير المجتمع وتحديثه.
العقلية هي قوة المعنى وطاقته في الحزب. جلي تماماً ضرورة استيعاب عقلية الحزب لعلم الاجتماع استيعاباً كاملاً. فعلم الاجتماع، الذي يشمل كل سياق التطور العلمي، ويُعتَبَر المتمم الأخير لكافة العلوم؛ هو القوة التنويرية للمجتمع المراد تحديثه. فالظاهرة المجتمعية التي عُمِلَ على تنويرها قديماً بالمدارس الميثولوجية والدينية والفلسفية، قد دنت خلال مسيرتها الطويلة من التعبير الاجتماعي والعلمي لها، ولو بشكل محدود. كما يَنمُّ الاستيعاب العلمي للمجتمع عن قوة لا تُضاهى. من هنا، فإدراك السوسيولوجيا، ولو بحدود، هو الجانب الأقوى في التغيير المجتمعي. ولكنه غير كافٍ. إذ يجب المعرفة تماماً أن كل الأنشطة الميثولوجية والدينية والفلسفية والعلمية الجارية على مدى التاريخ البشري، هي بتحليلها الأخير ذات مصدر مجتمعي. وقد أُنشئت بغرض تسليط الضوء على حقيقة المجتمع ومشاكله وطرق حلها وتأدية متطلباتها. أي أنها لا تتواجد منفصلة عن المجتمع.
بدون فهم المجتمع يستحيل فهم الفرد أو الأشياء أو الطبيعة. يتخفى وراء الكوارث اللاحقة بالمجتمع بيد الإنسان كلٌّ من: الحرب والسلطة، الدولة والجهالة، والبطش والظلم. كلما استوعبنا المجتمع، كلما استطعنا اختراق نطاق مؤسسات البطش والجهالة تلك. وبما أن الدولة والسلطة والحرب هي الثمار الشاذة للذكاء التحليلي، فتجاوزها أيضاً غير ممكن، سوى بتكاتف واتحاد الذكاءين التحليلي والعاطفي. على كل المهتمين بمسائل الدولة والسلطة والحرب – وبالتالي السلام – أن يولوا الأهمية الأولية للفهم القدير لمصطلح "المجتمع".
كما يتحتم أن تكون الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من ذهنية الحزب وعقليته. والأخلاق هي الشكل العام للحرية المجتمعية. وهي بتحليلها الأخير علم يفيد بالوعي. وأي مجتمع غابت فيه الأخلاق تعد حريته منتهية. بمعنى آخر، المجتمع اللاأخلاقي مجتمع فانٍ. إذن، والحال هذه، يعد اعتماد الأخلاق أساساً، وعدم الانزلاق في اللاأخلاقية، مبدأً أولياً لا يستغنى عنه في المساعي الرامية إلى تحديث المجتمع. من المحال انتظار استمرارية التيارات الاجتماعية التي لا تولي الأخلاق حيزاً لديها. فالعازمون على تحديث المجتمع وتغييره، عليهم ألا يقطعوا روابطهم بأخلاق الحرية بتاتاً.
أما العلاقة القائمة بين العقلية والإرادة السياسية، فمعنية بالعملية. فالإدراك والأخلاق لا يمكن أن يجدا معناهما، أو يبلغا قوة الحل، إلا بالتحامهما بالعملية. في حين تكون الأخلاق والعلمية المفتقرتان إلى السياسة مشحونتين بالزيف والرياء، وتعبران عن بيع الذمة والاستسلام باسم القوى المهيمنة المتسلطة بالتأكيد. فالسلطة والمعرفة معاً تعنيان أن يكونا جزءاً لا ينفصم من الأخلاق الرسمية. يعود وهن تأثيرات مواقف رجال العلم والعديد من التصرفات الحكيمة، بل وحتى تضادها مع أهدافها، ولعبها دوراً نقيضاً لمصالح المجتمع؛ إلى إغفالهم لهذه الرابطة القائمة. هذا ويعتبر الانشغال الدارج في حاضرنا بالأخلاق فحسب، أو بالعلم أو السياسة بشكل منفصل؛ التقرب الأخطر الذي يفتح الأبواب على مصاريعها أمام كل الكوارث الحاصلة. لربما الأمر الذي نعوزه اليوم إلى أبعد حد هو تفعيل المواقف الرامية للقضاء على هذا الانقطاع والانفصال، والتي – أي المواقف – تتطلب بدورها بلوغ عقلية حزبية قديرة بأسطع أشكالها.
من هنا، يتسم تعريفنا للعقلية الذهنية بأهمية قصوى. وإذا لم نعتمد هذا النمط من العقلية أساساً، ولم نجعله قابلاً للتطبيق والتنفيذ؛ فلن ننجو من العاقبة الوخيمة والعقم، الذي وقعت فيه تيارات الاشتراكية المشيدة والديمقراطيون الاجتماعيون والتحرريون الوطنيون، بالتحول إلى قوة احتياطية للنظام القائم. لذا، فإننا نولي أهمية كبرى وأولية لعنصر العقلية في تعريف مصطلح الحزب، لدى شروعنا بالتوجه نحو عملية إعادة البناء. كلما كان الحزب قوياً ورصيناً ببنيته العقلية من هذه الناحية، كلما أصبح قادراً على توجيه برنامجه وتنفيذه بنحو وطيد وأقرب إلى الصحة، عبر استراتيجية وتكتيكات كفوءة. وفي حال العكس، فلن ينقذ نفسه من فقدان أهم الخطوات المكتسبة، بل ولن يقدر على إعاقة انهيار الكيانات المؤسسة بعد أكثر الثورات نجاحاً وظفراً. واشتراكية السوفييتات مليئة بالمواعظ من جانبها هذا. المسألة ليست مجرد التحام نظري وعملي، أو تحديد عقلية حزبية معتمَدة. فالنظرية والعقلية الحزبية ذات المضمون غير الواضح، وغير المعرَّف بموجب الأهداف المرتآة، تتحولان في منتهى المآل إلى عوامل تُفرز تطورات خاطئة في الممارسة العملية. لذا، يجب بسط الالتحام بين النظرية والعملي بشكل سليم.
لا تجد سلامة النظرية معناها، إلا إذا انعكست على البرنامج. فالبرنامج بالنسبة لحزب ما هو المقاييس الأساسية للتغيير المجتمعي. من الصعب إطلاق اسم "حزب" على جماعة تفتقر إلى البرنامج أو تصوغه ولا تهضمه. وكلمة "حزب" بذاتها تعني القسم الضيق أو الجزء. ولها مسيرة طويلة من المغامرات التاريخية. من الممكن تسمية أول مجموعة مرشدة وخبيرة في المجتمع بالحزب. وأول مجموعة حاكمة في الهرمية هي الحزب. تقوم الفئة الإدارية بتأسيس الحزب الحاكم، لدى التوجه نحو بناء الدولة، باعتبارها المجموعة الأيديولوجية والعملية المنظمة في الوقت عينه، في حين أنها تترك المجتمع في الأسفل بلا حزب بربطه بذاتها ذهنياً، وحثه على الهرولة وراء الانتاج. في الحقيقة، فالعقائد الطوطمية لأصول السلالات والقبائل، إنما تعني أحزابها أيضاً. وتقاليد الجماعات هي حزب بمعناه البدائي.
وعلى حد المعلومات المأخوذة من التاريخ، تمثل قبيلة سيدنا ابراهيم أول حزب شعبي تحرري جاد للقبائل الفقيرة المحاربة ضد البابليين ونماردة الآشوريين وضد الفراعنة المصريين. كان هذا الحزب شعبياً وتمردياً في آن معاً. يمكن تسميته أيضاً بالحزب الشعبي المتمرد. في حين أن سيدنا عيسى قام لأول مرة بتقسيم صفوف القبيلة اليهودية، والشروع في حركة حزبية للفئات الفقيرة، أو بالأحرى البلوغ بحزب الفقراء السابق (الأسنيين) إلى مستوى أرقى. والديانة المسيحية أيضاً حاربت كحزب للفقراء ضد الإمبراطورية الرومانية، على مر ثلاثة قرون. وسيدنا محمد ابتدأ تمرده على أشراف مكة بمجموعة محدودة من الفقراء. يمكن اعتبار الخوارج و القرامطة والعلويين في الديانة الاسلامية كحركات حزبية ممثلة لنفس الشرائح القبلية الفقيرة وعناصرها البروليتارية.
ومذاهب العصور الوسطى هي أحزاب منفردة بذاتها. حيث تمثل شريحة اجتماعية بما يوافق أوضاعها الطبقية والعقلية. والنظام الحزبي في النظام الرأسمالي أمر معروف. تعبر كل هذه الحركات التقليدية البارزة على مر التاريخ، بعقائدها وتنظيماتها، عن برامج وتنظيمات منفردة بذاتها. وما البرنامج سوى عقائد اجتماعية، تم الإجماع عليها والجزم بها والامتثال لها. وهي قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. أي أنها عقائد وأفكار صيغت على شكل مبادىء. وأكثر العارفين بكيفية الارتباط بمبادئهم، هم أولئك الناجحون في تجسيدها في كافة نواحي حياتهم. في حين أن البقاء بلا مبدأ ولا برنامج، يعني فيما يعنيه اللاهدف، والسير حسب مهب الريح، والانغماس في النزوات الشخصية ونقاط الضعف. من هنا، يُعَدَّ المرتكزين إلى عقلية نظرية وأخلاقية وسياسية مكتسبة نتيجة الجهود الدؤوبة والمضنية، والمحوِّلين إياها إلى برنامج يفيد بمبادىء التغيير الاجتماعي بشكل ملموس؛ قد خَطَوا بذلك أهم خطوة على طريق التحزب. بينما يكون تحزب من لا يخطون هاتين الخطوتين مشوَّهاً وخاطئاً، ولا يتعدى نطاق التعاطف. التحزب عمل في غاية الجدية. وربما هو تعمق ذاتي، وتَحَلٍّ بالفضائل، واكتساب المهارات والقدرة على تربية النفس لعشرات السنين. فعلى سبيل المثال، نصادف وجود القديسين والقديسات، الذين جهدوا لتربية أنفسهم في مغارة طيلة أربعين عاماً، في تاريخ الأديان والمذاهب. علينا تناول عقلية الحزب وبرنامجه بوجهة النظر التاريخية هذه.
وفي تاريخ PKK أيضاً، ثمة متعبدون للعقلية الكبرى والارتباط المبدئي. إذ هناك حقي، مظلوم، كمال، محمد خيري، فرهاد، معصوم، تايلان أوزكور، برزان أوزتورك، زيلان، بريتان، برمال، والكثيرون الكثيرون ممن لا يحصى عددهم من أمثلة الصداقة الناجحة في تمثيل الحزبية المقدسة. وجميعهم يماثلون معنى قراءة كتاب ثمين القيمة والمعنى. مقابل ذلك، يمكن أيضاً مشاهدة الكثيرين من الأعضاء الخونة، الأغبياء، المنحرفين، الكُسالى، اللامبالين، السذج، ضيقي الأفق، والمهتمين بالأمور اليومية فقط. هذا ويتواجد عدد لا يستهان به من الناشطين كحمّالين مفتقرين إلى العقلية الكبرى الشاملة والقيم المنهاجية.
البرامج ليست مبادىء أو آراء أبدية ثابتة لا يمكن تحديثها. بل يتمثل الموقف الأصح في تحديث البرنامج في الفترات المرحلية الهامة، باعتبار أن التغيير أمر دائمي. أما الأمر الذي يجب إبقاؤه ثابتاً دون تغيير، فهو الحفاظ الدائم على حيوية قوة التحزب المتجدد كمساعٍ، لإيجاد الحلول بعناية فائقة وباستمرار لمتطلبات المجتمع الأساسية. كذلك معرفة كيفية العيش بهذه الجهود والعقائد، والنجاح فيها حتى الرمق الأخير.
من المهم بمكان وضع هذا الإطار نصب الأعين، واستذكاره دوماً، لدى التوجه نحو تغيير البرنامج في PKK. فعملية البناء لا تعني – حسب ما يظن البعض – تصفية الذات، أو النزول إلى مستوى جمعية بسيطة.
لقد عملنا في العديد من فصول مرافعاتنا على تسليط الضوء على آرائنا النظرية (theoria تعني النظرة أو الرأي المقدس، ويمكن تعريفها بالنظرة إلى العالم أو البراديغما المعنية بالعالم) باعتبارها – أي آراؤنا النظرية – إحدى أهم قوى وقُدُرات عالمنا العقلي، الذي سيسيطر على عملية إعادة البناء في PKK. تطرقنا بكثرة إلى سمات نظريتنا، باعتبارها آراء منتظمة توصلنا إليها بصدد الكون، الطبيعة، الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، الإنسان والمجتمع. وألقينا النور – ولو على مستوى التعريف – على مواقفنا النظرية، بدءاً من الكوسموس حتى الكوانتوم، ومن أول تكوين للكون إلى فكر الإنسان. وعوضاً عن الدخول في التكرار، سنستمر بعكسها على المواضيع المعنية، حين تدعو الحاجة. إننا نتحرك على الصعيد النظري دوماً. فالذي لا يكون مُنَّظِراً، لا يمكنه قيادة حركة حزبية بهذه السهولة. بقدر ما نحقق الكفاءة والقدرة النظرية، سيتطور الحل والتحليل العملي، وستنجح عملية البناء.
ثمة حاجة للتوقف عند البرنامج. فلنستمر. تتشكل البرامج الحزبية في راهننا من أربعة أقسام مألوفة أساسية: مستوى الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشخصية. ففي المستوى السياسي تُعالج مشاكل الدولة والنظام، وتُصاغ التسويات السياسية البديلة المراد وضعها على شكل مبادىء. وبقدر ما بإمكاننا فهمه من تحليلاتنا الجارية حتى الآن، فقد بُذلت الجهود لتحليل المواقف السياسية لتحزبنا الجديد، إزاء الواقع الملموس في تركيا وكردستان. وطُوِّرَ الموقف السوسيولوجي بصدد الدولة والسياسة. ولُفِتَتْ الأنظار إلى السمات الأوليغارشية واللاديمقراطية للدولة. فرغم التلفظ بكلمة الديمقراطية، إلا إنه لم تُخطَ أية خطوة متعلقة بمضمونها. وقد بُرهِنَ على هذا الأمر في القضية الكردية. فالميدان السياسي بعيد عن الدمقرطة. نخص بالذكر هنا كافة الأحزاب التي تعمل كجناح دعائي وتحريضي للدولة في الساحة السياسية، والتي تبقى عاجزة عن دمقرطة ذاتها بالتوجه نحو المجتمع المدني وحقوق الإنسان والبيئة وحرية المرأة؛ وذلك لرجحان كفة التقاليد الدولتية لديها، رغم قوة حنينها وشوقها إلى دمقرطة المجتمع. ومقابل محاولات تحديث الجيش، نلاحظ مدى قوة تأثيره التقليدي بشكل تعييني على النظام السياسي.
إذن، لا بد من وجود تسويات الإصلاح الهادفة إلى تنبيه الدولة، وجعلها متيقظة إزاء الديمقراطية الحقة، بدل الاكتفاء بالتلفظ بها؛ بحيث تتصدر قائمة مطاليبنا في الميدان السياسي ضمن برنامجنا. لقد هُمِّشت الدولة تماماً في برنامج PKK القديم. أي اعتُقِدَ بإزالة وجودها كلياً. أما البديل المُصاغ مكانها – ورغم عدم وضوحه التام – فهو كيان أشبه بالدولة الكردية. لم نكن نصادق أو نقبل بالمواقف الفظة، من قبيل "لِتَزُل الدولة التركية، ولتأتِ الدولة الكردية مكانها". لا لصعوبة إدخال هذا الرأي حيز التنفيذ، بل لعدم تماشي دولتيتنا مع الآراء العالمية الشائعة على الصعيد المبدئي. النقطة الثانية هي عدم واقعية الرأي القائل "لن تكون هناك دولة"، والذي يشيد بالنهليستية والفوضوية (anarşizm) القديمة بالأكثر.
هذا علاوة على أنه لا يمكن وجود أتراك الدولة وأكرادها. فهي تولي الأولوية دائماً لمصالحح زمرة ضيقة محدودة، كتقليد تاريخي ثقيل الوطأة. في حين تبقى خدمتها للساحة العامة ضيقة إلى أقصى الحدود، ومجرد مظاهر. لكن، وباعتبار أن الساحة العامة والأمن العام مسائل لا يمكن إغفالها في راهننا، فإننا نجدد نظرتنا لمفهوم الدولة المترسخ في تركيا وعموم كردستان. فكما أن القول بإزالة الدولة من الوجود فوراً، أمر غير منطقي من الناحية العلمية؛ فإنه بالمقابل لا يعني أيضاً أن تدوم. إذ لا يمكن قبول وجود الدولة بمعناها الكلاسيكي، مهما رُمي إلى مطابقة ممارسات السلطة الاستبدادية القائمة مع الدولة على وجه الخصوص. الصحيح هو الوصول إلى وفاق في مؤسسة سياسية يمكن تعريفها بـ"السلطة العامة"، بحيث تلبي متطلبات الأمن العام وتعمل على خدمة الساحة العامة، وتكون محدودة النطاق صغيرة الحجم، بحيث لا تُعتَبَر دولة بمعناها القديم.
بالمستطاع تسمية هذه المؤسسة بـ"الجمهورية"، لملاءمتها التعريف المذكور. وهي تعني إدارة الشعب التي تكافىء الديمقراطية من حيث التعريف. لكن، باعتبار أن "السلطة العامة" تعتمد الترفيع والتعيين أساساً لها بدل الانتخاب، فالرأي القائل بتكافؤها مع الديمقراطية غير صحيح. والأصح هو التعبير عنها بأنها دولة متنبهة للديمقراطية ومعترفة بها. و"جمهورية تركيا" المُعَرَّفة على هذا المنوال تعني – أو يجب أن تعني – الاعتراف القانوني والدستوري والمواطنة الحرة بالنسبة للكرد. وقونَنَة حقوق الكرد تعني الاعتراف والقبول بهويتهم وحقوقهم قانونياً، على الصعيد العام أو الخاص. واعتراف الكرد، شعباً وثقافةً، بالجمهورية مرتبط باعتراف الأخيرة بهم كوجود ثقافي وكأصحاب حق سياسي. يجب أن تكون الاعترافات هذه متبادلة ومرتكزة على الضمانات القانونية.
تحتاج جمهورية تركيا لمواقف إصلاحية ونهضوية لأجل تركيا عامة، ولأجل الكرد خاصة، نظراً لثقل وضعياتهم. ورغم بعض الإجراءات القانونية والدستورية الحاصلة، إلا أنه يصعب تسميتها بالإصلاحات. نخص بالذكر هنا القضية الكردية. فكلما استمرت المواقف الإنكارية وغير الصادقة إزاءها، كلما صَعُبَ الوفاق الدستوري. وبما أن PKK يُعتبر مسؤولاً بالأساس عن كردستان، فهو حين يقوم بإعادة بناء ذاته، يرى في تأمين الوفاق بين الديمقراطية وسلطة الدولة في الأجزاء الأربعة التي تحكمها دُوَلها القائمة، أمراً بالغ الأهمية. وإذا كانت هذه الدول المعنية – بما فيها الدولة الكردية الفيدرالية – تود الحفاظ على وجودها في كردستان، فمقاييس ذلك هي الخدمة في الأمن العام والساحة العامة الأساسية، بما لا يتعارض ومصالح الشعب. وممثلو الشعب الكردي مكلفون بمهمة تحديد هذه المقاييس، وتحقيق الوفاق فيها مع مسؤولي الدولة. فممارسة الدولة بلا حدود ومن طرف واحد، أمر غير مقبول طبعاً، إذا لم تعتمد على رضا الشعب. وإذا ما فُرِضَت جَبراً، فسيتولد حق الشعب في المقاومة. لذا، لا بد من الوفاق بين الدولة كسلطة عامة، وبين ممثلي الشعب المُعَبِّر عن إرادته الديمقراطية.
بمقدورنا إيجاز هذه المادة الأهم على الاطلاق في البرنامج على النحو التالي: "الإدارة الديمقراطية الذاتية للشعب في كردستان + الدولة كسلطة عامة". وكردستانٌ حُدِّد موقعها بهذا الشكل، تعني اكتساب وضعية ديمقراطية أدنى إلى الحرية والمساواة. أما القول بالديمقراطية بلا دولة، فيعني خداع الذات، وجعلها مغامرة في الحقبة التاريخية القائمة. ثمة حاجة ماسة للوفاق في وجود دولة بيِّنة الحدود ومُحَجَّمة. وبالأصل، فإننا نركز بإصرار على عدم إمكانية تسمية هذه السلطة بـ"الدولة" بمعناها الكلاسيكي، ونشير إلى ضرورة تسميتها بـ"المؤسسة الاجتماعية العامة" المرتبطة شكلاً ومضموناً بالديمقراطية، والأكثر عصرية.
من جانب آخر، فالديمقراطية في كردستان تعني انتخاب ومراقبة الشعب لمرشحيه المكلفين بالبحث عن متطلباتهم الاجتماعية المشتركة، وفي مقدمتها المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ والرد عليها خلال فترات متعاقبة منتظمة، سواء كان ذلك على الصعيد العام أو الخاص. فالدولة لا تُعنى بالديمقراطية التي هي مِن صُلب الأعمال الذاتية للشعب. والدولة لا تقدر سوى على إبداء الاحترام اللازم لإرادة الشعب الديمقراطية. وإذا ما تطلب الأمر خدمة ما، فإنها تقوم بتأديتها. باختصار، يمكن التحلي بنظرة مستقبلية تُدرَج كمادة أساسية في البرنامج، بحيث تصاغ على الشكل التالي: "الديمقراطية + دولة تركيا، إيران، العراق وسوريا كسلطة عامة"، بحيث تُعَرَّف جيداً ويُتَفَق عليها في كردستان لأجل المرحلة المقبلة. وعندما نقول بأن تكون مادة في البرنامج، فلا نقصد أن تكون مادة واحدة فحسب، بل يمكن تقسيمها إلى ثلاث أو أربع مواد.
تتعدى عملية دمقرطة كردستان كونها مجرد قضية قانونية، لتكون مشروعاً اجتماعياً شاملاً يتضمن تكوين الشرائح الاجتماعية لإرادتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومأسستها، وإدارة الشعب شؤونه ومراقبتها تجاه الشرائح الناكرة لحقوقه في تعيين قدره وهويته. وهي مرحلة دائمة الفعالية. كما تُعد الانتخابات إحدى الوسائل المتبعة لتعيين هذه الإرادة. أما الأمر الأهم، فهو التنظيم الفعال للشعب وعملياته. إنها مرحلة ديمقراطية تمتد حتى مشاعات القرى والمدن ومجالس المدن وبلدياتها ومؤتمر الشعب العام، وتعبّر عن حياة سياسية ديناميكية. ويمكن خلالها تنظيم الشعب ذاتَه، عبر ديمقراطية مشتركة مع الشعوب المجاورة وفقاً للظروف، وإلا فبمقدوره تأسيس نظامه الذاتي أيضاً.
تحظى مهمة دمقرطة السياسة بأهمية بارزة في الميدان السياسي. والسياسة الديمقراطية تتطلب أحزاباً ديمقراطية. إذ من المحال انتظار دمقرطة الحياة السياسية، في حال غياب الأحزاب والهيئات المعتمدة أساساً على المطاليب الاجتماعية وغير الهادفة إلى الدولة. لا تتعدى الهيكليات الحزبية في تركيا كونها جناحاً دعائياً للدولة، أو وسائل تهدف إلى نشر السمسرة في حال تربعها على أجهزتها. يعد الانتقال إلى الأحزاب المتمحورة حول القضايا المجتمعية، وإيجاد الوضعية السياسية الملائمة لذلك؛ جزءاً هاماً من عملية الإصلاح السياسي. إذ لا يزال تأسيس حزب باسم كردستان أمراً محظوراً، ولا يسمح بوجود أحزاب خارج نطاق الدولة. جلي بسطوع حتمية تجاوز هذا الوضعية. فالأحزاب والائتلافات الناطقة باسم كردستان مرتبطة بمضمون الدمقرطة، شرط ألا تتحول إلى وسائل للانفصال أو العنف.
يتميز استيعاب ماهية السياسة والمجتمع الديمقراطيين ومساعي التحديث بأهمية قصوى في كردستان. نخص بالذكر هنا حيوية استيعاب سمات الظاهرة السياسية الاستبدادية للمعايير الديمقراطية، وتطبيقها إياها. فالأمر لا يقتصر على سياسات المركز اليميني، بل إن غالبية السياسات اليسارية أيضاً متمحورة حول الدولة، وتتسم بالاستبدادية والسمسرة. تُبيِّن هذه الخاصيات الأساسية أسباب نفور الشعوب الشرق أوسطية من السياسة. إذ، وبعد أن تُناط السياسة بدور الخداع والزيف والقمع، لا مناص حينئذ من بقاء المجتمع خارجها، أو بالأحرى عدم تحوله إلى مادة للسياسة المتسلطة. وأفضل الأساليب المخولة لتجاوز هذا الاغتراب السياسي، هي فن تسيير السياسة الديمقراطية الهادفة إلى المجتمع الديمقراطي والمتمحورة حوله. وبدون اعتماد السياسة الديمقراطية أساساً نظرياً وعملياً، لن تنجو كل المساعي المبذولة داخل كافة المجموعات الاجتماعية من الخداع والرياء. لا معنى هنا لحسن النية. من الضروري تمييز الروابط والفوارق الكامنة بين ارتباط الشعب الأفلاطوني (المثالي – العذري platonik) وبين فن السياسة الديمقراطية.
تُوْلي مرافعتي هذه مرتبة أولى لمسألة فتح الطريق أمام السياسة الديمقراطية في كردستان. إذ لا يمكننا تخطي ثقافة الذل والإذلال ذات التأثير البالغ في الفرد والمؤسسات، إلا بتطبيق المقاييس الديمقراطية الدولية. وقد شوهدت في الآونة الأخيرة ممارسات لا ديمقراطية كبرى، إزاء ميراث PKK أيضاً. يتوارى وراء عدم إحراز DEHAP التفوق المطلوب في الانتخابات الأخيرة، عدم تطويرِه أو تطبيقه نمطَ الحل الديمقراطي نظرياً وعملياً، إزاء القضايا الإدارية والكادرية وأنماط النشاطات. أما أجزاء كردستان الأخرى، فتغلب فيها السياسة الاستبدادية، بطبيعة الحال. ما هو مطلوب أولاً في المرحلة المقبلة لأجل كردستان حرة، هو تطوير الكيانات السياسية المتمركزة حول المجتمع والسياسة الديمقراطيين، بما يتوافق والسمات التاريخية والاجتماعية الملموسة لكل جزء على حدة. وكذلك تحديث الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني على ضوء ذلك. لا شيء أثمن من العمل على شق الطريق أمام مرحلة السياسة الديمقراطية بكل الطاقات، وبإيمان راسخ وإدراك وتنفيذ وطيدين.
من هنا، يُرى في تطوير الآلية الديمقراطية في الأنماط التنظيمية والنشاطية والعملياتية مهمة أساسية، في كافة أجزاء كردستان والمتروبولات التي تشهد تجمعات كردية كثيفة، وفي المناطق الجبلية ذات العدد السكاني القليل، وفي خارج الوطن وأوروبا بالدرجة الأولى. على شعبنا توخي المرونة في ضم الأصدقاء الطوعيين والأقليات القاطنة داخل كردستان، والتي تشاطره العيش فيها، إلى تنظيماته القاعدية وعملياته، التي يجب أن تتصدر قائمة نشاطاته كلها. كما عليه بالذات تنظيم ديمقراطيته وتطبيقها. وبقدر ضرورة امتثاله للقوانين الديمقراطية الموجودة أثناء تحركه، عليه ترتيب حياته ونضاله أيضاً بموجب قواعد ديمقراطيته هو ونظامها الداخلي وأحكامها، في حال غياب القوانين الديمقراطية. هذا إلى جانب انتخابه كافة إدارات مؤسساته الديمقراطية (بدءاً من المشاعة وحتى KONGRA GEL) نسبةً لنجاحها ونشاطها، وذلك بعقده مؤتمرات المناطق مرة في السنة. كما يجب إعداد نظام الانتخابات والترشيح بأساليب مناسبة. يجب عدم انتخاب إداريٍّ ما أكثر من مرتين متتاليتين، بينما يمكن ترشيحه مجدداً بعد دورتين على ضوء المشاريع الجديدة التي يقدمها.
على شعبنا القاطن في أوروبا أولاً، وفي كافة أجزاء الوطن والمتروبولات، أن يعمل على تفعيل ديمقراطياته الذاتية بالأساليب التي يرتأيها، وينتخب أكثر مرشحيه تفوقاً لكافة مؤسساته (بدءاً من المشاعات المحلية وحتى KONGRA GEL)، ويطلب منهم التقارير المنتظمة، ويراقبهم بموجب ذلك. إذا ما احترمت الدول ديمقراطياته، فعليه بالصلح والوفاق معها. وإلا، فعليه مواصلة مقاومته الديمقراطية بالأساليب التي يرتأيها حتى الرمق الأخير. فالأساس بالنسبة لشعبنا، هو الاستيعاب الكامل لديمقراطياته الذاتية، التي تعتبر أنسب السبل المؤدية إلى الحرية والمساواة، وتطبيقها حتى بلوغ النصر.
ثمة حاجة لوجود الإعلام الحر أيضاً في الميدان السياسي. حيث لا يمكن تحقيق يقظة الدولة تجاه الديمقراطية ودمقرطة الميدان السياسي، في حال غياب الإعلام الحر. ثمة ضرورة عاجلة للتسويات الإعلامية في كردستان كحقوق عامة، لا كحقوق فردية. إذ يجب ألا يكون هناك تمييز لغوي.
معلوم أن المؤسسات الإقطاعية تقف عائقاً أمام الديمقراطية. لذا، يجب فرض التحول الديمقراطي بأساليب ملائمة على الآغوية والمشيخة والعشائرية والطرائقية، باعتبارها من بقايا وحيثيات العصور الوسطى. فهذه المؤسسات الطفيلية، والمخدرة للعقول، والمعرقلة للأخلاق الحرة؛ إنما تعيق الدمقرطة بقدر مؤسسات الدولة الكلاسيكية. إنّ التفكير في صياغة كل هذه النقاط على شكل مواد ومبادىء مناسبة ضمن هذا الاطار، يعد أمراً واقعياً بالنسبة لواقع النظام الحاكم والشعب على السواء، وقابلاً للتطبيق على أرض الواقع.
تشكل دراسة العراقيل المزروعة أمام مسائل العائلة والمرأة والصحة والتعليم والأخلاق والدين والفن، ومهمة إيجاد الحلول لها؛ مضمون الإجراءات البرنامجية بصدد الميدان السياسي. يمكن معالجة الميدان الاجتماعي، الذي يشكل تكاملاً لا ينفصل عن الميدانين السياسي والاقتصادي، على شكل فصل مستقل بذاته للسهولة. وإلى جانب ضرورة النظر إليه كميدان أساسي مصيري، فهو يعاني ضغوطات بالغة وصلت حداً صار فيه أشبه بالجسد المريض، حصيلة التحكم المهيمن في الميدان السياسي والاستغلال الاقتصادي. يجب اعتبار تعزيز الميدان السياسي مع الزمن، والدفاع عنه، من أهم الآليات الأساسية للبرنامج. كما يجب تحويل التركيز من الاقتصاد والسياسة إلى الميدان الاجتماعي.
يعد التخلي عن الأساليب المتبعة بكثرة في أنظمة الدولة بغرض مراقبة المجتمع، والمتمثل في أخذ الإمكانيات الاقتصادية من يد المجتمع، وتقديمها ثانية إليه بجرعات ضئيلة بهدف ربطه بذاتها؛ نقطة أساسية في تحرر المستوى الاجتماعي. من الحتمي الكف عن تربية المجتمع بالاقتصاد. فهذا الأسلوب المتبع بكثافة في المجتمع الكردي، قد حول شعبنا إلى شحاذ بكل معنى الكلمة. لذا، يجب أولاً إزالة هذا الشرك المنصوب في الميدان الاجتماعي. فموارد المجتمع الاقتصادية هي من حق المجتمع، لا الدولة، ويجب قبولها هكذا.
تعد المرأة والرجل والأطفال في مؤسسة العائلة أكثر العناصر المعانية من الانسداد في النظام. وكأنه حوَّل العائلة إلى رذاذ رماد ومؤسسة تغطس فيها كل تناقضات النظام وتختنق. فبينما لم تتخطَّ ظواهر الزواج والأطفال وعلاقات الزوجين نمط المعاملات الإقطاعية القديمة من جهة، نراها محاصرة بالعلاقات الرأسمالية المجحفة من جهة ثانية؛ لتتحول المعيشة إلى سجن بكل معنى الكلمة. ورغم تقديس العائلة في كردستان، إلا أن افتقارها إلى المستوى التحرري، والتدهور الاقتصادي، والغياب التعليمي ومشاكل الصحة على وجه الخصوص؛ تؤدي بها إلى الانحصار في مِكبَس حقيقي. فوضع المرأة والأطفال ينم عن كارثة حقيقية. وما الظاهرة المسماة بجرائم الشرف في حقيقتها، إلا تعبيراً رمزياً عن الحالة التي آلت إليها الحياة العامة. فالمجتمع المقضي على شرفه، يصب جام غضبه على رأس المرأة. وكذلك الرجولة المفلسة تنتقم لذاتها، وتطفىء جذوة غضبها بالمرأة. لا يمكن إيجاد حل لأزمة العائلة في الظروف الحالية، إلا بدمقرطة عموم المجتمع. وقد يُقضى على تشوه الهوية نسبياً، عبر ممارسة التعليم والنشر باللغة الأم؛ وتُنقذ العائلات الفقيرة مؤقتاً بمساندتها الخاصة اقتصادياً.
ثمة أناس "آخرون" في تركيا – عدا الفئات المحدودة المتواطئة مع الدولة – بحيث يعجز المرء عن تصويرهم ووصفهم كلامياً أو كتابياً. وبدون حل مشاكل "الآخرين" في الهوية والحرية والمساواة، لا يمكن الادعاء بالتطهر من أقذر أنواع الحروب. ما يُعاش في المجتمع الكردي، بعائلاته ونسائه ورجاله وأطفاله، ليس سوى حرباً مأساوية أحادية الجانب. ينبغي التحلي في البرنامج بمواقف خاصة تهدف إلى إيجاد الحلول الخلاقة في هذا المضمار.
ينبغي الاستفادة من التعليم الرسمي واللغة الأم على السواء وبشكل حر. وحتى لو لم تساعد الدولة على ذلك، فعليها ألا تزرع القلاقل في طريق تأسيس الشعب مؤسساته التعليمية المعنية بلغته وثقافته بإمكانياته الذاتية. يجب العناية بأمور الصحة كخدمة عامة، من قِبَل الدولة ومنظمات المجتمع المدني، والاعتراف بحرية تنشئة المجتمع بالحركات الفنية الحرة، وإمداده بها. لا يمكن إحراز النجاح في أمر ما، ما لم يكن هناك مجتمع أخلاقي. يرتبط اكتساب الأخلاق الحرة بتوعية المجتمع. من هنا، يجب عدم زرع العراقيل أمام انتشار توعية المجتمع. المجتمع الحر مجتمع أخلاقي. يجب عكس هذه المعادلة المتماثلة على كافة الأنشطة داخله. كما يتوجب النقاش حول مكانة الدين في حياة المجتمع، وتنظيفه من عناصره المقيِّدة، وبالتالي، إمراره من الإصلاحات اللازمة، ليتواءم مع العلم والفلسفة العصريين، باعتباره من أقدم تقاليد المجتمع ووجدانه. هذا وإن البلوغ إلى لغة مشتركة بين الدين والفلسفة والعلم وحتى الميثولوجيا، يحتل صدارة العوامل الأساسية، للنفاذ من أزمة الفرد القائمة في راهننا. وبينما يلعب الدين دوره في أخلاق الحرية الجديدة بالأرجح، فمن المهم إعادة النظر في الروابط الكامنة بين العلم والمجتمع، وتقديمها إلى هذا الأخير بموجبها. علينا الإدراك جيداً أن الأنبياء أيضاً قاموا بهذا الدور ضمنياً. لم يبقَ الدين مضمحلاً أو مشلولاً في أي وقت من الأوقات، مثلما هو عليه اليوم. وإكسابه فاعليته مجدداً، يجب أن يكون على أساس أهداف الإصلاح الديني.
أهم نقطة يجب تحديدها في ميدان البرنامج الاجتماعي، هي إكسابه وزنه المفتقر إليه. على الحفنة الضيقة المحتكرة للدولة والاقتصاد الكف عن مواقف النهب والقضم المسلَّطة على المجتمع، الذي طالما عانى من الآلام والويلات، وواصل نضالاته على مر آلاف السنين. وبالتالي، أن تقبل هذه الحفنة بإعادة الاعتبار، ورَدِّ الاحترام اللازم إليه، كسياسة اجتماعية أساسية. يجب رؤية حماية المجتمع تجاه أقلية الدولة من جانب، وإزاء سفالة الفرد ونهبه والتهجم عليه من جانب أخر، من أهم الوظائف الأساسية التي يُعنى بها البرنامج في ميدانه الاجتماعي. مستوى حرية المرأة يحدد مستوى حرية المجتمع، الذي بدوره يحدد مستوى الحرية العام ومدى توخي الدولة الاجتماعية الحساسية اللازمة إزاءه.
يتحتم معالجة مسألة حرية المرأة كمادة بحد ذاتها في البرنامج، لِما يتميز به هذا الموضوع من أهمية مركزية. تبين التحليلات التي قدمناها بشأن قضية المرأة، مدى كونها تشكل النقطة الحساسة الأساسية في التحديث المجتمعي. وإذا كانت مسألة السلطة والحرب إحدى النقاط التي أدت إلى خسارة الاشتراكية المشيدة وانهيارها، فإن قضية المرأة هي النقطة الثانية في ذلك. المرأة والسلطة ظاهرتان متناقضتان إلى أبعد حد. فالمرأة هي أول طبقة وجنس وأمة تعرضت للسحق. وبدون تناول حريتها وعدالتها ضمن السياق التاريخي والاجتماعي، وبدون صياغة نظريتها بموجب ذلك؛ لا يمكن تحقيق تطور عملي سليم بشأنها.
لا تزال تأثيرات الآثار المتبقية من العهد النيوليتي تواصل وجودها في المرأة داخل المجتمع الكردي. وهي إلى جانب ذلك تجتر آلام كافة المراحل الحضارية، وتتميز ببنية مقاوِمة. وجلي تماماً تعرضها لخيانة العصر. إذا ما التحمت هذه الخاصيات مع جهود الفامينية العالمية، فقد يلعب تأسيس حزب المرأة المستقل بذاته دوراً عظيماً في سياق نضال الحرية والمساواة والدمقرطة المجتمعية.
لقد أُسس "حزب حرية المرأة الكردستاني PAJK" ليقوم بهذا الدور. ورغم عدم تخلصه بسهولة من مفهوم الرجولة المهيمنة، إلا أن الإصرار على الحرية يحظى بأهمية لا غنى عنها. سيكون تحرير عالم المرأة بتفعيل الذكاءين التحليلي والعاطفي معاً هو الأفضل. يتحتم على المرأة إعادة النظر في الميثولوجيا والفلسفة والدين والعلم، وتناولها بذكاء المرأة الخاص والحر، وإدخاله حيز التنفيذ بموجبه. أما التوجه نحو النظرية والممارسة العملية بذكاء المرأة، فربما يوصلنا إلى عالم قريب إلى الطبيعة، سلمي وآمن، تحرري وعادل، وإلى حياة مفعمة بالجماليات بنحو أسمى معنى.
قد يؤدي بنا الإصرار على PAJK وتطويره في كردستان إلى فضائل الربة وشفافية الملاك وجمال أفروديت. وتركيبة جديدة للمرأة كهذه، ما من ثقافة رجل إلا وتحللها، وما من قوة حياة إلا وتجذبها، وما من عملية إلا وتؤديها. محال أن تتعزز الأصالة والنبل والحرية والمساواة في الحياة، دون تطوير فضيلة المرأة الموائمة لقدسية الإلهة الربة المعروفة في التاريخ والميثولوجيا، تجاه الرجولة المستبدة وظاهرة التأنيث المسيَّرة كتقليد عبودي متجذر، طيلة التاريخ الحضاري. وبدون تأمين هذه القيم، لا يمكن أن تنجو الحياة من كونها قيمة مفقودة.
على البرنامج ترتيب قضية المرأة كمواد منفردة بذاتها ضمن هذا الإطار.
وفيما يخص الميدان الاقتصادي في البرنامج، يجب تأمين الانتقال من الاقتصاد المعتمد على التبضع والربح إلى الاقتصاد المرتكز إلى قيمة الاستهلاك والمشاطرة. فالاقتصاد المنتعش بالربح، لم يسفر عن تخريب المجتمع وحسب، بل وعن تدمير الطبيعة أيضاً. حيث يتوجه صوب بيئة لا يطاق العيش فيها. وإذا لم يوضع حد نهائي لسياسة الاقتصاد البورجوازي، فسيكون المنتهى إلى جهنم السعير. إن هرع البورجوازية وراء الربح الأعظمي – ونخص هنا بروز زمر التمويل التي تحقق الربح تلاعباً بالمال – يُسلط العولمة على رقاب البشرية من أسوأ جوانبها. ما من طبقة اجتماعية حققت هذا الكم من الربح وكسب القيم في أي حقبة من حقب التاريخ. يرجع السبب الأولي في تردّي المجتمع إلى المستوى التمويلي الذي بلغه الاقتصاد.
أما الصناعة والتجارة الزاحفتان مع التمويل، وبسبب التبضع الدائم، وتقديم الأشكال غير اللازمة بغرض الربح الأعظم إلى الأسواق؛ فقد أدتا – إلى جانب السلع الفائضة التي لا يستهلكها المجتمع ولا يقدر على شرائها – إلى تكوين إنسان "آخر" يعيش تحت حدود الفقر والمجاعة بدرجة مريعة حقاً. لا تطيق الانسانية العيش أكثر من ذلك مع هذه السياسة الاقتصادية. هنا بالذات يبرز الدور الأصلي للاشتراكية، التي يمكن تعريفها بالانتقال المعتمد على المشاطرة. هذه هي سياسة الاشتراكية الاقتصادية. على البرنامج أن يُسند مبدأه الاقتصادي إلى هذه السياسة الاقتصادية، التي إذا ما طُبقت، فستخرج ظواهر البطالة، الفقر المدقع ضمن الرفاه، المجاعة بجانب الإنتاج الفائض، تدمير البيئة مع الربح؛ من كونها قدراً محتوماً.
المجتمع الأيكولوجي مجتمع اشتراكي في فحواه. لا يمكن أن يكتسب التوازن الأيكولوجي والمجتمع الأيكولوجي معناهما الحق، إلا بالعبور من المجتمع التسلطي المنقطع عن الحضارة والطبيعة والبيئة، والمغترب عنها، إلى المجتمع الاشتراكي. أما القول بخلاص البيئة في ظل النظام الرأسمالي، فهو مجرد خداع وزيف. فالنظام ذاته هو الدافع وراء اختلال التوازن الأيكولوجي، بنسبة لم يسبق لها مثيل. لا يمكن بلوغ الحل النهائي لمشاكل البيئة، سوى بالتناسب طرداً مع مدى شل تأثير ذاك النظام، وتطوير نظام المجتمع الاشتراكي. لكن هذا لا يعني استحالة عمل شيء ما لأجل البيئة منذ الآن. بل على النقيض، فهو يشيد بحتمية تفعيل الأنشطة البيئية، بالتداخل مع نضال التحديث المجتمعي العام.
على البرنامج الاستيعاب تماماً أن ظواهر البطالة والغلاء، الفقر والمجاعة، تدمير البيئة والتبضع المفرط، الإنتاج الفائض، والافتقار إلى قيمة الاستهلاك السائدة في النظام الرأسمالي المهيمن؛ ليست قدراً محتوماً. وأنه يمكن إخراجها من كونها مشاكل عالقة، بالتوجه نحو الاقتصاد الاشتراكي. وعليه أن يركز على ذلك، ويشير إليه بقوة، ويرتبه على شكل مواد ضمنه.
الموضوع الآخر، الذي يتوجب تعريفه بدقة بالغة في البرنامج، هو مشكلة "الاختيار"، بشأن قيمة المواد السلعية والاستهلاكية. فبينما يؤدي تبضع المواد إلى نظام الربح، فإنه يصعِّد – إلى جانب ذلك – من الفروقات المتباينة – وعلى رأسها العمل المفرط والبطالة – من قبيل الفقر والثراء، الرفاه والقحط، البذخ والتلوث، الساحق والمسحوق، المستعمِر والمستعمَر، الحاكم والمحكوم، الجنس الساحق والجنس المسحوق، وغيرها. وفي حال العكس، فتطوير السلع كقيمة استهلاكية، لن يمهد السبيل لمثل هذه الثنائيات، بل سيشهد مستجدات متسمة بمزايا المجتمع الاشتراكي. على سبيل المثال: لنزرع أشجار البلوط في كل الأرجاء. تمتاز شجرة البلوط ببُخس قيمتها السلعية، وارتفاع قيمتها الاستهلاكية. بلوطها ثمين القيمة، وجذوعها سليمة. هذا علاوة على روعة ظلالها. إنه الحل الأمثل لمشاكل البيئة، بحيث يمكنه تحويل جميع صحارى الشرق الأوسط إلى غابات تنم عن أيكولوجيا رائعة. الأهم من هذا وذاك، أنه يتيح الفرصة لإيجاد عمل للجميع. بمقدور الإنسان الأمّي العاطل عن العمل أن يزرع أشجار البلوط، ويعتني بها. وبزرع أشجار البلوط ستُنقذ الدنيا بأكملها.
بالإمكان الإشادة بالعلاقة بين البرنامج والأممية على صعيد المنطقة والعالم. يعيش واقع كردستان الملموس تداخلاً مع تاريخ الشرق الأوسط وجغرافيته وشعوبه، أشبه بالتحام الظفر باللحم. سيكتسب ردع النزعة القوموية معناه بهذه الحقيقة القائمة. فاعتماد النزعة القوموية في كافة علاقات وتناقضات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يتوارى خلف كل الكوارث والآفات والانسدادات الموجودة. وبإضافة القوموية الوطنية إلى القوموية الدينية، تفاقمت الكارثة إلى أقصاها. بيد أنه لو اعتمدت على إمكانيات الحل الديمقراطي أساساً، لكانت الآلام المجترة أقل نسبة بالطبع، ولصار بالإمكان تأسيس نظام أنسب اعتباراً من الآن. وقد برهن الموقف القوموي الدولتي المفرط على أنه سياسة مروِّعة وفظيعة – لا سبيل حل – بشكل لا يقبل الجدل. إذا ما تصاعدت التيارات القوموية الدولتية نفسها في كردستان، فلن تنم سوى عن صراع يضاهي في حِدّته مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بأربعة أضعاف. ثمة دروس كثيرة علينا استنباطها من ذلك. هذا والكل على معرفة بالنتائج الناجمة عن المشاكل الموجودة في الشيشان، قرة باغ، كوسوفو، وقبرص في يومنا الراهن؛ وما أسفرت عنه المشاكل بين الأرمن – العثمانيين، الكرد – الجمهورية، العرب – العثمانيين، الكرد – العراق في التاريخ القريب. يتمثل السبيل الأمثل لعدم فتح المجال أمام كوارث جديدة، في الجرأة على صياغة حل إصلاحي مبدئي وصادق للقضية الكردية، بحيث يتضمن السلم والدمقرطة، دون إيقاع القضية في حالة من الإنكار والإبادة والإخماد والعوز. وصياغته العامة مثيلة لما حللناه في واقع تركيا، كشراكة الأمن العام والساحة العامة على النحو "الدولة + الديمقراطية في كردستان"، وتعميمها على نطاق منطقة الشرق الأوسط. وبشكل أفصح "دمقرطة الشرق الأوسط + حساسية الدولة إزاء الديمقراطية = حرية كردستان". وكردستان حرة هي بالأرجح كردستان ديمقراطية. وفي عموم العالم يتم تحويل اجتماعات بروتو آللاغرا إلى بلاتفورمات للديمقراطية المحلية فوق الوطنية، وإلى مؤتمرات للديمقراطية العالمية غير المتمحورة حول الدولة لكافة شعوب العالم. خلاصة الكلام: بالإمكان جعل المعادلة: "كردستان ديمقراطية = فيدرالية الشرق الأوسط الديمقراطية = مؤتمر الديمقراطية العالمية" شعاراً لما بعد الوطنية في المرحلة القادمة.
يجب أن تأخذ الحقوق الشخصية حيزاً في البرنامج على شكل "حقوق الانسان". إذ يجب حماية وصون حقوق حرية الفرد في التفكير والتعبير والإرادة تحت كل الظروف. لا يمكن منع الفرد من حقه في حرية التفكير والتعبير عن الرأي وإبداء إرادته، تحت ذريعة مصالح أي وطن أو دولة أو مجتمع ما. بل يجب أن يكون بلوغ التوازن الأمثل بين المجتمعات والفرادنية هو الهدف الأولي. كل حرية مجتمعية لا تمر من حرية الفرد، وكل حرية فردية لا ترتكز إلى الحريات المجتمعية؛ محكوم عليها بالخسران في منتهى المآل. ولن تشكل حقوق الإنسان الأساسية قيمة مثلى، إلا بالإدراك التام بأن وجودها منوط بحق وجود المجتمع، دون التهجم عليه، ودون الانجرار وراء النزاعات الفردية المفرطة اللامبالية والخارجة عن نطاق المجتمع.
الدعامة الركن هنا ليست التعاضد الدولي القديم، بل موقف ما بعد القومية. بمعنى آخر، ألا يكون أممياً، بل أن يمثل ما بعد الأممية (الفَوْقَومية، ما بعد القومية). على الأناس بلوغ مستوى في التعاضد يتخطى نطاق الهوية الدينية والقومية والطبقية. بناء عليه، فتعاضد الكدح والإنسانية المثالية هو الأسمى معنى.
يجب توضيح العلاقات الكامنة بين الديمقراطية والاشتراكية بشفافية في البرنامج. تُعرَّف الاشتراكية عموماً بكلمة المساواة. أما السبيل إلى ذلك، فيتكافأ مع المفهوم القائل بعبورها من جماعية المُلكية. في حين لم تُقَم الروابط بين الديمقراطية والحرية. بل وصل الأمر إلى حد القول: "لنؤسسها، ولا يهم بأي نظام تكون، أو كيف". وفي المحصلة، انحلت لتظهر كرأسمالية الدولة. كل المستجدات النظرية والخبراتية برهنت على استحالة بلوغ الاشتراكية، ما لم تطبق الديمقراطية كلياً، وما لم تعش الحريات. لا يمكن تأسيس الاشتراكية على يد الدولة. لقد شوهدت مجمعات الدولة المكثفة منذ عهد السومريين الغابر. حيث قامت الدولة بالحركات المتوجهة إلى الاشتراكية الأوسع على الإطلاق. وفي حال كهذه، علينا الإقرار بأن الدولة هي أعظم مؤسسة اشتراكية. والتجربة السوفييتية امتداد لذات التيار التاريخي ذاك. بالتالي، من الأنسب تسمية ظاهرة التأميم بيد الدولة بأنها نظام الأسياد المعمم على الحركات الهادفة إلى المساواة. وهو بذلك يؤدي ضمنياً نفس الدور الذي يقوم به أي أفندي أو آغا أو رأسمالي ما، باعتباره الهوية المشتركة بينهم جميعاً. إذا كانت الديمقراطية تعادل أقل قدر من الدولة، وكانت المساواة تتحقق بالتطور الديمقراطي؛ فحينها يمكن القول أنه تم بلوغ الاشتراكية الحقة. يجب الاشتراط هنا بأن ذلك لن يحصل بغياب الحرية. فالمساواة (أي اللاهيمنة) إذا ما التحمت بالحرية، حينها يمكن اصطلاحها كـ"اشتراكية". لا يمكن أن تكون المساواة الإرغامية اشتراكية. إذاً، والحال هذه، فالمجتمع المتساوي المبني في ظل الحريات المعاشة بأوسع نطاقات الممارسات الديمقراطية، هو مجتمع اشتراكي.
خلاصة، بهذا نكون قد أوضحنا مسودة أفكار البرنامج والنظام النظري، الذي نرتكز إليه، بخطوطه العريضة. حيث ارتأينا مفهوماً برنامجياً منقى من التأثيرات القوموية، ديمقراطياً، حراً، عاملاً أساساً بالتحديث المجتمعي الرامي إلى تعزيز المساواة والعدالة. وإلى جانب كونه ليس ليبرالياً، فهو يعترف بالدور الحقيقي للمبادرة الفردية. إنه برنامج ليبرالي يعتمد منهجاً أساسياً، يتضمن السلطة الديمقراطية بدل النفوذ والسيطرة، والحرية بدل المراقبة المجتمعية، والقيمة الاستهلاكية والمشاطرة بدل السوق المعتمدة على السلعة والربح؛ ويؤمِّن نقطة التقاطع المثلى بين المجتمع والفرد. جلي تماماً أن هذه الأفكار مسودة مقترحات مقدمة للنقاش والتعديل والإضافة.
2- بينما يشكل البرنامج مضمون عملية إعادة البناء في PKK، يقوم التنظيم بتحديد شكلها. وكيفما تحدِّد النظرية البرنامج، فالبرنامج بدوره يحدد التنظيم. التنظيم أشبه بالهيكل العظمي للبنية. ومثلما تتحول البنية المفتقرة إلى الهيكل العظمي إلى ركام من اللحم، فالحزب غير المنظم أيضاً، لن يتخلص من التحول إلى جمع أجوف مشلول الإرادة. ومثلما يتكون جزيء الماء من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين، فالتنظيم الكادري المناسب أيضاً يشكل الهيكل العظمي، الذي سينشأ ويتشكل على أرضية المجتمع. إذاً، والحال هذه، سيكون من الأفضل تناول المسألة التنظيمية ضمن قسمين أساسيين: التنطيم الكادري والتنظيم الجماهيري.
أ- لكل كيان أقرب إلى الحزب كوادره المتحلية بالعقيدة الراسخة والإرادة على مر التاريخ. لا مناص من نسيان الكثير من الكيانات المفتقرة إلى الكوادر في أغوار التاريخ. لا تُؤخَذ أية قضية على محمل الجد، ما لم يكن لها أحزابها وكوادرها القديرة يمثلونها. الكوادر – مثلما نوهنا بكثرة سابقاً – تعني المناضلين الأكثر قبولاً وهضماً لعقلية الحزب وأسس برنامجه، والناشطين على نقلها إلى الممارسة العملية بحماس جياش وعنفوان جارف. إنهم الوحدة الركن للتحديث. وعليهم التحلي بمزايا الربط بين النظري والعملي، واللحم بين التنظيم الجماهيري وتأثيراته الفاعلة لإدراة شؤونه وتوجيهه. هذا إلى جانب كون الكادر يمثل الهوية التي توحد بين الأخلاق الاجتماعية والخلاقية السياسية في شخصيته بحنكة فنية.
إذا ما أمعنا النظر في تاريخ PKK وتحديث تنظيمه انطلاقاً من هذا التعريف، فسنشاهد العديد من العناصر الإيجابية والسلبية المتداخلة فيه. فإذا كان PKK لا يزال يحيا وينتعش اليوم، فالفضل يرجع في ذلك – أولاً – إلى كوادره النبلاء عُبَّاد البشرية ومقدسيها. في حين أن عدم بلوغه الظفر الكامل يعود إلى كوادره المثقلة بالمشاكل.
فالظفر والفشل ينبعان من الكادر. وقد كُشِف النقاب عن تراكم تناقضي اجتماعي هائل متجسد في الكوادر. وكلما كشف النقاب عنهم، ظهر المنهارون منهم والأقوياء على حد سواء. لقد شوهدت تراجيديا الكوادر وبسالتهم وخيانتهم بشكل متشابك. ورغم كل جهودنا التعليمية والتطبيقية، لم نفلح أبداً في الوصول إلى الكوادر المسيِّرة للنهج بشكل دائمي. وما الانسدادات الحاصلة في مراحل التحول إلى PKK، سوى ثمرة لهذا النقصان الكادري. ومن المشاكل الأساسية المنتصبة أمام عملية البناء المستقبلية أيضاً، هي مشكلة تكوّن الكوادر الأكفاء بما فيه الكفاية.
سيمهد حل هذه المشكلة الطريق لتطبيق البرنامج على أرض الواقع بتفوق باهر. وإلا، فستتولد انسدادات عقيمة جديدة. أنْ يكون المرء كادراً مسألةُ عشق وهيام. إنه يعني إعداد الذات وفق الأهداف، بعقيدة وعزيمة و تنور بلا حدود. والشخصيات التي لا تملك هذه المزايا، بل تسعى لتصدر المقدمة لإرضاء وصوليتها ونزواتها؛ تسفر دائماً عن نتائج سلبية وخيمة. فالكادرية أبعد من أن تكون مجرد نزوة. حيث تتطلب الإنسان المتسم بالرؤية النظرية المستقبلية، والارتباط الوطيد بالبرنامج، والعنفوان في تأسيس كيان الحزب. وطبيعي العمل أساساً بهذه الماهيات، أثناء التوجه نحو التنظيم الكادري في المرحلة الجديدة. يسعى كل تنظيم اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي جادٍ إلى امتلاك مفهوم كادري وفن قيادي مشابه لما ذكرناه، ويبحث عن نصيبه منه لإحراز النجاح.
لقد تطرقنا في الفصول السابقة إلى المشاكل المستعصية أمامنا، لدى عزمنا على عملية إعادة البناء في PKK. فبينما قدمنا خيرة رفاقنا الشهداء، وناضل الباقون منهم بتضحيات جسام؛ قامت العديد من العناصر الانتهازية والوصولية والسماسرة بنخر القيم المقدسة من الداخل. وكأن الواقع الاجتماعي قد وجد فرصة الحياة الثانية داخل صفوف الحزب. فرغم مرورنا بأحرج اللحظات التاريخية، لم يتناقص الأعضاء الذين فرضوا أطماعهم الشخصية ووصوليتهم، دون أي خجل أو ورع. وبينما تبقى الكثير من الأعمال عالقة، لم يكن الكسالى المتطفلون، الذين لم يبلغوا ولو مستوى إنتاج عامل بسيط، بالقليلين. وشوهدت محاولات الاستحواذ على المواقع والمناصب من الأعلى والتربع عليها، وخلق نزاعات على السلطة وحسابات على ميراث الحزب. إنها تصرفات طفولية، ولكنها خطيرة في الوقت نفسه.
لم يتفهموا بالقدر الكافي من المسؤولية مساعينا الحثيثة في حماية الكوادر أثناء قيامنا بعمليات الفرز باسم الحزب، وتعريضنا صحتنا وسلامتنا لمخاطر كبرى في سبيل ذلك. بيد أن التراجيديات، التي عانيناها لاحقاً، كانت تتضمن في وعيها الباطني الجهود المبذولة لإبداء الصداقة. وتمَّت دعوتهم للتحلي بروح المسؤولية بانتقادهم بشدة. ورغم ندائنا المتواصل لهم ليكونوا لائقين بآمال الشعب الذي يتخبط تحت ثقل المشاكل المتفاقمة، وتخليد ذكرى آلاف شهدائنا البررة، ورغم تنبيهنا إياهم بأن التاريخ لن يصفح عنهم في حال العكس؛ إلا أنهم لم يفلحوا، بأي حال من الأحوال، في بلوغ النصر والنجاح بإبداع وخلاقية. أسوأ الحالات كانت لعبة النزاع على السلطة، والتربع على ميراث الحزب مع بدء مرحلة إيمرالي.
إنه تضارب حاد: فمن جهة، ثمة رفاقنا المضرمون النار بأبدانهم الغضة، وشعبنا الذي يبكي دماً، ومن جهة أخرى مجموعات النزاع على السلطة، والتي لا تليق بتقاليدنا، لا شكلاً ولا مضموناً. كان من الأصح أن يتم حل هذه المفارقة على أرضية عملية إعادة التحزب. إذ ما من شك في استحالة الدخول في حسابات وتوازنات سلطوية كهذه، أثناء تناول المشكلة الكادرية. وبما أنه لا يمكن استجداء التحزب من المتكتلين، كان من الأنسب والأسلم طرح مفهومنا النظري والبرنامجي بوضوح، وتبني ميراثنا مع كل من يبدي تحليه بالعقيدة السامية الراسخة والوعي المميز؛ وبالتالي إعطاء الشكل الجديد لجوهرنا بموجب ذلك.
الكل يعلم امتلاك ميراثنا أعضاء كادريين قادرين على تغذية الحزب وتقويته مرات عديدة، كماً ونوعاً. وعقدنا آمالنا عليهم في أن يلموا شملهم ويجتمعوا طواعية للتوجه نحو مهمة بناء حزب مفعم بالحرية المطلقة في الفكر والإرادة. وبمجموعة مؤلفة من اثني عشر فرداً، سعينا لتأسيس اللجنة التحضيرية لعملية إعادة البناء وخطو خطوة أخرى إلى الأمام. إن المشكلة ليست من النوع الذي يحل بالترفيعات السريعة، أو بتكرار ما عُمل سابقاً. بل يجب الاعتماد أساساً على العمل بالكادر المؤهل لتلافي الماضي وتجنبه، وكسب المستقبل، وإبداء الكفاءة اللازمة لتقييم اللحظة المعاشة، والتحلي بالدراية الكافية دون التذرع بأي نقصان. وبعد مرور هذه الكوادر النوعية من التجارب الكافية بتفوق ومهارة، ستتبين بوضوح إمكانية العمل معهم وبهم كأعضاء أصلاء.
أما فيما يتعلق بالواقعين في تشكيل تكتل أو طرف ما، فيمكن الوصول إلى نتيجة حاسمة بحقهم، بعد القيام بدراسة جذرية بشأنهم، وتقديمهم النقد والنقد الذاتي، وممارستهم النشاطات العملية. يجب الاستيعاب تماماً أنه لا يمكن لمّ الشمل أو التحزب بالحسابات القديمة. فالمقاييس، لا النوايا الحسنة، هي المحدِّدة هنا. ولكن، لا تُقطَع كافة الروابط مع مثل هذه المجموعات، بل سيستمر النشاط معاً تحت راية KONGRA GEL. وبهذا سيبرهن على إحياء الحزب الديمقراطي للديمقراطية داخل صفوفه أولاً.
لا أعتقد بجدوى كثرة العدد أو ضرورتها لأجل التنظيم الكادري. بل أؤمن بكفاية العدد المتراوح بين 300 – 500 فرداً كادرياً مؤهلاً لتسيير البرنامج الخاص بهم، واستنفار طاقات جماهيرهم، وإبداء قوة تمثيلهم بحزبهم في كل الساحات.
من الطبيعي تفضيل التنظيم الكادري الفعال، بدل التنظيم المعتمد على الهيكليات والشمائيات الميكانيكية. ويمكن القيام بالترفيع والتعيين لتأدية المهام العالقة بنجاح، لا لإشغار المهام والساحات. فالمقاييس هنا، هي المهمة العالقة والكوادر الأكفاء القادرون على تأديتها بتفوق. تؤسس اللجان والممثليات حسب الحاجة. فإن تطلب الأمر تؤسس واحدة فقط، أو إن تطلب تؤسس دزينة منها. لكن، ولضرورة الجماعية كميزة أساسية، يفضل دائماً التمثيل المزدوج. الفعاليات التي ذكرناها أنسب من تأسيس الهيئة المركزية أو المكتب السياسي أو تنظيمات الجناح الكلاسيكية. وعوضاً عن التركيز على مسائل الشكل، يتحتم تفضيل الحلول الملائمة للجوهر. ومثلما يُرى في تقديم الاقتراحات الذاتية من قِبَل مَن يجدون في ذاتهم القدرة على الحل أمراً مناسباً، فبالمقدور أيضاً تكليف المهام بالتعيين، ولكن دون إرغام.
يمكن تكليف الرفاق بالمهام بما يكفي احتياجات المناطق الضرورية في الأشهر المقبلة. وحتى من السهولة بمكان تنظيم ما يقارب المائة كادر خلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر. ربما تكلفون عدداً أقل أو أكثر. ولكن، يجب اتباع الجماعية والمبادرة الفردية بشكل متداخل. أما التميز بسرعة الوتيرة في نمط النشاطات، وإعادة النظر فيها دائماً للحظي بالنتائج المرتقبة، وإبداء العزيمة اللازمة لذلك؛ فهي خصائص معروفة. فبقدر الحاكمية على النظرية والبرنامج، يجب الاتسام بسرعة الوتيرة وتحديد نمط النضال. والنشاطات الجماهيرية كافة، ووحدات الدفاع، والأنشطة العلنية والسرية في المناطق المعنية؛ جميعها تتطلب نضالاً إبداعياً خاصاً بسبب قائمة "الإرهاب" المعروفة. أما الأسلوب وطراز الحياة، فيجب أن يغدق الحماس، ويكون قوة الجذب للجوار. فالأسلوب المنفر والسيء خطير، بقدر الاستفزاز بأقل تقدير.
بإيجاز، فالتوجه نحو الأعمال والممارسات العملية بسياسة كادرية وتنظيم أصغري بهذا المنوال، هو التصرف الأسلم. وبقدر الطواعية، يتحتم النشاط كقدوة في الانضباط الكامل. نحن نسير على خط ميراث البطولات، وبشعب منتفض يتطلع إلى الحرية بكل عنفوان. وبقدر الحماس في تأدية المهام الجديدة على ضوء الخبرات العظمى والممارسات العملية المحللة جيداً، يُشتَرَط التحلي بمواقف لا تطيق الفشل، وتسعى للإنتاج والعطاء والاستمرار. المقياس الأسلم هنا لنجاح المهام، هو كشف الجوهر الحقيقي للشخصية بقدر الوعود المعطاة.
يُعنى النظام الداخلي بكل مشكلة تمت بِصِلة بالتنظيم النواة للحزب. أما الهيكلية العامة، فمعروفة. حيث يمكن أن تحتوي على عقد المؤتمرات بفترات منتظمة. وفي المؤتمر، يُنتخب الرئيس واللجنة المركزية (أو مجلس الحزب)، التي بدورها تَنتخِب هيئة إدارية ضيقة من بينها، والسكرتارية العامة ونوابها، والهيئات المركزية. ونحو الأسفل تتواجد الهيئات المشاعية المنظمة المنطقية المحلية ووحداتها السفلى، وأجنحة التنظيمات الجماهيرية، والتنظيمات الإقليمية (seksiyon) (لأجل الأجزاء أو الأوطان). إنني لست في حالة تخولني لإبداء تقييم يؤيد أو يناهض هذا النموذج. ولكنه طالما كان طريقاً متبعاً في الطراز الدولتي قديماً، بحيث بسطت الدولة نفوذها عبره أكثر، ولم تقم بتفعيل جانبه الديمقراطي. وقد شاهدنا ذلك من خلال التجارب المعاشة. لا يمكننا الزعم بأن هذا النموذج سيسفر عن هذه النتائج بالتأكيد. إذ يمكنه أن يؤدي – وبكل سهولة – إلى الديمقراطية، في حال لم يُنظَر إلى النظام الداخلي كوسيلة مستقلة بذاتها، بل اعتُبِر آلية وسيطة في إدراج البرنامج حيز التنفيذ. المهم هنا هو ماهية النظرية والبرنامج. وهذه الأمور تعد خصائص متعلقة بجوهر الكوادر. فالنظرية والبرنامج والكادر والنظام الداخلي والآلية، كلها مسائل متكاملة.
قد يتطلب الأمر تنظيماً إقليمياً (seksiyon) لأجل كل جزء من كردستان. فحزب كل جزء منها، يجب ألا يكون مستقلاً تماماً، ولا تابعاً كلياً للمركز. بل قد يكون النمط الإقليمي نصف التبعي (نصف المستقل) هو الأنسب. أما المؤسسات المركزية، فقد تكون مؤسسة النشر والإعلام، ومؤسسة العلم والفن والأكاديمية، ومؤسسة الحقوق والانضباط، على سبيل المثال لا الحصر. يمكن التفكير بالاتحادات النسائية الخاصة، الاتحاد الشبيبي الديمقراطي، الجمعيات، التعاونيات، مخيمات النازحين والمغتربين، الأعمال الحرة، المزارعين، ورجال الأعمال، وغيرها على شكل تنظيمات جناحية جماهيرية.
يتطلب تواجد الأحكام الأصغر نطاقاً، والجماعية والمبادرة الفردية معاً كآلية سليمة يُعمَل بها في آليات الهيئات واللجان.
يمكن التركيز على أنماط أخرى بخصوص أحكام الآليات الداخلية للنظام الداخلي. حيث أردنا التعبير عن بعض الأفكار كمقترحات، للفت الأنظار إليها، لا غير.
أرى من المهم بمكان التطرق إلى بعض الخاصيات المتعلقة بـPAJK، الذي يتطلب تقرباً أكثر خصوصية في السياسة الكادرية. فأنا على إيمان بضرورة وجود الكوادر النواة لـPAJK. تلعب قضية المرأة دور المفتاح في حل مشاكل الديمقراطية والحرية والمساواة، بل وحتى المشاكل الأيكولوجية، أكثر مما نتصور. وبما أنه من المحال أن نحرر كافة النساء دفعة واحدة، فمن الساطع هنا حتمية تطبيق ذلك أولاً على مجموعة كادرية محدودة. كيف ستقدر الكوادر النواة لـPAJK على تحرير نساء ورجال العالم المثقلين بالمشاكل، ما لم تكن قادرة على تحرير ذاتها! الكل يدرك محاولاتي وجهودي المضنية في سبيل حل هذه المسألة. ويمكنني القول بأني توغلت في تعمقي هذا وأنضجته الآن أكثر.
إننا الآن وجهاً لوجه أمام حقيقة المرأة كأول جنس وطبقة وأمة عبدة على مر التاريخ الحضاري. وما الانحباس في البيوت الخاصة وبيوت الدعارة، سوى أنماط تطبيقية لهذه العبودية. منبع هذا الكبت والقمع اجتماعي، وليس بيولوجياً. فالعلاقات الزوجية تعد مؤسسة مفعَّلة ضد مصلحة المرأة خاصة، ومصلحة المجتمع عموماً، بأنماطها المعهودة في الحضارات. فالزوج صورة مصغرة عن الإمبراطور السياسي، تنعكس على البيت. حيث يلعب دور المستبد الصغير إزاء امرأته دائماً. لا علاقة لهذا الأمر بالنية الشخصية. بل يجب النظر إليه كمعطاة (ثمرة) حضارية.
ربما يكون من الأصح اعتبار ثقافة الأم الأهلية (الأم الربة)، التي قطعت أشواطاً ملحوظة مع الثورة الزراعية، كبداية لحرية المرأة. لهذا السبب اخترتُ ثالوث "الربة – الملاك – أفروديت" كتصور ميثولوجي. إذ لا يمكننا بلوغ عظمة المرأة ومستوى احترامها وجمالها، ما لم نقضِ على تصور الزوجة – البنت البسيطة والساذجة. فالمقاييس الحضارية ذات مصدر رجولي إلهي، يحط من منزلة كافة مقاييس المرأة الربة المقدسة والملاك الجميلة.
رغم قِدم مفهوم "الشرف"، وتجذره وتصلبه وسريان مفعوله فيما بينكم جميعاً، دون تمييز بين رجل وامرأة؛ إلا إن مفهومي بشأن الحياة الجمالية الثورية لا يتوافق إطلاقاً مع ذلك، ولا مع ثقافة الزواج الرائجة.
كنتُ قد عملت على شرح مفهومي حول الأمومة أيضاً. فحسب رأيي، تعد المرأة أكثر يقظة وحساسية من الرجل إزاء الطبيعة. أما الرجل، فهو أشبه بامتداد للمرأة، وليس المركز كما يعتقد. والمعطيات العلمية تشير إلى ذلك. إلا أن الممارسات القمعية والاضطهادية والاستغلالية المفروضة على المرأة، أدت، وبدرجة لا تصدق، إلى مواراة مظهرها الحقيقي، وإظهارها بشكل مغاير تماماً. إن "موضة" الكلام الرجولي المبتَدَعة لأجل المرأة باسم الدين والفلسفة، بل وباسم العلم والفن؛ آلت بهذه المرحلة إلى بروز أساليب وتصريحات وأحاديث لا تصدق. إنه موقف مجحف وسافل، لدرجة فرض على المرأة تقديس ما لا تؤمن به من أمور. لذا، لا يمكن انتظار انضمامي أو مصادقتي على ألعوبة الحضارة هذه، باعتباري ممثل حقيقي للتوازن بين الحرية والقوة. فمثلما أني لم أعجب إطلاقاً بعالم الأرباب الذكور، فأنا أدرك ماهيتهم الداخلية جيداً. يجب معرفة استحالة انضمامي إلى ألوهية هذا العالم يقيناً. هذه المقدسات، التي تتبدى في هيئة ظواهر الدولة والدين والسياسة والفن والعلم، لا تشغل اهتمامي، إلا عند فك رموزها. إلى جانب رؤيتي لقدسية المرأة على أنها ظاهرة عجيبة وجذابة، إلا أنني أدرك تماماً أنها صعبة التحقيق، وتتطلب الشجاعة. مع ذلك، فلا أعتقد بإمكانية العيش، دون الاعتماد في الوقت المتبقي من العمر على حرية المرأة، وعلى القوة القادرة على تحقيقها، لِما تتميز به من سلم وجمال وحساسية ويقظة تستحق العيش لها. وعلى النقيض من ذلك، كنت – ولا أزال – أنفر من الذكورية المعتمدة على عبودية المرأة، وأستغربها منذ نعومة أظافري، ولا يمكنني المصادقة عليها.
ما يتبقى من الأمر ستحدده الظاهرة المسماة بـ"العشق". أظن أن الجميع يدرك الآن رويداً رويداً كيف أفرض العشق على سياستنا الكادرية النسائية. لم يقتصر هذا الموقف على البُعد الجنسي فحسب، بل تعداه في المحاولات المبذولة إلى الأبعاد الثقافية والسياسية، بالتداخل الملتحم مع مصطلحات الحرية والمساواة والعدالة. يستلزم صياغة تعريف لـ"العشق" يتضمن تحرر المرأة من ثقافة العبودية، وتحرر الرجل من الثقافة ذات الطابع الرجولي المهيمن الغالب عليها؛ بحيث يُطبَّق على أرض الواقع بسلوك مواقف حرة وعادلة في الميدان السياسي، وفي ظل التوازن الديمقراطي. إنه موقف يرفض بشدة علاقات الفحوش المتطورة بين الذكورة المهيمنة المشحونة بالسطحية والشهوانية، وبين العبودية الأنثوية. كما ويحتم استيعاب القدسية اللازمة بين الرجل والمرأة، والتي يصعب أن ترى النور في ظل الحضارة الطبقية عموماً، والنظام الرأسمالي على وجه التخصيص. ما نقصده بالقدسية هنا هو قدرة الفهم الكامنة في الحكاية الكونية المعمِّرة طيلة عشرين ملياراً من السنين (حسب المعطيات العلمية الأخيرة)، والتي عَرِفَت ذاتها، واكتَسَبَت معناها من خلال ذكاءَي الإنسان التحليلي والعاطفي؛ بحيث تبعث على الغبطة والنشوة العظمى. إنها الطبيعة التي تعرف ذاتها. تلد المرأة على نحو أدنى إلى هذه الكونية من الرجل. والمعطيات العلمية تشيد بذلك. هذا ما أقصده بكون المرأة مقدسة وإلهية. إذا ما انعكس هذا المعنى – الذي يُشعِرنا بوجوده بين الفينة والفينة في عوالم الفن والسياسة والعلم والثورات الحاصلة – على علاقات المرأة والرجل؛ فبالمستطاع حينها الحديث عن قدسية تلك العلاقات. وهكذا يجب أن تكون. رغم تنبه الأديان لهذه الحقيقة، إلا أن تهميشها للمرأة بسبب كونها – أي الأديان – هويات أيديولوجية ومجتمعية يغلب عليها الطابع الذكوري، قد آل بها إلى إلحاق أضرار جسيمة بقدسية المرأة التي يزعمونها. في حين تتجسد مساعينا في كشف النقاب عن هذه القدسية بين كلا الجنسين، بشكل متوازن وديمقراطي وحر وعادل. سأكف عن الإسهاب في تعريفه هنا، باعتبار أن مكانه ليس بين هذه السطور.
لكن، هل ينسجم نمط العلاقة المهيمن في يومنا مع هذا التعريف؟ وعلى العكس من ذلك، ألا يشهد حاضرنا مجازر المرأة – علاقةً وبدناً – بالأدوات القاتلة المسلطة عليها كفأس روما، بل – والأنكى من ذلك – بألفاظ الحب الزائفة؟ ألا يُطبق نمط الرجل الخنزيري؟ ربما تتصدر العلاقة بين الجنسين، والتي يُسعى لإضفاء المشروعية عليها في يومنا، قائمة أشكال العبودية الأكثر تقنُّعاً وقذارة.
يجب تناول الاصطلاحات المنسجمة مع تعاريف الإلهة والملاك وأفروديت (كلمة الجِنِّيَّة مشتقة من أفروديت)، التي تكوِّن بذرة PAJK المؤلَّف مما يقارب 300 عضواً؛ على ضوء المعنى المذكور آنفاً. الإلهة تعني المرأة المدركة لكونيتها، والمحتلة مكانها برسوخ في توازن القوى الديمقراطية، والمميزة بالحرية والمساواة في علاقاتها الاجتماعية. جلي تماماً أن الرجل إزاء هذه المرأة، لن يتجرأ على استهلاكها كزوجة أو فرض هيمنته عليها. بل سيكتفي فقط بإبداء حبه وتقديره لها، دون أن ينتظر منها الحب أو الاحترام بالإكراه. فما بالك بأمله في إقامة العلاقة الجنسية معها! أما إذا أصبح حراً عادلاً متسماً بقوة التوازن الديمقراطي، فحينها بإمكانه انتظار الحب والتقدير من المرأة المتميزة بمقاييس مشابهة. يجب فهم ذلك كمبدأ أخلاقي أولي لدينا. وربما تتطور الظاهرة المسماة بالعشق، إذا ما تم الامتثال له. وهذا بدوره حَدَث يتطور مع تصاعد بسالة النضال في سبيل الديمقراطية والحرية والمساواة. كل موقف عدا ذلك هو مجرد خيانة. وإذا ما حصلت خيانة العشق، لا يمكن تحقيق النصر والإبداع أبداً. العشق الحقيقي ممكن في صفوف PKK، شرط وجود البسالة والشجاعة المثبتة لوجودها بإحراز النصر والظفر.
لكن، بماذا نسمي هروب الجنسين معاً بأعداد عديدة؟ لا شك أنه يمكننا نعتها بأنها برهان قاطع على هوية الكردي الفاني. فوضع العديد من رفاقنا، الذين بلغوا سن الأربعين أو الخمسين، ولم يدخلوا العلاقات المتضمنة للعبودية البسيطة من جانب، ولا أصبحوا أصحاب فكر وعمل في نهج العشق من جانب آخر؛ إنما هو مأساة مؤلمة. بل إنها تراجيكوميديا. فبعضهم أصبحوا كالمجانين، وبعضهم الآخر يُشبِعون نزواتهم بمجرد التقائهم بالجنس الآخر، والبعض الثالث يرون في مناماتهم...، بينما بعضهم فرضوا الزواج كموضوع سياسي. والبعض احتجوا موضوعياً على تأدية كافة مهامهم الثورية، بسبب الحظر الموضوع على غرائزهم. باختصار شديد، لقد فرضوا آمالهم في النظام السائد. إنني أفهم هؤلاء الرفاق. لكننا – نساء ورجالاً – عاهدنا بعضنا على الحرية والمساواة لدى مرورنا بأشد امتحانات الحياة التهاباً وحِدَّة. وأقسمنا على أن هذا العهد لن يتحقق، إلا في ظل وطن حر ومجتمع ديمقراطي. لا يمكنكم إنكار بذلي كل طاقاتي في سبيل الارتباط والتشبث بعهدنا وعزيمتنا تلك.
بمقدوري تقديم النصح بصراع العشق ضمن هذه التعاريف. يجب الثقة بعدالة المرأة. فالرجال يشككون عموماً بالمرأة على أنها تتحول إلى كائن منفتح لكل أنواع السيئات في حال تركها لوحدها. ساطع للعيان أن المتواري وراء هذا التشكيك هو القمع والظلم الممتد على مر آلاف السنين. بينما أدافع أنا في قناعتي عن نقيض مفهوم الرجولة المهيمنة ذاك. فالعدالة والحرية والمساواة تطورات ظاهراتية، تبرز بكثرة في طبيعة المرأة. بل والأصح من ذلك هو أن فحوى مجتمعية المرأة يرتكز إلى دعامة العدالة والحرية والمساواة. كما وأنها سلمية إلى أقصى حد. وتدرك تماماً أن حياة ذات معنى، لا يمكن أن تتطور، إلا بوجود هذه المصطلحات الأولية. علاوة على أنها سامية ونبيهة في مصطلح الجمال. ومسألة فرضها القمع واللامساواة في تفضيلاتها واختياراتها، تُناقِضُ طبيعتها وطراز مجتمعيتها. يرتبط مدى فهم كافة هذه الخاصيات بإمكانيات الحركة الحرة لدى المرأة. فكلما تحركت المرأة بحرية، كلما تمكنت من تطوير اختياراتها الجميلة والعادلة والمتساوية. من هنا، فإحياء مصطلحات الجمال والعدالة والمساواة في المجتمع، يمتُّ بصلة وطيدة بتحرير المرأة، ويمر منه.
على الرجل أن يعرف أن الرجولة الحقة الواثقة من ذاتها تحتّم تقديم المساعدة والمؤازرة والتضحية العظمى – لا زرع العراقيل – في سبيل تحرر المرأة بالنحو الذي ذكرناه. عليه أن يولي الأهمية للقول: "إنها المرأة التي يجب أن تتحرر"، عوضاً عن القول: "إنها امرأتي". وفي حالة كهذه، يمكن تحديد شروط ظاهرة العشق:
أولاً: الشرط الأساسي هو تكافؤ المرأة والرجل في القدرة على الحرية والمساواة، كي تتمكن من استخدام حقها في الاختيار والانتخاب بصورة كاملة. وهذا ما يتطلب بدوره شرطاً آخر يتمثل في تأمين الدمقرطة التامة داخل المجتمع. ثانياً: يستلزم تخطي مقاييس الهيمنة والحاكمية، التي اكتسبها الرجل على مر آلاف السنين بما يناهض مصلحة المرأة، وتجاوزها سواء في ذاته أو في المجتمع الحاكم؛ وبالتالي قبوله بلوغ القوة تماشياً مع المرأة. ساطع بجلاء أن نضال الحرية والمساواة الديمقراطي، الذي سيُخاض في سبيل تجسيد هذه الشروط وتلبيتها، سيقرِّب الفرد من ظاهرة العشق أكثر. هذا بدوره يمر أولاً من إنكار ظواهر العشق الناشئة في أحضان النظام السائد.
لا تجد البسالة الحقة معناها إلا ضمن هذه التعاريف. وأمثال أولئك يحترم المرء اهتمامهم بالعشق وميولهم إليه. وفتياتنا وفتياننا الذين رموا بأنفسهم في النار ببسالة، هم في الوقت نفسه إنذار لنا إزاء خيانة العشق. إنهم بالنسبة لوطننا وشعبنا يمثلون مبادئ الالتزام بقواعد العشق المقدسة من جهة، ومنفِّذوها ودُعاتها الأشاوس الحقيقيون من جهة ثانية. وما علينا نحن، إلا إبداء قوة تقدير هؤلاء الشجعان كأقل تقدير. أعرف أن هذه المعايير عصيبة للغاية. ولكن، هل من شيء أصعب من الاحتراق بألسنة النار الملتهبة! العشق هو حقيقتنا المذهلة والخارقة المحفِّزة على الحرب. وقد يظهر داخل PAJK من يود تمثيل ذلك. وأنا أقوم بهذه الدراسات لأنني رأيت تلك الأمارات. فعلى الأقل، يجب ألا نزرع القلاقل على درب انطلاقات كهذه، أو أمام من يطمحون لأن يكونوا أصحاب حياة عظيمة. فليتناقشن بصدد ذواتهن، وليتدربن، وليقفزن من التاريخ اللعين إلى تاريخ الحرية. وليطوِّرن قواعد الحياة المفعمة بالعشق والود والاحترام. وليقررن كل أشكال تنظيماتهن وممارساتهن العملية. وليؤسسن نظامهن، بدءاً من مؤتمراتهن وحتى اجتماعاتهن اليومية. وليبلغن قوة العشق الحقيقية. فهل ثمة أثمن من ذلك؟ وPAJK، الذي يتحلى بهذه القوة، ما من مشكلة إلا ويحلها، وما من مهمة إلا ويؤديها.
قد يقول الكثيرون، بما فيهم من في صفوفنا، "يستحيل إحياء مفاهيم كهذه في العشق ضمن واقع الكرد وكردستان". عليَّ هنا أن أوضح أن هذا لا يليق بتاريخ شعبنا. فتقاليدنا الملحمية على انسجام تام مع تعريفاتي. فملاحم ممي آلان وممو زين ودرويش عبدي المعاشة بالقرب منا في أيالة بوطان وجبل سبحان وجبل سنجار؛ إنما هي أقرب إلى الألوهية.
قد يصعب حضرنة ملاحم العشق. بيد أني ورفاقي الشهداء أدينا ببسالة خدماتنا الجليلة على درب العشق. وإذا لم يفهم من يزعمون رغبتهم في العشق فحوى وقيمة هذه الجهود، فإما أنهم عميان أو فسادون أو سفلة وخونة. ماذا يُنتَظَر منا بعد لأجل العشق؟
أنتَ لن تهرع نحو الحظي بالنجاح في المهام الثورية، ثم تقول: أود إقامة علاقة! ساطع سطوع الشمس أنه تقرب خالٍ من الحياء والعار. فالعشق في كردستان لا يشبه ما يُعاش في أفلام هوليود ويشيل جام. بل يتطلب آلهةَ وإلهاتِ النصر بقدر الحكمة. حتى الطيور تبني أعشاشها في الأماكن التي لم تمسها يد الإنسان. فهل ممكن أن يعشعش العشق في الأماكن والأفئدة المحتلة حتى حلوقها؟ كل قوة بجوارك تلجأ إليها تعمل الشيء الفلاني بالعشاق. لقد بيَّنَت تجربتي التي خضتُها أنه من المحال محاولة العيش مع امرأة تابعة للنظام السائد دون خيانة المهام الثورية. قد تحصل زيجات بسيطة في صفوفنا، وأنا أراها علاقة عبودية تهدف إلى مواصلة الوجود الجسدي، لا غير. وشرط عدم نعتي أولئك الرفاق بالخيانة، هو بلوغهم إنجازات النجاح في المهام الثورية. وإلا، ففي حال استغلالهم مهامهم الثورية في خدمة علاقاتهم، فلن ينم ذلك سوى عن الخيانة. والتاريخ الكردي غرق في مستنقع الخيانة بنسبة كبيرة، عبر نمط علاقات كهذه.
الانتقاد الآخر هو: الزيجة البسيطة التي تحصل مقابل ضياع العشق. وأنا لا زلت أجنح إلى خوض صراع العشق، الذي لا حدود له ولا عمر محدد. ومثلما نوهتُ سابقاً، كل من يُسقِط العشق إلى منزلة الشهوة الجنسية، فهو يخونه. العشق في ظروفنا النضالية يعني التحلي بالأمل، الحماس، الإرادة، قوة الإدراك، الطموح إلى الجمال، الجرأة، التضحية، والإيمان المشرِّف اللامحدود اللازم في الحرب والسلم؛ كشرط أساسي لإحراز النجاح في المهام. وصراع الوطنية والحرية والسلام المشرف، الذي هو صراع العشق بعينه، سيجد قوته اللازمة لإحراز الظفر ضمن حقيقة PKK، وسيُخلَق الرجل المتحرر من خلال المرأة المتحررة.
ب) ما يلزمنا في تنظيمنا إلى جانب الحزب، وربما بشكل يضاهيه أهمية، هو مؤسسة KOMA GEL، أي "مؤتمر الشعب"، الذي يتطلب تعريفاً خاصاً به ضمن واقع كردستان الملموس، كسقف تنظيمي أساسي للشعب. وإذا عملنا على تعريفه بجوانبه المتعددة، فإن "مؤتمر الشعب"، وقبل كل شيء، يتميز بمعنى مغاير لحقيقة الحزب. فبينما يغلب الطابع الأيديولوجي على الأحزاب، يرجح الجانب السياسي في هذا المؤتمر. إنه تعبير عن هوية الشعب اليقظ، والمطالب بحقوقه، والسائر على درب الحرية. إنه جهاز تشريعي وتنفيذي مشترك، لكل من ينادي ويطالب بالحرية للوطن والديمقراطية للشعب، أياً كانت أيديولوجيته أو طبقته أو جنسيته أو قوميته أو أفكاره أو عقيدته. وهو ليس ببرلمان. هذا إلى جانب أنه ليس جهازاً يشرِّع القوانين الكلاسيكية. بل يمثل قوة القرار والمراقبة (السلطة التشريعية والتنفيذية) بصدد كل شيء، في سبيل نعيم الشعب بحياة مغدقة بالحرية والمساواة. وهو جهاز قانوني وسياسي في آن معاً. وهو سلطة الشعب العليا غير المتمحورة حول الدولة. وإلى جانب كونه ليس جهاز دولة، فهو أيضاً ليس ببديل لها. بل يتصدر كل المؤسسات العاملة بالمقاييس الديمقرطية في حل كافة القضايا الاجتماعية في عصرنا. وعوضاً عن أن يكون قوة الدولة في الحل، فهو مكلف بِسَنِّ القرارات اللازمة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والأيكولوجية والإعلامية وساحة الدفاع الذاتي؛ والمثقلة كلها بالمشاكل التي صعَّدتها الدولة؛ وتنفيذها ومراقبتها. "مؤتمر الشعب" هو السلطة العليا الناطقة باسم الشعب على الصعيدين الداخلي والخارجي.
يجب الإلمام التام بالظروف التاريخية والسياسية المؤلِّدة لمؤتمر الشعب في كردستان. فينما يتطلب وهن القوموية البورجوازية وبنيتها اللاديمقراطية تأسيس أداة إدارية بنمط المؤتمر لأجل الشعب، فإن وجود الدول القمعية القومية غير الحذرة تجاه الديمقراطية، يتطلب بدوره مؤسسة شبيهة بالأولى. لا وجود لدولة الشعب. ولكن وجود مؤتمر الشعب كجهاز تشريعي ديمقراطي شرط أولي. بشكل أفصح: بما أن الدولة المللية لا يمكن أن تكون أداة حل للشعب في سبيل حل القضية الوطنية في كردستان، فما يتبقى هو نظام المؤتمر كأداة حل مثلى. وبما أن الشعب لن يقبل بعد الآن بحياة العبودية القديمة تحت أي شرط كان، وأن تطلعات الدولة القومية محمَّلة بخطر تجذير العقم واللاحل؛ فأفضل وسيلة متبقية لأجل الحل الديمقراطي هي مؤتمر الشعب.
التساؤل الهام الواجب طرحه هنا هو: هل يمكن أن تجتمع الدولة القومية وديمقرطية الشعب معاً؟ كثيراً ما نشاهد أمثلة تدل على إمكانية ذلك في العديد من بلدان أوروبا والبنية الفيدرالية في أمريكا. ورغم أن الدولة القومية البورجوازية هناك تحد من نطاق حدود الديمقراطية بشكل مفرط، إلا أنه – مع ذلك – تبقى ثمة مساحة ديمقراطية هامة للشعب. أما الدول المهيمنة على كردستان، وفي مقدمتها تركيا، فهي لا تتيح المجال القانوني كثيراً لإدارة الشعب الديمقراطية، وذلك بدافع من بناها الأحادية المركزية المفرطة. فالتهميش هو السياسة الداخلية الأساسية المتبعة. وهذا ما يتمخض بدوره عن التمردات والممارسات القمعية الدائمة. الهدف من حل العقدة الكأداء المتكونة، هو تطوير سلطة مؤتمر الشعب وقوته التشريعية. إذ لا مناص من تأسيس الشعب مؤسساته الديمقراطية خارج نطاق الدولة، وتطويرها باستمرار، إلى أن تقبل الدول المهيمنة بالوفاق الديمقراطي. كما أن عدم التوجه صوب النزعة القوموية أو بناء دولة منافِسة، لا يتطلب الخضوع للوضع القائم كما هو عليه. بل على النقيض من ذلك، فهو يتطلب التطوير الدائم للمجتمع المدني والوسائل الديمقراطية، بغرض إعاقة النزاعات والتناحرات القوموية. أما ترك المشاكل المتعاظمة في المجتمعات لرحمة الدول المؤسَّسة قديماً، أو المراد تأسيسها حديثاً؛ فسيسفر عن تفاقمها أكثر فأكثر. وبما أنه ليس من السهل بناء دولة جديدة، وحتى إذا بُنِيَت فلن تقدر على حل المشاكل، هذا إلى جانب افتقار الدولة القديمة القدرة والكفاءة في الحل؛ فوسيلة الحل الأساسية، التي يجب اللجوء إليها، هي مؤتمر الشعب كديمقراطية ليست بدولة. نود أن نذكِّر هنا بأنه بُنِيَت اثنان وعشرون دولة عربية، لكن مشاكلها تفاقمت أكثر. وأُسِّست في أفريقيا ما يقارب الخمسين دولة، لكن مشاكلها أصبحت أعظم مما كانت عليه قديماً. والمشاكل التي أفرزتها الدول القومية في أوروبا، لا يمكن حلها إلا بوساطة الاتحاد الأوروبي. بينما الولايات المتحدة الأمريكية تعبر عن اتحاد اثنين وخمسين دولة ولاياتية. أي أن تعددية الدول تزيد من المشاكل، أكثر من أن تحلها.
لقد طورت الدول التقدمية هذا الموديل بعد تجارب طويلة من الصراعات والنزاعات. في حين لا تزال الدول الأخرى بعيدة عن تفهم هذا الحل، حيث تعتبره دوماً تنازلاً عن الدولة الأحادية المركزية. فالبقاء كدولة مركزية أحادية قومية حتى التآكل والاهتراء، يعد بالنسبة لها دليلاً على ارتباطها المقدس بوطنيتها ودولتها! نرى أن هذه المفاهيم السائدة في يوغسلافيا والعراق، وحتى في جزيرة قبرص الصغرى، تمخضت عن نتائج غير متوقعة في نهاية المآل. كما تعد جمهورية تركيا بعيدة عن إدراك آلية الديمقراطيات، حيث تراها منافِسة لها على الدوام. ومقابل كون الكرد أعضاء أصليين في تأسيسها، فهي تؤمن بالخلاص من عبء المشكلة الكردية بإنكارها، فلا تود فهم دور الكرد الاستراتيجي تاريخياً وحاضراً، ولا تدنو من استيعابه قط؛ بل تعاند في فرض نموذج يوغسلافي أو عراقي ثانٍ، بثقتها المفرطة بقوتها العسكرية وبعظمة وطنها. بيد أنها لو قاست المسألة بما فعلته إيرلندا الصغيرة الحجم بإنكلترا، وما فعلته الشيشان بروسيا؛ فستستوعب دور الكرد على نحو أفضل. ولو وضعت نصب عينيها الثمن الباهظ المدفوع، حصيلة سلوك السبل العسكرية، رغم عدم قدرتها على إيجاد حل دائمي للمشاكل؛ ستدرك حينها مدى أهمية إيجاد الحلول اللازمة. بماذا نفع تَرْكُ قبرص تتخبط في العقم أربعين سنة؟ إن الخسائر المتكبدة فيها جسيمة، لدرجة يستحيل إحصاؤها.
يجب إبراز دور الكرد وكردستان الاستراتيجي لدولة تركيا ومجتمعها بأسطع الأشكال وأكثرها لفتاً للأنظار، أثناء التوجه نحو الحل المتمثل في بناء المؤتمر. فوضعية كردستان الفاعلة بشكل مضاد لمصلحة تركيا، إنما تشكل مشكلة دائمية، وتدهوراً اقتصادياً، وتهديداً سياسياً وعسكرياً لها. وقد جُزِمَ باستمرارية تأثير "الدولة الكردية الفيدرالية" القوموية العشائرية في جنوب كردستان، بعد تأسيسها. بالتالي، فقد بلغت الوضعية الحالية لكردستان مستوى منجباً للمشاكل المناهضة لمصلحة الجمهورية التركية بسرعة ملحوظة. وإذا لم تُدرَج الحلول الديمقراطية حيز التنفيذ، فستصبح الحركات القوموية أمراً لا مناص منه. وهذا ما معناه معاناة صراع جديد شبيه بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، طيلة خمسة عقود أُخَر. ومثلما حصل في العراق منذ أمد طويل، فالخطر الذي واجهته تركيا إزاء التجربة الأولى لـPKK، والذي لم يكن بالهيِّن، ستشهده هذه المرة بأضعاف مضاعفة من الضراوة المنتشرة على أرض الواقع، وباستعدادات وتخطيطات أشمل. قد تكون الدولة واثقة بسياستها القمعية الساحقة التقليدية. ولكن ما يحمله "مشروع الشرق الأوسط الكبير" في أحشائه، لم يُجزَم تماماً بعد. فهو منفتح لكل المهالك. وتأليب دور الكرد الاستراتيجي على تركيا، سينمُّ عن نتائج مصيرية للغاية. ستُطرَح العديد من الجدالات والمطاليب الجديدة على جدول أعمال تركيا. وإذا ما وُضِع نصب العين عقم تكتيكات السحق والتركيد (التنويم) السريعة سابقاً ومستقبلاً، فسيسطع سطوع النهار مدى خطورة تأجيج النار والتهابها ثانية، سواء على المدى الطويل أو القصير.
على الأتراك ألا يغفلوا عن شروع كل دولة وقوة، وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل، بالاستفادة من دور الكرد الاستراتيجي من الآن فصاعداً. فالشعور بالراحة والطمأنينة، بمجرد حث العالم على قبول إرهابية PKK، ليس إلا خداعاً للذات. وعلى النقيض، فهذا ما يفتح عيون العالم ويوقظها، لتُبرِز مطاليبها إزاء تركيا. وهل قُدِّم القليل من التنازلات السياسية والاقتصادية لهذا الغرض؟ لكن خطأ هذا الطريق أمر واضح. هذا علاوة على أن الكرد لم يستحقوا إطلاقاً معاملة كهذه. والأنكى من ذلك، أن الأتراك سيقومون بإضافات جديدة عما قريب إلى الدولة الفيدرالية المهداة للقوى العشائرية الكردية في الجنوب، مقابل محاربتهم ومناهضتهم لحركة الحرية التي يترأسها PKK. هذا ولم تكتفِ في الشمال بتفعيل ما يقارب مائة ألف مرتزقة مأجورين كي لا يوالي الكردُ حزبَ PKK. بل ومَنَحَت زعماءَ الطرائقية القوموية البدائية والرجعية حيزاً لا يستهان به في أجهزة الدولة. هذه القوى هي التي ستعمل على خلق عراقٍ ثانٍ. من جانب آخر، فهذا السلوك يتناقض مع كافة مبادئ الجمهورياتية والديمقراطية. وإذا لم تنفجر كردستان ذات الاقتصاد المشلول في وجه كل هذه المستجدات، فماذا عساها فاعلة إذن؟
لقد بذلنا جهودنا في فترة إمرالي لتخطي هذه الضغوطات الجوفاء، رغم جهلي بمدى استيعاب ذلك. فحكومة AKP الجديدة تُرجئ القضية، بتوخي الصمت الذي لم تلجأ إليه أية حكومة قبلها، وتسوق قوة الطريقة النقشبندية إلى الدولة لترسخها فيها، ظناً منها أنها بهذه الشاكلة ستقيم سداً منيعاً في وجه القضية الكردية. وقدمت لها كل ما بوسع دولة تقديمه من مساعدات في الانتخابات الأخيرة، بغرض التحفيز على التصويت لها. إنه خطأ استراتيجي فادح، لدرجةٍ لن يطيق فاعلوه دفع ثمن النتائج الوخيمة التي ستتمخض عنه قريباً.
لقد زُرِعت قلاقل جسيمة – من الواضح تماماً أنها بيد الدولة – أمام درب البحث عن حل ديمقراطي مشترك في تركيا. حيث نُصِبت العراقيل الداخلية والخارجية على السواء أمام "اتحاد القوى الديمقراطية". واعتُبِر تهميش الديمقراطيين الكرد من دواعي الأمن القومي. كل ذلك خطأ لا يفيد سوى بالإصرار على الوضع القائم واللاحل، ظناً منهم بعدم قدرة الشعب الكردي على خط مساره بيده من جهة، وأملاً في تحقيق استسلامه كلياً، تحت ضغط المجاعة والاضطهاد من جهة ثانية. فالقوى الديبلوماسية وقوى الأمن الداخلي لا تزال تمارس سياساتها الاجتماعية المكثفة، بالتعاون مع شقيقاتها السياسية والاقتصادية، لهذا الغرض بالذات. جميعها تعمل وفق استراتيجية واحدة فقط، تهدف إلى البلوغ بالشعب إلى مفترق ثنائية الاستسلام أو الموت. وقد قامت حكومة AKP بدورها بإلحاق القوى الدينية والطرائقية بها لنفس الغرض. تشِيد المرحلة التي وصلناها اليوم بالإصرار على الممارسات الاستفزازية والعقيمة على السواء، ضاربة بذلك كل النداءات لأجل "السلام والحل الديمقراطي" عرض الحائط، وغاضةً طرْفها عن هذا الموقف، الذي لا يمكن انتظاره من أية حركة مشابهة أخرى، والمفعم بالنجاح لكافة الأطراف المعنية. فمثلاً، لم تُبْدِ أية محاولات، كتلك التي بذلتها بلا كلل أو ملل بجولاتها المكوكية بخصوص المسألة القبرصية الصغيرة الحجم، بل تجاهلتها بعناد وكأنها لم تكن. وعقدت آمالها على انشقاق PKK، وعلى القوات الأمريكية المتواجدة في العراق. لكن، في حال عدم ولوج الحل الديمقراطي المشترك حيز التنفيذ، فسيكون الحل البديل المدرَج – بأحسن أحواله – تطوير الديمقراطية الذاتية اعتماداً على القوى الذاتية. أي، الحل المتجسد في بناء المؤتمر من الآن فصاعداً.
على الشعب الكردستاني أن يستنفر كل طاقاته في كافة أرجاء الوطن وخارجه، في سبيل حل المؤتمر ذلك. وضمن الإطار المعرَّف، يتوجب على KONGRA GEL عقد مؤتمره الطارئ تجاه المجموعة التكتلية البارزة مؤخراً؛ بحيث يقيِّم المؤتمر المستجدات الداخلية والخارجية بشمولية، ويتخذ القرارات اللازمة بشأن الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والأيكولوجية والإعلامية والدفاع المشروع. وسيُكلَّف المجلس الرئاسي التنفيذي بالمهام. فانتظار حدوث الانقسام والانشقاق مجرد وهم أجوف.
سيبذل الشعب كل طاقاته في كافة أجزاء كردستان لأجل حل المؤتمر. وستقدم الإدارات الديمقراطية المحلية كل ما بوسعها، بدلاً من البرلمانات الوطنية المغلقة (بسبب سقف الانتخابات) والأحزاب السياسية المحظورة.
ستُنتَخَب الوحدات الإدارية الذاتية في كل قرية ومحلة لتكون هي المسؤولة.
سيتم تنوير كافة مجالات حياة الشعب بالحلول الديمقراطية. وستتبدى سبل الحل الطويلة الأمد. ستُطبَّق قوة المؤتمر التشريعية على أرض الواقع في ظل الظروف والإمكانات المناسبة. وسيُسيَّر التعليم الذاتي للشعب قدر المستطاع. لن يُترَك الشعب للشحاذة من الدولة. ولن يُتاح المجال لألاعيب اصطياد الشعب الموجود ضمن حدود المجاعة. سيدافع عن نفسه في حال تعرض حقوق الإنسان والحريات الثقافية لديه للانتهاك. وسيوضع الحد لإفراغ قرى جديدة من ساكنيها، وستُفتَح القديمة منها للسكن والمكوث مجدداً. وبكل أنواع التعاضد والتكاتف، سيوضع الحد للمجاعة. ستُطوَّر التنظيمات الجديدة على جميع الأصعدة. وسيتم التوجه صوب تنظيم المجتمع المدني على نطاق واسع. وستعمل مدارس التعليم الديمقراطي على تعبئة الشعب فيما يخص ديمقراطياته في كافة أماكن تواجده.
يجب أن يكون حل المؤتمر مستعداً للحل الديمقراطي مع كل دولة معنية بكل عناد وعزيمة، بغرض الخيارات الديمقراطية المتضمنة للسلام والأخوة، والرافضة للانفصال والعنف؛ عوضاً عن سياسات القمع القومي والإنكار القائمة. وسيُظهِر قدرته على الدفاع عن ذاته إزاء أي هجوم محتمل. كل هذه المساعي تفيد بتأمين وتعزيز التكامل الحقيقي، لا الانفصالية. هذا ويجب التطرق بلا كلل أو ملل إلى أن هذا هو السبيل المفعم بالمسؤولية العليا لسد الطريق أمام مآسي جديدة. كلما جهدت الدولة لسحق مثل هذه المساعي، فستُقابَل بتمتين الصفوف أكثر، والرد عليها بموجب ذلك. حيث سيُصعِّد الشعب من عملياته الديمقراطية الأكثر تنظيماً ووعياً، بما لا يقارَن بأي وقت مضى، ضمن هذه الأجواء التي لا تطاق. وبقدر أهمية عدم السقوط في محاولات قوموية تآمرية، فإنه لن يثبط من همته في نشاطاته المختلفة، وعلى جميع الأصعدة، الاجتماعية منها والسياسية والقانونية والفنية والإعلامية، وفي ميدان الدفاع المشروع أيضاً. بينما نحدد الخطوط العريضة للمرحلة الجديدة المسماة بحل المؤتمر على هذه الشاكلة، فإننا نرى في دعوة الجميع لتوخي الحذر واليقظة الأكبر بشأن الحل، والمساهمة فيه بفعالية قبل ولادة مآسي جديدة؛ مهمة تاريخية مصيرية.
إلى جانب هذه المعالجة المختزلة لتعريف مؤتمر الشعب وكيفية تطوره، يستلزم التمحيص في بعض المواضيع بتفاصيل أدق.
تتعلق النقطة الأولى بالنزاع الداخلي على السطلة، إثر الاجتماع الأول لـKONGRA GEL. تدل هذه السلوكيات المتبدية أثناء مرورنا بتطورات وتحولات نظرية وسياسية وعملية عظمى في سبيل الحل الديمقراطي، وبنحو أكثر شمولية؛ على عدم استيعاب التسيُّس – أو تركه جانباً وإهماله بكل جرأة – سواء بمعناه السياسي الديمقراطي، أو داخل صفوف PKK عموماً. كنتُ نوَّهتُ سابقاً لحاجة مثل هذا النمط من المواقف المتبعة إزاء الخبرة السياسية الممتدة على طول ربع قرن من العمر، إلى التحليلات المكثفة، وإلى سلاح النقد والنقد الذاتي. إنه يُظهِر مدى قوة المواقف الفوضوية، التي لا تأبه بالقواعد، ولا تهتم بالشروط القائمة، ولا تجزم بما ستفرزه، وما ستتسبب به لاحقاً؛ في حين أنها مضموناً لم تتسيس بعد، هاوية غرة، ومع ذلك لم تتجاوز الأحباب جاويشية (العلاقات المحلية) في أحداث السلطة. كما أنها تعكس خصائص الشخصية المنجرَّة وراء القوالب الأيديولوجية، أو وراء النزوات والأطماع الزهيدة البخسة، عوضاً عن إحراز النجاح في المهام.
لستُ غريباً عن هذه المواقف، التي يمكن رؤيتها كامتداد للتصرفات والسلوكيات التي فرضتها علينا الشخصيات، منذ بدايات تكوين المجموعة الأولى وحتى إعلان الحزب PKK، والتي أبدت مواقف كيفية لأبعد الحدود، أثناء قفزة 15 آب المجيدة. إنها لم تعلل أسباب ذلك حتى اليوم، ولم تتحمل عبء المسؤولية الحقيقية، طيلة مرحلة الحرب المستمرة خلال خمسة عشر عاماً؛ بل ناءت عنها على الدوام. أما خطئي أنا، فيتمثل في تفضيلي للتقرب الرفاقي لأقصى حد من حقيقة المؤسسات والقواعد الموجودة، وذلك بذريعة "إنقاذ الشخص" عن قناعة، وانطلاقاً من إيماني بأنه "ستصلح أمورهم، وسيكتسبون الخبرات، ويَعْدِلون عن تصرفاتهم". المحصلة؛ الوضع الذي وقعتُ فيه.
تقييمي مرة أخرى برؤية خاطئة، خلال فترة مكوثي في إمرالي؛ إنما هو أمر مؤسف ومُحِطٌّ للقدْر والقيمة، بالنسبة لهؤلاء الذين سلكوا هذه المواقف، وأضحوا آلات زهيدة بيد الغير، أكثر مما هو بالنسبة لي. بيد أني كنتُ حذرتهم، وأعطيتهم العديد من الأمثلة عليها. حيث قلت لهم: "ثمة أشياء لا يمكنكم القيام بها، إلا بعد اهتراء جسدي وتفتته. وثمة بعض منها لا يمكنكم عملها، حتى لو كنتُ في القبر. وثمة أشياء أخرى لا يمكنكم فعلها قطعياً، بمجرد أني أستنشق الهواء، وينبض قلبي بالحياة". للجبال تأثيراتها التحريرية والحيوانية في آن واحد. وجليٌّ أن التحريرية منها قُبِلَت على غلط. كنتُ قد حذرت PKK والدول المعنية على السواء، بأن التلاعب معي لن يدرَّ بنفع لأيٍّ كان. ولا تساورني الشكوك إطلاقاً، إزاء هويتي التي تفعل كل ما في وسعها تجاه الحقائق. كنتُ طلبت منهم أن يستوعبوا كوني لست واهناً بائساً عديم الحل، وإنْ بدوتُ كذلك ظاهرياً. وأنه لا يمكن اعتباري مفتقراً تماماً للعزة والكرامة، وإنْ كنتُ لست في أحسن حال. لكني رأيتهم متباهين لدرجة النشوة بطراز حياتهم وواقع حربهم. يتبدى مرة أخرى أن من عليه التحلي بالنضوج والتعقل، كضرورة لا بد منها، هو أنا.
ستواصل حقيقة KONGRA GEL مسيرتها، رغم محاولات الدول خارجياً، والأطراف الموجودة داخلياً، لشل فاعليتها وآليتها. دعك من الدول الآن. على الذين يجعلون أنفسهم طرفاً في المسألة ألا يتناسوا، ولو للحظة واحدة، أنه ثمة شيء واحد فقط يمكنه إنقاذهم من الوضع الذي هم فيه؛ ألا وهو حقيقة إحراز النجاح في مهامهم التي تنتظرهم. فأي عمل، مهما كان ثقيلاً ومهماً، أو بسيطاً وعادياً؛ فهو ضروري للقبول به كمهمة مقدسة يتحتم النجاح فيها. وأنا أتساءل: هل يتسم أولئك الذين مهدوا السبيل لما حصل، بالصدق والشجاعة التي تخولهم لتقدير قيمة نشاطاتنا، ولو ليوم واحد فقط، في سبيل إنقاذ كرامتهم الثورية؟ إني ألتقط أنفاسي هنا بصعوبة من الثقب الذي لا يتعدى سنتيمترين فقط، سعياً للعيش في سبيل القيم التي لا يمكن الاستهانة بها أو استصغارها في سبيل حرب الكرامة والشرف لشعبنا من جهة، وأجهد لعدم تفتيت الوحدة أو تعكير أجواء الطمأنينة والسلم السائدة، وعدم بعثرة إرادتي وبنيتي – ولو بصعوبة، حيث أننا في مواجهة واقع، يقضي على حياة أكثر الناس ثقة بنفسهم بعد ثلاثة أيام فقط – من جهة ثانية. فهل سيبرهن هؤلاء الرفاق، بجهودهم الموفقة والناضجة، على إنقاذ كرامتهم؟
لأجل هذا فكرنا، واقترحنا. وآمنتُ بأن تمأسساً من قبيل KONGRA GELقد يفلح في تحقيق تحديث حقيقي وينقذ كرامتهم. وانتظرت. لا بد لي هنا من التذكير بأن هذا النزاع على السلطة سيجلب معه أسوأ أشكال الموت. فعليهم ألا يفرحوا به كثيراً. أيستطيع الإنسان هدر ولو لحظة واحدة من وقته لـ"الألاعيب البيزنطية" تلك، في حين تنتظره مهام عظيمة ومتراكمة كالجبال؟ علينا ألا نلجأ هنا مرة أخرى إلى تعليل ذلك بمصطلحات من قبيل: غير مُحق، عميل، استفزازي، انقلابي. فحتى لو كان الأمر كذلك، إلا أن هذا السلوك سيشل آلية تقرير مصير الشعب. وهذا غير ممكن. حيث عشتُ بنفسي المئات من أمثال هذه التقربات. لكن، ما الذي أمِلَته الأطراف المعنية في صفوفنا من تلك المواقف، عندما دخلت غمار الحرب، وهي تدرك تماماً أنها ستسبب الخسران، ليس لأجلهم فحسب، بل ولكل شعبنا والجميع؟ وحتى لو ربح طرف فيها، فهل فكروا في كيفية متاجرتهم بهذه المكتسبات الأشنع من الخيانة، وإزاء من؟
الأنكى من كل ذلك هو التجاسر على إدخالي "أنا" في عزلة، ضمن العزلة الشاقة التي أنا فيها! على هذه الهويات أن تعرِّف ذاتها، وتعلل ذلك بشكل صحيح. فكيف يطمح إنسان يرضع حليب أمه إلى إقحامها في وضع لا تدر فيه الحليب؟ لقد شرحتُ حكايات شجاري مع أمي. ومفهوم أن له دوافع تاريخية. ولكن، ما هي دوافع أولئك الرفاق؟ فلا العدو ولا الصديق، لم يصرف كلمة واحدة تشير إلى فقداني أهميتي. ولكن، إلى ماذا، وعلى من اعتمدت هذه الهويات في زعمها بأنني عديم القيمة، أو في رغبتها بأن أكون كذلك؟ إن الرد على هذه الأسئلة مهم للغاية لأجل تطورهم.
وأنا أذكِّر أولئك الذين عاشوا هذا الوضع، عن وعي أو بدونه، بأنهم قد يدخلون وضعية مشابهة. لكن الالتحاق بدعوى الكرامة لأجل الشعب يتطلب المرء الشريف الطوعي وذا العزيمة الصلبة. فإذا كانوا يفتقرون إلى هذه المزايا، ما كان عليهم الالتحاق بها منذ البداية، أو احتلال مواقعهم فيها. عليهم ألا ينسوا أبداً أن الوصولية (الطمع في احتلال منصب ما) عدو لدود للديمقراطية. لكن، يجب ألا يبقوا بلا موقع أو مقام أيضاً. حيث أن ذلك يعني عدمية العزيمة والهدف. وهل سينكرون أنهم تصرفوا بما لا ينسجم والديمقراطية؟ لقد تابعتُ بعض التطورات الحاصلة. فالأساليب المطبقة لا يلجأ إليها حتى الباشوات. كيف يعللون كسر إرادة الشعب الجاهزة؟ كيف يستطيعون العيش داخلنا، بكل هذا الانكماش إزاء الديمقراطية؟ عليهم إدراك الديمقراطية بعد الآن. فبينما لم يفلح حتى أعظم أثرياء تركيا بالأساليب الديماغوجية والاستبدادية، ما الذي ستقدرون عليه أنتم، وما زلتم يافعين لم ينبت الشعر على أبدانكم بعد؟ إنني أكتب هذه الأسطر بصعوبة، وأود الخلاص من هذه التأويلات.
إني على ثقة بأنه لو كان هؤلاء الرفاق محلي، فسيعملون على تصفية أمثالي أربعين مرة. لكني رغم ذلك، مستعد لمواصلة المسيرة معهم، ولكنْ مع الإضافة: لا تلعبوا معي!!! وإلا ستصبحون عديمي القوة بشكل شنيع.
لست في وضع يخولني لتحديد نوعية وكمية المؤتمر. وأضيف على ما بينته سابقاً أن انتخاب رئاسة المؤتمر يكون مرة في السنة. وبعد انتخاب نفس الشخص مرتين على التوالي، يمكن انتخابه مرة أخرى، ولكنْ بعد مرور سنتين عليها على الأقل. أذكِّر بأن اقتراحي هذا يعد حكماً هاماً في النظام الداخلي الديمقراطي. وأبيِّن أهمية هذه القاعدة الديمقراطية بالنسبة لكل المنظمات الشعبية غير الأيديولوجية، والمتطلبة للكفاءة الاحترافية. وإنْ لم يكن الانتخاب مرة في السنة، فيمكن القول بإمكانية ترشيح نفس العضو لدورتين على التوالي. لكن حصر المدة منوط بوضعية الشخص بالذات، في كافة الأحزاب والمنظمات المستدعية للامتهان والاحترافية.
وبغرض التحضير لاجتماعات المؤتمر السنوي العامة، يتوافق عقد الاجتماعات لعدة أسابيع في شهر نيسان مع التقاليد التاريخية أيضاً. لذا أكرر هذا الاقتراح. يمكن تحديد مدينة المؤتمر الآن، أو في فترة لاحقة، كدليل على جدية المؤتمر وهيبته. والخاصية العامة المطبقة هنا هي انتخاب المؤتمر هيئته التنفيذية ولجنته الانضباطية ورئيسه. يجب توخي الدقة في اختيار ذوي المقاييس والعزائم الكافية الوافية في انتخاب الهيئة التنفيذية. كنت قد اقترحت قيام تلك الهيئة بنشاطاتها على شكل لجان سباعية، بحيث يمكن اختيار أعضائها من ضمن الهيئة ذاتها ومن خارجها. وفي الفترات التي لا يبرم فيها المؤتمر اجتماعاته، يمكنه اختيار سبع لجان تحضيرية من بين أعضائه مقابل تلك اللجان السباعية، وذلك لسن القرارات اللازمة. حيث تعمل تلك اللجان التحضيرية على المساهمة في سن القرارات والرقابة، بالاعتماد على البحوث التي تقوم بها، وتقدم مقترحاتها بموجبها. يمكن ربط بعض التنظيمات على شكل مكاتب أو مدارس أو اتحادات بكل واحدة منها حسب خاصياتها. وبالتوجه نحو الأسفل، يمكن تأسيس الوحدات حسب قواعدها، في كل منطقة ومحلة وبلدة وقرية، بحيث تكون مرتبطة بتلك المكاتب أو المدارس أو الاتحادات. ثمة حاجة أولية في كل ديمقراطية لمشاعات القرى والمحلات. وبهذه الشمائيات التنظيمية لا يترك المؤتمر أية قاعدة جماهيرية، إلا ويمتد إليها ويؤثر فيها وينظمها. وتُجَرَّب السبل العلنية والسرية في ذلك حسب الظروف، مع اعتماد العلنية أساساً. لا يمكن أن تتجمهر إرادة الحزب، إلا عبر تنظيم المؤتمر.
يمكن تعريف الوحدات الدفاعية على أنها المطوِّرة والصائنة إياه ارتباطاً بقراراته. يمكن أن تكون العلاقات مع الأحزاب العلنية على مستوى التعاطف، إذ من غير الصحي تسيير المنظمات القانونية بالأوامر. ويتم تموقعها وتوزيع أعضائها وفق أسس المهام واحتياجات الأمن. بالإمكان النقاش على كل هذه النقاط بتفصيل أوسع وحسب الاحتياجات العملية، للوصول إلى دراسة سليمة بشأنها، وتوثيقها بقرارات صحيحة.
تتعلق النقطة الثانية بكيفية تحليل وتأمين سيرورة وصيرورة العلاقات والتناقضات في كردستان، بين قوى الحل للمؤتمر وقوى الدولة المعنية. علينا التبيان بتركيز ودقة بأن القاعدة الأساسية الفعالة حتى الآن في صراعات السلطة كانت على النحو "إما الكل، وإلا فلا". لم تأخذ السلطة الثنائية والنفوذ الديمقراطي فيها سوى حيزاً ضئيلاً، بالرغم من أن الطبيعي في الأمر، والذي يجب أن يكون، هو العيش المشترك والمتداخل لقوى السلطة والديمقراطية، بكل علاقاتها وتناقضاتها. والواقع الاجتماعي هو كذلك في حقيقة الأمر. ولكنْ لا يُعترف به صراحة. لذا، فالتعبير الشامل والمتكامل له، وتطبيقنا إياه، سيزودنا بالحلول الوفيرة. نحن أيضاً تقربنا حسب تلك القاعدة "إما الكل وإلا فلا" في قفزة 15 آب. لكن تعايش الدولة وقوى المؤتمر مع بعضها ضمن نفس الوطن، هو من دواعي الشروط المرحلية القائمة.
لا الدول تزول من الوجود في يوم أو عشر سنين، ولا مواقف الشعوب الديمقراطية يمكن قطعها من جذورها أو تغريبها عن ترابها. وبما أن الحروب الدائمة تجلب الدمار الكبير للطرفين معاً، فالطريق الوسط يتمثل في رجحان كفة العيش المشترك، واللجوء إلى مبدأ الحرب حين تدعو الحاجة فقط. وفي المرحلة المقبلة، علينا التمكن من ضبط الحياة والصراع بموجب هذا المبدأ، في كافة مناطق كردستان. لا جدال في أن الدولة ستجنح في البداية إلى تطبيق مبدأ "إما الكل، وإلا فلا". لكن، بالإمكان إفراغ جميع الهجمات من محتواها بالمقاومة الديمقراطية المرتكزة إلى الدفاع عن الذات. وإيجاد سبل ذلك يجب أن يكون من أولويات مهام نضالنا الديمقراطي وحربنا في الدفاع عن الذات. لقد عشنا مرحلة كهذه قديماً. لكن الأطراف المعنية خرجت عن أصول الحرب، مثلما لم تجرب الاتسام بالديمقراطية. وما تشهده المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية اليوم، هو مثال آخر على هذا الوضع. لكن عدم تكرار مثل هذه الأمثلة يحوز بأهمية قصوى.
في الحقيقة، ما سعيتُ لاقتراحه خلال مرحلة إمرالي، لم يكن في مضمونه سوى حواراً في سبيل وقف إطلاق النار الثنائي وترسيخ الوفاق الديمقراطي. لكن، تم غض الطرف عنه وتجاهله بعناد. ورفاقنا أيضاً عجزوا عن إدراك أهمية الموضوع، فرأوه تكتيكاً بسيطاً. بيد أنه، ومن خلال التناحرات والنزاعات القائمة في الشرق الأوسط، يمكن الاستخلاص باستحالة وجود مخرج آخر، غير الذي اقترحناه.
الكل على علم بآمالنا في قيام حكومة AKP ببعض الخطوات. وقد راسلناها أيضاً. لكن، يتجلى اليوم بسطوع أكبر، ومن خلال الدور الذي لعبوه مع القوى القوموية والعشائرية في جنوب كردستان، أنهم لا يودون الجنوح عنه؛ بل مواصلته بشكل مغاير، وعبر حكومة AKP هذه المرة. وبسرعة قصوى التأم شمل كل من الشخصيات البارزة في الزمرة الأقلية المتواطئة التقليدية في كردستان، والكرد، والبعض من CHP، MHP، DYP وSP تحت لواء AKP بتوجيه من الدولة. وهُدِرَت كميات هائلة من الأموال في سبيل تصفية DFHAP. وغدا حزب AKP عنواناً جديداً للسماسرة ولحزب الله، في الفترة ما بين 1990 – 2000. فتكونت طبقة جديدة مؤسِّسة للدولة، تحت قناعٍ طرائقي جديد، تغلب عليه النقشبندية. إنه تطور جد خطير – بالنسبة لتركيا ولشعب كردستان على السواء – في إفراغه الحل الديمقراطي المرتقب من فحواه. وقيام الدولة بتسليط هذا النمط من الطرائقية الدينية والمرتزقة على رقاب الشعب في كردستان، إنما يعني إعلان حرب خاصة جديدة. في الحقيقة، يراد بذلك خلق عراقٍ ثانٍ ضمنياً. وبينما أّدخِل المتواطئون الكرد في أجهزة الدولة فيما بعد الخمسينات، فقد تناموا وتعززوا اقتصادياً لتزداد الفجوة بينهم وبين الشعب. أو بالأحرى، سُلِّطَت هذه الشريحة على رؤوس الشعب، لتحرسه وتترقبه عبر هذه المِنَح الاقتصادية. تُشكِّل القوموية الكردية البدائية والطرائقية النقشبندية دعامة المخططات ومقومتها في AKP، ونسبياً في ANAP.
يتسم الكيان الاجتماعي، الذي تقوم عليه الدولة الفيدرالية في العراق، بهذه الماهية. حيث تُخلَق البورجوازية الكردية من أحشاء الإقطاعية الكردية، دون أن يلتفت إليها أحد. ويتضح مع مرور كل يوم مدى تركيز أمريكا ثقلها على ذلك. قد تُمهِّد النزاعات القوموية الكردية الطريقَ لمشاكل واهية تفرضها على الشعب الكردي أولاً، وكافة شعوب المنطقة على وجه العموم. ثمة محاولات لموضعة الأقليات المتواطئة التقليدية أيضاً في صفوفهم، تحت ذريعة مساعدتهم للدولة. هكذا يكون قد أُلحِق المرتزقة الأيديولوجيون بالمرتزقة المسلحين. أما ما سيفعله هؤلاء، فسيكون إلحاق الضير الدائم بالشعب في سبيل منافعهم الطبقية، والحد من تطوره الديمقراطي. وقد دُفِعوا للقيام بعدة ثورات مضادة لا ديمقراطية، في العديد من المدن. حيث اندلعت هذه الثورات المضادة تحت حماية الدولة، وحصيلة جهود الحكومة المضنية، بواسطة الانتخابات المحلية في العديد من المحافظات والبلدات، وفي مقدمتها وان، أورفة، ماردين، آغري، بينغول، سيرت، بتليس، موش، أديمان، وعنتاب.
الكل يعرف مقدار الأموال المصروفة والألاعيب السياسية المحاكة فيها. حيث يُدفع بالشعب إلى حدود المجاعة، ويقدَّم أولئك كمنقذين زائفين له. لكن ترويض الشعب لا يقتصر على المجاعة فحسب، بل يُدفع للقيام بالثورات المضادة. لقد أثارت العديد من تصرفات AKP الشكوك والريبة الكبرى بشأن الديمقراطية، وخاصة فيما يخص القضية الكردية. إن إعلان امريكا والاتحاد الأوروبي لـKONGRA GEL كمنظمة إرهابية – حسب مزاعمهم – ليس إلا رياء مخادعاً. المراد فعله أصلاً هو إمداد الكرد التقليديين وأقلياتهم المتواطئة وعملائهم بالقوة والدفع اللازم، للتمكن من تأمين السيرورة. أحداث العراق مليئة بالعِظات بجانبها هذا.
جلي أن قوى KONGRA GEL ستعمل على إفشال هذه الألعوبة. في حين أن إصرار الدول على تلك القوى سيؤول إلى تجذير الاشتباكات. على الدول المعنية – وخاصة الجمهورية التركية – أن ترى جيداً أن اعتمادها على الشعب وحركاته الديمقراطية، بدلاً من سياساتها المرتكزة إلى المتواطئين الجدد معها، سيؤدي إلى استتباب الأمن والسلام والتكامل في الوطن. أما الإصرار على المتواطئين الكرد، فسيفرز تجذير الحرب وتعزيز الانفصالية.
لن يفسح الشعب الكردستاني المجال للانتقال من كردستانٍ قابعة تحت هيمنة الإقطاعيين إلى كردستان يحكمها المتواطئون البورجوازيون. أكررها ثانية؛ ستشهد هذه المرحلة نماذج كثيرة من سلسلة صراعات جديدة شبيهة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وبما يحدث في العراق. إذ ثمة مساعٍ لخلق بورجوازية كردية مصطنعة زائفة، تكون مدينة ديار بكر بالذات بؤرتها. لكنّ شعبنا، الذي خاض صراع الديمقراطية العظيم في مدينة مثل ديار بكر، ولم يسمح بعبور الفاشية إليها؛ لن يترك الفرصة للفاشية الكردية الخضراء أيضاً بالانتعاش فيها. لقد تعرَّف هذا الشعب على الفاشيين المتقمصين القناع الكردي من خلال نموذج حزب الله، وعرف مضامينهم؛ تماماً مثلما شهد المرتزقة والمستسلمين للدولة وعرف ماهيتهم. ولن يُخدَع بأقنعتهم الأكثر حداثة وعصرية. إن الدولة بذلك تسلك خياراً خطيراً. ولا مناص للشعب من دعوة الديمقراطيين في تركيا مستقبلاً، والعمل على التحالف معهم، والإصرار على الحل الديمقراطي. أي أن شعب كردستان وكادحيه لن يقعوا في شرك هذه اللعبة. بل سيصرون على الاستمرار في تأدية دورهم الديمقراطي التاريخي.
لا شك في أن قوى المؤتمر وقوى الدولة ستشكل ثنائية في المرحلة المقبلة. وكون هذه الثنائية غير متصارعة منوط عن كثب بموقف الدولة. فإذا ما تحاملت الدولة على نضال الشعب في الدمقرطة، وعلى قوات الدفاع المشروع الاضطراري، فمؤدى ذلك هو الحرب. في حين إذا أخذت الدولة مساعي الوفاق الديمقراطي المبذولة على كافة المستويات، على محمل الجد، فسيكون النصر لتكامل الوطن ولشعبنا الكادح. على قوى المؤتمر توخي الحذر والدقة العظمى لعدم الوقوع في ألاعيب الحرب العمياء الماضية. لكن، في حال تعرضهم للهجمات – وكأن سلب حقوقهم لا يكفي – فسيكون لهم الحق في الدفاع عن الذات، وعليهم اللجوء إليه. على جميع قوى الدولة، بما فيها قوى الدولة الفيدرالية، ألا تحظر المنظمات الديمقراطية القانونية والأحزاب السياسية. بل أن تأذن لها بممارسة نشاطاتها بحرية، وتصل إلى وقف إطلاق النار المتبادل. وإذا ما اختير الوفاق الديمقراطي وطريق السلم، فلا شك أن قوى KONGRA GEL ستؤازر ذاك الخيار بمواقفها الإيجابية. وفي حال العكس، فستصعِّد من مواقفها الديمقراطية في كل جزء، متبعة الأساليب المناسبة في تحقيق قفزتها والرد على محاولات التصفية والإبادة. وستَعتَبِرُ إدارة KONGRA GEL سياساتها المرحلية الجديدة في النضال بهمة لا تخمد، مع الالتزام بوعودها التي تقطعها على ذاتها في انتقاداتها الذاتية؛ السبيل الأنسب والأمثل لتتمتع بإنسانيتها وتتحلى بها.
ترتبط النقطة الثالثة بمساعي الجمهورية التركية منذ أمد بعيد في تحفيز الجوار على قبول اعتبار KOMA GEL – PKK كمنظمة إرهابية. وذلك كسياسة أساسية تسلكها بالتعاون مع أمريكا. لكن، ومثلما نوهنا سلفاً، إن هذه السياسة مليئة بالأفخاخ. ويجب عدم تناسي احتمال عودة هذه السياسة إلى الدولة، مثل آلة البمرج المعقوفة. يبدو أن القوى التي تزعم قبول "إرهابيتنا" أكثر ميلاً ومهارة في اتباع سياسة مفادها "يستحيل الأمر مع فلان، وهو ممكن مع علان". لكن، يجب الإدراك جيداً أنها بذلك تسعى للحفاظ على الفجوة بين PKK والجمهورية التركية، للإبقاء على الأخيرة واهنة القوى. لذا، يتحتم التفكير والإمعان بعمق فيما سيفرزه زعم "الإرهابية" من نتائج على المدى الطويل. ويجب عدم نسيان الوضعية التي بلغها من اعتبرتهم أمريكا انفصاليين فيما بعد. بيد أن التشبث باسم PKK، والوقوف عنده، يعني إيقاع الذات في الشِرك والفخ، بكل ما للكلمة من معنى. وواقع شمال العراق معلِّم فاضل في هذا الشأن.
يجب التطرق دائماً إلى دور الكرد في التاريخ الكردي والحضارتين الإيرانية والعربية، لدى تناول الحل المتمثل في KONGRA GEL. أي، يتوجب تسليط الضوء على دور الكرد الاستراتيجي، وجعله قابلاً للتنفيذ. ودول الجوار بحاجة، أكثر من الكرد ذاتهم، لدورهم الاستراتيجي ذاك. فالعامل المصيري الذي أطاح بنظام صدام، هو الحسابات الخاطئة بصدد دور الكرد. والخطر سيان بالنسبة للدول الأخرى المجاورة. فالكرد في كل الأجزاء قادرون على توحيد صفوفهم، وبلوغ استراتيجية موحدة مشتركة فيما بينهم. ومن يقف في مواجهة الكرد بالأكثر، سيتكبد الخسائر الفادحة.
KOMA GEL مكلف برؤية دور الكرد الاستراتيجي هذا، وبتنفيذه على أرض الواقع. ويرجع عدم رؤيته أو تطبيقه حتى الآن إلى الماهية الخيانية للمتواطئين الكرد. لكن، من الصعب الاستمرار بهذه المزية في الظروف الجديدة. فالكرد سيدنون أكثر من أي وقت مضى، من المستوى الذي يؤهلهم لاستيعاب استراتيجياتهم الذاتية وممارستها عملياً. يتحتم عليهم النظر بعين سليمة إلى المواقف المشتركة والعيش المشترك، الذي شهدوه مع الأتراك شعباً وقوماً، كوضعية استراتيجية في الأمثلة التاريخية المعطاة. لم يقبل الكرد بذلك كي يُمحوا من ذاكرة التاريخ، بل اعتبروه ثمرة الدواعي السياسية الحقة آنذاك. ورجال الدولة التركية البارزون أيضاً تمتعوا بهذا المنظور. ولو أن هذه الاستراتيجية أُسست مع قوة أخرى بدل الأتراك (وهنا ننوه إلى كثرة المطالبين إياهم، وعلى رأسهم إيران، العرب، إسرائيل، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأرمن واليونان)، لكانت الأمة التركية أكثر الخاسرين. فعليهم ألا يحفِّزونا على فعل ذلك، بمزاعمهم الساذجة في الانفصالية. محال تصفية KOMA GEL – PKK. بيد أن الغير سينتفع من ميراثه سلباً في كل لحظة، في حالة كهذه. بالمقابل، على الكرد أيضاً أن يتفهموا أن مناهضة الأتراك، أو حتى معاداتهم، ليس في صالحهم إطلاقاً. فالعداوة الكردية – التركية قد انقفلت وتعقدت في المنطق القائل "اخسر أنت، وأنت اخسر". فربح طرف ما لن يعني خسارة الآخر في هذه العلاقة. وإذا ما تم تخطي اللاعصرية بين الطرفين، فستسود علاقة مفادها "اربح أنت، وأنت اربح" فيما بينهما. في حين نرى أن السياسة المتبعة اليوم، تتمثل في "التركي كل شيء، والكردي لا شيء".
نقيض ذلك أيضاً ممكن، أي "الكردي كل شيء، والتركي لا شيء". فالسياسات القائمة تحرض على ذلك. لكن الإصرار على النعت بالإرهابية، والتحامل على قوى المؤتمر، جلي أنه سيتحول بسرعة إلى صالح المبدأ "اخسر أنت، وأنت اخسر". يجب أن يدرك الجميع عظمة جهودنا لعدم سلوك هذا الطريق. نحن لم نقم بذلك انطلاقاً من دوافع بسيطة، بل من دوافع تاريخية واجتماعية أُخذت بعين الاعتبار والدقة، مثلما يتبين من الآراء المطروحة في هذه المرافعة. إن الحل المتمثل في KOMA GEL هو سبيل الوحدة الحرة والسلام والوفاق الديمقراطي الأمثل، المؤدي إلى تكامل الدولة والوطن والأمة. يجب التنبه بإمعان إلى الطرف المنتفع بالغالب من السياسة المجرِّدة للكرد من أدوات وأساليب الحل كلياً، والرائدة للقوى المتواطئة والطرائقية، والمناهضة للديمقراطية والجمهورياتية. أظن أن الوقت قد حان لتتفهم القوى الديمقراطية الحقة في تركيا أن تهميشها يرجع إلى السياسة الكردية المتبعة. وأعتقد أنها أدركت وتعلمت، بما فيه الكفاية، مدى استحالة وعقم سياسة القرود الثلاثة. فما بالك بالسياسة الديمقراطية الاجتماعية اليسارية!
خلاصةً، سينطلق KOMA GEL من دراسة سليمة للمرحلة الراهنة في مؤتمره الطارىء، ليتخطى عناده في الشخصية القديمة الضيقة الأفق والعقيمة، بدلاً من الإصرار على امتلاك القوة الديمقراطية. وسيبدي برهانه على تحليه بالمعايير الديمقراطية الحقة ضمن واقعه المؤسساتي، بإحرازه التفوق والنجاح في مهامه. وسيؤدي دوره المنوط به بظفر باهر، بإعرابه عن رفضه لأي موقف خارج نطاق النصر في المهام والوظائف التاريخية، وبإفراغه الألاعيب القومية والإقطاعية من محتواها، وبتلبيته متطلبات النضال الديمقراطي وحرب الدفاع عن الذات بحق.
3- لا تزال "وحدات الدفاع الشعبي HPG" تحافظ على أهمية دورها في حل القضية الكردية. وتُعَدُّ مكانتها في النضال الديمقراطي كتنظيم مستقل بذاته عن تنظيم الحزب والمؤتمر، وعلاقاتها معهما، وطراز حربها؛ من المواضيع التي تستوجب تسليط الضوء عليها.
من المعلوم أن مفهوم الحرب في قفزة 15 آب كان مستنداً إلى الحفظ عن ظهر قلب بأن القضايا الوطنية لا تُحل إلا بالحرب، مما يتطلب هذا بدوره المدح فيها إلى ما لانهاية، واللجوء إلى إله الحرب. إنه المبدأ الأقدس على الإطلاق. ويتحتم تأدية مستلزماته، فهذا مكتوب في الاشتراكية! جلي جلاء النهار أن هذا الموقف كان مشحوناً بالدوغمائية، وبعيداً عن دراسة الشروط التاريخية والاجتماعية الملموسة القائمة. لكنه يؤدي إلى التصرف بشكل معين على الصعيد المبدئي. لم تُحلَّل نظرية الحرب في الماركسية. بل استُدينت وأُخذت من المؤرخين الفرنسيين، الإقطاعيين منهم والبورجوازيين. في حين بقيت اجتهادات أنجلز المحدودة بعيدة عن شرحها بإيضاح. إذ لم تُعالج نظرية العنف ودورها في الإجراءات الاجتماعية والسلطة عموماً. ورغم تعشعش القوى الاستعمارية الحاكمة في المجتمع البورجوازي بالأغلب، إلا أن الحروب الوطنية نُظِرَ إليها وكأنها أساس اشتراكي آخر. فإذا كنتَ اشتراكياً، عليك خوض الحرب الوطينة.
لن ندخل في تكرار ما عالجناه من تحليل للحرب في الفصل المعني بها. إنما نكتفي بتقييم مختزل، بشأن تعيين الحرب لماهية دولة العنف وسلطتها، وتَواري الحرب وراء كل نظام اجتماعي. ونقول أنه بدون تحليل الحرب، لن نستطيع تحليل السلطة والمجتمع، بل وحتى الاقتصاد بشكل كلي. لكن تقربنا هذا لا يؤدي إلى القول برؤيتنا الحرب على أنها سيئة تماماً. إنما يتقصى منزلة الحرب والعنف في المجتمعية، ويحاول الإشارة إلى الخسائر والغنائم الناجمة عن الحرب كماً ونوعاً. باقتضاب، إنه يقوم بتحليل سوسيولوجي بصددها، لا غير.
ذكرنا على الدوام مدى ضرورة قفزة 15 آب، ومدى ملئها بالمقابل بالأخطاء والنواقص التطبيقية. وقُدِّمت انتقادات ذاتية مكثفة بصدد هذه الفترة من الحرب، التي شهدت البطولات العظمى بقدر السفالات المنحطة. حيث كان لها غنائمها، بقدر الخسائر المتكبدة فيها. لا شك في أن وحدات الدفاع الشعبي HPG المتمخضة عنها كامتداد لميراثها الزخم، ليست في وضع يسمح لها بالاستمرار في أساليبها القديمة. لكنها، بالمقابل، لن تبقى معدومة الدور والفاعلية. وبما أنه لم يستتب وقف إطلاق النار الدائمي، ولا السلام الدائمي بعد؛ فستبقى المشاكل التي عانتها HPG، والمهام الواجب عليها تأديتها، ومنزلتها ووضعها كماً ونوعاً، من المواضيع المطروحة للدراسة والمعالجة.
ولكي لا ندع مجالاً للفهم الغلط، علينا القيام مجدداً بتناول مقتضب لدور العنف في كردستان. فوضعية كردستان، كوطن ومجتمع، قد حُدِّدت بقانون "الفتح". ترجع تقاليد "الفتح" هذه إلى عهود السومريين، مستندة إلى دعامة المبدأ "ما تحكمتَ به هو لك"؛ والذي يرى في الهيمنة والعنف مقومة لكل الحقوق. فمن "فتح" في الأخير، يكون ذاك الوطن والشعب له هو. والديانة الإسلامية بالذات قد ربطت هذا المبدأ بأمر ديني مقدس. والقومية البورجوازية أيضاً تشبثت بأظافرها بمبدأ "الفتح". ولا يتبقى على الشعب سوى الخضوع لفتوحاتها، والامتثال لكل كلمة تنطقها. أما بالنسبة لمبادىء الثوريين، فتُعرِّف الحرب على نحو مغاير. فمشروعية الحروب الممهدة للاستعمار، وبالتالي لحق "الفتح"، ليست إلا خداعاً ورياء يعكس إرادة الظالمين المجحفين. لذا، فعدم الخنوع لها، بل مقاومتها والتحدي لها، يُعَد مهمة مقدسة. إذ لا يمكن تخطي السفالة والانحطاط الناجم عن الحرب، إلا بوضع الحد الفاصل للخنوع والذل. أي أن حرب المسحوقين مقدسة. وإذا ما تطلب الأمر، فهي وسيلة الخلاص الرئيسية الواجب اللجوء إليها، للخلاص من الانحطاط الذي أُوقِعوا فيه.
وحكام الدول في كردستان ينظرون إلى ذواتهم كـ"فاتحي" زمانهم لهذا الوطن. حيث يشكل حق الفتح دعامة أبديتهم ونفوذهم. لذا، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن السفالة والرزالة التي يعانيها الشعب، أو حالته التي يكاد ينسى فيها وجوده، أو حتى عن افتقاره لكل أشكال المساواة والحرية. جلي أنه ثمة معضلة كبرى ترتكز في مضمونها إلى العنف. فالشعب العامل على هذه الأراضي على مر آلاف السنين، والذي نسميه بالكرد؛ لم يَرتَجِ أحداً بالقول: "تفضل وأقحمني في هذه الحال". ورغم إدراك سمات عصرنا كفاية، فكيف سيتم تجاوز هذا الوضع العصيب؟ لهذا طريقان "إما بالوفاق الديمقراطي، وإلا – في حال عدمه – بالعنف تجاه العنف. والعيش بشكل مغاير، لا يعني سوى التناقض كلياً مع ركب العصر. إنه يعني المجاعة، البطالة، الخَرَس، والتردي الثقافي. ولو أن الآلية الديمقراطية الكاملة سادت في الدول المحتوية لأجزاء كردستان، لربما ما بقي مكان لمبدأ العنف فيها.
سيمهد صب مواقف الشعوب ومسيراتها الديمقراطية في أقنية خاطئة تنتفع منها الدولة وتفرغها من محتواها، إلى فقدانها مضامينها. فممارسات يومنا الراهن، التي تحول الدولة إلى معبد للزهد والعبادة، عبر ألاعيب الانتخابات المتكررة كل أربع أو خمس سنوات؛ لا تمت بأي رابط للديمقراطية. وسواء كان هناك تعددية حزبية أم لم تكن، فما يتحقق في الانتخابات ليس إلا إضفاء المشروعية على الدولة، وتحويل إدارة الشعب عامة إلى خداع وزيف. ترتبط هذه الألعوبة بأواصر وثيقة بقوة الإعلام العظمى للنظام الرأسمالي المسمى اليوم بمنبع الديمقراطية. وهي ثمرة حملة مخادعة وأكذوبة أشبه بالقول أربعين مرة للعاقل بأنه مجنون، ليظن بدوره أنه كذلك حقاً.
فالمسيرة والمواقف الديمقراطية للشعوب تعني أولاً تبنيها هويتها، وتشبثها بحرياتها، وبلوغها إداراتها الذاتية. إنها تعني الارتكاز إلى وعيها لهويتها الذاتية وتاريخها وواقعها الاجتماعي. وإذا ما نُظِّم الوعي، فسيفرز بدوره القوة التي ستؤدي إلى الحرية. محال أن تتحرر الشعوب، ما لم تنتظم وتتقوى. وإذا ما تحررت، فيُعدُّ بلوغها إدارتها الذاتية خطوة لا مناص منها. أما تحقيق التحرر، دون المقدرة على إدارة الذات؛ فيناقض العقل والأخلاق. وإذا عرَّفنا الديمقراطية ضمن هذا الإطار، فيمكننا عندئذ تسمية وجود الوعي الهوياتي الدائمي بين الشعب، ونشاطاته التحررية على كافة الأصعدة، وريادته لهذه المرحلة؛ على أنه كل متكامل مع العملية الديمقراطية. يمكن نعته أيضاً بالمرحلة الانتقالية من الموقف الديمقراطي إلى المسيرة الديمقراطية. وبدلاً من تبعية الشعب للدولة بطقوس ومراسيم الانتخابات، سيكتسب اندفاعه وراء وجوده وحريته وإدارته الذاتية معناه كعملية ديمقراطية. وإلا، فالاستحواذ على مصادقة الشعب وتصويته، لاحتلال منصب في سلطة الدولة لبسط النفوذ؛ يعد ضربة قاضية للديمقراطية الحقة.
وإيقاع الديمقراطية في هذه الحال في القرنين التاسع عشر والعشرين، إنما يشيد بالخيانة إزاءها. إنها الشكل الأوسع نطاقاً وعمقاً للخيانة، التي لفتَ جان جاك روسو الأنظار إليها في القرن الثامن عشر.
يكتسب النضال الديمقراطي في كردستان معناه، إذا ما سُيِّر ضمن إطار هذا التعريف. وإلا، فلن يختلف كثيراً في مضمونه عن جمع العبيد بين الفينة والفينة في ألاعيب انتخاب أسيادهم، ليسلَّط نفس السيد على رقابهم مرة أخرى. فالنشاط الديمقراطي السليم يتحقق فقط باعتماد الشعب هويته الاجتماعية وحريته وإدارته الذاتية أساساً. أما القيام بنشاطات التوعية والتعبئة والتنظيم في كل الأماكن والقرى والمحلات التي يقطنها الشعب، والاجتماع بالشعب لمعالجة مشاكله الأساسية، واتخاذ القرارات اللازمة معاً، وتعيين المكلفين بإدخال هذه القرارات حيز التنفيذ؛ فهو يفيد بالعملية الديمقراطية الحقة. في حين أن عدم اندفاع الشعب وراء الأحزاب الرافعة للافتات اليسارية أو اليمينية، الدينية أو القوموية، والمتحولة إلى أدوات لإضفاء المشروعية على النظام السائد، وبالتالي هرع تلك الأحزاب وراء صناديق الانتخاب بكثرة لتدفن نفسها فيها؛ كل ذلك ليس إلا انعكاساً ذا صلة وطيدة بهذه الحقيقة. لا تتعدى حزبية النظام السائد في كردستان كونها أقذر أدوات إضفاء المشروعية عليه، ووسائل للكذب والتحريف والاستعمار والاستغلال بقدر الطرائق الدينية القديمة.
أنْ تكون حزباً ديمقراطياً، وتقوم بالعملية الديمقراطية، فهذا عمل في أسمى درجات النبل. لم تتمكن ديمقراطية أثينا – التي لا نعجب بها كثيراً – من دك دعائم نظام إسبارطة الملكي من جانب وإمبراطورية البارسيين المونارشية المعمرة قرنين من الزمن من جانب آخر؛ إلا بالديمقراطية، ليشهد التاريخ بذلك "عصره الذهبي". وبقدر ما تعد الديمقراطية – في حال تطبيقها بحق – أفضل النُظم وأرقاها، فهي المدرسة التي تُعِدُّ وتنشىء المواطن الحر الواعي القادر على صون وحماية وطن ما أو شعب ما، تجاه الاستبداديين والاحتلاليين، على اختلافهم. ما من نشاط في السياسة أثمن من العملية الديمقراطية. من هنا، فامتلاك الشعوب لأولاد وبنين مولعين بالديمقراطية، وكفوءين للنضال في سبيلها، يعد الضمان الأعظم لها. كل نشاط متمحور حول الدولة في كردستان – بأي اسم أو بأي صفة كان – لا يعبر سوى عن إنكار الديمقراطية. ولا يمكن التفكير بوجود ممارسة في كردستاننا اليوم أثمن (أكثر حلاً، ومؤادها إلى السلام والحرية) من القيام بالنشاطات والجهود والحركة الديمقراطية الحقة.
لكن كردستان ما زالت غريبة للغاية عن الديمقراطية العصرية. حيث يعيش الشرق الأوسط فترة ما قبل الديمقراطية، ويتخبط في حروبها وفوضاها. وكردستان تقع في المركز من هذه الحروب والفوضى. أياً كانت الزاوية التي تنظر منها، فمشاكل الدفاع بالنسبة للشعب ثقيلة الوطأة، ويجب تبنيها. فحتى عجزه عن النطق بلغته كوسيلةِ تَواصُل واتصال اجتماعية أولية ضمن المعايير العصرية، إنما يبرهن على مدى غور المشاكل الدفاعية. هذا ويؤدي الافتقار إلى العديد من الظروف والتداعيات اللازمة لخوض حرب مقاومة عامة، إلى ضرورة الإبقاء على الحرب ضمن حدود ضيقة ومعينة. أي أن الكفاح المسلح في التصدي لقوى الدول المهيمنة السياسية والعسكرية، يبقى محصوراً في المستوى ذي الكثافة المنخفضة أو الوسطى، بل وأحياناً يُطوَّق لحد تقليصه إلى حروب على نطاق أصغر من نمط الخلايا. لكن اللامقاومة مؤداها الخنوع والذل الأبديين. يتبدى أفضل الطرق وأنسبها، ضمن ظروف المقاومة الحالية، في الوصول بالدول المعنية إلى حالة ملائمة للقيام بالوفاق الديمقراطي، لا القضاء على هيمنتها. هكذا يمكن تعريف دور HPG في تطوير وحماية دمقرطة الشعب حتى البلوغ بها إلى الوفاق الديمقراطي. وفتح الطريق أمام الدمقرطة يمر بدوره من إزالة القلاقل والعراقيل غير المباشرة، والتي زرعتها القوى المتواطئة مع عنف الدولة المناهضة للديمقراطية.
يتجسد الظرف الآخر، الذي تُقبَل فيه حرب الدفاع، في مواجهة الهجمات التي تستهدف وجود HPG بالذات. وهنا يتحتم على الأخيرة اللجوء إلى نمط حرب الأنصار (الكريلا) إلى آخر درجة. وهي مكلفة بحل كل المشاكل التي تعترضها، بدءاً من التموقع وحتى العلاقات مع الشعب، ومن المشاكل اللوجستية إلى التدريب، ومن الريادة القيادية إلى الارتباطات السياسية. وربما تأتي فترات تصبح فيها المقومة الأساسية للشعب، ولكافة القوى المنظمة. أما صون كافة المساعي الديمقراطية وتصعيدها، فهو من ضمن مهامها. وهذا ما يحتم عليها القيام بالتحول والتغيير السياسي والتنظيمي اللازمين. في حين أن تحقيق التناغم والمواءمة بين وضعيتها الكمية والنوعية، وبين مهامها الواجب تأديتها من جانب، وتحديد استراتيجيتها وتكتيكاتها من جانب آخر؛ تعتبر من مهامها التي تستلزم التحليل والحل. وهي مسؤولة عن أمن الحزب والمؤتمر وجميع أبناء الشعب الذين يحيقهم الخطر. عليها تأدية مهامها الأولية والشاقة تلك، تجاه الجنود المدربين على أكمل وجه، وإزاء قوى الأمن الأخرى.
يتلخص الموضوع الهام الآخر في التطرق إلى دوري في كفاحنا المسلح. فنشاطاتي ما قبل قفزة 15 آب وما بعدها معروفة بعظمتها. إلا أن الفارق كان بارزاً للغاية، بين التطورات الحاصلة خلال الأعوام الخمسة عشر الأولى من المرحلة، وبين مفهومي في الحرب. لن أدخل في تكرار ما قدمناه من انتقادات وانتقادات ذاتية شاملة سلفاً. ولكن، لو أنني كنت على علم بتحريفه هكذا، لأمكنني القول أن وجودي في ظروف الوطن، بين أعوام 1980 وبدايات 1990، سيكون الأنسب. إذ يرجع السبب الأساسي للأوضاع التي أَوقَعَ العديد من الرفاق والمجموعات المكلفة بالمهام والمسؤوليات أنفسهم فيها، إلى جهلهم – أو قلة وعيهم وتدربهم – بطبيعة الحرب وركائزها السياسية وتحولاتها الأيديولوجية. وعدم تبني المهام القيادية، هي الدافع الأهم للخسائر والهزائم المتكبَّدة. يتوجب البحث والتقصي عن مكامن الأسباب الحقيقية لوقوعي في هذا الوضع، ضمن هذه الحقيقة أيضاً. فكفاءاتي ومهاراتي خوَّلتني لتوجيه الحرب بهذه الشاكلة نظرياً وعملياً، وتكوينها، أو تكوينها على غير المطلوب. عليَّ القول صراحة بأن استقصاء أساليب وطرق جذرية جديدة مغايرة، عوضاً عن التكرار المغالى فيه بعد أعوام 1995، كان سيكون الأصح بالنسبة لي. إذ كان من غير السليم انتظار إحراز الكوادر القيادية النصر المرتقب في عام 1993. كانت حملة 1993 – 1995 ذات أهمية بارزة. إلا أنها أدت إلى التكرارات المعروفة، حصيلة الإصرار على الكوادر المجرَّبة، ولكنْ القاصرة عن تحقيق النصر. من المعلوم أن الحملات السابقة لها أيضاً لم ترتكز إلى قيادة حكيمة وقديرة.
وخروجي المعروف في 1998 كان بتأثير من هذه الحقائق. كان بإمكاني دخول الوطن. لكنه بقي الطريق الذي لم أجربه، تحسباً من احتمال إبادة كاملة بسببه. كنت حتى حادثة 11 أيلول 2001 منحازاً إلى إيقاف الكفاح المسلح، في حال تحقيق الوحدة على ضوء وفاق الحل الديمقراطي، ولو بحده الأصغري. لكن، وبعد هذه الحادثة، لم نلحظ وجود أية نية لأجل الوفاق لدى الإدارة التركية. وباعتقادي، كان من الممكن خوض حرب الدفاع المشروع، بعد تفهمنا لعدم رغبة الحكومة في الرد على الحل المطروح، بعد انتخابات تشرين الثاني 2002. ولكن، محال أن يكون هذا القرار عائداً لي، أو صادراً مني. حيث أن شروط الاعتقال لا تتحمل إصدار قرارات كهذه. ومن غير الصحيح أن ينتظروا مني أمراً كهذا. فتحديد أسلوب الحرب المعتمدة على تحليل شمولي للمرحلة الجديدة، ورسم استراتيجيتها وتكتيكاتها؛ هو من شأن الكوادر المسؤولين الواثقين بأنفسهم والمعتدِّين بها. وقد تركتُهم على حريتهم التامة. حيث لم أَرَ من الصواب أخلاقياً استثمار مسألة الحرب كورقة ضغط ضدي. فالحرب عملية يُقام بها بما يوافق مطاليب الشعب التاريخية التي لا يمكن الاستغناء عنها. ولأجل ذلك قلت لهم: "ناقشوا الأمر بكثرة مع الشعب، واتخذوا قراراتكم بأنفسكم". ولا زلت أصون آرائي هذه.
لقد أعربتُ عن بعض أفكاري النظرية في مواضيع الحرب، وطورتها أكثر في مرافعتي هذه. كانت لدي مواقفي المبدئية المتعلقة بدور العنف في وطننا، وبطبيعة حرب المقاومة والصمود. جلي أنها ليست أوامر أو تعليمات، وإنما مجرد أفكار تنويرية. كما وقدمت في هذه الفترة بضعة نصائح بشأن وضعية الاتحادات النسائية، تكوينة المناطق المستقلة الذاتية الديمقراطية، وحول خصوصية حروب الشعب الدفاعية. يمكن أن تكون هي الأخرى آراءً وأفكاراً تستوجب أخذها بمنظور الدقة. ذلك أن شروط الحرب قد تتبدل خلال أربع وعشرين ساعة. وقد تحتاج لتغيير أو تعديل تكتيكي في أية لحظة. وقد يتغير كل شيء في أوضاع كهذه. لذا، لا يمكن رؤية اقتراحاتنا بعين الأوامر البحتة. فالإدارة المعيِّنة في الحرب هي المقاتلون أنفسهم. هم الذين سيقررونها وينفذونها نظرياً وعملياً. وسيعتبرون ذواتهم مسؤولين عن كل نصر أو إخفاق أو هزيمة. وحسب ما يقيِّمون شروطهم وقواهم وخبراتهم ونظرياتهم ويرونها مناسبة، فهم المسؤولون في النهاية عن قرار الحرب أو الحياد عنها.
حتى الآن حصل أن تطرقتُ إلى أمور بماهية التنبيه والإنذار، بالنسبة لقوى الدولة والمؤتمر على السواء، وإن كانت بشكل غير مباشر. وفي الآونة الأخيرة، وعندما لاحظتُ مواقفهم المفرِّغة لمقررات المؤتمر المنعقد من محتواها، تقدمتُ بآرائي واقتراحاتي بشأن إعادة بناء PKK؛ وذلك على ضوء الالتزام بالمؤتمر الطارئ وإرادته، كضرورة من ضرورات مسؤوليتي التاريخية. كان لا بد لي من الإعراب عن آرائي بهذا الخصوص، مهما كان الثمن، وحتى لو كان ذاك النفَس الأخير لي. ورغم حنقتي على نقصان الاتصال والتواصل حينها، إلا أنني بذلت ما بوسعي عمله. وأخيراً عبَّرتُ عن آرائي بشكل مجمَّع ومنتظم في هذا الشأن مع هذه المرافعة.
أعتقد أن المؤتمر سينهي استعداداته حتى الخريف، بأكثر تقدير. آمل ألا يحصل ما ليس في الحسبان. ومن الآن فصاعداً تنتظر الرفاقَ المسؤولين مهامٌ ووظائف، أهم مما كانت عليه في 15 آب. ومن سيتسلمون الوظائف باسم الحزب أو المؤتمر أو HPG، سيواصلون مسيرتهم بثقتهم بقواهم الذاتية. ذلك أن عقد الآمال عليَّ أمر لا معنى له إطلاقاً. بالطبع، سأبدي بدوري القدرة على بلوغ نهاية مشرفة ومكرمة، مهما لم تحالفني صحتي في ذلك. لكني أود القول أنه لو كان ثمة أصدقاء حقيقيون، لما تصرفوا على هذا المنوال في الوسط الحالي. يقال أن كمال بير، حين وصلته أنباء عملية فرهاد كورتاي، تمتم قائلاً: "كان علينا نحن القيام بهذه العملية". وهكذا – مثلما هو معلوم – يبدأ بالإضراب عن الطعام حتى الموت. إنني بالتأكيد لا أؤيد العملية الانتحارية، بل لا أصادق عليها. إلا أني لا أعتبر عمليات الرفاق كمال بير ومحمد خيري دورموش ومظلوم دوغان وفرهاد كورتاي عمليات انتحارية. لقد عبَّروا بأنفسهم عن مقاييس الحياة اللازمة في مقولتهم "لو أنه ثمة إمكان بسيط جداً للعيش بحياة مكرمة، لاتخذناه أساساً، ولعشنا معززين مكرمين حتى النهاية". لم يتبقَّ سوى شيء واحد فقط لأجل كرامة الإنسانية وعزتها. وبذلك قاموا بعمليتهم الصمودية. معلوم أن محمد خيري دورموش كان أعرب عن عزيمتهم التي لا تلين بقوله "لقد نجحنا". أما شعارهم فكان: "ستنتصر كرامة الإنسانية!". هذه هي تقاليد حربنا الصمودية، ويتحتم فهمها بشكل صحيح لتطبيقها بصحة.
ثمة إلى جانبكم العديد العديد من رفاقنا المطلق سراحهم. والأمر يستحق محاكمتهم بشأن ما فهموه من الحياة. ما من أحد ينتظر منكم القيام بالعمليات الانتحارية، مثلما كنتم تفعلون بكثرة طيلة حملة 15 آب. وهذا أمر غير مقبول أصلاً. إلا أنه لا يمكن – بالمقابل – الزعم بعدم وفرة الإمكانيات للقيام بكل أنواع العمليات الديمقراطية وخوض حرب الدفاع عن الذات، والشكوى من شروط الزمان أو المكان لأجل الحركة الحرة. بالتالي، لا يمكن إنكار توفر الإمكانيات والظروف المساعدة لتجريب كل خيار محتمل، في سبيل صون كرامة الشعب وكرامتكم. كنا قد رأينا انتقاداتكم الذاتية فيما بعد أعوام الألفين بعين الجد، واعتقدنا بأنكم ستكونون أصحاب ممارسات عملية مجدية ومثمرة. لكن ما نجم في المحصلة كان أن وضعتم ميراثنا موضع جثة هامدة، شطرتموها إلى قسمين، وبعثتموها إلينا، كجواب على آمالنا بكم. ساطع سطوع النهار استحالة أن تكون هذه هي حرب الكرامة. إنكم تعيشون في أحضان الإنسانية الحرة وأحضان شعبنا، حصيلة الجهود الحثيثة والعظمى. والأهم من ذلك أنكم في أحضان الجبال، التي تَعِدُ بالحرية. لذا، فتكرموا بعدم نسيان الجهود الجليلة، التي بذلتها كي يبلغ كل فرد منكم إلى هذه الحال. لا أنتظر منكم مقابلاً لأجلي. لكني عاجز كلياً عن تصويب مواقفكم هذه، التي تشيد، بمعنى من معانيها، بالتلاعب بكرامة شعبنا. دعكم من الشعب الآن، بل عليكم معرفة الحالة التي أبقيتم كرامتكم فيها. نحن، أنا، لم نرتكب أي خطأ أو نقصان يستحق منكم تصرفاً كهذا. سأواصل – أنا – التحلي برؤية سليمة لحرب كرامة الإنسانية، واقتفاء أثر متطلباتها وتأديتها.
في النتيجة، لقد عملتُ على تنوير الظاهرة الكردية وقضيتها، على ضوء التحليلات والدراسات الشمولية. وقدمتُ بضعة اقتراحات في الحل. يمكن اعتبار ذلك جواباً مني لكل الأوساط المعنية. أما من الآن فصاعداً، فسيقع عبء الرد على ذلك، وكيفية تطبيقه، على كاهل كل وسط معني بالأمر.
أظن أني بهذه الوسيلة تطرقتُ إلى بعضٍ من نواقصي وأخطائي، التي ارتكبتها إزاء فترة 15 آب، وفي مقدمتها الغموض الذي كان يكتنف مطاليبنا. بناء عليه، إني أقبل عدم اتسامي بالوضوح والقدرة على الحل بالمستوى الكافي في بدايات الثمانينات، وأومن بتقديمي النقد الذاتي على نحو صائب، عبر هذه المرافعات. يتمثل الخطأ والنقص الثاني في عدم وضوح الرؤية بشأن العملية المراد تطبيقها. وأنا على ثقة بأني حسمت هذا الأمر أيضاً، وأعطيت جوابي المرتقب للأوساط المعنية. ثمة نوعان من العمليات من الآن فلاحقاً:
أ) العملية الديمقراطية وإمكانيات الحل. لا جدال في إبدائي مواقف مصرة وعنيدة للغاية وشمولية، كخيار أساسي أُفَضِّله في هذا الاتجاه. علاوة على أن عجزي عن بلوغ هذا المستوى من الجزم والصفاء في بدايات التسعينات، يعد نقصاناً بحد ذاته. يتسم طرحي لطراز العملية الديمقراطية والحل القابل للإدراك والفهم والتنفيذ – وإن جاء في وقت جد متأخر، وتحملت لأجله عبء الجهود المضنية العظمى والانزواء الموحش – يتسم بأهمية خاصة، عشية المستجدات الهامة وسط الشروط التاريخية السائدة في حاضرنا.
إننا نمتلك قوة شعبية تحتضن الآلاف من أبنائها الناشطين الفعالين المعربين عن عزمهم الرصين في خوض النضال الديمقراطي، والملايين من المنتفضين المتوجهين إلى الحرية. إنها قوة جماهيرية ومناضلية قادرة على إعطاء أي جواب شافٍ للمشاكل، التي يمكن حلها، دون اللجوء إلى امتشاق السلاح. وعدم تفعيل المسؤولين القياديين – حسب ما يسمون أنفسهم – والبارزين لهذه الإمكانيات، وعدم إفادتهم منها، سيحمِّلهم مسؤولية كبرى أمام التاريخ. في حين أن مواصلة المسير من خلال منظمات المجتمع المدني وكافة المنظمات الديمقراطية، والمطالبة بحقوق الملايين من الشعب، سيكون مؤداه: الحرية للوطن، والديمقراطية للشعب. ما يلزم هنا هو بضعة من الزمن. وما يتبقى، فهو وجود قيادة سياسية ديمقراطية هاضمة للديمقراطية وضليعة فيها، مؤمنة بأهدافها، وملتحمة بشعبها كما الظفر واللحم. وإذا ما دعت الحاجة سيستلزم الأمر الصراع القانوني الهادف إلى البلوغ بالقانونية غير الديمقراطية إلى الحرية والحقوق الديمقراطية.
لو ثمة آثار طفيفة متبقية من الهوية اليسارية الاجتماعية الديمقراطية – حسب ما تسمى – التي تُقَدِّم آمال الشعب هدية وهِبة إلى حيثيات العصور الوسطى، فمن المحال أن تتواجد قضية في السلام والأخوة والحرية والمساواة، إلا وستحقق الظفر الأكيد في تركيا وكردستان راهننا، عبر الديمقراطية بحدها الأصغري، ودون أي تمييز في القومية أو الجنس أو الدين أو المذهب.
ب) الطريق الثاني: إذا لم يُعطَ الجواب اللازم رغم كل نداءاتنا وتنبيهاتنا، واستمر قمع كافة آمال شعبنا (وشعوبنا) وخطواته المتجهة نحو الحرية والمساواة والديمقراطية، عبر أساليب الحرب الخاصة بمكر ودهاء خبيثين، وإذا فُرِضت بإصرار المواقف غير المنسجمة ولا المتوافقة مع مبادئ الجمهورية الثورية، ولا مع تكامل الوطن أو أنماط التعابير العصرية المتحضرة للدولة والأمة؛ في حال ذلك فسيكون الرد بالتطبيق الشمولي لحرب الدفاع عن الذات. معلوم أن هذا ليس خيارنا، إلا إن العديد العديد من الألاعيب المحاكة في الوسط تستدعي – بل وتفرض علينا – قمة الاستعداد في هذا الشأن، وعدم التواني عن تطوير وتصعيد حرب المقاومة للدفاع عن الذات، في أي لحظة تتطلب القيام بذلك. لا غُمام في أنه لا يمكن اعتباري مسؤولاً عن تحديد أسلوب هذه الحرب وإدارتها (حتى لو رغبتُ). إذ لا أستطيع صدها، ولا القول لهم بألا يفعلوها. إنما تقع مسؤوليتها التاريخية على عاتق الدول المعنية وقوى الدفاع الشعبي. هذان الطرفان هما اللذان يحددان استراتيجياتهما وتكتيكاتهما بشكل متبادل. وينعقد مدى محدودية أو اتساع التطبيقات المنفذة على قوة كل واحد منهما وقُدُراته وكفاءاته. لذا، على كل طرف أن يعرف الآخر حق المعرفة، ليخطو خطواته بناء عليه.
لا أتمالك نفسي عن التنويه إلى إمكانية إعلان هدنة (وقف إطلاق نار متبادل) على شكل مواد محددة سلفاً. هذا ويمكن الإعلان مسبقاً عن قواعد وأصول الحرب الواجب الامتثال لها، في حال حدوث أي حرب محتملة؛ وذلك على شكل بلاغ تُلفَت به أنظار الأوساط الدولية المعنية ودقتها. هذا إلى جانب وجوب تقديم وثيقة الهدنة. وإذا ما تولَّد وضع كهذا، ستقع قوتان بالأساس في حرب البقاء أو الموت في شروط كردستان: قوى الدولة، وقوى المؤتمر. في حين قد تُصَفَّى القوى البينية بسرعة. لذا، يمكن توجيه نداء لها أيضاً، كي لا يصيب الضير والضرر – بلا سبب – المدنيين والأطفال والنساء والعُجَّز وغير المعنيين بالأمر، على أقل تقدير. قد يَترُك امتثالُ الأطراف المعنية لقواعد وأصول الحرب البابَ مفتوحاً أمام طريق أكثر إنسانية. بمعنى آخر، قد يؤدي إلى الهدنة، وربما إلى سبيل الوفاق الديمقراطي. لا شك في لزوم المواد اللوجستية والأشخاص لأجل العيش. دعامة الأنصار الأساسية هي الجبال والشعب. وقد تتصاعد الحروب في الجبال والمدن والقرى. حيث ستُجرَّب عمليات قطع الطرقات والاستيلاء على الأماكن في كل الأرجاء. فإلحاق الأشخاص بالجندية الإلزامية وجبي الضرائب ممارستان اعتيد تطبيقهما على الدوام. لذا، على كل طرف أن يدرك كيف يحدد أهدافه، وكيف ينفذها، كي يتمكن من العيش.
لا أرى داعياً للإسهاب في هذه المسائل. وكل أمنيتي ألا تندرج في جدول الأعمال. أود الإيضاح للأطراف المعنية بأن أي سيناريو محتمل كهذا، قد ينبه الجميع. ولربما يحصل ما هو أسوأ. وإذا ما وضعنا تراجيديا الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وأحداث العراق المأساوية الأخيرة نصب أعيننا، سيُدرَك تماماً أننا لا نتكلم هباء أو سدى. أعتبر الإشارة إلى هذه النقاط مَهَمة وواجباً ضرورياً، لتحليل رموز المؤامرة المحاكة ضدي. وأقول بكل إيمان وقناعة أنه ما من مشاكل يستعصي حلها مع تركيا، بشرط توفر التكامل الديمقراطي للوطن، وارتباط الدولة بالديمقراطية جوهرياً. ومن دواعي إيماني ذاك أن نمد المشاركة والمشاطرة المتداخلة التاريخية لشعبينا بالقوة والدفع، من خلال المعايير العصرية والديمقراطية ومبادئ الحرية والمساواة. وكَوني منفتح لكل موقف جوهري متفانٍ، أمر لا يحتمل الجدل. فالنقطة التي طالما ارتعشَت أفصادي لأجلها وارتعدت، كانت في سبيل ألا يريق إنساننا ولو قطرة دم واحدة من عروقه، وألا يجتر الآلام ولو للحظة واحدة. لكن النقطة الأخرى التي لا تشوبها شائبة، هي تحليلي وإيضاحي الشمولي للغاية لكل هذه الأمور، وعجزي عن فصل ذلك عن هويتي الإنسانية والاجتماعية والشعبية. وبالأصل، ما من جانب من الحياة يمكن تفهمه أو العيش ضمنه خارج إطار هذه الخاصيات.
قد يُسأَل مرة أخرى: ما علاقة هذه المواضيع، التي حاولتُ معالجتها في مرافعتي حتى الآن، بدعواي في محكمة حقوق الإنسان الأوروبية؟. إلا إن المستجدات المتجددة في كل يوم ضمن إطار مشروع الشرق الأوسط لوحدها، تكفي للدلالة على مدى متانة العلاقة تلك وكثبها. إذ، وبدون تحليل الحضارة الغربية، محال أن تُفهَم دعواي أو العلاقات القائمة بين تركيا من جهة، والاتحاد الأوروبي وأمريكا من جهة أخرى، على نحو سليم صحيح. وفي حال عدم التحليل السليم لتلك العلاقات، لا يمكن إيجاد أجوبة صحيحة لمشاكل المعيشة، التي تحولت إلى جهنم مستعر وفوضى عارمة في حياة كافة شعوب الشرق الأوسط، وعلى رأسها الشعبان التركي والكردي. إن فصل دعاوى الاتحاد الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية ذات الأبعاد التاريخية عن بعضها البعض، وقطع الأواصر فيما بنيها، وإنزالها إلى مستوى البُعد الشخصي (الفردي)؛ بعيد كل البعد عن الدمقرطة وحقوق الإنسان المزعومة. بل إنه يعكس مرض الفردية المفرطة للحضارة الأوروبية ومصالحها ومنافعها. سأخصص فصل النتيجة من مرافعتي لهذه المسألة. وسأبين فيه للفرد كيف يمكن أن يتواجد بالعدل والإنصاف بحق مجتمع العدالة. بالتالي، سأكون قد برهنت على أن الحرية الفردية، إنما تمر من حرية المجتمع والشعب المنتمى إليهما.

shiyar
04/04/2007, 11:02 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)

عبد الله أوج آلان
++++++++++++++++++++++++++++

4 - مهام عملية إعادة البناء في PKK، مرحلة KOMA GEL

إن الدراسات التي قمنا بها باسم PKK، وعمليات النقد والنقد الذاتي، ومواقفنا التي أبديناها بصدد مشاكل إعادة البناء فيه، تنورنا وتنبهنا في آن معاً إلى مهامنا المنتظرة. في حين أن تناولنا للحل الديمقراطي يزودنا بإمكانيات الاستيعاب الأفضل لموضوع KOMA GEL.
1- علينا معرفة أسباب بطلان مفعول الهيكلية القديمة، ووضعها نصب الأنظار، عندما نتوجه نحو عملية إعادة بناء PKK. لقد انتقدنا الهيكلية القديمة في نقاط ثلاث أساسية:
أولها: رؤية مصطلح "الحزب" كامتداد لمصطلح "الدولة" وموصل إليها. فالحزب المتمحور حول الدولة في تناقض ديالكتيكي مع الديمقراطية والحرية والمساواة شكلاً ومضموناً. وPKK لم ينقذ نفسه كلياً من هذا المفهوم.
موضوع النقد الذاتي الثاني كان بصدد وجهة النظر إلى "السلطة". فالحزب المتكون حسب هدف بلوغ السلطة، سيُرجىء الدمقرطة المجتمعية ويؤخرها على الدوام، ولن يقوم بتفعيلها. وغالباً ما تلجأ الكوادر الناشئة بموجب ذلك، إما إلى بلوغ السلطة بذاتها أو الاعتماد عليها، عوضاً عن الاعتماد على الشعب. وما يجذب اهتمامهم دائماً هو الحياة المعتمدة على سمسرة السلطة. لقد بيّنا أن هذا الاتجاه بالذات حوَّل ثلاثة تيارات ثورية هامة إلى مذاهب للرأسمالية. فتيارات الاشتراكية المشيدة والديمقراطية الاجتماعية والتحررية الوطنية، وبسبب اتخاذها بلوغ السلطة المبكرة أساساً لها بدل الديمقراطية، عانت التشرذم والانحلال أولاً، لتصبح مجرد حركات احتياطية للنظام الرأسمالي فيما بعد.
أما النقد الذاتي الثالث، فيخص موضوع "الحرب". حيث اعتُبرت وسيلة مقدسة – أياً كان نوعها – دون استيعاب طبيعتها وماهيتها. بيد أن كل حرب خارجة عن نطاق الدفاع المصيري الاضطراري، تُعتَبَر جناية بحد ذاتها. وقد تواجدت الحروب وراء كل الهيمنات الاستعمارية البارزة في التاريخ. حتى الأحكام والقواعد والتمأسسات المجتمعية، كانت متمحورة حول الحرب. كان يُعتَقَد بأن الظفر في الحرب هو دعامة لكل الحقوق. وكان ساطعاً عجز هذا المفهوم عن أن يكون اشتراكياً وديمقراطياً. إذن، كان لا بد لأي حزب اشتراكي أن لا يتمحور حول الدولة، ولا يهدف إلى السلطة، ولا يتمركز حسب الحرب، باعتبارها العنصر المصيري التعييني الذي يتوارى وراء كل الأمور الأخرى. كما ونَوَّهنا بحساسية فائقة إلى أن التوجه نحو عملية إعادة البناء دون معرفة الذات، سيؤدي للوقوع مجدداً في نواقص وأخطاء جدية.
إذن، والحال هذه، يجب أن يتطابق تعريفنا لمصطلح "الحزب" مع عمليات النقد والنقد الذاتي تلك. أي يلزمنا تعريف للحزب بحيث لا يتمحور حول الدولة، ولا يضع السلطة والحرب في مركز التحولات المجتمعية الجديدة. وبما أن السلطة والحرب تتواجدان في أُسّ الرأسمالية كآخر نظام للمجتمع الطبقي، فعلى الحزب الرامي إلى تجاوز الرأسمالية أن يُخرج السلطة والحرب من أساس المجتمع. لا يتحقق هذا بدوره، سوى بتحويل الوجود المشاعي والموقف الديمقراطي للمجتمع إلى مجتمع ديمقراطي حر وعادل متساوٍ. إذا ما أخذنا هذه العناصر نصب الأعين، سيكون تعريفنا للحزب متمثلاً في أنه التنظيم الرُّكن لحركة اجتماعية تصوغ برنامجها بموجب هدف التوجه إلى مجتمع ديمقراطي وحر ومتساوٍ، وإجراء التحولات اللازمة لذلك، وتَلُمّ شمل كافة الفئات والشرائح الاجتماعية المنتفعة من هذا البرنامج تحت لواء استراتيجية مشتركة، وتعتمد على أشكال عملياتية وتنظيمية واسعة النطاق، وعلى رأسها منظمات المجتمع المدني إلى جانب الحركات المعنية بالبيئة والفامينية والثقافية، ولا تهمل الدفاع المشروع كتكتيك أساسي.
أما الاسم الذي بمقدورنا إطلاقه على نظريتنا كوجهة نظر أساسية تحدد المسار لمضمون تعريفنا للحزب، فممكن أن يكون مجدداً "الاشتراكية العلمية"، بشرط أن يكون بموجب هذا التعريف. أو يمكن تسميتها بـ"الاشتراكية الديمقراطية"، كتعبير مشترك للثلاثي الأساسي: الفلسفة التي تعتبر التعميم الأشمل لعلم الاجتماع، والأخلاق باعتبارها الوعي الحر للمجتمع، والسياسة التي تفيد بإرادة التحويل والتغيير. المهم هنا تعريف المضمون، لا الاسم.
لا حزب بدون نظرية. فمثلما لا يمكن التفكير بجسد دون عقل، لا يمكن التفكير أيضاً بحزب دون نظرية. يجب أن تشمل النظرية مسألة الأخلاق، وأن تستوعب السياسة كفن يعبر عن إرادة تغيير المجتمع، بقدر استيعابها للتعبير الأعمّ للتطور العلمي، إلى أن يتم استخدام علم الاجتماع والأخلاق والسياسة معاً بشكل متواصل، ويتحول هذا الثلاثي إلى ظاهرة تسير بآلية تلقائية في تغيير المجتمع وتحديثه.
العقلية هي قوة المعنى وطاقته في الحزب. جلي تماماً ضرورة استيعاب عقلية الحزب لعلم الاجتماع استيعاباً كاملاً. فعلم الاجتماع، الذي يشمل كل سياق التطور العلمي، ويُعتَبَر المتمم الأخير لكافة العلوم؛ هو القوة التنويرية للمجتمع المراد تحديثه. فالظاهرة المجتمعية التي عُمِلَ على تنويرها قديماً بالمدارس الميثولوجية والدينية والفلسفية، قد دنت خلال مسيرتها الطويلة من التعبير الاجتماعي والعلمي لها، ولو بشكل محدود. كما يَنمُّ الاستيعاب العلمي للمجتمع عن قوة لا تُضاهى. من هنا، فإدراك السوسيولوجيا، ولو بحدود، هو الجانب الأقوى في التغيير المجتمعي. ولكنه غير كافٍ. إذ يجب المعرفة تماماً أن كل الأنشطة الميثولوجية والدينية والفلسفية والعلمية الجارية على مدى التاريخ البشري، هي بتحليلها الأخير ذات مصدر مجتمعي. وقد أُنشئت بغرض تسليط الضوء على حقيقة المجتمع ومشاكله وطرق حلها وتأدية متطلباتها. أي أنها لا تتواجد منفصلة عن المجتمع.
بدون فهم المجتمع يستحيل فهم الفرد أو الأشياء أو الطبيعة. يتخفى وراء الكوارث اللاحقة بالمجتمع بيد الإنسان كلٌّ من: الحرب والسلطة، الدولة والجهالة، والبطش والظلم. كلما استوعبنا المجتمع، كلما استطعنا اختراق نطاق مؤسسات البطش والجهالة تلك. وبما أن الدولة والسلطة والحرب هي الثمار الشاذة للذكاء التحليلي، فتجاوزها أيضاً غير ممكن، سوى بتكاتف واتحاد الذكاءين التحليلي والعاطفي. على كل المهتمين بمسائل الدولة والسلطة والحرب – وبالتالي السلام – أن يولوا الأهمية الأولية للفهم القدير لمصطلح "المجتمع".
كما يتحتم أن تكون الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من ذهنية الحزب وعقليته. والأخلاق هي الشكل العام للحرية المجتمعية. وهي بتحليلها الأخير علم يفيد بالوعي. وأي مجتمع غابت فيه الأخلاق تعد حريته منتهية. بمعنى آخر، المجتمع اللاأخلاقي مجتمع فانٍ. إذن، والحال هذه، يعد اعتماد الأخلاق أساساً، وعدم الانزلاق في اللاأخلاقية، مبدأً أولياً لا يستغنى عنه في المساعي الرامية إلى تحديث المجتمع. من المحال انتظار استمرارية التيارات الاجتماعية التي لا تولي الأخلاق حيزاً لديها. فالعازمون على تحديث المجتمع وتغييره، عليهم ألا يقطعوا روابطهم بأخلاق الحرية بتاتاً.
أما العلاقة القائمة بين العقلية والإرادة السياسية، فمعنية بالعملية. فالإدراك والأخلاق لا يمكن أن يجدا معناهما، أو يبلغا قوة الحل، إلا بالتحامهما بالعملية. في حين تكون الأخلاق والعلمية المفتقرتان إلى السياسة مشحونتين بالزيف والرياء، وتعبران عن بيع الذمة والاستسلام باسم القوى المهيمنة المتسلطة بالتأكيد. فالسلطة والمعرفة معاً تعنيان أن يكونا جزءاً لا ينفصم من الأخلاق الرسمية. يعود وهن تأثيرات مواقف رجال العلم والعديد من التصرفات الحكيمة، بل وحتى تضادها مع أهدافها، ولعبها دوراً نقيضاً لمصالح المجتمع؛ إلى إغفالهم لهذه الرابطة القائمة. هذا ويعتبر الانشغال الدارج في حاضرنا بالأخلاق فحسب، أو بالعلم أو السياسة بشكل منفصل؛ التقرب الأخطر الذي يفتح الأبواب على مصاريعها أمام كل الكوارث الحاصلة. لربما الأمر الذي نعوزه اليوم إلى أبعد حد هو تفعيل المواقف الرامية للقضاء على هذا الانقطاع والانفصال، والتي – أي المواقف – تتطلب بدورها بلوغ عقلية حزبية قديرة بأسطع أشكالها.
من هنا، يتسم تعريفنا للعقلية الذهنية بأهمية قصوى. وإذا لم نعتمد هذا النمط من العقلية أساساً، ولم نجعله قابلاً للتطبيق والتنفيذ؛ فلن ننجو من العاقبة الوخيمة والعقم، الذي وقعت فيه تيارات الاشتراكية المشيدة والديمقراطيون الاجتماعيون والتحرريون الوطنيون، بالتحول إلى قوة احتياطية للنظام القائم. لذا، فإننا نولي أهمية كبرى وأولية لعنصر العقلية في تعريف مصطلح الحزب، لدى شروعنا بالتوجه نحو عملية إعادة البناء. كلما كان الحزب قوياً ورصيناً ببنيته العقلية من هذه الناحية، كلما أصبح قادراً على توجيه برنامجه وتنفيذه بنحو وطيد وأقرب إلى الصحة، عبر استراتيجية وتكتيكات كفوءة. وفي حال العكس، فلن ينقذ نفسه من فقدان أهم الخطوات المكتسبة، بل ولن يقدر على إعاقة انهيار الكيانات المؤسسة بعد أكثر الثورات نجاحاً وظفراً. واشتراكية السوفييتات مليئة بالمواعظ من جانبها هذا. المسألة ليست مجرد التحام نظري وعملي، أو تحديد عقلية حزبية معتمَدة. فالنظرية والعقلية الحزبية ذات المضمون غير الواضح، وغير المعرَّف بموجب الأهداف المرتآة، تتحولان في منتهى المآل إلى عوامل تُفرز تطورات خاطئة في الممارسة العملية. لذا، يجب بسط الالتحام بين النظرية والعملي بشكل سليم.
لا تجد سلامة النظرية معناها، إلا إذا انعكست على البرنامج. فالبرنامج بالنسبة لحزب ما هو المقاييس الأساسية للتغيير المجتمعي. من الصعب إطلاق اسم "حزب" على جماعة تفتقر إلى البرنامج أو تصوغه ولا تهضمه. وكلمة "حزب" بذاتها تعني القسم الضيق أو الجزء. ولها مسيرة طويلة من المغامرات التاريخية. من الممكن تسمية أول مجموعة مرشدة وخبيرة في المجتمع بالحزب. وأول مجموعة حاكمة في الهرمية هي الحزب. تقوم الفئة الإدارية بتأسيس الحزب الحاكم، لدى التوجه نحو بناء الدولة، باعتبارها المجموعة الأيديولوجية والعملية المنظمة في الوقت عينه، في حين أنها تترك المجتمع في الأسفل بلا حزب بربطه بذاتها ذهنياً، وحثه على الهرولة وراء الانتاج. في الحقيقة، فالعقائد الطوطمية لأصول السلالات والقبائل، إنما تعني أحزابها أيضاً. وتقاليد الجماعات هي حزب بمعناه البدائي.
وعلى حد المعلومات المأخوذة من التاريخ، تمثل قبيلة سيدنا ابراهيم أول حزب شعبي تحرري جاد للقبائل الفقيرة المحاربة ضد البابليين ونماردة الآشوريين وضد الفراعنة المصريين. كان هذا الحزب شعبياً وتمردياً في آن معاً. يمكن تسميته أيضاً بالحزب الشعبي المتمرد. في حين أن سيدنا عيسى قام لأول مرة بتقسيم صفوف القبيلة اليهودية، والشروع في حركة حزبية للفئات الفقيرة، أو بالأحرى البلوغ بحزب الفقراء السابق (الأسنيين) إلى مستوى أرقى. والديانة المسيحية أيضاً حاربت كحزب للفقراء ضد الإمبراطورية الرومانية، على مر ثلاثة قرون. وسيدنا محمد ابتدأ تمرده على أشراف مكة بمجموعة محدودة من الفقراء. يمكن اعتبار الخوارج و القرامطة والعلويين في الديانة الاسلامية كحركات حزبية ممثلة لنفس الشرائح القبلية الفقيرة وعناصرها البروليتارية.
ومذاهب العصور الوسطى هي أحزاب منفردة بذاتها. حيث تمثل شريحة اجتماعية بما يوافق أوضاعها الطبقية والعقلية. والنظام الحزبي في النظام الرأسمالي أمر معروف. تعبر كل هذه الحركات التقليدية البارزة على مر التاريخ، بعقائدها وتنظيماتها، عن برامج وتنظيمات منفردة بذاتها. وما البرنامج سوى عقائد اجتماعية، تم الإجماع عليها والجزم بها والامتثال لها. وهي قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. أي أنها عقائد وأفكار صيغت على شكل مبادىء. وأكثر العارفين بكيفية الارتباط بمبادئهم، هم أولئك الناجحون في تجسيدها في كافة نواحي حياتهم. في حين أن البقاء بلا مبدأ ولا برنامج، يعني فيما يعنيه اللاهدف، والسير حسب مهب الريح، والانغماس في النزوات الشخصية ونقاط الضعف. من هنا، يُعَدَّ المرتكزين إلى عقلية نظرية وأخلاقية وسياسية مكتسبة نتيجة الجهود الدؤوبة والمضنية، والمحوِّلين إياها إلى برنامج يفيد بمبادىء التغيير الاجتماعي بشكل ملموس؛ قد خَطَوا بذلك أهم خطوة على طريق التحزب. بينما يكون تحزب من لا يخطون هاتين الخطوتين مشوَّهاً وخاطئاً، ولا يتعدى نطاق التعاطف. التحزب عمل في غاية الجدية. وربما هو تعمق ذاتي، وتَحَلٍّ بالفضائل، واكتساب المهارات والقدرة على تربية النفس لعشرات السنين. فعلى سبيل المثال، نصادف وجود القديسين والقديسات، الذين جهدوا لتربية أنفسهم في مغارة طيلة أربعين عاماً، في تاريخ الأديان والمذاهب. علينا تناول عقلية الحزب وبرنامجه بوجهة النظر التاريخية هذه.
وفي تاريخ PKK أيضاً، ثمة متعبدون للعقلية الكبرى والارتباط المبدئي. إذ هناك حقي، مظلوم، كمال، محمد خيري، فرهاد، معصوم، تايلان أوزكور، برزان أوزتورك، زيلان، بريتان، برمال، والكثيرون الكثيرون ممن لا يحصى عددهم من أمثلة الصداقة الناجحة في تمثيل الحزبية المقدسة. وجميعهم يماثلون معنى قراءة كتاب ثمين القيمة والمعنى. مقابل ذلك، يمكن أيضاً مشاهدة الكثيرين من الأعضاء الخونة، الأغبياء، المنحرفين، الكُسالى، اللامبالين، السذج، ضيقي الأفق، والمهتمين بالأمور اليومية فقط. هذا ويتواجد عدد لا يستهان به من الناشطين كحمّالين مفتقرين إلى العقلية الكبرى الشاملة والقيم المنهاجية.
البرامج ليست مبادىء أو آراء أبدية ثابتة لا يمكن تحديثها. بل يتمثل الموقف الأصح في تحديث البرنامج في الفترات المرحلية الهامة، باعتبار أن التغيير أمر دائمي. أما الأمر الذي يجب إبقاؤه ثابتاً دون تغيير، فهو الحفاظ الدائم على حيوية قوة التحزب المتجدد كمساعٍ، لإيجاد الحلول بعناية فائقة وباستمرار لمتطلبات المجتمع الأساسية. كذلك معرفة كيفية العيش بهذه الجهود والعقائد، والنجاح فيها حتى الرمق الأخير.
من المهم بمكان وضع هذا الإطار نصب الأعين، واستذكاره دوماً، لدى التوجه نحو تغيير البرنامج في PKK. فعملية البناء لا تعني – حسب ما يظن البعض – تصفية الذات، أو النزول إلى مستوى جمعية بسيطة.
لقد عملنا في العديد من فصول مرافعاتنا على تسليط الضوء على آرائنا النظرية (theoria تعني النظرة أو الرأي المقدس، ويمكن تعريفها بالنظرة إلى العالم أو البراديغما المعنية بالعالم) باعتبارها – أي آراؤنا النظرية – إحدى أهم قوى وقُدُرات عالمنا العقلي، الذي سيسيطر على عملية إعادة البناء في PKK. تطرقنا بكثرة إلى سمات نظريتنا، باعتبارها آراء منتظمة توصلنا إليها بصدد الكون، الطبيعة، الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، الإنسان والمجتمع. وألقينا النور – ولو على مستوى التعريف – على مواقفنا النظرية، بدءاً من الكوسموس حتى الكوانتوم، ومن أول تكوين للكون إلى فكر الإنسان. وعوضاً عن الدخول في التكرار، سنستمر بعكسها على المواضيع المعنية، حين تدعو الحاجة. إننا نتحرك على الصعيد النظري دوماً. فالذي لا يكون مُنَّظِراً، لا يمكنه قيادة حركة حزبية بهذه السهولة. بقدر ما نحقق الكفاءة والقدرة النظرية، سيتطور الحل والتحليل العملي، وستنجح عملية البناء.
ثمة حاجة للتوقف عند البرنامج. فلنستمر. تتشكل البرامج الحزبية في راهننا من أربعة أقسام مألوفة أساسية: مستوى الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشخصية. ففي المستوى السياسي تُعالج مشاكل الدولة والنظام، وتُصاغ التسويات السياسية البديلة المراد وضعها على شكل مبادىء. وبقدر ما بإمكاننا فهمه من تحليلاتنا الجارية حتى الآن، فقد بُذلت الجهود لتحليل المواقف السياسية لتحزبنا الجديد، إزاء الواقع الملموس في تركيا وكردستان. وطُوِّرَ الموقف السوسيولوجي بصدد الدولة والسياسة. ولُفِتَتْ الأنظار إلى السمات الأوليغارشية واللاديمقراطية للدولة. فرغم التلفظ بكلمة الديمقراطية، إلا إنه لم تُخطَ أية خطوة متعلقة بمضمونها. وقد بُرهِنَ على هذا الأمر في القضية الكردية. فالميدان السياسي بعيد عن الدمقرطة. نخص بالذكر هنا كافة الأحزاب التي تعمل كجناح دعائي وتحريضي للدولة في الساحة السياسية، والتي تبقى عاجزة عن دمقرطة ذاتها بالتوجه نحو المجتمع المدني وحقوق الإنسان والبيئة وحرية المرأة؛ وذلك لرجحان كفة التقاليد الدولتية لديها، رغم قوة حنينها وشوقها إلى دمقرطة المجتمع. ومقابل محاولات تحديث الجيش، نلاحظ مدى قوة تأثيره التقليدي بشكل تعييني على النظام السياسي.
إذن، لا بد من وجود تسويات الإصلاح الهادفة إلى تنبيه الدولة، وجعلها متيقظة إزاء الديمقراطية الحقة، بدل الاكتفاء بالتلفظ بها؛ بحيث تتصدر قائمة مطاليبنا في الميدان السياسي ضمن برنامجنا. لقد هُمِّشت الدولة تماماً في برنامج PKK القديم. أي اعتُقِدَ بإزالة وجودها كلياً. أما البديل المُصاغ مكانها – ورغم عدم وضوحه التام – فهو كيان أشبه بالدولة الكردية. لم نكن نصادق أو نقبل بالمواقف الفظة، من قبيل "لِتَزُل الدولة التركية، ولتأتِ الدولة الكردية مكانها". لا لصعوبة إدخال هذا الرأي حيز التنفيذ، بل لعدم تماشي دولتيتنا مع الآراء العالمية الشائعة على الصعيد المبدئي. النقطة الثانية هي عدم واقعية الرأي القائل "لن تكون هناك دولة"، والذي يشيد بالنهليستية والفوضوية (anarşizm) القديمة بالأكثر.
هذا علاوة على أنه لا يمكن وجود أتراك الدولة وأكرادها. فهي تولي الأولوية دائماً لمصالحح زمرة ضيقة محدودة، كتقليد تاريخي ثقيل الوطأة. في حين تبقى خدمتها للساحة العامة ضيقة إلى أقصى الحدود، ومجرد مظاهر. لكن، وباعتبار أن الساحة العامة والأمن العام مسائل لا يمكن إغفالها في راهننا، فإننا نجدد نظرتنا لمفهوم الدولة المترسخ في تركيا وعموم كردستان. فكما أن القول بإزالة الدولة من الوجود فوراً، أمر غير منطقي من الناحية العلمية؛ فإنه بالمقابل لا يعني أيضاً أن تدوم. إذ لا يمكن قبول وجود الدولة بمعناها الكلاسيكي، مهما رُمي إلى مطابقة ممارسات السلطة الاستبدادية القائمة مع الدولة على وجه الخصوص. الصحيح هو الوصول إلى وفاق في مؤسسة سياسية يمكن تعريفها بـ"السلطة العامة"، بحيث تلبي متطلبات الأمن العام وتعمل على خدمة الساحة العامة، وتكون محدودة النطاق صغيرة الحجم، بحيث لا تُعتَبَر دولة بمعناها القديم.
بالمستطاع تسمية هذه المؤسسة بـ"الجمهورية"، لملاءمتها التعريف المذكور. وهي تعني إدارة الشعب التي تكافىء الديمقراطية من حيث التعريف. لكن، باعتبار أن "السلطة العامة" تعتمد الترفيع والتعيين أساساً لها بدل الانتخاب، فالرأي القائل بتكافؤها مع الديمقراطية غير صحيح. والأصح هو التعبير عنها بأنها دولة متنبهة للديمقراطية ومعترفة بها. و"جمهورية تركيا" المُعَرَّفة على هذا المنوال تعني – أو يجب أن تعني – الاعتراف القانوني والدستوري والمواطنة الحرة بالنسبة للكرد. وقونَنَة حقوق الكرد تعني الاعتراف والقبول بهويتهم وحقوقهم قانونياً، على الصعيد العام أو الخاص. واعتراف الكرد، شعباً وثقافةً، بالجمهورية مرتبط باعتراف الأخيرة بهم كوجود ثقافي وكأصحاب حق سياسي. يجب أن تكون الاعترافات هذه متبادلة ومرتكزة على الضمانات القانونية.
تحتاج جمهورية تركيا لمواقف إصلاحية ونهضوية لأجل تركيا عامة، ولأجل الكرد خاصة، نظراً لثقل وضعياتهم. ورغم بعض الإجراءات القانونية والدستورية الحاصلة، إلا أنه يصعب تسميتها بالإصلاحات. نخص بالذكر هنا القضية الكردية. فكلما استمرت المواقف الإنكارية وغير الصادقة إزاءها، كلما صَعُبَ الوفاق الدستوري. وبما أن PKK يُعتبر مسؤولاً بالأساس عن كردستان، فهو حين يقوم بإعادة بناء ذاته، يرى في تأمين الوفاق بين الديمقراطية وسلطة الدولة في الأجزاء الأربعة التي تحكمها دُوَلها القائمة، أمراً بالغ الأهمية. وإذا كانت هذه الدول المعنية – بما فيها الدولة الكردية الفيدرالية – تود الحفاظ على وجودها في كردستان، فمقاييس ذلك هي الخدمة في الأمن العام والساحة العامة الأساسية، بما لا يتعارض ومصالح الشعب. وممثلو الشعب الكردي مكلفون بمهمة تحديد هذه المقاييس، وتحقيق الوفاق فيها مع مسؤولي الدولة. فممارسة الدولة بلا حدود ومن طرف واحد، أمر غير مقبول طبعاً، إذا لم تعتمد على رضا الشعب. وإذا ما فُرِضَت جَبراً، فسيتولد حق الشعب في المقاومة. لذا، لا بد من الوفاق بين الدولة كسلطة عامة، وبين ممثلي الشعب المُعَبِّر عن إرادته الديمقراطية.
بمقدورنا إيجاز هذه المادة الأهم على الاطلاق في البرنامج على النحو التالي: "الإدارة الديمقراطية الذاتية للشعب في كردستان + الدولة كسلطة عامة". وكردستانٌ حُدِّد موقعها بهذا الشكل، تعني اكتساب وضعية ديمقراطية أدنى إلى الحرية والمساواة. أما القول بالديمقراطية بلا دولة، فيعني خداع الذات، وجعلها مغامرة في الحقبة التاريخية القائمة. ثمة حاجة ماسة للوفاق في وجود دولة بيِّنة الحدود ومُحَجَّمة. وبالأصل، فإننا نركز بإصرار على عدم إمكانية تسمية هذه السلطة بـ"الدولة" بمعناها الكلاسيكي، ونشير إلى ضرورة تسميتها بـ"المؤسسة الاجتماعية العامة" المرتبطة شكلاً ومضموناً بالديمقراطية، والأكثر عصرية.
من جانب آخر، فالديمقراطية في كردستان تعني انتخاب ومراقبة الشعب لمرشحيه المكلفين بالبحث عن متطلباتهم الاجتماعية المشتركة، وفي مقدمتها المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ والرد عليها خلال فترات متعاقبة منتظمة، سواء كان ذلك على الصعيد العام أو الخاص. فالدولة لا تُعنى بالديمقراطية التي هي مِن صُلب الأعمال الذاتية للشعب. والدولة لا تقدر سوى على إبداء الاحترام اللازم لإرادة الشعب الديمقراطية. وإذا ما تطلب الأمر خدمة ما، فإنها تقوم بتأديتها. باختصار، يمكن التحلي بنظرة مستقبلية تُدرَج كمادة أساسية في البرنامج، بحيث تصاغ على الشكل التالي: "الديمقراطية + دولة تركيا، إيران، العراق وسوريا كسلطة عامة"، بحيث تُعَرَّف جيداً ويُتَفَق عليها في كردستان لأجل المرحلة المقبلة. وعندما نقول بأن تكون مادة في البرنامج، فلا نقصد أن تكون مادة واحدة فحسب، بل يمكن تقسيمها إلى ثلاث أو أربع مواد.
تتعدى عملية دمقرطة كردستان كونها مجرد قضية قانونية، لتكون مشروعاً اجتماعياً شاملاً يتضمن تكوين الشرائح الاجتماعية لإرادتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومأسستها، وإدارة الشعب شؤونه ومراقبتها تجاه الشرائح الناكرة لحقوقه في تعيين قدره وهويته. وهي مرحلة دائمة الفعالية. كما تُعد الانتخابات إحدى الوسائل المتبعة لتعيين هذه الإرادة. أما الأمر الأهم، فهو التنظيم الفعال للشعب وعملياته. إنها مرحلة ديمقراطية تمتد حتى مشاعات القرى والمدن ومجالس المدن وبلدياتها ومؤتمر الشعب العام، وتعبّر عن حياة سياسية ديناميكية. ويمكن خلالها تنظيم الشعب ذاتَه، عبر ديمقراطية مشتركة مع الشعوب المجاورة وفقاً للظروف، وإلا فبمقدوره تأسيس نظامه الذاتي أيضاً.
تحظى مهمة دمقرطة السياسة بأهمية بارزة في الميدان السياسي. والسياسة الديمقراطية تتطلب أحزاباً ديمقراطية. إذ من المحال انتظار دمقرطة الحياة السياسية، في حال غياب الأحزاب والهيئات المعتمدة أساساً على المطاليب الاجتماعية وغير الهادفة إلى الدولة. لا تتعدى الهيكليات الحزبية في تركيا كونها جناحاً دعائياً للدولة، أو وسائل تهدف إلى نشر السمسرة في حال تربعها على أجهزتها. يعد الانتقال إلى الأحزاب المتمحورة حول القضايا المجتمعية، وإيجاد الوضعية السياسية الملائمة لذلك؛ جزءاً هاماً من عملية الإصلاح السياسي. إذ لا يزال تأسيس حزب باسم كردستان أمراً محظوراً، ولا يسمح بوجود أحزاب خارج نطاق الدولة. جلي بسطوع حتمية تجاوز هذا الوضعية. فالأحزاب والائتلافات الناطقة باسم كردستان مرتبطة بمضمون الدمقرطة، شرط ألا تتحول إلى وسائل للانفصال أو العنف.
يتميز استيعاب ماهية السياسة والمجتمع الديمقراطيين ومساعي التحديث بأهمية قصوى في كردستان. نخص بالذكر هنا حيوية استيعاب سمات الظاهرة السياسية الاستبدادية للمعايير الديمقراطية، وتطبيقها إياها. فالأمر لا يقتصر على سياسات المركز اليميني، بل إن غالبية السياسات اليسارية أيضاً متمحورة حول الدولة، وتتسم بالاستبدادية والسمسرة. تُبيِّن هذه الخاصيات الأساسية أسباب نفور الشعوب الشرق أوسطية من السياسة. إذ، وبعد أن تُناط السياسة بدور الخداع والزيف والقمع، لا مناص حينئذ من بقاء المجتمع خارجها، أو بالأحرى عدم تحوله إلى مادة للسياسة المتسلطة. وأفضل الأساليب المخولة لتجاوز هذا الاغتراب السياسي، هي فن تسيير السياسة الديمقراطية الهادفة إلى المجتمع الديمقراطي والمتمحورة حوله. وبدون اعتماد السياسة الديمقراطية أساساً نظرياً وعملياً، لن تنجو كل المساعي المبذولة داخل كافة المجموعات الاجتماعية من الخداع والرياء. لا معنى هنا لحسن النية. من الضروري تمييز الروابط والفوارق الكامنة بين ارتباط الشعب الأفلاطوني (المثالي – العذري platonik) وبين فن السياسة الديمقراطية.
تُوْلي مرافعتي هذه مرتبة أولى لمسألة فتح الطريق أمام السياسة الديمقراطية في كردستان. إذ لا يمكننا تخطي ثقافة الذل والإذلال ذات التأثير البالغ في الفرد والمؤسسات، إلا بتطبيق المقاييس الديمقراطية الدولية. وقد شوهدت في الآونة الأخيرة ممارسات لا ديمقراطية كبرى، إزاء ميراث PKK أيضاً. يتوارى وراء عدم إحراز DEHAP التفوق المطلوب في الانتخابات الأخيرة، عدم تطويرِه أو تطبيقه نمطَ الحل الديمقراطي نظرياً وعملياً، إزاء القضايا الإدارية والكادرية وأنماط النشاطات. أما أجزاء كردستان الأخرى، فتغلب فيها السياسة الاستبدادية، بطبيعة الحال. ما هو مطلوب أولاً في المرحلة المقبلة لأجل كردستان حرة، هو تطوير الكيانات السياسية المتمركزة حول المجتمع والسياسة الديمقراطيين، بما يتوافق والسمات التاريخية والاجتماعية الملموسة لكل جزء على حدة. وكذلك تحديث الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني على ضوء ذلك. لا شيء أثمن من العمل على شق الطريق أمام مرحلة السياسة الديمقراطية بكل الطاقات، وبإيمان راسخ وإدراك وتنفيذ وطيدين.
من هنا، يُرى في تطوير الآلية الديمقراطية في الأنماط التنظيمية والنشاطية والعملياتية مهمة أساسية، في كافة أجزاء كردستان والمتروبولات التي تشهد تجمعات كردية كثيفة، وفي المناطق الجبلية ذات العدد السكاني القليل، وفي خارج الوطن وأوروبا بالدرجة الأولى. على شعبنا توخي المرونة في ضم الأصدقاء الطوعيين والأقليات القاطنة داخل كردستان، والتي تشاطره العيش فيها، إلى تنظيماته القاعدية وعملياته، التي يجب أن تتصدر قائمة نشاطاته كلها. كما عليه بالذات تنظيم ديمقراطيته وتطبيقها. وبقدر ضرورة امتثاله للقوانين الديمقراطية الموجودة أثناء تحركه، عليه ترتيب حياته ونضاله أيضاً بموجب قواعد ديمقراطيته هو ونظامها الداخلي وأحكامها، في حال غياب القوانين الديمقراطية. هذا إلى جانب انتخابه كافة إدارات مؤسساته الديمقراطية (بدءاً من المشاعة وحتى KONGRA GEL) نسبةً لنجاحها ونشاطها، وذلك بعقده مؤتمرات المناطق مرة في السنة. كما يجب إعداد نظام الانتخابات والترشيح بأساليب مناسبة. يجب عدم انتخاب إداريٍّ ما أكثر من مرتين متتاليتين، بينما يمكن ترشيحه مجدداً بعد دورتين على ضوء المشاريع الجديدة التي يقدمها.
على شعبنا القاطن في أوروبا أولاً، وفي كافة أجزاء الوطن والمتروبولات، أن يعمل على تفعيل ديمقراطياته الذاتية بالأساليب التي يرتأيها، وينتخب أكثر مرشحيه تفوقاً لكافة مؤسساته (بدءاً من المشاعات المحلية وحتى KONGRA GEL)، ويطلب منهم التقارير المنتظمة، ويراقبهم بموجب ذلك. إذا ما احترمت الدول ديمقراطياته، فعليه بالصلح والوفاق معها. وإلا، فعليه مواصلة مقاومته الديمقراطية بالأساليب التي يرتأيها حتى الرمق الأخير. فالأساس بالنسبة لشعبنا، هو الاستيعاب الكامل لديمقراطياته الذاتية، التي تعتبر أنسب السبل المؤدية إلى الحرية والمساواة، وتطبيقها حتى بلوغ النصر.
ثمة حاجة لوجود الإعلام الحر أيضاً في الميدان السياسي. حيث لا يمكن تحقيق يقظة الدولة تجاه الديمقراطية ودمقرطة الميدان السياسي، في حال غياب الإعلام الحر. ثمة ضرورة عاجلة للتسويات الإعلامية في كردستان كحقوق عامة، لا كحقوق فردية. إذ يجب ألا يكون هناك تمييز لغوي.
معلوم أن المؤسسات الإقطاعية تقف عائقاً أمام الديمقراطية. لذا، يجب فرض التحول الديمقراطي بأساليب ملائمة على الآغوية والمشيخة والعشائرية والطرائقية، باعتبارها من بقايا وحيثيات العصور الوسطى. فهذه المؤسسات الطفيلية، والمخدرة للعقول، والمعرقلة للأخلاق الحرة؛ إنما تعيق الدمقرطة بقدر مؤسسات الدولة الكلاسيكية. إنّ التفكير في صياغة كل هذه النقاط على شكل مواد ومبادىء مناسبة ضمن هذا الاطار، يعد أمراً واقعياً بالنسبة لواقع النظام الحاكم والشعب على السواء، وقابلاً للتطبيق على أرض الواقع.
تشكل دراسة العراقيل المزروعة أمام مسائل العائلة والمرأة والصحة والتعليم والأخلاق والدين والفن، ومهمة إيجاد الحلول لها؛ مضمون الإجراءات البرنامجية بصدد الميدان السياسي. يمكن معالجة الميدان الاجتماعي، الذي يشكل تكاملاً لا ينفصل عن الميدانين السياسي والاقتصادي، على شكل فصل مستقل بذاته للسهولة. وإلى جانب ضرورة النظر إليه كميدان أساسي مصيري، فهو يعاني ضغوطات بالغة وصلت حداً صار فيه أشبه بالجسد المريض، حصيلة التحكم المهيمن في الميدان السياسي والاستغلال الاقتصادي. يجب اعتبار تعزيز الميدان السياسي مع الزمن، والدفاع عنه، من أهم الآليات الأساسية للبرنامج. كما يجب تحويل التركيز من الاقتصاد والسياسة إلى الميدان الاجتماعي.
يعد التخلي عن الأساليب المتبعة بكثرة في أنظمة الدولة بغرض مراقبة المجتمع، والمتمثل في أخذ الإمكانيات الاقتصادية من يد المجتمع، وتقديمها ثانية إليه بجرعات ضئيلة بهدف ربطه بذاتها؛ نقطة أساسية في تحرر المستوى الاجتماعي. من الحتمي الكف عن تربية المجتمع بالاقتصاد. فهذا الأسلوب المتبع بكثافة في المجتمع الكردي، قد حول شعبنا إلى شحاذ بكل معنى الكلمة. لذا، يجب أولاً إزالة هذا الشرك المنصوب في الميدان الاجتماعي. فموارد المجتمع الاقتصادية هي من حق المجتمع، لا الدولة، ويجب قبولها هكذا.
تعد المرأة والرجل والأطفال في مؤسسة العائلة أكثر العناصر المعانية من الانسداد في النظام. وكأنه حوَّل العائلة إلى رذاذ رماد ومؤسسة تغطس فيها كل تناقضات النظام وتختنق. فبينما لم تتخطَّ ظواهر الزواج والأطفال وعلاقات الزوجين نمط المعاملات الإقطاعية القديمة من جهة، نراها محاصرة بالعلاقات الرأسمالية المجحفة من جهة ثانية؛ لتتحول المعيشة إلى سجن بكل معنى الكلمة. ورغم تقديس العائلة في كردستان، إلا أن افتقارها إلى المستوى التحرري، والتدهور الاقتصادي، والغياب التعليمي ومشاكل الصحة على وجه الخصوص؛ تؤدي بها إلى الانحصار في مِكبَس حقيقي. فوضع المرأة والأطفال ينم عن كارثة حقيقية. وما الظاهرة المسماة بجرائم الشرف في حقيقتها، إلا تعبيراً رمزياً عن الحالة التي آلت إليها الحياة العامة. فالمجتمع المقضي على شرفه، يصب جام غضبه على رأس المرأة. وكذلك الرجولة المفلسة تنتقم لذاتها، وتطفىء جذوة غضبها بالمرأة. لا يمكن إيجاد حل لأزمة العائلة في الظروف الحالية، إلا بدمقرطة عموم المجتمع. وقد يُقضى على تشوه الهوية نسبياً، عبر ممارسة التعليم والنشر باللغة الأم؛ وتُنقذ العائلات الفقيرة مؤقتاً بمساندتها الخاصة اقتصادياً.
ثمة أناس "آخرون" في تركيا – عدا الفئات المحدودة المتواطئة مع الدولة – بحيث يعجز المرء عن تصويرهم ووصفهم كلامياً أو كتابياً. وبدون حل مشاكل "الآخرين" في الهوية والحرية والمساواة، لا يمكن الادعاء بالتطهر من أقذر أنواع الحروب. ما يُعاش في المجتمع الكردي، بعائلاته ونسائه ورجاله وأطفاله، ليس سوى حرباً مأساوية أحادية الجانب. ينبغي التحلي في البرنامج بمواقف خاصة تهدف إلى إيجاد الحلول الخلاقة في هذا المضمار.
ينبغي الاستفادة من التعليم الرسمي واللغة الأم على السواء وبشكل حر. وحتى لو لم تساعد الدولة على ذلك، فعليها ألا تزرع القلاقل في طريق تأسيس الشعب مؤسساته التعليمية المعنية بلغته وثقافته بإمكانياته الذاتية. يجب العناية بأمور الصحة كخدمة عامة، من قِبَل الدولة ومنظمات المجتمع المدني، والاعتراف بحرية تنشئة المجتمع بالحركات الفنية الحرة، وإمداده بها. لا يمكن إحراز النجاح في أمر ما، ما لم يكن هناك مجتمع أخلاقي. يرتبط اكتساب الأخلاق الحرة بتوعية المجتمع. من هنا، يجب عدم زرع العراقيل أمام انتشار توعية المجتمع. المجتمع الحر مجتمع أخلاقي. يجب عكس هذه المعادلة المتماثلة على كافة الأنشطة داخله. كما يتوجب النقاش حول مكانة الدين في حياة المجتمع، وتنظيفه من عناصره المقيِّدة، وبالتالي، إمراره من الإصلاحات اللازمة، ليتواءم مع العلم والفلسفة العصريين، باعتباره من أقدم تقاليد المجتمع ووجدانه. هذا وإن البلوغ إلى لغة مشتركة بين الدين والفلسفة والعلم وحتى الميثولوجيا، يحتل صدارة العوامل الأساسية، للنفاذ من أزمة الفرد القائمة في راهننا. وبينما يلعب الدين دوره في أخلاق الحرية الجديدة بالأرجح، فمن المهم إعادة النظر في الروابط الكامنة بين العلم والمجتمع، وتقديمها إلى هذا الأخير بموجبها. علينا الإدراك جيداً أن الأنبياء أيضاً قاموا بهذا الدور ضمنياً. لم يبقَ الدين مضمحلاً أو مشلولاً في أي وقت من الأوقات، مثلما هو عليه اليوم. وإكسابه فاعليته مجدداً، يجب أن يكون على أساس أهداف الإصلاح الديني.
أهم نقطة يجب تحديدها في ميدان البرنامج الاجتماعي، هي إكسابه وزنه المفتقر إليه. على الحفنة الضيقة المحتكرة للدولة والاقتصاد الكف عن مواقف النهب والقضم المسلَّطة على المجتمع، الذي طالما عانى من الآلام والويلات، وواصل نضالاته على مر آلاف السنين. وبالتالي، أن تقبل هذه الحفنة بإعادة الاعتبار، ورَدِّ الاحترام اللازم إليه، كسياسة اجتماعية أساسية. يجب رؤية حماية المجتمع تجاه أقلية الدولة من جانب، وإزاء سفالة الفرد ونهبه والتهجم عليه من جانب أخر، من أهم الوظائف الأساسية التي يُعنى بها البرنامج في ميدانه الاجتماعي. مستوى حرية المرأة يحدد مستوى حرية المجتمع، الذي بدوره يحدد مستوى الحرية العام ومدى توخي الدولة الاجتماعية الحساسية اللازمة إزاءه.
يتحتم معالجة مسألة حرية المرأة كمادة بحد ذاتها في البرنامج، لِما يتميز به هذا الموضوع من أهمية مركزية. تبين التحليلات التي قدمناها بشأن قضية المرأة، مدى كونها تشكل النقطة الحساسة الأساسية في التحديث المجتمعي. وإذا كانت مسألة السلطة والحرب إحدى النقاط التي أدت إلى خسارة الاشتراكية المشيدة وانهيارها، فإن قضية المرأة هي النقطة الثانية في ذلك. المرأة والسلطة ظاهرتان متناقضتان إلى أبعد حد. فالمرأة هي أول طبقة وجنس وأمة تعرضت للسحق. وبدون تناول حريتها وعدالتها ضمن السياق التاريخي والاجتماعي، وبدون صياغة نظريتها بموجب ذلك؛ لا يمكن تحقيق تطور عملي سليم بشأنها.
لا تزال تأثيرات الآثار المتبقية من العهد النيوليتي تواصل وجودها في المرأة داخل المجتمع الكردي. وهي إلى جانب ذلك تجتر آلام كافة المراحل الحضارية، وتتميز ببنية مقاوِمة. وجلي تماماً تعرضها لخيانة العصر. إذا ما التحمت هذه الخاصيات مع جهود الفامينية العالمية، فقد يلعب تأسيس حزب المرأة المستقل بذاته دوراً عظيماً في سياق نضال الحرية والمساواة والدمقرطة المجتمعية.
لقد أُسس "حزب حرية المرأة الكردستاني PAJK" ليقوم بهذا الدور. ورغم عدم تخلصه بسهولة من مفهوم الرجولة المهيمنة، إلا أن الإصرار على الحرية يحظى بأهمية لا غنى عنها. سيكون تحرير عالم المرأة بتفعيل الذكاءين التحليلي والعاطفي معاً هو الأفضل. يتحتم على المرأة إعادة النظر في الميثولوجيا والفلسفة والدين والعلم، وتناولها بذكاء المرأة الخاص والحر، وإدخاله حيز التنفيذ بموجبه. أما التوجه نحو النظرية والممارسة العملية بذكاء المرأة، فربما يوصلنا إلى عالم قريب إلى الطبيعة، سلمي وآمن، تحرري وعادل، وإلى حياة مفعمة بالجماليات بنحو أسمى معنى.
قد يؤدي بنا الإصرار على PAJK وتطويره في كردستان إلى فضائل الربة وشفافية الملاك وجمال أفروديت. وتركيبة جديدة للمرأة كهذه، ما من ثقافة رجل إلا وتحللها، وما من قوة حياة إلا وتجذبها، وما من عملية إلا وتؤديها. محال أن تتعزز الأصالة والنبل والحرية والمساواة في الحياة، دون تطوير فضيلة المرأة الموائمة لقدسية الإلهة الربة المعروفة في التاريخ والميثولوجيا، تجاه الرجولة المستبدة وظاهرة التأنيث المسيَّرة كتقليد عبودي متجذر، طيلة التاريخ الحضاري. وبدون تأمين هذه القيم، لا يمكن أن تنجو الحياة من كونها قيمة مفقودة.
على البرنامج ترتيب قضية المرأة كمواد منفردة بذاتها ضمن هذا الإطار.
وفيما يخص الميدان الاقتصادي في البرنامج، يجب تأمين الانتقال من الاقتصاد المعتمد على التبضع والربح إلى الاقتصاد المرتكز إلى قيمة الاستهلاك والمشاطرة. فالاقتصاد المنتعش بالربح، لم يسفر عن تخريب المجتمع وحسب، بل وعن تدمير الطبيعة أيضاً. حيث يتوجه صوب بيئة لا يطاق العيش فيها. وإذا لم يوضع حد نهائي لسياسة الاقتصاد البورجوازي، فسيكون المنتهى إلى جهنم السعير. إن هرع البورجوازية وراء الربح الأعظمي – ونخص هنا بروز زمر التمويل التي تحقق الربح تلاعباً بالمال – يُسلط العولمة على رقاب البشرية من أسوأ جوانبها. ما من طبقة اجتماعية حققت هذا الكم من الربح وكسب القيم في أي حقبة من حقب التاريخ. يرجع السبب الأولي في تردّي المجتمع إلى المستوى التمويلي الذي بلغه الاقتصاد.
أما الصناعة والتجارة الزاحفتان مع التمويل، وبسبب التبضع الدائم، وتقديم الأشكال غير اللازمة بغرض الربح الأعظم إلى الأسواق؛ فقد أدتا – إلى جانب السلع الفائضة التي لا يستهلكها المجتمع ولا يقدر على شرائها – إلى تكوين إنسان "آخر" يعيش تحت حدود الفقر والمجاعة بدرجة مريعة حقاً. لا تطيق الانسانية العيش أكثر من ذلك مع هذه السياسة الاقتصادية. هنا بالذات يبرز الدور الأصلي للاشتراكية، التي يمكن تعريفها بالانتقال المعتمد على المشاطرة. هذه هي سياسة الاشتراكية الاقتصادية. على البرنامج أن يُسند مبدأه الاقتصادي إلى هذه السياسة الاقتصادية، التي إذا ما طُبقت، فستخرج ظواهر البطالة، الفقر المدقع ضمن الرفاه، المجاعة بجانب الإنتاج الفائض، تدمير البيئة مع الربح؛ من كونها قدراً محتوماً.
المجتمع الأيكولوجي مجتمع اشتراكي في فحواه. لا يمكن أن يكتسب التوازن الأيكولوجي والمجتمع الأيكولوجي معناهما الحق، إلا بالعبور من المجتمع التسلطي المنقطع عن الحضارة والطبيعة والبيئة، والمغترب عنها، إلى المجتمع الاشتراكي. أما القول بخلاص البيئة في ظل النظام الرأسمالي، فهو مجرد خداع وزيف. فالنظام ذاته هو الدافع وراء اختلال التوازن الأيكولوجي، بنسبة لم يسبق لها مثيل. لا يمكن بلوغ الحل النهائي لمشاكل البيئة، سوى بالتناسب طرداً مع مدى شل تأثير ذاك النظام، وتطوير نظام المجتمع الاشتراكي. لكن هذا لا يعني استحالة عمل شيء ما لأجل البيئة منذ الآن. بل على النقيض، فهو يشيد بحتمية تفعيل الأنشطة البيئية، بالتداخل مع نضال التحديث المجتمعي العام.
على البرنامج الاستيعاب تماماً أن ظواهر البطالة والغلاء، الفقر والمجاعة، تدمير البيئة والتبضع المفرط، الإنتاج الفائض، والافتقار إلى قيمة الاستهلاك السائدة في النظام الرأسمالي المهيمن؛ ليست قدراً محتوماً. وأنه يمكن إخراجها من كونها مشاكل عالقة، بالتوجه نحو الاقتصاد الاشتراكي. وعليه أن يركز على ذلك، ويشير إليه بقوة، ويرتبه على شكل مواد ضمنه.
الموضوع الآخر، الذي يتوجب تعريفه بدقة بالغة في البرنامج، هو مشكلة "الاختيار"، بشأن قيمة المواد السلعية والاستهلاكية. فبينما يؤدي تبضع المواد إلى نظام الربح، فإنه يصعِّد – إلى جانب ذلك – من الفروقات المتباينة – وعلى رأسها العمل المفرط والبطالة – من قبيل الفقر والثراء، الرفاه والقحط، البذخ والتلوث، الساحق والمسحوق، المستعمِر والمستعمَر، الحاكم والمحكوم، الجنس الساحق والجنس المسحوق، وغيرها. وفي حال العكس، فتطوير السلع كقيمة استهلاكية، لن يمهد السبيل لمثل هذه الثنائيات، بل سيشهد مستجدات متسمة بمزايا المجتمع الاشتراكي. على سبيل المثال: لنزرع أشجار البلوط في كل الأرجاء. تمتاز شجرة البلوط ببُخس قيمتها السلعية، وارتفاع قيمتها الاستهلاكية. بلوطها ثمين القيمة، وجذوعها سليمة. هذا علاوة على روعة ظلالها. إنه الحل الأمثل لمشاكل البيئة، بحيث يمكنه تحويل جميع صحارى الشرق الأوسط إلى غابات تنم عن أيكولوجيا رائعة. الأهم من هذا وذاك، أنه يتيح الفرصة لإيجاد عمل للجميع. بمقدور الإنسان الأمّي العاطل عن العمل أن يزرع أشجار البلوط، ويعتني بها. وبزرع أشجار البلوط ستُنقذ الدنيا بأكملها.
بالإمكان الإشادة بالعلاقة بين البرنامج والأممية على صعيد المنطقة والعالم. يعيش واقع كردستان الملموس تداخلاً مع تاريخ الشرق الأوسط وجغرافيته وشعوبه، أشبه بالتحام الظفر باللحم. سيكتسب ردع النزعة القوموية معناه بهذه الحقيقة القائمة. فاعتماد النزعة القوموية في كافة علاقات وتناقضات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يتوارى خلف كل الكوارث والآفات والانسدادات الموجودة. وبإضافة القوموية الوطنية إلى القوموية الدينية، تفاقمت الكارثة إلى أقصاها. بيد أنه لو اعتمدت على إمكانيات الحل الديمقراطي أساساً، لكانت الآلام المجترة أقل نسبة بالطبع، ولصار بالإمكان تأسيس نظام أنسب اعتباراً من الآن. وقد برهن الموقف القوموي الدولتي المفرط على أنه سياسة مروِّعة وفظيعة – لا سبيل حل – بشكل لا يقبل الجدل. إذا ما تصاعدت التيارات القوموية الدولتية نفسها في كردستان، فلن تنم سوى عن صراع يضاهي في حِدّته مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بأربعة أضعاف. ثمة دروس كثيرة علينا استنباطها من ذلك. هذا والكل على معرفة بالنتائج الناجمة عن المشاكل الموجودة في الشيشان، قرة باغ، كوسوفو، وقبرص في يومنا الراهن؛ وما أسفرت عنه المشاكل بين الأرمن – العثمانيين، الكرد – الجمهورية، العرب – العثمانيين، الكرد – العراق في التاريخ القريب. يتمثل السبيل الأمثل لعدم فتح المجال أمام كوارث جديدة، في الجرأة على صياغة حل إصلاحي مبدئي وصادق للقضية الكردية، بحيث يتضمن السلم والدمقرطة، دون إيقاع القضية في حالة من الإنكار والإبادة والإخماد والعوز. وصياغته العامة مثيلة لما حللناه في واقع تركيا، كشراكة الأمن العام والساحة العامة على النحو "الدولة + الديمقراطية في كردستان"، وتعميمها على نطاق منطقة الشرق الأوسط. وبشكل أفصح "دمقرطة الشرق الأوسط + حساسية الدولة إزاء الديمقراطية = حرية كردستان". وكردستان حرة هي بالأرجح كردستان ديمقراطية. وفي عموم العالم يتم تحويل اجتماعات بروتو آللاغرا إلى بلاتفورمات للديمقراطية المحلية فوق الوطنية، وإلى مؤتمرات للديمقراطية العالمية غير المتمحورة حول الدولة لكافة شعوب العالم. خلاصة الكلام: بالإمكان جعل المعادلة: "كردستان ديمقراطية = فيدرالية الشرق الأوسط الديمقراطية = مؤتمر الديمقراطية العالمية" شعاراً لما بعد الوطنية في المرحلة القادمة.
يجب أن تأخذ الحقوق الشخصية حيزاً في البرنامج على شكل "حقوق الانسان". إذ يجب حماية وصون حقوق حرية الفرد في التفكير والتعبير والإرادة تحت كل الظروف. لا يمكن منع الفرد من حقه في حرية التفكير والتعبير عن الرأي وإبداء إرادته، تحت ذريعة مصالح أي وطن أو دولة أو مجتمع ما. بل يجب أن يكون بلوغ التوازن الأمثل بين المجتمعات والفرادنية هو الهدف الأولي. كل حرية مجتمعية لا تمر من حرية الفرد، وكل حرية فردية لا ترتكز إلى الحريات المجتمعية؛ محكوم عليها بالخسران في منتهى المآل. ولن تشكل حقوق الإنسان الأساسية قيمة مثلى، إلا بالإدراك التام بأن وجودها منوط بحق وجود المجتمع، دون التهجم عليه، ودون الانجرار وراء النزاعات الفردية المفرطة اللامبالية والخارجة عن نطاق المجتمع.
الدعامة الركن هنا ليست التعاضد الدولي القديم، بل موقف ما بعد القومية. بمعنى آخر، ألا يكون أممياً، بل أن يمثل ما بعد الأممية (الفَوْقَومية، ما بعد القومية). على الأناس بلوغ مستوى في التعاضد يتخطى نطاق الهوية الدينية والقومية والطبقية. بناء عليه، فتعاضد الكدح والإنسانية المثالية هو الأسمى معنى.
يجب توضيح العلاقات الكامنة بين الديمقراطية والاشتراكية بشفافية في البرنامج. تُعرَّف الاشتراكية عموماً بكلمة المساواة. أما السبيل إلى ذلك، فيتكافأ مع المفهوم القائل بعبورها من جماعية المُلكية. في حين لم تُقَم الروابط بين الديمقراطية والحرية. بل وصل الأمر إلى حد القول: "لنؤسسها، ولا يهم بأي نظام تكون، أو كيف". وفي المحصلة، انحلت لتظهر كرأسمالية الدولة. كل المستجدات النظرية والخبراتية برهنت على استحالة بلوغ الاشتراكية، ما لم تطبق الديمقراطية كلياً، وما لم تعش الحريات. لا يمكن تأسيس الاشتراكية على يد الدولة. لقد شوهدت مجمعات الدولة المكثفة منذ عهد السومريين الغابر. حيث قامت الدولة بالحركات المتوجهة إلى الاشتراكية الأوسع على الإطلاق. وفي حال كهذه، علينا الإقرار بأن الدولة هي أعظم مؤسسة اشتراكية. والتجربة السوفييتية امتداد لذات التيار التاريخي ذاك. بالتالي، من الأنسب تسمية ظاهرة التأميم بيد الدولة بأنها نظام الأسياد المعمم على الحركات الهادفة إلى المساواة. وهو بذلك يؤدي ضمنياً نفس الدور الذي يقوم به أي أفندي أو آغا أو رأسمالي ما، باعتباره الهوية المشتركة بينهم جميعاً. إذا كانت الديمقراطية تعادل أقل قدر من الدولة، وكانت المساواة تتحقق بالتطور الديمقراطي؛ فحينها يمكن القول أنه تم بلوغ الاشتراكية الحقة. يجب الاشتراط هنا بأن ذلك لن يحصل بغياب الحرية. فالمساواة (أي اللاهيمنة) إذا ما التحمت بالحرية، حينها يمكن اصطلاحها كـ"اشتراكية". لا يمكن أن تكون المساواة الإرغامية اشتراكية. إذاً، والحال هذه، فالمجتمع المتساوي المبني في ظل الحريات المعاشة بأوسع نطاقات الممارسات الديمقراطية، هو مجتمع اشتراكي.
خلاصة، بهذا نكون قد أوضحنا مسودة أفكار البرنامج والنظام النظري، الذي نرتكز إليه، بخطوطه العريضة. حيث ارتأينا مفهوماً برنامجياً منقى من التأثيرات القوموية، ديمقراطياً، حراً، عاملاً أساساً بالتحديث المجتمعي الرامي إلى تعزيز المساواة والعدالة. وإلى جانب كونه ليس ليبرالياً، فهو يعترف بالدور الحقيقي للمبادرة الفردية. إنه برنامج ليبرالي يعتمد منهجاً أساسياً، يتضمن السلطة الديمقراطية بدل النفوذ والسيطرة، والحرية بدل المراقبة المجتمعية، والقيمة الاستهلاكية والمشاطرة بدل السوق المعتمدة على السلعة والربح؛ ويؤمِّن نقطة التقاطع المثلى بين المجتمع والفرد. جلي تماماً أن هذه الأفكار مسودة مقترحات مقدمة للنقاش والتعديل والإضافة.
2- بينما يشكل البرنامج مضمون عملية إعادة البناء في PKK، يقوم التنظيم بتحديد شكلها. وكيفما تحدِّد النظرية البرنامج، فالبرنامج بدوره يحدد التنظيم. التنظيم أشبه بالهيكل العظمي للبنية. ومثلما تتحول البنية المفتقرة إلى الهيكل العظمي إلى ركام من اللحم، فالحزب غير المنظم أيضاً، لن يتخلص من التحول إلى جمع أجوف مشلول الإرادة. ومثلما يتكون جزيء الماء من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين، فالتنظيم الكادري المناسب أيضاً يشكل الهيكل العظمي، الذي سينشأ ويتشكل على أرضية المجتمع. إذاً، والحال هذه، سيكون من الأفضل تناول المسألة التنظيمية ضمن قسمين أساسيين: التنطيم الكادري والتنظيم الجماهيري.
أ- لكل كيان أقرب إلى الحزب كوادره المتحلية بالعقيدة الراسخة والإرادة على مر التاريخ. لا مناص من نسيان الكثير من الكيانات المفتقرة إلى الكوادر في أغوار التاريخ. لا تُؤخَذ أية قضية على محمل الجد، ما لم يكن لها أحزابها وكوادرها القديرة يمثلونها. الكوادر – مثلما نوهنا بكثرة سابقاً – تعني المناضلين الأكثر قبولاً وهضماً لعقلية الحزب وأسس برنامجه، والناشطين على نقلها إلى الممارسة العملية بحماس جياش وعنفوان جارف. إنهم الوحدة الركن للتحديث. وعليهم التحلي بمزايا الربط بين النظري والعملي، واللحم بين التنظيم الجماهيري وتأثيراته الفاعلة لإدراة شؤونه وتوجيهه. هذا إلى جانب كون الكادر يمثل الهوية التي توحد بين الأخلاق الاجتماعية والخلاقية السياسية في شخصيته بحنكة فنية.
إذا ما أمعنا النظر في تاريخ PKK وتحديث تنظيمه انطلاقاً من هذا التعريف، فسنشاهد العديد من العناصر الإيجابية والسلبية المتداخلة فيه. فإذا كان PKK لا يزال يحيا وينتعش اليوم، فالفضل يرجع في ذلك – أولاً – إلى كوادره النبلاء عُبَّاد البشرية ومقدسيها. في حين أن عدم بلوغه الظفر الكامل يعود إلى كوادره المثقلة بالمشاكل.
فالظفر والفشل ينبعان من الكادر. وقد كُشِف النقاب عن تراكم تناقضي اجتماعي هائل متجسد في الكوادر. وكلما كشف النقاب عنهم، ظهر المنهارون منهم والأقوياء على حد سواء. لقد شوهدت تراجيديا الكوادر وبسالتهم وخيانتهم بشكل متشابك. ورغم كل جهودنا التعليمية والتطبيقية، لم نفلح أبداً في الوصول إلى الكوادر المسيِّرة للنهج بشكل دائمي. وما الانسدادات الحاصلة في مراحل التحول إلى PKK، سوى ثمرة لهذا النقصان الكادري. ومن المشاكل الأساسية المنتصبة أمام عملية البناء المستقبلية أيضاً، هي مشكلة تكوّن الكوادر الأكفاء بما فيه الكفاية.
سيمهد حل هذه المشكلة الطريق لتطبيق البرنامج على أرض الواقع بتفوق باهر. وإلا، فستتولد انسدادات عقيمة جديدة. أنْ يكون المرء كادراً مسألةُ عشق وهيام. إنه يعني إعداد الذات وفق الأهداف، بعقيدة وعزيمة و تنور بلا حدود. والشخصيات التي لا تملك هذه المزايا، بل تسعى لتصدر المقدمة لإرضاء وصوليتها ونزواتها؛ تسفر دائماً عن نتائج سلبية وخيمة. فالكادرية أبعد من أن تكون مجرد نزوة. حيث تتطلب الإنسان المتسم بالرؤية النظرية المستقبلية، والارتباط الوطيد بالبرنامج، والعنفوان في تأسيس كيان الحزب. وطبيعي العمل أساساً بهذه الماهيات، أثناء التوجه نحو التنظيم الكادري في المرحلة الجديدة. يسعى كل تنظيم اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي جادٍ إلى امتلاك مفهوم كادري وفن قيادي مشابه لما ذكرناه، ويبحث عن نصيبه منه لإحراز النجاح.
لقد تطرقنا في الفصول السابقة إلى المشاكل المستعصية أمامنا، لدى عزمنا على عملية إعادة البناء في PKK. فبينما قدمنا خيرة رفاقنا الشهداء، وناضل الباقون منهم بتضحيات جسام؛ قامت العديد من العناصر الانتهازية والوصولية والسماسرة بنخر القيم المقدسة من الداخل. وكأن الواقع الاجتماعي قد وجد فرصة الحياة الثانية داخل صفوف الحزب. فرغم مرورنا بأحرج اللحظات التاريخية، لم يتناقص الأعضاء الذين فرضوا أطماعهم الشخصية ووصوليتهم، دون أي خجل أو ورع. وبينما تبقى الكثير من الأعمال عالقة، لم يكن الكسالى المتطفلون، الذين لم يبلغوا ولو مستوى إنتاج عامل بسيط، بالقليلين. وشوهدت محاولات الاستحواذ على المواقع والمناصب من الأعلى والتربع عليها، وخلق نزاعات على السلطة وحسابات على ميراث الحزب. إنها تصرفات طفولية، ولكنها خطيرة في الوقت نفسه.
لم يتفهموا بالقدر الكافي من المسؤولية مساعينا الحثيثة في حماية الكوادر أثناء قيامنا بعمليات الفرز باسم الحزب، وتعريضنا صحتنا وسلامتنا لمخاطر كبرى في سبيل ذلك. بيد أن التراجيديات، التي عانيناها لاحقاً، كانت تتضمن في وعيها الباطني الجهود المبذولة لإبداء الصداقة. وتمَّت دعوتهم للتحلي بروح المسؤولية بانتقادهم بشدة. ورغم ندائنا المتواصل لهم ليكونوا لائقين بآمال الشعب الذي يتخبط تحت ثقل المشاكل المتفاقمة، وتخليد ذكرى آلاف شهدائنا البررة، ورغم تنبيهنا إياهم بأن التاريخ لن يصفح عنهم في حال العكس؛ إلا أنهم لم يفلحوا، بأي حال من الأحوال، في بلوغ النصر والنجاح بإبداع وخلاقية. أسوأ الحالات كانت لعبة النزاع على السلطة، والتربع على ميراث الحزب مع بدء مرحلة إيمرالي.
إنه تضارب حاد: فمن جهة، ثمة رفاقنا المضرمون النار بأبدانهم الغضة، وشعبنا الذي يبكي دماً، ومن جهة أخرى مجموعات النزاع على السلطة، والتي لا تليق بتقاليدنا، لا شكلاً ولا مضموناً. كان من الأصح أن يتم حل هذه المفارقة على أرضية عملية إعادة التحزب. إذ ما من شك في استحالة الدخول في حسابات وتوازنات سلطوية كهذه، أثناء تناول المشكلة الكادرية. وبما أنه لا يمكن استجداء التحزب من المتكتلين، كان من الأنسب والأسلم طرح مفهومنا النظري والبرنامجي بوضوح، وتبني ميراثنا مع كل من يبدي تحليه بالعقيدة السامية الراسخة والوعي المميز؛ وبالتالي إعطاء الشكل الجديد لجوهرنا بموجب ذلك.
الكل يعلم امتلاك ميراثنا أعضاء كادريين قادرين على تغذية الحزب وتقويته مرات عديدة، كماً ونوعاً. وعقدنا آمالنا عليهم في أن يلموا شملهم ويجتمعوا طواعية للتوجه نحو مهمة بناء حزب مفعم بالحرية المطلقة في الفكر والإرادة. وبمجموعة مؤلفة من اثني عشر فرداً، سعينا لتأسيس اللجنة التحضيرية لعملية إعادة البناء وخطو خطوة أخرى إلى الأمام. إن المشكلة ليست من النوع الذي يحل بالترفيعات السريعة، أو بتكرار ما عُمل سابقاً. بل يجب الاعتماد أساساً على العمل بالكادر المؤهل لتلافي الماضي وتجنبه، وكسب المستقبل، وإبداء الكفاءة اللازمة لتقييم اللحظة المعاشة، والتحلي بالدراية الكافية دون التذرع بأي نقصان. وبعد مرور هذه الكوادر النوعية من التجارب الكافية بتفوق ومهارة، ستتبين بوضوح إمكانية العمل معهم وبهم كأعضاء أصلاء.
أما فيما يتعلق بالواقعين في تشكيل تكتل أو طرف ما، فيمكن الوصول إلى نتيجة حاسمة بحقهم، بعد القيام بدراسة جذرية بشأنهم، وتقديمهم النقد والنقد الذاتي، وممارستهم النشاطات العملية. يجب الاستيعاب تماماً أنه لا يمكن لمّ الشمل أو التحزب بالحسابات القديمة. فالمقاييس، لا النوايا الحسنة، هي المحدِّدة هنا. ولكن، لا تُقطَع كافة الروابط مع مثل هذه المجموعات، بل سيستمر النشاط معاً تحت راية KONGRA GEL. وبهذا سيبرهن على إحياء الحزب الديمقراطي للديمقراطية داخل صفوفه أولاً.
لا أعتقد بجدوى كثرة العدد أو ضرورتها لأجل التنظيم الكادري. بل أؤمن بكفاية العدد المتراوح بين 300 – 500 فرداً كادرياً مؤهلاً لتسيير البرنامج الخاص بهم، واستنفار طاقات جماهيرهم، وإبداء قوة تمثيلهم بحزبهم في كل الساحات.
من الطبيعي تفضيل التنظيم الكادري الفعال، بدل التنظيم المعتمد على الهيكليات والشمائيات الميكانيكية. ويمكن القيام بالترفيع والتعيين لتأدية المهام العالقة بنجاح، لا لإشغار المهام والساحات. فالمقاييس هنا، هي المهمة العالقة والكوادر الأكفاء القادرون على تأديتها بتفوق. تؤسس اللجان والممثليات حسب الحاجة. فإن تطلب الأمر تؤسس واحدة فقط، أو إن تطلب تؤسس دزينة منها. لكن، ولضرورة الجماعية كميزة أساسية، يفضل دائماً التمثيل المزدوج. الفعاليات التي ذكرناها أنسب من تأسيس الهيئة المركزية أو المكتب السياسي أو تنظيمات الجناح الكلاسيكية. وعوضاً عن التركيز على مسائل الشكل، يتحتم تفضيل الحلول الملائمة للجوهر. ومثلما يُرى في تقديم الاقتراحات الذاتية من قِبَل مَن يجدون في ذاتهم القدرة على الحل أمراً مناسباً، فبالمقدور أيضاً تكليف المهام بالتعيين، ولكن دون إرغام.
يمكن تكليف الرفاق بالمهام بما يكفي احتياجات المناطق الضرورية في الأشهر المقبلة. وحتى من السهولة بمكان تنظيم ما يقارب المائة كادر خلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر. ربما تكلفون عدداً أقل أو أكثر. ولكن، يجب اتباع الجماعية والمبادرة الفردية بشكل متداخل. أما التميز بسرعة الوتيرة في نمط النشاطات، وإعادة النظر فيها دائماً للحظي بالنتائج المرتقبة، وإبداء العزيمة اللازمة لذلك؛ فهي خصائص معروفة. فبقدر الحاكمية على النظرية والبرنامج، يجب الاتسام بسرعة الوتيرة وتحديد نمط النضال. والنشاطات الجماهيرية كافة، ووحدات الدفاع، والأنشطة العلنية والسرية في المناطق المعنية؛ جميعها تتطلب نضالاً إبداعياً خاصاً بسبب قائمة "الإرهاب" المعروفة. أما الأسلوب وطراز الحياة، فيجب أن يغدق الحماس، ويكون قوة الجذب للجوار. فالأسلوب المنفر والسيء خطير، بقدر الاستفزاز بأقل تقدير.
بإيجاز، فالتوجه نحو الأعمال والممارسات العملية بسياسة كادرية وتنظيم أصغري بهذا المنوال، هو التصرف الأسلم. وبقدر الطواعية، يتحتم النشاط كقدوة في الانضباط الكامل. نحن نسير على خط ميراث البطولات، وبشعب منتفض يتطلع إلى الحرية بكل عنفوان. وبقدر الحماس في تأدية المهام الجديدة على ضوء الخبرات العظمى والممارسات العملية المحللة جيداً، يُشتَرَط التحلي بمواقف لا تطيق الفشل، وتسعى للإنتاج والعطاء والاستمرار. المقياس الأسلم هنا لنجاح المهام، هو كشف الجوهر الحقيقي للشخصية بقدر الوعود المعطاة.
يُعنى النظام الداخلي بكل مشكلة تمت بِصِلة بالتنظيم النواة للحزب. أما الهيكلية العامة، فمعروفة. حيث يمكن أن تحتوي على عقد المؤتمرات بفترات منتظمة. وفي المؤتمر، يُنتخب الرئيس واللجنة المركزية (أو مجلس الحزب)، التي بدورها تَنتخِب هيئة إدارية ضيقة من بينها، والسكرتارية العامة ونوابها، والهيئات المركزية. ونحو الأسفل تتواجد الهيئات المشاعية المنظمة المنطقية المحلية ووحداتها السفلى، وأجنحة التنظيمات الجماهيرية، والتنظيمات الإقليمية (seksiyon) (لأجل الأجزاء أو الأوطان). إنني لست في حالة تخولني لإبداء تقييم يؤيد أو يناهض هذا النموذج. ولكنه طالما كان طريقاً متبعاً في الطراز الدولتي قديماً، بحيث بسطت الدولة نفوذها عبره أكثر، ولم تقم بتفعيل جانبه الديمقراطي. وقد شاهدنا ذلك من خلال التجارب المعاشة. لا يمكننا الزعم بأن هذا النموذج سيسفر عن هذه النتائج بالتأكيد. إذ يمكنه أن يؤدي – وبكل سهولة – إلى الديمقراطية، في حال لم يُنظَر إلى النظام الداخلي كوسيلة مستقلة بذاتها، بل اعتُبِر آلية وسيطة في إدراج البرنامج حيز التنفيذ. المهم هنا هو ماهية النظرية والبرنامج. وهذه الأمور تعد خصائص متعلقة بجوهر الكوادر. فالنظرية والبرنامج والكادر والنظام الداخلي والآلية، كلها مسائل متكاملة.
قد يتطلب الأمر تنظيماً إقليمياً (seksiyon) لأجل كل جزء من كردستان. فحزب كل جزء منها، يجب ألا يكون مستقلاً تماماً، ولا تابعاً كلياً للمركز. بل قد يكون النمط الإقليمي نصف التبعي (نصف المستقل) هو الأنسب. أما المؤسسات المركزية، فقد تكون مؤسسة النشر والإعلام، ومؤسسة العلم والفن والأكاديمية، ومؤسسة الحقوق والانضباط، على سبيل المثال لا الحصر. يمكن التفكير بالاتحادات النسائية الخاصة، الاتحاد الشبيبي الديمقراطي، الجمعيات، التعاونيات، مخيمات النازحين والمغتربين، الأعمال الحرة، المزارعين، ورجال الأعمال، وغيرها على شكل تنظيمات جناحية جماهيرية.
يتطلب تواجد الأحكام الأصغر نطاقاً، والجماعية والمبادرة الفردية معاً كآلية سليمة يُعمَل بها في آليات الهيئات واللجان.
يمكن التركيز على أنماط أخرى بخصوص أحكام الآليات الداخلية للنظام الداخلي. حيث أردنا التعبير عن بعض الأفكار كمقترحات، للفت الأنظار إليها، لا غير.
أرى من المهم بمكان التطرق إلى بعض الخاصيات المتعلقة بـPAJK، الذي يتطلب تقرباً أكثر خصوصية في السياسة الكادرية. فأنا على إيمان بضرورة وجود الكوادر النواة لـPAJK. تلعب قضية المرأة دور المفتاح في حل مشاكل الديمقراطية والحرية والمساواة، بل وحتى المشاكل الأيكولوجية، أكثر مما نتصور. وبما أنه من المحال أن نحرر كافة النساء دفعة واحدة، فمن الساطع هنا حتمية تطبيق ذلك أولاً على مجموعة كادرية محدودة. كيف ستقدر الكوادر النواة لـPAJK على تحرير نساء ورجال العالم المثقلين بالمشاكل، ما لم تكن قادرة على تحرير ذاتها! الكل يدرك محاولاتي وجهودي المضنية في سبيل حل هذه المسألة. ويمكنني القول بأني توغلت في تعمقي هذا وأنضجته الآن أكثر.
إننا الآن وجهاً لوجه أمام حقيقة المرأة كأول جنس وطبقة وأمة عبدة على مر التاريخ الحضاري. وما الانحباس في البيوت الخاصة وبيوت الدعارة، سوى أنماط تطبيقية لهذه العبودية. منبع هذا الكبت والقمع اجتماعي، وليس بيولوجياً. فالعلاقات الزوجية تعد مؤسسة مفعَّلة ضد مصلحة المرأة خاصة، ومصلحة المجتمع عموماً، بأنماطها المعهودة في الحضارات. فالزوج صورة مصغرة عن الإمبراطور السياسي، تنعكس على البيت. حيث يلعب دور المستبد الصغير إزاء امرأته دائماً. لا علاقة لهذا الأمر بالنية الشخصية. بل يجب النظر إليه كمعطاة (ثمرة) حضارية.
ربما يكون من الأصح اعتبار ثقافة الأم الأهلية (الأم الربة)، التي قطعت أشواطاً ملحوظة مع الثورة الزراعية، كبداية لحرية المرأة. لهذا السبب اخترتُ ثالوث "الربة – الملاك – أفروديت" كتصور ميثولوجي. إذ لا يمكننا بلوغ عظمة المرأة ومستوى احترامها وجمالها، ما لم نقضِ على تصور الزوجة – البنت البسيطة والساذجة. فالمقاييس الحضارية ذات مصدر رجولي إلهي، يحط من منزلة كافة مقاييس المرأة الربة المقدسة والملاك الجميلة.
رغم قِدم مفهوم "الشرف"، وتجذره وتصلبه وسريان مفعوله فيما بينكم جميعاً، دون تمييز بين رجل وامرأة؛ إلا إن مفهومي بشأن الحياة الجمالية الثورية لا يتوافق إطلاقاً مع ذلك، ولا مع ثقافة الزواج الرائجة.
كنتُ قد عملت على شرح مفهومي حول الأمومة أيضاً. فحسب رأيي، تعد المرأة أكثر يقظة وحساسية من الرجل إزاء الطبيعة. أما الرجل، فهو أشبه بامتداد للمرأة، وليس المركز كما يعتقد. والمعطيات العلمية تشير إلى ذلك. إلا أن الممارسات القمعية والاضطهادية والاستغلالية المفروضة على المرأة، أدت، وبدرجة لا تصدق، إلى مواراة مظهرها الحقيقي، وإظهارها بشكل مغاير تماماً. إن "موضة" الكلام الرجولي المبتَدَعة لأجل المرأة باسم الدين والفلسفة، بل وباسم العلم والفن؛ آلت بهذه المرحلة إلى بروز أساليب وتصريحات وأحاديث لا تصدق. إنه موقف مجحف وسافل، لدرجة فرض على المرأة تقديس ما لا تؤمن به من أمور. لذا، لا يمكن انتظار انضمامي أو مصادقتي على ألعوبة الحضارة هذه، باعتباري ممثل حقيقي للتوازن بين الحرية والقوة. فمثلما أني لم أعجب إطلاقاً بعالم الأرباب الذكور، فأنا أدرك ماهيتهم الداخلية جيداً. يجب معرفة استحالة انضمامي إلى ألوهية هذا العالم يقيناً. هذه المقدسات، التي تتبدى في هيئة ظواهر الدولة والدين والسياسة والفن والعلم، لا تشغل اهتمامي، إلا عند فك رموزها. إلى جانب رؤيتي لقدسية المرأة على أنها ظاهرة عجيبة وجذابة، إلا أنني أدرك تماماً أنها صعبة التحقيق، وتتطلب الشجاعة. مع ذلك، فلا أعتقد بإمكانية العيش، دون الاعتماد في الوقت المتبقي من العمر على حرية المرأة، وعلى القوة القادرة على تحقيقها، لِما تتميز به من سلم وجمال وحساسية ويقظة تستحق العيش لها. وعلى النقيض من ذلك، كنت – ولا أزال – أنفر من الذكورية المعتمدة على عبودية المرأة، وأستغربها منذ نعومة أظافري، ولا يمكنني المصادقة عليها.
ما يتبقى من الأمر ستحدده الظاهرة المسماة بـ"العشق". أظن أن الجميع يدرك الآن رويداً رويداً كيف أفرض العشق على سياستنا الكادرية النسائية. لم يقتصر هذا الموقف على البُعد الجنسي فحسب، بل تعداه في المحاولات المبذولة إلى الأبعاد الثقافية والسياسية، بالتداخل الملتحم مع مصطلحات الحرية والمساواة والعدالة. يستلزم صياغة تعريف لـ"العشق" يتضمن تحرر المرأة من ثقافة العبودية، وتحرر الرجل من الثقافة ذات الطابع الرجولي المهيمن الغالب عليها؛ بحيث يُطبَّق على أرض الواقع بسلوك مواقف حرة وعادلة في الميدان السياسي، وفي ظل التوازن الديمقراطي. إنه موقف يرفض بشدة علاقات الفحوش المتطورة بين الذكورة المهيمنة المشحونة بالسطحية والشهوانية، وبين العبودية الأنثوية. كما ويحتم استيعاب القدسية اللازمة بين الرجل والمرأة، والتي يصعب أن ترى النور في ظل الحضارة الطبقية عموماً، والنظام الرأسمالي على وجه التخصيص. ما نقصده بالقدسية هنا هو قدرة الفهم الكامنة في الحكاية الكونية المعمِّرة طيلة عشرين ملياراً من السنين (حسب المعطيات العلمية الأخيرة)، والتي عَرِفَت ذاتها، واكتَسَبَت معناها من خلال ذكاءَي الإنسان التحليلي والعاطفي؛ بحيث تبعث على الغبطة والنشوة العظمى. إنها الطبيعة التي تعرف ذاتها. تلد المرأة على نحو أدنى إلى هذه الكونية من الرجل. والمعطيات العلمية تشيد بذلك. هذا ما أقصده بكون المرأة مقدسة وإلهية. إذا ما انعكس هذا المعنى – الذي يُشعِرنا بوجوده بين الفينة والفينة في عوالم الفن والسياسة والعلم والثورات الحاصلة – على علاقات المرأة والرجل؛ فبالمستطاع حينها الحديث عن قدسية تلك العلاقات. وهكذا يجب أن تكون. رغم تنبه الأديان لهذه الحقيقة، إلا أن تهميشها للمرأة بسبب كونها – أي الأديان – هويات أيديولوجية ومجتمعية يغلب عليها الطابع الذكوري، قد آل بها إلى إلحاق أضرار جسيمة بقدسية المرأة التي يزعمونها. في حين تتجسد مساعينا في كشف النقاب عن هذه القدسية بين كلا الجنسين، بشكل متوازن وديمقراطي وحر وعادل. سأكف عن الإسهاب في تعريفه هنا، باعتبار أن مكانه ليس بين هذه السطور.
لكن، هل ينسجم نمط العلاقة المهيمن في يومنا مع هذا التعريف؟ وعلى العكس من ذلك، ألا يشهد حاضرنا مجازر المرأة – علاقةً وبدناً – بالأدوات القاتلة المسلطة عليها كفأس روما، بل – والأنكى من ذلك – بألفاظ الحب الزائفة؟ ألا يُطبق نمط الرجل الخنزيري؟ ربما تتصدر العلاقة بين الجنسين، والتي يُسعى لإضفاء المشروعية عليها في يومنا، قائمة أشكال العبودية الأكثر تقنُّعاً وقذارة.
يجب تناول الاصطلاحات المنسجمة مع تعاريف الإلهة والملاك وأفروديت (كلمة الجِنِّيَّة مشتقة من أفروديت)، التي تكوِّن بذرة PAJK المؤلَّف مما يقارب 300 عضواً؛ على ضوء المعنى المذكور آنفاً. الإلهة تعني المرأة المدركة لكونيتها، والمحتلة مكانها برسوخ في توازن القوى الديمقراطية، والمميزة بالحرية والمساواة في علاقاتها الاجتماعية. جلي تماماً أن الرجل إزاء هذه المرأة، لن يتجرأ على استهلاكها كزوجة أو فرض هيمنته عليها. بل سيكتفي فقط بإبداء حبه وتقديره لها، دون أن ينتظر منها الحب أو الاحترام بالإكراه. فما بالك بأمله في إقامة العلاقة الجنسية معها! أما إذا أصبح حراً عادلاً متسماً بقوة التوازن الديمقراطي، فحينها بإمكانه انتظار الحب والتقدير من المرأة المتميزة بمقاييس مشابهة. يجب فهم ذلك كمبدأ أخلاقي أولي لدينا. وربما تتطور الظاهرة المسماة بالعشق، إذا ما تم الامتثال له. وهذا بدوره حَدَث يتطور مع تصاعد بسالة النضال في سبيل الديمقراطية والحرية والمساواة. كل موقف عدا ذلك هو مجرد خيانة. وإذا ما حصلت خيانة العشق، لا يمكن تحقيق النصر والإبداع أبداً. العشق الحقيقي ممكن في صفوف PKK، شرط وجود البسالة والشجاعة المثبتة لوجودها بإحراز النصر والظفر.
لكن، بماذا نسمي هروب الجنسين معاً بأعداد عديدة؟ لا شك أنه يمكننا نعتها بأنها برهان قاطع على هوية الكردي الفاني. فوضع العديد من رفاقنا، الذين بلغوا سن الأربعين أو الخمسين، ولم يدخلوا العلاقات المتضمنة للعبودية البسيطة من جانب، ولا أصبحوا أصحاب فكر وعمل في نهج العشق من جانب آخر؛ إنما هو مأساة مؤلمة. بل إنها تراجيكوميديا. فبعضهم أصبحوا كالمجانين، وبعضهم الآخر يُشبِعون نزواتهم بمجرد التقائهم بالجنس الآخر، والبعض الثالث يرون في مناماتهم...، بينما بعضهم فرضوا الزواج كموضوع سياسي. والبعض احتجوا موضوعياً على تأدية كافة مهامهم الثورية، بسبب الحظر الموضوع على غرائزهم. باختصار شديد، لقد فرضوا آمالهم في النظام السائد. إنني أفهم هؤلاء الرفاق. لكننا – نساء ورجالاً – عاهدنا بعضنا على الحرية والمساواة لدى مرورنا بأشد امتحانات الحياة التهاباً وحِدَّة. وأقسمنا على أن هذا العهد لن يتحقق، إلا في ظل وطن حر ومجتمع ديمقراطي. لا يمكنكم إنكار بذلي كل طاقاتي في سبيل الارتباط والتشبث بعهدنا وعزيمتنا تلك.
بمقدوري تقديم النصح بصراع العشق ضمن هذه التعاريف. يجب الثقة بعدالة المرأة. فالرجال يشككون عموماً بالمرأة على أنها تتحول إلى كائن منفتح لكل أنواع السيئات في حال تركها لوحدها. ساطع للعيان أن المتواري وراء هذا التشكيك هو القمع والظلم الممتد على مر آلاف السنين. بينما أدافع أنا في قناعتي عن نقيض مفهوم الرجولة المهيمنة ذاك. فالعدالة والحرية والمساواة تطورات ظاهراتية، تبرز بكثرة في طبيعة المرأة. بل والأصح من ذلك هو أن فحوى مجتمعية المرأة يرتكز إلى دعامة العدالة والحرية والمساواة. كما وأنها سلمية إلى أقصى حد. وتدرك تماماً أن حياة ذات معنى، لا يمكن أن تتطور، إلا بوجود هذه المصطلحات الأولية. علاوة على أنها سامية ونبيهة في مصطلح الجمال. ومسألة فرضها القمع واللامساواة في تفضيلاتها واختياراتها، تُناقِضُ طبيعتها وطراز مجتمعيتها. يرتبط مدى فهم كافة هذه الخاصيات بإمكانيات الحركة الحرة لدى المرأة. فكلما تحركت المرأة بحرية، كلما تمكنت من تطوير اختياراتها الجميلة والعادلة والمتساوية. من هنا، فإحياء مصطلحات الجمال والعدالة والمساواة في المجتمع، يمتُّ بصلة وطيدة بتحرير المرأة، ويمر منه.
على الرجل أن يعرف أن الرجولة الحقة الواثقة من ذاتها تحتّم تقديم المساعدة والمؤازرة والتضحية العظمى – لا زرع العراقيل – في سبيل تحرر المرأة بالنحو الذي ذكرناه. عليه أن يولي الأهمية للقول: "إنها المرأة التي يجب أن تتحرر"، عوضاً عن القول: "إنها امرأتي". وفي حالة كهذه، يمكن تحديد شروط ظاهرة العشق:
أولاً: الشرط الأساسي هو تكافؤ المرأة والرجل في القدرة على الحرية والمساواة، كي تتمكن من استخدام حقها في الاختيار والانتخاب بصورة كاملة. وهذا ما يتطلب بدوره شرطاً آخر يتمثل في تأمين الدمقرطة التامة داخل المجتمع. ثانياً: يستلزم تخطي مقاييس الهيمنة والحاكمية، التي اكتسبها الرجل على مر آلاف السنين بما يناهض مصلحة المرأة، وتجاوزها سواء في ذاته أو في المجتمع الحاكم؛ وبالتالي قبوله بلوغ القوة تماشياً مع المرأة. ساطع بجلاء أن نضال الحرية والمساواة الديمقراطي، الذي سيُخاض في سبيل تجسيد هذه الشروط وتلبيتها، سيقرِّب الفرد من ظاهرة العشق أكثر. هذا بدوره يمر أولاً من إنكار ظواهر العشق الناشئة في أحضان النظام السائد.
لا تجد البسالة الحقة معناها إلا ضمن هذه التعاريف. وأمثال أولئك يحترم المرء اهتمامهم بالعشق وميولهم إليه. وفتياتنا وفتياننا الذين رموا بأنفسهم في النار ببسالة، هم في الوقت نفسه إنذار لنا إزاء خيانة العشق. إنهم بالنسبة لوطننا وشعبنا يمثلون مبادئ الالتزام بقواعد العشق المقدسة من جهة، ومنفِّذوها ودُعاتها الأشاوس الحقيقيون من جهة ثانية. وما علينا نحن، إلا إبداء قوة تقدير هؤلاء الشجعان كأقل تقدير. أعرف أن هذه المعايير عصيبة للغاية. ولكن، هل من شيء أصعب من الاحتراق بألسنة النار الملتهبة! العشق هو حقيقتنا المذهلة والخارقة المحفِّزة على الحرب. وقد يظهر داخل PAJK من يود تمثيل ذلك. وأنا أقوم بهذه الدراسات لأنني رأيت تلك الأمارات. فعلى الأقل، يجب ألا نزرع القلاقل على درب انطلاقات كهذه، أو أمام من يطمحون لأن يكونوا أصحاب حياة عظيمة. فليتناقشن بصدد ذواتهن، وليتدربن، وليقفزن من التاريخ اللعين إلى تاريخ الحرية. وليطوِّرن قواعد الحياة المفعمة بالعشق والود والاحترام. وليقررن كل أشكال تنظيماتهن وممارساتهن العملية. وليؤسسن نظامهن، بدءاً من مؤتمراتهن وحتى اجتماعاتهن اليومية. وليبلغن قوة العشق الحقيقية. فهل ثمة أثمن من ذلك؟ وPAJK، الذي يتحلى بهذه القوة، ما من مشكلة إلا ويحلها، وما من مهمة إلا ويؤديها.
قد يقول الكثيرون، بما فيهم من في صفوفنا، "يستحيل إحياء مفاهيم كهذه في العشق ضمن واقع الكرد وكردستان". عليَّ هنا أن أوضح أن هذا لا يليق بتاريخ شعبنا. فتقاليدنا الملحمية على انسجام تام مع تعريفاتي. فملاحم ممي آلان وممو زين ودرويش عبدي المعاشة بالقرب منا في أيالة بوطان وجبل سبحان وجبل سنجار؛ إنما هي أقرب إلى الألوهية.
قد يصعب حضرنة ملاحم العشق. بيد أني ورفاقي الشهداء أدينا ببسالة خدماتنا الجليلة على درب العشق. وإذا لم يفهم من يزعمون رغبتهم في العشق فحوى وقيمة هذه الجهود، فإما أنهم عميان أو فسادون أو سفلة وخونة. ماذا يُنتَظَر منا بعد لأجل العشق؟
أنتَ لن تهرع نحو الحظي بالنجاح في المهام الثورية، ثم تقول: أود إقامة علاقة! ساطع سطوع الشمس أنه تقرب خالٍ من الحياء والعار. فالعشق في كردستان لا يشبه ما يُعاش في أفلام هوليود ويشيل جام. بل يتطلب آلهةَ وإلهاتِ النصر بقدر الحكمة. حتى الطيور تبني أعشاشها في الأماكن التي لم تمسها يد الإنسان. فهل ممكن أن يعشعش العشق في الأماكن والأفئدة المحتلة حتى حلوقها؟ كل قوة بجوارك تلجأ إليها تعمل الشيء الفلاني بالعشاق. لقد بيَّنَت تجربتي التي خضتُها أنه من المحال محاولة العيش مع امرأة تابعة للنظام السائد دون خيانة المهام الثورية. قد تحصل زيجات بسيطة في صفوفنا، وأنا أراها علاقة عبودية تهدف إلى مواصلة الوجود الجسدي، لا غير. وشرط عدم نعتي أولئك الرفاق بالخيانة، هو بلوغهم إنجازات النجاح في المهام الثورية. وإلا، ففي حال استغلالهم مهامهم الثورية في خدمة علاقاتهم، فلن ينم ذلك سوى عن الخيانة. والتاريخ الكردي غرق في مستنقع الخيانة بنسبة كبيرة، عبر نمط علاقات كهذه.
الانتقاد الآخر هو: الزيجة البسيطة التي تحصل مقابل ضياع العشق. وأنا لا زلت أجنح إلى خوض صراع العشق، الذي لا حدود له ولا عمر محدد. ومثلما نوهتُ سابقاً، كل من يُسقِط العشق إلى منزلة الشهوة الجنسية، فهو يخونه. العشق في ظروفنا النضالية يعني التحلي بالأمل، الحماس، الإرادة، قوة الإدراك، الطموح إلى الجمال، الجرأة، التضحية، والإيمان المشرِّف اللامحدود اللازم في الحرب والسلم؛ كشرط أساسي لإحراز النجاح في المهام. وصراع الوطنية والحرية والسلام المشرف، الذي هو صراع العشق بعينه، سيجد قوته اللازمة لإحراز الظفر ضمن حقيقة PKK، وسيُخلَق الرجل المتحرر من خلال المرأة المتحررة.
ب) ما يلزمنا في تنظيمنا إلى جانب الحزب، وربما بشكل يضاهيه أهمية، هو مؤسسة KOMA GEL، أي "مؤتمر الشعب"، الذي يتطلب تعريفاً خاصاً به ضمن واقع كردستان الملموس، كسقف تنظيمي أساسي للشعب. وإذا عملنا على تعريفه بجوانبه المتعددة، فإن "مؤتمر الشعب"، وقبل كل شيء، يتميز بمعنى مغاير لحقيقة الحزب. فبينما يغلب الطابع الأيديولوجي على الأحزاب، يرجح الجانب السياسي في هذا المؤتمر. إنه تعبير عن هوية الشعب اليقظ، والمطالب بحقوقه، والسائر على درب الحرية. إنه جهاز تشريعي وتنفيذي مشترك، لكل من ينادي ويطالب بالحرية للوطن والديمقراطية للشعب، أياً كانت أيديولوجيته أو طبقته أو جنسيته أو قوميته أو أفكاره أو عقيدته. وهو ليس ببرلمان. هذا إلى جانب أنه ليس جهازاً يشرِّع القوانين الكلاسيكية. بل يمثل قوة القرار والمراقبة (السلطة التشريعية والتنفيذية) بصدد كل شيء، في سبيل نعيم الشعب بحياة مغدقة بالحرية والمساواة. وهو جهاز قانوني وسياسي في آن معاً. وهو سلطة الشعب العليا غير المتمحورة حول الدولة. وإلى جانب كونه ليس جهاز دولة، فهو أيضاً ليس ببديل لها. بل يتصدر كل المؤسسات العاملة بالمقاييس الديمقرطية في حل كافة القضايا الاجتماعية في عصرنا. وعوضاً عن أن يكون قوة الدولة في الحل، فهو مكلف بِسَنِّ القرارات اللازمة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والأيكولوجية والإعلامية وساحة الدفاع الذاتي؛ والمثقلة كلها بالمشاكل التي صعَّدتها الدولة؛ وتنفيذها ومراقبتها. "مؤتمر الشعب" هو السلطة العليا الناطقة باسم الشعب على الصعيدين الداخلي والخارجي.
يجب الإلمام التام بالظروف التاريخية والسياسية المؤلِّدة لمؤتمر الشعب في كردستان. فينما يتطلب وهن القوموية البورجوازية وبنيتها اللاديمقراطية تأسيس أداة إدارية بنمط المؤتمر لأجل الشعب، فإن وجود الدول القمعية القومية غير الحذرة تجاه الديمقراطية، يتطلب بدوره مؤسسة شبيهة بالأولى. لا وجود لدولة الشعب. ولكن وجود مؤتمر الشعب كجهاز تشريعي ديمقراطي شرط أولي. بشكل أفصح: بما أن الدولة المللية لا يمكن أن تكون أداة حل للشعب في سبيل حل القضية الوطنية في كردستان، فما يتبقى هو نظام المؤتمر كأداة حل مثلى. وبما أن الشعب لن يقبل بعد الآن بحياة العبودية القديمة تحت أي شرط كان، وأن تطلعات الدولة القومية محمَّلة بخطر تجذير العقم واللاحل؛ فأفضل وسيلة متبقية لأجل الحل الديمقراطي هي مؤتمر الشعب.
التساؤل الهام الواجب طرحه هنا هو: هل يمكن أن تجتمع الدولة القومية وديمقرطية الشعب معاً؟ كثيراً ما نشاهد أمثلة تدل على إمكانية ذلك في العديد من بلدان أوروبا والبنية الفيدرالية في أمريكا. ورغم أن الدولة القومية البورجوازية هناك تحد من نطاق حدود الديمقراطية بشكل مفرط، إلا أنه – مع ذلك – تبقى ثمة مساحة ديمقراطية هامة للشعب. أما الدول المهيمنة على كردستان، وفي مقدمتها تركيا، فهي لا تتيح المجال القانوني كثيراً لإدارة الشعب الديمقراطية، وذلك بدافع من بناها الأحادية المركزية المفرطة. فالتهميش هو السياسة الداخلية الأساسية المتبعة. وهذا ما يتمخض بدوره عن التمردات والممارسات القمعية الدائمة. الهدف من حل العقدة الكأداء المتكونة، هو تطوير سلطة مؤتمر الشعب وقوته التشريعية. إذ لا مناص من تأسيس الشعب مؤسساته الديمقراطية خارج نطاق الدولة، وتطويرها باستمرار، إلى أن تقبل الدول المهيمنة بالوفاق الديمقراطي. كما أن عدم التوجه صوب النزعة القوموية أو بناء دولة منافِسة، لا يتطلب الخضوع للوضع القائم كما هو عليه. بل على النقيض من ذلك، فهو يتطلب التطوير الدائم للمجتمع المدني والوسائل الديمقراطية، بغرض إعاقة النزاعات والتناحرات القوموية. أما ترك المشاكل المتعاظمة في المجتمعات لرحمة الدول المؤسَّسة قديماً، أو المراد تأسيسها حديثاً؛ فسيسفر عن تفاقمها أكثر فأكثر. وبما أنه ليس من السهل بناء دولة جديدة، وحتى إذا بُنِيَت فلن تقدر على حل المشاكل، هذا إلى جانب افتقار الدولة القديمة القدرة والكفاءة في الحل؛ فوسيلة الحل الأساسية، التي يجب اللجوء إليها، هي مؤتمر الشعب كديمقراطية ليست بدولة. نود أن نذكِّر هنا بأنه بُنِيَت اثنان وعشرون دولة عربية، لكن مشاكلها تفاقمت أكثر. وأُسِّست في أفريقيا ما يقارب الخمسين دولة، لكن مشاكلها أصبحت أعظم مما كانت عليه قديماً. والمشاكل التي أفرزتها الدول القومية في أوروبا، لا يمكن حلها إلا بوساطة الاتحاد الأوروبي. بينما الولايات المتحدة الأمريكية تعبر عن اتحاد اثنين وخمسين دولة ولاياتية. أي أن تعددية الدول تزيد من المشاكل، أكثر من أن تحلها.
لقد طورت الدول التقدمية هذا الموديل بعد تجارب طويلة من الصراعات والنزاعات. في حين لا تزال الدول الأخرى بعيدة عن تفهم هذا الحل، حيث تعتبره دوماً تنازلاً عن الدولة الأحادية المركزية. فالبقاء كدولة مركزية أحادية قومية حتى التآكل والاهتراء، يعد بالنسبة لها دليلاً على ارتباطها المقدس بوطنيتها ودولتها! نرى أن هذه المفاهيم السائدة في يوغسلافيا والعراق، وحتى في جزيرة قبرص الصغرى، تمخضت عن نتائج غير متوقعة في نهاية المآل. كما تعد جمهورية تركيا بعيدة عن إدراك آلية الديمقراطيات، حيث تراها منافِسة لها على الدوام. ومقابل كون الكرد أعضاء أصليين في تأسيسها، فهي تؤمن بالخلاص من عبء المشكلة الكردية بإنكارها، فلا تود فهم دور الكرد الاستراتيجي تاريخياً وحاضراً، ولا تدنو من استيعابه قط؛ بل تعاند في فرض نموذج يوغسلافي أو عراقي ثانٍ، بثقتها المفرطة بقوتها العسكرية وبعظمة وطنها. بيد أنها لو قاست المسألة بما فعلته إيرلندا الصغيرة الحجم بإنكلترا، وما فعلته الشيشان بروسيا؛ فستستوعب دور الكرد على نحو أفضل. ولو وضعت نصب عينيها الثمن الباهظ المدفوع، حصيلة سلوك السبل العسكرية، رغم عدم قدرتها على إيجاد حل دائمي للمشاكل؛ ستدرك حينها مدى أهمية إيجاد الحلول اللازمة. بماذا نفع تَرْكُ قبرص تتخبط في العقم أربعين سنة؟ إن الخسائر المتكبدة فيها جسيمة، لدرجة يستحيل إحصاؤها.
يجب إبراز دور الكرد وكردستان الاستراتيجي لدولة تركيا ومجتمعها بأسطع الأشكال وأكثرها لفتاً للأنظار، أثناء التوجه نحو الحل المتمثل في بناء المؤتمر. فوضعية كردستان الفاعلة بشكل مضاد لمصلحة تركيا، إنما تشكل مشكلة دائمية، وتدهوراً اقتصادياً، وتهديداً سياسياً وعسكرياً لها. وقد جُزِمَ باستمرارية تأثير "الدولة الكردية الفيدرالية" القوموية العشائرية في جنوب كردستان، بعد تأسيسها. بالتالي، فقد بلغت الوضعية الحالية لكردستان مستوى منجباً للمشاكل المناهضة لمصلحة الجمهورية التركية بسرعة ملحوظة. وإذا لم تُدرَج الحلول الديمقراطية حيز التنفيذ، فستصبح الحركات القوموية أمراً لا مناص منه. وهذا ما معناه معاناة صراع جديد شبيه بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، طيلة خمسة عقود أُخَر. ومثلما حصل في العراق منذ أمد طويل، فالخطر الذي واجهته تركيا إزاء التجربة الأولى لـPKK، والذي لم يكن بالهيِّن، ستشهده هذه المرة بأضعاف مضاعفة من الضراوة المنتشرة على أرض الواقع، وباستعدادات وتخطيطات أشمل. قد تكون الدولة واثقة بسياستها القمعية الساحقة التقليدية. ولكن ما يحمله "مشروع الشرق الأوسط الكبير" في أحشائه، لم يُجزَم تماماً بعد. فهو منفتح لكل المهالك. وتأليب دور الكرد الاستراتيجي على تركيا، سينمُّ عن نتائج مصيرية للغاية. ستُطرَح العديد من الجدالات والمطاليب الجديدة على جدول أعمال تركيا. وإذا ما وُضِع نصب العين عقم تكتيكات السحق والتركيد (التنويم) السريعة سابقاً ومستقبلاً، فسيسطع سطوع النهار مدى خطورة تأجيج النار والتهابها ثانية، سواء على المدى الطويل أو القصير.
على الأتراك ألا يغفلوا عن شروع كل دولة وقوة، وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل، بالاستفادة من دور الكرد الاستراتيجي من الآن فصاعداً. فالشعور بالراحة والطمأنينة، بمجرد حث العالم على قبول إرهابية PKK، ليس إلا خداعاً للذات. وعلى النقيض، فهذا ما يفتح عيون العالم ويوقظها، لتُبرِز مطاليبها إزاء تركيا. وهل قُدِّم القليل من التنازلات السياسية والاقتصادية لهذا الغرض؟ لكن خطأ هذا الطريق أمر واضح. هذا علاوة على أن الكرد لم يستحقوا إطلاقاً معاملة كهذه. والأنكى من ذلك، أن الأتراك سيقومون بإضافات جديدة عما قريب إلى الدولة الفيدرالية المهداة للقوى العشائرية الكردية في الجنوب، مقابل محاربتهم ومناهضتهم لحركة الحرية التي يترأسها PKK. هذا ولم تكتفِ في الشمال بتفعيل ما يقارب مائة ألف مرتزقة مأجورين كي لا يوالي الكردُ حزبَ PKK. بل ومَنَحَت زعماءَ الطرائقية القوموية البدائية والرجعية حيزاً لا يستهان به في أجهزة الدولة. هذه القوى هي التي ستعمل على خلق عراقٍ ثانٍ. من جانب آخر، فهذا السلوك يتناقض مع كافة مبادئ الجمهورياتية والديمقراطية. وإذا لم تنفجر كردستان ذات الاقتصاد المشلول في وجه كل هذه المستجدات، فماذا عساها فاعلة إذن؟
لقد بذلنا جهودنا في فترة إمرالي لتخطي هذه الضغوطات الجوفاء، رغم جهلي بمدى استيعاب ذلك. فحكومة AKP الجديدة تُرجئ القضية، بتوخي الصمت الذي لم تلجأ إليه أية حكومة قبلها، وتسوق قوة الطريقة النقشبندية إلى الدولة لترسخها فيها، ظناً منها أنها بهذه الشاكلة ستقيم سداً منيعاً في وجه القضية الكردية. وقدمت لها كل ما بوسع دولة تقديمه من مساعدات في الانتخابات الأخيرة، بغرض التحفيز على التصويت لها. إنه خطأ استراتيجي فادح، لدرجةٍ لن يطيق فاعلوه دفع ثمن النتائج الوخيمة التي ستتمخض عنه قريباً.
لقد زُرِعت قلاقل جسيمة – من الواضح تماماً أنها بيد الدولة – أمام درب البحث عن حل ديمقراطي مشترك في تركيا. حيث نُصِبت العراقيل الداخلية والخارجية على السواء أمام "اتحاد القوى الديمقراطية". واعتُبِر تهميش الديمقراطيين الكرد من دواعي الأمن القومي. كل ذلك خطأ لا يفيد سوى بالإصرار على الوضع القائم واللاحل، ظناً منهم بعدم قدرة الشعب الكردي على خط مساره بيده من جهة، وأملاً في تحقيق استسلامه كلياً، تحت ضغط المجاعة والاضطهاد من جهة ثانية. فالقوى الديبلوماسية وقوى الأمن الداخلي لا تزال تمارس سياساتها الاجتماعية المكثفة، بالتعاون مع شقيقاتها السياسية والاقتصادية، لهذا الغرض بالذات. جميعها تعمل وفق استراتيجية واحدة فقط، تهدف إلى البلوغ بالشعب إلى مفترق ثنائية الاستسلام أو الموت. وقد قامت حكومة AKP بدورها بإلحاق القوى الدينية والطرائقية بها لنفس الغرض. تشِيد المرحلة التي وصلناها اليوم بالإصرار على الممارسات الاستفزازية والعقيمة على السواء، ضاربة بذلك كل النداءات لأجل "السلام والحل الديمقراطي" عرض الحائط، وغاضةً طرْفها عن هذا الموقف، الذي لا يمكن انتظاره من أية حركة مشابهة أخرى، والمفعم بالنجاح لكافة الأطراف المعنية. فمثلاً، لم تُبْدِ أية محاولات، كتلك التي بذلتها بلا كلل أو ملل بجولاتها المكوكية بخصوص المسألة القبرصية الصغيرة الحجم، بل تجاهلتها بعناد وكأنها لم تكن. وعقدت آمالها على انشقاق PKK، وعلى القوات الأمريكية المتواجدة في العراق. لكن، في حال عدم ولوج الحل الديمقراطي المشترك حيز التنفيذ، فسيكون الحل البديل المدرَج – بأحسن أحواله – تطوير الديمقراطية الذاتية اعتماداً على القوى الذاتية. أي، الحل المتجسد في بناء المؤتمر من الآن فصاعداً.
على الشعب الكردستاني أن يستنفر كل طاقاته في كافة أرجاء الوطن وخارجه، في سبيل حل المؤتمر ذلك. وضمن الإطار المعرَّف، يتوجب على KONGRA GEL عقد مؤتمره الطارئ تجاه المجموعة التكتلية البارزة مؤخراً؛ بحيث يقيِّم المؤتمر المستجدات الداخلية والخارجية بشمولية، ويتخذ القرارات اللازمة بشأن الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والأيكولوجية والإعلامية والدفاع المشروع. وسيُكلَّف المجلس الرئاسي التنفيذي بالمهام. فانتظار حدوث الانقسام والانشقاق مجرد وهم أجوف.
سيبذل الشعب كل طاقاته في كافة أجزاء كردستان لأجل حل المؤتمر. وستقدم الإدارات الديمقراطية المحلية كل ما بوسعها، بدلاً من البرلمانات الوطنية المغلقة (بسبب سقف الانتخابات) والأحزاب السياسية المحظورة.
ستُنتَخَب الوحدات الإدارية الذاتية في كل قرية ومحلة لتكون هي المسؤولة.
سيتم تنوير كافة مجالات حياة الشعب بالحلول الديمقراطية. وستتبدى سبل الحل الطويلة الأمد. ستُطبَّق قوة المؤتمر التشريعية على أرض الواقع في ظل الظروف والإمكانات المناسبة. وسيُسيَّر التعليم الذاتي للشعب قدر المستطاع. لن يُترَك الشعب للشحاذة من الدولة. ولن يُتاح المجال لألاعيب اصطياد الشعب الموجود ضمن حدود المجاعة. سيدافع عن نفسه في حال تعرض حقوق الإنسان والحريات الثقافية لديه للانتهاك. وسيوضع الحد لإفراغ قرى جديدة من ساكنيها، وستُفتَح القديمة منها للسكن والمكوث مجدداً. وبكل أنواع التعاضد والتكاتف، سيوضع الحد للمجاعة. ستُطوَّر التنظيمات الجديدة على جميع الأصعدة. وسيتم التوجه صوب تنظيم المجتمع المدني على نطاق واسع. وستعمل مدارس التعليم الديمقراطي على تعبئة الشعب فيما يخص ديمقراطياته في كافة أماكن تواجده.
يجب أن يكون حل المؤتمر مستعداً للحل الديمقراطي مع كل دولة معنية بكل عناد وعزيمة، بغرض الخيارات الديمقراطية المتضمنة للسلام والأخوة، والرافضة للانفصال والعنف؛ عوضاً عن سياسات القمع القومي والإنكار القائمة. وسيُظهِر قدرته على الدفاع عن ذاته إزاء أي هجوم محتمل. كل هذه المساعي تفيد بتأمين وتعزيز التكامل الحقيقي، لا الانفصالية. هذا ويجب التطرق بلا كلل أو ملل إلى أن هذا هو السبيل المفعم بالمسؤولية العليا لسد الطريق أمام مآسي جديدة. كلما جهدت الدولة لسحق مثل هذه المساعي، فستُقابَل بتمتين الصفوف أكثر، والرد عليها بموجب ذلك. حيث سيُصعِّد الشعب من عملياته الديمقراطية الأكثر تنظيماً ووعياً، بما لا يقارَن بأي وقت مضى، ضمن هذه الأجواء التي لا تطاق. وبقدر أهمية عدم السقوط في محاولات قوموية تآمرية، فإنه لن يثبط من همته في نشاطاته المختلفة، وعلى جميع الأصعدة، الاجتماعية منها والسياسية والقانونية والفنية والإعلامية، وفي ميدان الدفاع المشروع أيضاً. بينما نحدد الخطوط العريضة للمرحلة الجديدة المسماة بحل المؤتمر على هذه الشاكلة، فإننا نرى في دعوة الجميع لتوخي الحذر واليقظة الأكبر بشأن الحل، والمساهمة فيه بفعالية قبل ولادة مآسي جديدة؛ مهمة تاريخية مصيرية.
إلى جانب هذه المعالجة المختزلة لتعريف مؤتمر الشعب وكيفية تطوره، يستلزم التمحيص في بعض المواضيع بتفاصيل أدق.
تتعلق النقطة الأولى بالنزاع الداخلي على السطلة، إثر الاجتماع الأول لـKONGRA GEL. تدل هذه السلوكيات المتبدية أثناء مرورنا بتطورات وتحولات نظرية وسياسية وعملية عظمى في سبيل الحل الديمقراطي، وبنحو أكثر شمولية؛ على عدم استيعاب التسيُّس – أو تركه جانباً وإهماله بكل جرأة – سواء بمعناه السياسي الديمقراطي، أو داخل صفوف PKK عموماً. كنتُ نوَّهتُ سابقاً لحاجة مثل هذا النمط من المواقف المتبعة إزاء الخبرة السياسية الممتدة على طول ربع قرن من العمر، إلى التحليلات المكثفة، وإلى سلاح النقد والنقد الذاتي. إنه يُظهِر مدى قوة المواقف الفوضوية، التي لا تأبه بالقواعد، ولا تهتم بالشروط القائمة، ولا تجزم بما ستفرزه، وما ستتسبب به لاحقاً؛ في حين أنها مضموناً لم تتسيس بعد، هاوية غرة، ومع ذلك لم تتجاوز الأحباب جاويشية (العلاقات المحلية) في أحداث السلطة. كما أنها تعكس خصائص الشخصية المنجرَّة وراء القوالب الأيديولوجية، أو وراء النزوات والأطماع الزهيدة البخسة، عوضاً عن إحراز النجاح في المهام.
لستُ غريباً عن هذه المواقف، التي يمكن رؤيتها كامتداد للتصرفات والسلوكيات التي فرضتها علينا الشخصيات، منذ بدايات تكوين المجموعة الأولى وحتى إعلان الحزب PKK، والتي أبدت مواقف كيفية لأبعد الحدود، أثناء قفزة 15 آب المجيدة. إنها لم تعلل أسباب ذلك حتى اليوم، ولم تتحمل عبء المسؤولية الحقيقية، طيلة مرحلة الحرب المستمرة خلال خمسة عشر عاماً؛ بل ناءت عنها على الدوام. أما خطئي أنا، فيتمثل في تفضيلي للتقرب الرفاقي لأقصى حد من حقيقة المؤسسات والقواعد الموجودة، وذلك بذريعة "إنقاذ الشخص" عن قناعة، وانطلاقاً من إيماني بأنه "ستصلح أمورهم، وسيكتسبون الخبرات، ويَعْدِلون عن تصرفاتهم". المحصلة؛ الوضع الذي وقعتُ فيه.
تقييمي مرة أخرى برؤية خاطئة، خلال فترة مكوثي في إمرالي؛ إنما هو أمر مؤسف ومُحِطٌّ للقدْر والقيمة، بالنسبة لهؤلاء الذين سلكوا هذه المواقف، وأضحوا آلات زهيدة بيد الغير، أكثر مما هو بالنسبة لي. بيد أني كنتُ حذرتهم، وأعطيتهم العديد من الأمثلة عليها. حيث قلت لهم: "ثمة أشياء لا يمكنكم القيام بها، إلا بعد اهتراء جسدي وتفتته. وثمة بعض منها لا يمكنكم عملها، حتى لو كنتُ في القبر. وثمة أشياء أخرى لا يمكنكم فعلها قطعياً، بمجرد أني أستنشق الهواء، وينبض قلبي بالحياة". للجبال تأثيراتها التحريرية والحيوانية في آن واحد. وجليٌّ أن التحريرية منها قُبِلَت على غلط. كنتُ قد حذرت PKK والدول المعنية على السواء، بأن التلاعب معي لن يدرَّ بنفع لأيٍّ كان. ولا تساورني الشكوك إطلاقاً، إزاء هويتي التي تفعل كل ما في وسعها تجاه الحقائق. كنتُ طلبت منهم أن يستوعبوا كوني لست واهناً بائساً عديم الحل، وإنْ بدوتُ كذلك ظاهرياً. وأنه لا يمكن اعتباري مفتقراً تماماً للعزة والكرامة، وإنْ كنتُ لست في أحسن حال. لكني رأيتهم متباهين لدرجة النشوة بطراز حياتهم وواقع حربهم. يتبدى مرة أخرى أن من عليه التحلي بالنضوج والتعقل، كضرورة لا بد منها، هو أنا.
ستواصل حقيقة KONGRA GEL مسيرتها، رغم محاولات الدول خارجياً، والأطراف الموجودة داخلياً، لشل فاعليتها وآليتها. دعك من الدول الآن. على الذين يجعلون أنفسهم طرفاً في المسألة ألا يتناسوا، ولو للحظة واحدة، أنه ثمة شيء واحد فقط يمكنه إنقاذهم من الوضع الذي هم فيه؛ ألا وهو حقيقة إحراز النجاح في مهامهم التي تنتظرهم. فأي عمل، مهما كان ثقيلاً ومهماً، أو بسيطاً وعادياً؛ فهو ضروري للقبول به كمهمة مقدسة يتحتم النجاح فيها. وأنا أتساءل: هل يتسم أولئك الذين مهدوا السبيل لما حصل، بالصدق والشجاعة التي تخولهم لتقدير قيمة نشاطاتنا، ولو ليوم واحد فقط، في سبيل إنقاذ كرامتهم الثورية؟ إني ألتقط أنفاسي هنا بصعوبة من الثقب الذي لا يتعدى سنتيمترين فقط، سعياً للعيش في سبيل القيم التي لا يمكن الاستهانة بها أو استصغارها في سبيل حرب الكرامة والشرف لشعبنا من جهة، وأجهد لعدم تفتيت الوحدة أو تعكير أجواء الطمأنينة والسلم السائدة، وعدم بعثرة إرادتي وبنيتي – ولو بصعوبة، حيث أننا في مواجهة واقع، يقضي على حياة أكثر الناس ثقة بنفسهم بعد ثلاثة أيام فقط – من جهة ثانية. فهل سيبرهن هؤلاء الرفاق، بجهودهم الموفقة والناضجة، على إنقاذ كرامتهم؟
لأجل هذا فكرنا، واقترحنا. وآمنتُ بأن تمأسساً من قبيل KONGRA GELقد يفلح في تحقيق تحديث حقيقي وينقذ كرامتهم. وانتظرت. لا بد لي هنا من التذكير بأن هذا النزاع على السلطة سيجلب معه أسوأ أشكال الموت. فعليهم ألا يفرحوا به كثيراً. أيستطيع الإنسان هدر ولو لحظة واحدة من وقته لـ"الألاعيب البيزنطية" تلك، في حين تنتظره مهام عظيمة ومتراكمة كالجبال؟ علينا ألا نلجأ هنا مرة أخرى إلى تعليل ذلك بمصطلحات من قبيل: غير مُحق، عميل، استفزازي، انقلابي. فحتى لو كان الأمر كذلك، إلا أن هذا السلوك سيشل آلية تقرير مصير الشعب. وهذا غير ممكن. حيث عشتُ بنفسي المئات من أمثال هذه التقربات. لكن، ما الذي أمِلَته الأطراف المعنية في صفوفنا من تلك المواقف، عندما دخلت غمار الحرب، وهي تدرك تماماً أنها ستسبب الخسران، ليس لأجلهم فحسب، بل ولكل شعبنا والجميع؟ وحتى لو ربح طرف فيها، فهل فكروا في كيفية متاجرتهم بهذه المكتسبات الأشنع من الخيانة، وإزاء من؟
الأنكى من كل ذلك هو التجاسر على إدخالي "أنا" في عزلة، ضمن العزلة الشاقة التي أنا فيها! على هذه الهويات أن تعرِّف ذاتها، وتعلل ذلك بشكل صحيح. فكيف يطمح إنسان يرضع حليب أمه إلى إقحامها في وضع لا تدر فيه الحليب؟ لقد شرحتُ حكايات شجاري مع أمي. ومفهوم أن له دوافع تاريخية. ولكن، ما هي دوافع أولئك الرفاق؟ فلا العدو ولا الصديق، لم يصرف كلمة واحدة تشير إلى فقداني أهميتي. ولكن، إلى ماذا، وعلى من اعتمدت هذه الهويات في زعمها بأنني عديم القيمة، أو في رغبتها بأن أكون كذلك؟ إن الرد على هذه الأسئلة مهم للغاية لأجل تطورهم.
وأنا أذكِّر أولئك الذين عاشوا هذا الوضع، عن وعي أو بدونه، بأنهم قد يدخلون وضعية مشابهة. لكن الالتحاق بدعوى الكرامة لأجل الشعب يتطلب المرء الشريف الطوعي وذا العزيمة الصلبة. فإذا كانوا يفتقرون إلى هذه المزايا، ما كان عليهم الالتحاق بها منذ البداية، أو احتلال مواقعهم فيها. عليهم ألا ينسوا أبداً أن الوصولية (الطمع في احتلال منصب ما) عدو لدود للديمقراطية. لكن، يجب ألا يبقوا بلا موقع أو مقام أيضاً. حيث أن ذلك يعني عدمية العزيمة والهدف. وهل سينكرون أنهم تصرفوا بما لا ينسجم والديمقراطية؟ لقد تابعتُ بعض التطورات الحاصلة. فالأساليب المطبقة لا يلجأ إليها حتى الباشوات. كيف يعللون كسر إرادة الشعب الجاهزة؟ كيف يستطيعون العيش داخلنا، بكل هذا الانكماش إزاء الديمقراطية؟ عليهم إدراك الديمقراطية بعد الآن. فبينما لم يفلح حتى أعظم أثرياء تركيا بالأساليب الديماغوجية والاستبدادية، ما الذي ستقدرون عليه أنتم، وما زلتم يافعين لم ينبت الشعر على أبدانكم بعد؟ إنني أكتب هذه الأسطر بصعوبة، وأود الخلاص من هذه التأويلات.
إني على ثقة بأنه لو كان هؤلاء الرفاق محلي، فسيعملون على تصفية أمثالي أربعين مرة. لكني رغم ذلك، مستعد لمواصلة المسيرة معهم، ولكنْ مع الإضافة: لا تلعبوا معي!!! وإلا ستصبحون عديمي القوة بشكل شنيع.
لست في وضع يخولني لتحديد نوعية وكمية المؤتمر. وأضيف على ما بينته سابقاً أن انتخاب رئاسة المؤتمر يكون مرة في السنة. وبعد انتخاب نفس الشخص مرتين على التوالي، يمكن انتخابه مرة أخرى، ولكنْ بعد مرور سنتين عليها على الأقل. أذكِّر بأن اقتراحي هذا يعد حكماً هاماً في النظام الداخلي الديمقراطي. وأبيِّن أهمية هذه القاعدة الديمقراطية بالنسبة لكل المنظمات الشعبية غير الأيديولوجية، والمتطلبة للكفاءة الاحترافية. وإنْ لم يكن الانتخاب مرة في السنة، فيمكن القول بإمكانية ترشيح نفس العضو لدورتين على التوالي. لكن حصر المدة منوط بوضعية الشخص بالذات، في كافة الأحزاب والمنظمات المستدعية للامتهان والاحترافية.
وبغرض التحضير لاجتماعات المؤتمر السنوي العامة، يتوافق عقد الاجتماعات لعدة أسابيع في شهر نيسان مع التقاليد التاريخية أيضاً. لذا أكرر هذا الاقتراح. يمكن تحديد مدينة المؤتمر الآن، أو في فترة لاحقة، كدليل على جدية المؤتمر وهيبته. والخاصية العامة المطبقة هنا هي انتخاب المؤتمر هيئته التنفيذية ولجنته الانضباطية ورئيسه. يجب توخي الدقة في اختيار ذوي المقاييس والعزائم الكافية الوافية في انتخاب الهيئة التنفيذية. كنت قد اقترحت قيام تلك الهيئة بنشاطاتها على شكل لجان سباعية، بحيث يمكن اختيار أعضائها من ضمن الهيئة ذاتها ومن خارجها. وفي الفترات التي لا يبرم فيها المؤتمر اجتماعاته، يمكنه اختيار سبع لجان تحضيرية من بين أعضائه مقابل تلك اللجان السباعية، وذلك لسن القرارات اللازمة. حيث تعمل تلك اللجان التحضيرية على المساهمة في سن القرارات والرقابة، بالاعتماد على البحوث التي تقوم بها، وتقدم مقترحاتها بموجبها. يمكن ربط بعض التنظيمات على شكل مكاتب أو مدارس أو اتحادات بكل واحدة منها حسب خاصياتها. وبالتوجه نحو الأسفل، يمكن تأسيس الوحدات حسب قواعدها، في كل منطقة ومحلة وبلدة وقرية، بحيث تكون مرتبطة بتلك المكاتب أو المدارس أو الاتحادات. ثمة حاجة أولية في كل ديمقراطية لمشاعات القرى والمحلات. وبهذه الشمائيات التنظيمية لا يترك المؤتمر أية قاعدة جماهيرية، إلا ويمتد إليها ويؤثر فيها وينظمها. وتُجَرَّب السبل العلنية والسرية في ذلك حسب الظروف، مع اعتماد العلنية أساساً. لا يمكن أن تتجمهر إرادة الحزب، إلا عبر تنظيم المؤتمر.
يمكن تعريف الوحدات الدفاعية على أنها المطوِّرة والصائنة إياه ارتباطاً بقراراته. يمكن أن تكون العلاقات مع الأحزاب العلنية على مستوى التعاطف، إذ من غير الصحي تسيير المنظمات القانونية بالأوامر. ويتم تموقعها وتوزيع أعضائها وفق أسس المهام واحتياجات الأمن. بالإمكان النقاش على كل هذه النقاط بتفصيل أوسع وحسب الاحتياجات العملية، للوصول إلى دراسة سليمة بشأنها، وتوثيقها بقرارات صحيحة.
تتعلق النقطة الثانية بكيفية تحليل وتأمين سيرورة وصيرورة العلاقات والتناقضات في كردستان، بين قوى الحل للمؤتمر وقوى الدولة المعنية. علينا التبيان بتركيز ودقة بأن القاعدة الأساسية الفعالة حتى الآن في صراعات السلطة كانت على النحو "إما الكل، وإلا فلا". لم تأخذ السلطة الثنائية والنفوذ الديمقراطي فيها سوى حيزاً ضئيلاً، بالرغم من أن الطبيعي في الأمر، والذي يجب أن يكون، هو العيش المشترك والمتداخل لقوى السلطة والديمقراطية، بكل علاقاتها وتناقضاتها. والواقع الاجتماعي هو كذلك في حقيقة الأمر. ولكنْ لا يُعترف به صراحة. لذا، فالتعبير الشامل والمتكامل له، وتطبيقنا إياه، سيزودنا بالحلول الوفيرة. نحن أيضاً تقربنا حسب تلك القاعدة "إما الكل وإلا فلا" في قفزة 15 آب. لكن تعايش الدولة وقوى المؤتمر مع بعضها ضمن نفس الوطن، هو من دواعي الشروط المرحلية القائمة.
لا الدول تزول من الوجود في يوم أو عشر سنين، ولا مواقف الشعوب الديمقراطية يمكن قطعها من جذورها أو تغريبها عن ترابها. وبما أن الحروب الدائمة تجلب الدمار الكبير للطرفين معاً، فالطريق الوسط يتمثل في رجحان كفة العيش المشترك، واللجوء إلى مبدأ الحرب حين تدعو الحاجة فقط. وفي المرحلة المقبلة، علينا التمكن من ضبط الحياة والصراع بموجب هذا المبدأ، في كافة مناطق كردستان. لا جدال في أن الدولة ستجنح في البداية إلى تطبيق مبدأ "إما الكل، وإلا فلا". لكن، بالإمكان إفراغ جميع الهجمات من محتواها بالمقاومة الديمقراطية المرتكزة إلى الدفاع عن الذات. وإيجاد سبل ذلك يجب أن يكون من أولويات مهام نضالنا الديمقراطي وحربنا في الدفاع عن الذات. لقد عشنا مرحلة كهذه قديماً. لكن الأطراف المعنية خرجت عن أصول الحرب، مثلما لم تجرب الاتسام بالديمقراطية. وما تشهده المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية اليوم، هو مثال آخر على هذا الوضع. لكن عدم تكرار مثل هذه الأمثلة يحوز بأهمية قصوى.
في الحقيقة، ما سعيتُ لاقتراحه خلال مرحلة إمرالي، لم يكن في مضمونه سوى حواراً في سبيل وقف إطلاق النار الثنائي وترسيخ الوفاق الديمقراطي. لكن، تم غض الطرف عنه وتجاهله بعناد. ورفاقنا أيضاً عجزوا عن إدراك أهمية الموضوع، فرأوه تكتيكاً بسيطاً. بيد أنه، ومن خلال التناحرات والنزاعات القائمة في الشرق الأوسط، يمكن الاستخلاص باستحالة وجود مخرج آخر، غير الذي اقترحناه.
الكل على علم بآمالنا في قيام حكومة AKP ببعض الخطوات. وقد راسلناها أيضاً. لكن، يتجلى اليوم بسطوع أكبر، ومن خلال الدور الذي لعبوه مع القوى القوموية والعشائرية في جنوب كردستان، أنهم لا يودون الجنوح عنه؛ بل مواصلته بشكل مغاير، وعبر حكومة AKP هذه المرة. وبسرعة قصوى التأم شمل كل من الشخصيات البارزة في الزمرة الأقلية المتواطئة التقليدية في كردستان، والكرد، والبعض من CHP، MHP، DYP وSP تحت لواء AKP بتوجيه من الدولة. وهُدِرَت كميات هائلة من الأموال في سبيل تصفية DFHAP. وغدا حزب AKP عنواناً جديداً للسماسرة ولحزب الله، في الفترة ما بين 1990 – 2000. فتكونت طبقة جديدة مؤسِّسة للدولة، تحت قناعٍ طرائقي جديد، تغلب عليه النقشبندية. إنه تطور جد خطير – بالنسبة لتركيا ولشعب كردستان على السواء – في إفراغه الحل الديمقراطي المرتقب من فحواه. وقيام الدولة بتسليط هذا النمط من الطرائقية الدينية والمرتزقة على رقاب الشعب في كردستان، إنما يعني إعلان حرب خاصة جديدة. في الحقيقة، يراد بذلك خلق عراقٍ ثانٍ ضمنياً. وبينما أّدخِل المتواطئون الكرد في أجهزة الدولة فيما بعد الخمسينات، فقد تناموا وتعززوا اقتصادياً لتزداد الفجوة بينهم وبين الشعب. أو بالأحرى، سُلِّطَت هذه الشريحة على رؤوس الشعب، لتحرسه وتترقبه عبر هذه المِنَح الاقتصادية. تُشكِّل القوموية الكردية البدائية والطرائقية النقشبندية دعامة المخططات ومقومتها في AKP، ونسبياً في ANAP.
يتسم الكيان الاجتماعي، الذي تقوم عليه الدولة الفيدرالية في العراق، بهذه الماهية. حيث تُخلَق البورجوازية الكردية من أحشاء الإقطاعية الكردية، دون أن يلتفت إليها أحد. ويتضح مع مرور كل يوم مدى تركيز أمريكا ثقلها على ذلك. قد تُمهِّد النزاعات القوموية الكردية الطريقَ لمشاكل واهية تفرضها على الشعب الكردي أولاً، وكافة شعوب المنطقة على وجه العموم. ثمة محاولات لموضعة الأقليات المتواطئة التقليدية أيضاً في صفوفهم، تحت ذريعة مساعدتهم للدولة. هكذا يكون قد أُلحِق المرتزقة الأيديولوجيون بالمرتزقة المسلحين. أما ما سيفعله هؤلاء، فسيكون إلحاق الضير الدائم بالشعب في سبيل منافعهم الطبقية، والحد من تطوره الديمقراطي. وقد دُفِعوا للقيام بعدة ثورات مضادة لا ديمقراطية، في العديد من المدن. حيث اندلعت هذه الثورات المضادة تحت حماية الدولة، وحصيلة جهود الحكومة المضنية، بواسطة الانتخابات المحلية في العديد من المحافظات والبلدات، وفي مقدمتها وان، أورفة، ماردين، آغري، بينغول، سيرت، بتليس، موش، أديمان، وعنتاب.
الكل يعرف مقدار الأموال المصروفة والألاعيب السياسية المحاكة فيها. حيث يُدفع بالشعب إلى حدود المجاعة، ويقدَّم أولئك كمنقذين زائفين له. لكن ترويض الشعب لا يقتصر على المجاعة فحسب، بل يُدفع للقيام بالثورات المضادة. لقد أثارت العديد من تصرفات AKP الشكوك والريبة الكبرى بشأن الديمقراطية، وخاصة فيما يخص القضية الكردية. إن إعلان امريكا والاتحاد الأوروبي لـKONGRA GEL كمنظمة إرهابية – حسب مزاعمهم – ليس إلا رياء مخادعاً. المراد فعله أصلاً هو إمداد الكرد التقليديين وأقلياتهم المتواطئة وعملائهم بالقوة والدفع اللازم، للتمكن من تأمين السيرورة. أحداث العراق مليئة بالعِظات بجانبها هذا.
جلي أن قوى KONGRA GEL ستعمل على إفشال هذه الألعوبة. في حين أن إصرار الدول على تلك القوى سيؤول إلى تجذير الاشتباكات. على الدول المعنية – وخاصة الجمهورية التركية – أن ترى جيداً أن اعتمادها على الشعب وحركاته الديمقراطية، بدلاً من سياساتها المرتكزة إلى المتواطئين الجدد معها، سيؤدي إلى استتباب الأمن والسلام والتكامل في الوطن. أما الإصرار على المتواطئين الكرد، فسيفرز تجذير الحرب وتعزيز الانفصالية.
لن يفسح الشعب الكردستاني المجال للانتقال من كردستانٍ قابعة تحت هيمنة الإقطاعيين إلى كردستان يحكمها المتواطئون البورجوازيون. أكررها ثانية؛ ستشهد هذه المرحلة نماذج كثيرة من سلسلة صراعات جديدة شبيهة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وبما يحدث في العراق. إذ ثمة مساعٍ لخلق بورجوازية كردية مصطنعة زائفة، تكون مدينة ديار بكر بالذات بؤرتها. لكنّ شعبنا، الذي خاض صراع الديمقراطية العظيم في مدينة مثل ديار بكر، ولم يسمح بعبور الفاشية إليها؛ لن يترك الفرصة للفاشية الكردية الخضراء أيضاً بالانتعاش فيها. لقد تعرَّف هذا الشعب على الفاشيين المتقمصين القناع الكردي من خلال نموذج حزب الله، وعرف مضامينهم؛ تماماً مثلما شهد المرتزقة والمستسلمين للدولة وعرف ماهيتهم. ولن يُخدَع بأقنعتهم الأكثر حداثة وعصرية. إن الدولة بذلك تسلك خياراً خطيراً. ولا مناص للشعب من دعوة الديمقراطيين في تركيا مستقبلاً، والعمل على التحالف معهم، والإصرار على الحل الديمقراطي. أي أن شعب كردستان وكادحيه لن يقعوا في شرك هذه اللعبة. بل سيصرون على الاستمرار في تأدية دورهم الديمقراطي التاريخي.
لا شك في أن قوى المؤتمر وقوى الدولة ستشكل ثنائية في المرحلة المقبلة. وكون هذه الثنائية غير متصارعة منوط عن كثب بموقف الدولة. فإذا ما تحاملت الدولة على نضال الشعب في الدمقرطة، وعلى قوات الدفاع المشروع الاضطراري، فمؤدى ذلك هو الحرب. في حين إذا أخذت الدولة مساعي الوفاق الديمقراطي المبذولة على كافة المستويات، على محمل الجد، فسيكون النصر لتكامل الوطن ولشعبنا الكادح. على قوى المؤتمر توخي الحذر والدقة العظمى لعدم الوقوع في ألاعيب الحرب العمياء الماضية. لكن، في حال تعرضهم للهجمات – وكأن سلب حقوقهم لا يكفي – فسيكون لهم الحق في الدفاع عن الذات، وعليهم اللجوء إليه. على جميع قوى الدولة، بما فيها قوى الدولة الفيدرالية، ألا تحظر المنظمات الديمقراطية القانونية والأحزاب السياسية. بل أن تأذن لها بممارسة نشاطاتها بحرية، وتصل إلى وقف إطلاق النار المتبادل. وإذا ما اختير الوفاق الديمقراطي وطريق السلم، فلا شك أن قوى KONGRA GEL ستؤازر ذاك الخيار بمواقفها الإيجابية. وفي حال العكس، فستصعِّد من مواقفها الديمقراطية في كل جزء، متبعة الأساليب المناسبة في تحقيق قفزتها والرد على محاولات التصفية والإبادة. وستَعتَبِرُ إدارة KONGRA GEL سياساتها المرحلية الجديدة في النضال بهمة لا تخمد، مع الالتزام بوعودها التي تقطعها على ذاتها في انتقاداتها الذاتية؛ السبيل الأنسب والأمثل لتتمتع بإنسانيتها وتتحلى بها.
ترتبط النقطة الثالثة بمساعي الجمهورية التركية منذ أمد بعيد في تحفيز الجوار على قبول اعتبار KOMA GEL – PKK كمنظمة إرهابية. وذلك كسياسة أساسية تسلكها بالتعاون مع أمريكا. لكن، ومثلما نوهنا سلفاً، إن هذه السياسة مليئة بالأفخاخ. ويجب عدم تناسي احتمال عودة هذه السياسة إلى الدولة، مثل آلة البمرج المعقوفة. يبدو أن القوى التي تزعم قبول "إرهابيتنا" أكثر ميلاً ومهارة في اتباع سياسة مفادها "يستحيل الأمر مع فلان، وهو ممكن مع علان". لكن، يجب الإدراك جيداً أنها بذلك تسعى للحفاظ على الفجوة بين PKK والجمهورية التركية، للإبقاء على الأخيرة واهنة القوى. لذا، يتحتم التفكير والإمعان بعمق فيما سيفرزه زعم "الإرهابية" من نتائج على المدى الطويل. ويجب عدم نسيان الوضعية التي بلغها من اعتبرتهم أمريكا انفصاليين فيما بعد. بيد أن التشبث باسم PKK، والوقوف عنده، يعني إيقاع الذات في الشِرك والفخ، بكل ما للكلمة من معنى. وواقع شمال العراق معلِّم فاضل في هذا الشأن.
يجب التطرق دائماً إلى دور الكرد في التاريخ الكردي والحضارتين الإيرانية والعربية، لدى تناول الحل المتمثل في KONGRA GEL. أي، يتوجب تسليط الضوء على دور الكرد الاستراتيجي، وجعله قابلاً للتنفيذ. ودول الجوار بحاجة، أكثر من الكرد ذاتهم، لدورهم الاستراتيجي ذاك. فالعامل المصيري الذي أطاح بنظام صدام، هو الحسابات الخاطئة بصدد دور الكرد. والخطر سيان بالنسبة للدول الأخرى المجاورة. فالكرد في كل الأجزاء قادرون على توحيد صفوفهم، وبلوغ استراتيجية موحدة مشتركة فيما بينهم. ومن يقف في مواجهة الكرد بالأكثر، سيتكبد الخسائر الفادحة.
KOMA GEL مكلف برؤية دور الكرد الاستراتيجي هذا، وبتنفيذه على أرض الواقع. ويرجع عدم رؤيته أو تطبيقه حتى الآن إلى الماهية الخيانية للمتواطئين الكرد. لكن، من الصعب الاستمرار بهذه المزية في الظروف الجديدة. فالكرد سيدنون أكثر من أي وقت مضى، من المستوى الذي يؤهلهم لاستيعاب استراتيجياتهم الذاتية وممارستها عملياً. يتحتم عليهم النظر بعين سليمة إلى المواقف المشتركة والعيش المشترك، الذي شهدوه مع الأتراك شعباً وقوماً، كوضعية استراتيجية في الأمثلة التاريخية المعطاة. لم يقبل الكرد بذلك كي يُمحوا من ذاكرة التاريخ، بل اعتبروه ثمرة الدواعي السياسية الحقة آنذاك. ورجال الدولة التركية البارزون أيضاً تمتعوا بهذا المنظور. ولو أن هذه الاستراتيجية أُسست مع قوة أخرى بدل الأتراك (وهنا ننوه إلى كثرة المطالبين إياهم، وعلى رأسهم إيران، العرب، إسرائيل، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأرمن واليونان)، لكانت الأمة التركية أكثر الخاسرين. فعليهم ألا يحفِّزونا على فعل ذلك، بمزاعمهم الساذجة في الانفصالية. محال تصفية KOMA GEL – PKK. بيد أن الغير سينتفع من ميراثه سلباً في كل لحظة، في حالة كهذه. بالمقابل، على الكرد أيضاً أن يتفهموا أن مناهضة الأتراك، أو حتى معاداتهم، ليس في صالحهم إطلاقاً. فالعداوة الكردية – التركية قد انقفلت وتعقدت في المنطق القائل "اخسر أنت، وأنت اخسر". فربح طرف ما لن يعني خسارة الآخر في هذه العلاقة. وإذا ما تم تخطي اللاعصرية بين الطرفين، فستسود علاقة مفادها "اربح أنت، وأنت اربح" فيما بينهما. في حين نرى أن السياسة المتبعة اليوم، تتمثل في "التركي كل شيء، والكردي لا شيء".
نقيض ذلك أيضاً ممكن، أي "الكردي كل شيء، والتركي لا شيء". فالسياسات القائمة تحرض على ذلك. لكن الإصرار على النعت بالإرهابية، والتحامل على قوى المؤتمر، جلي أنه سيتحول بسرعة إلى صالح المبدأ "اخسر أنت، وأنت اخسر". يجب أن يدرك الجميع عظمة جهودنا لعدم سلوك هذا الطريق. نحن لم نقم بذلك انطلاقاً من دوافع بسيطة، بل من دوافع تاريخية واجتماعية أُخذت بعين الاعتبار والدقة، مثلما يتبين من الآراء المطروحة في هذه المرافعة. إن الحل المتمثل في KOMA GEL هو سبيل الوحدة الحرة والسلام والوفاق الديمقراطي الأمثل، المؤدي إلى تكامل الدولة والوطن والأمة. يجب التنبه بإمعان إلى الطرف المنتفع بالغالب من السياسة المجرِّدة للكرد من أدوات وأساليب الحل كلياً، والرائدة للقوى المتواطئة والطرائقية، والمناهضة للديمقراطية والجمهورياتية. أظن أن الوقت قد حان لتتفهم القوى الديمقراطية الحقة في تركيا أن تهميشها يرجع إلى السياسة الكردية المتبعة. وأعتقد أنها أدركت وتعلمت، بما فيه الكفاية، مدى استحالة وعقم سياسة القرود الثلاثة. فما بالك بالسياسة الديمقراطية الاجتماعية اليسارية!
خلاصةً، سينطلق KOMA GEL من دراسة سليمة للمرحلة الراهنة في مؤتمره الطارىء، ليتخطى عناده في الشخصية القديمة الضيقة الأفق والعقيمة، بدلاً من الإصرار على امتلاك القوة الديمقراطية. وسيبدي برهانه على تحليه بالمعايير الديمقراطية الحقة ضمن واقعه المؤسساتي، بإحرازه التفوق والنجاح في مهامه. وسيؤدي دوره المنوط به بظفر باهر، بإعرابه عن رفضه لأي موقف خارج نطاق النصر في المهام والوظائف التاريخية، وبإفراغه الألاعيب القومية والإقطاعية من محتواها، وبتلبيته متطلبات النضال الديمقراطي وحرب الدفاع عن الذات بحق.
3- لا تزال "وحدات الدفاع الشعبي HPG" تحافظ على أهمية دورها في حل القضية الكردية. وتُعَدُّ مكانتها في النضال الديمقراطي كتنظيم مستقل بذاته عن تنظيم الحزب والمؤتمر، وعلاقاتها معهما، وطراز حربها؛ من المواضيع التي تستوجب تسليط الضوء عليها.
من المعلوم أن مفهوم الحرب في قفزة 15 آب كان مستنداً إلى الحفظ عن ظهر قلب بأن القضايا الوطنية لا تُحل إلا بالحرب، مما يتطلب هذا بدوره المدح فيها إلى ما لانهاية، واللجوء إلى إله الحرب. إنه المبدأ الأقدس على الإطلاق. ويتحتم تأدية مستلزماته، فهذا مكتوب في الاشتراكية! جلي جلاء النهار أن هذا الموقف كان مشحوناً بالدوغمائية، وبعيداً عن دراسة الشروط التاريخية والاجتماعية الملموسة القائمة. لكنه يؤدي إلى التصرف بشكل معين على الصعيد المبدئي. لم تُحلَّل نظرية الحرب في الماركسية. بل استُدينت وأُخذت من المؤرخين الفرنسيين، الإقطاعيين منهم والبورجوازيين. في حين بقيت اجتهادات أنجلز المحدودة بعيدة عن شرحها بإيضاح. إذ لم تُعالج نظرية العنف ودورها في الإجراءات الاجتماعية والسلطة عموماً. ورغم تعشعش القوى الاستعمارية الحاكمة في المجتمع البورجوازي بالأغلب، إلا أن الحروب الوطنية نُظِرَ إليها وكأنها أساس اشتراكي آخر. فإذا كنتَ اشتراكياً، عليك خوض الحرب الوطينة.
لن ندخل في تكرار ما عالجناه من تحليل للحرب في الفصل المعني بها. إنما نكتفي بتقييم مختزل، بشأن تعيين الحرب لماهية دولة العنف وسلطتها، وتَواري الحرب وراء كل نظام اجتماعي. ونقول أنه بدون تحليل الحرب، لن نستطيع تحليل السلطة والمجتمع، بل وحتى الاقتصاد بشكل كلي. لكن تقربنا هذا لا يؤدي إلى القول برؤيتنا الحرب على أنها سيئة تماماً. إنما يتقصى منزلة الحرب والعنف في المجتمعية، ويحاول الإشارة إلى الخسائر والغنائم الناجمة عن الحرب كماً ونوعاً. باقتضاب، إنه يقوم بتحليل سوسيولوجي بصددها، لا غير.
ذكرنا على الدوام مدى ضرورة قفزة 15 آب، ومدى ملئها بالمقابل بالأخطاء والنواقص التطبيقية. وقُدِّمت انتقادات ذاتية مكثفة بصدد هذه الفترة من الحرب، التي شهدت البطولات العظمى بقدر السفالات المنحطة. حيث كان لها غنائمها، بقدر الخسائر المتكبدة فيها. لا شك في أن وحدات الدفاع الشعبي HPG المتمخضة عنها كامتداد لميراثها الزخم، ليست في وضع يسمح لها بالاستمرار في أساليبها القديمة. لكنها، بالمقابل، لن تبقى معدومة الدور والفاعلية. وبما أنه لم يستتب وقف إطلاق النار الدائمي، ولا السلام الدائمي بعد؛ فستبقى المشاكل التي عانتها HPG، والمهام الواجب عليها تأديتها، ومنزلتها ووضعها كماً ونوعاً، من المواضيع المطروحة للدراسة والمعالجة.
ولكي لا ندع مجالاً للفهم الغلط، علينا القيام مجدداً بتناول مقتضب لدور العنف في كردستان. فوضعية كردستان، كوطن ومجتمع، قد حُدِّدت بقانون "الفتح". ترجع تقاليد "الفتح" هذه إلى عهود السومريين، مستندة إلى دعامة المبدأ "ما تحكمتَ به هو لك"؛ والذي يرى في الهيمنة والعنف مقومة لكل الحقوق. فمن "فتح" في الأخير، يكون ذاك الوطن والشعب له هو. والديانة الإسلامية بالذات قد ربطت هذا المبدأ بأمر ديني مقدس. والقومية البورجوازية أيضاً تشبثت بأظافرها بمبدأ "الفتح". ولا يتبقى على الشعب سوى الخضوع لفتوحاتها، والامتثال لكل كلمة تنطقها. أما بالنسبة لمبادىء الثوريين، فتُعرِّف الحرب على نحو مغاير. فمشروعية الحروب الممهدة للاستعمار، وبالتالي لحق "الفتح"، ليست إلا خداعاً ورياء يعكس إرادة الظالمين المجحفين. لذا، فعدم الخنوع لها، بل مقاومتها والتحدي لها، يُعَد مهمة مقدسة. إذ لا يمكن تخطي السفالة والانحطاط الناجم عن الحرب، إلا بوضع الحد الفاصل للخنوع والذل. أي أن حرب المسحوقين مقدسة. وإذا ما تطلب الأمر، فهي وسيلة الخلاص الرئيسية الواجب اللجوء إليها، للخلاص من الانحطاط الذي أُوقِعوا فيه.
وحكام الدول في كردستان ينظرون إلى ذواتهم كـ"فاتحي" زمانهم لهذا الوطن. حيث يشكل حق الفتح دعامة أبديتهم ونفوذهم. لذا، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن السفالة والرزالة التي يعانيها الشعب، أو حالته التي يكاد ينسى فيها وجوده، أو حتى عن افتقاره لكل أشكال المساواة والحرية. جلي أنه ثمة معضلة كبرى ترتكز في مضمونها إلى العنف. فالشعب العامل على هذه الأراضي على مر آلاف السنين، والذي نسميه بالكرد؛ لم يَرتَجِ أحداً بالقول: "تفضل وأقحمني في هذه الحال". ورغم إدراك سمات عصرنا كفاية، فكيف سيتم تجاوز هذا الوضع العصيب؟ لهذا طريقان "إما بالوفاق الديمقراطي، وإلا – في حال عدمه – بالعنف تجاه العنف. والعيش بشكل مغاير، لا يعني سوى التناقض كلياً مع ركب العصر. إنه يعني المجاعة، البطالة، الخَرَس، والتردي الثقافي. ولو أن الآلية الديمقراطية الكاملة سادت في الدول المحتوية لأجزاء كردستان، لربما ما بقي مكان لمبدأ العنف فيها.
سيمهد صب مواقف الشعوب ومسيراتها الديمقراطية في أقنية خاطئة تنتفع منها الدولة وتفرغها من محتواها، إلى فقدانها مضامينها. فممارسات يومنا الراهن، التي تحول الدولة إلى معبد للزهد والعبادة، عبر ألاعيب الانتخابات المتكررة كل أربع أو خمس سنوات؛ لا تمت بأي رابط للديمقراطية. وسواء كان هناك تعددية حزبية أم لم تكن، فما يتحقق في الانتخابات ليس إلا إضفاء المشروعية على الدولة، وتحويل إدارة الشعب عامة إلى خداع وزيف. ترتبط هذه الألعوبة بأواصر وثيقة بقوة الإعلام العظمى للنظام الرأسمالي المسمى اليوم بمنبع الديمقراطية. وهي ثمرة حملة مخادعة وأكذوبة أشبه بالقول أربعين مرة للعاقل بأنه مجنون، ليظن بدوره أنه كذلك حقاً.
فالمسيرة والمواقف الديمقراطية للشعوب تعني أولاً تبنيها هويتها، وتشبثها بحرياتها، وبلوغها إداراتها الذاتية. إنها تعني الارتكاز إلى وعيها لهويتها الذاتية وتاريخها وواقعها الاجتماعي. وإذا ما نُظِّم الوعي، فسيفرز بدوره القوة التي ستؤدي إلى الحرية. محال أن تتحرر الشعوب، ما لم تنتظم وتتقوى. وإذا ما تحررت، فيُعدُّ بلوغها إدارتها الذاتية خطوة لا مناص منها. أما تحقيق التحرر، دون المقدرة على إدارة الذات؛ فيناقض العقل والأخلاق. وإذا عرَّفنا الديمقراطية ضمن هذا الإطار، فيمكننا عندئذ تسمية وجود الوعي الهوياتي الدائمي بين الشعب، ونشاطاته التحررية على كافة الأصعدة، وريادته لهذه المرحلة؛ على أنه كل متكامل مع العملية الديمقراطية. يمكن نعته أيضاً بالمرحلة الانتقالية من الموقف الديمقراطي إلى المسيرة الديمقراطية. وبدلاً من تبعية الشعب للدولة بطقوس ومراسيم الانتخابات، سيكتسب اندفاعه وراء وجوده وحريته وإدارته الذاتية معناه كعملية ديمقراطية. وإلا، فالاستحواذ على مصادقة الشعب وتصويته، لاحتلال منصب في سلطة الدولة لبسط النفوذ؛ يعد ضربة قاضية للديمقراطية الحقة.
وإيقاع الديمقراطية في هذه الحال في القرنين التاسع عشر والعشرين، إنما يشيد بالخيانة إزاءها. إنها الشكل الأوسع نطاقاً وعمقاً للخيانة، التي لفتَ جان جاك روسو الأنظار إليها في القرن الثامن عشر.
يكتسب النضال الديمقراطي في كردستان معناه، إذا ما سُيِّر ضمن إطار هذا التعريف. وإلا، فلن يختلف كثيراً في مضمونه عن جمع العبيد بين الفينة والفينة في ألاعيب انتخاب أسيادهم، ليسلَّط نفس السيد على رقابهم مرة أخرى. فالنشاط الديمقراطي السليم يتحقق فقط باعتماد الشعب هويته الاجتماعية وحريته وإدارته الذاتية أساساً. أما القيام بنشاطات التوعية والتعبئة والتنظيم في كل الأماكن والقرى والمحلات التي يقطنها الشعب، والاجتماع بالشعب لمعالجة مشاكله الأساسية، واتخاذ القرارات اللازمة معاً، وتعيين المكلفين بإدخال هذه القرارات حيز التنفيذ؛ فهو يفيد بالعملية الديمقراطية الحقة. في حين أن عدم اندفاع الشعب وراء الأحزاب الرافعة للافتات اليسارية أو اليمينية، الدينية أو القوموية، والمتحولة إلى أدوات لإضفاء المشروعية على النظام السائد، وبالتالي هرع تلك الأحزاب وراء صناديق الانتخاب بكثرة لتدفن نفسها فيها؛ كل ذلك ليس إلا انعكاساً ذا صلة وطيدة بهذه الحقيقة. لا تتعدى حزبية النظام السائد في كردستان كونها أقذر أدوات إضفاء المشروعية عليه، ووسائل للكذب والتحريف والاستعمار والاستغلال بقدر الطرائق الدينية القديمة.
أنْ تكون حزباً ديمقراطياً، وتقوم بالعملية الديمقراطية، فهذا عمل في أسمى درجات النبل. لم تتمكن ديمقراطية أثينا – التي لا نعجب بها كثيراً – من دك دعائم نظام إسبارطة الملكي من جانب وإمبراطورية البارسيين المونارشية المعمرة قرنين من الزمن من جانب آخر؛ إلا بالديمقراطية، ليشهد التاريخ بذلك "عصره الذهبي". وبقدر ما تعد الديمقراطية – في حال تطبيقها بحق – أفضل النُظم وأرقاها، فهي المدرسة التي تُعِدُّ وتنشىء المواطن الحر الواعي القادر على صون وحماية وطن ما أو شعب ما، تجاه الاستبداديين والاحتلاليين، على اختلافهم. ما من نشاط في السياسة أثمن من العملية الديمقراطية. من هنا، فامتلاك الشعوب لأولاد وبنين مولعين بالديمقراطية، وكفوءين للنضال في سبيلها، يعد الضمان الأعظم لها. كل نشاط متمحور حول الدولة في كردستان – بأي اسم أو بأي صفة كان – لا يعبر سوى عن إنكار الديمقراطية. ولا يمكن التفكير بوجود ممارسة في كردستاننا اليوم أثمن (أكثر حلاً، ومؤادها إلى السلام والحرية) من القيام بالنشاطات والجهود والحركة الديمقراطية الحقة.
لكن كردستان ما زالت غريبة للغاية عن الديمقراطية العصرية. حيث يعيش الشرق الأوسط فترة ما قبل الديمقراطية، ويتخبط في حروبها وفوضاها. وكردستان تقع في المركز من هذه الحروب والفوضى. أياً كانت الزاوية التي تنظر منها، فمشاكل الدفاع بالنسبة للشعب ثقيلة الوطأة، ويجب تبنيها. فحتى عجزه عن النطق بلغته كوسيلةِ تَواصُل واتصال اجتماعية أولية ضمن المعايير العصرية، إنما يبرهن على مدى غور المشاكل الدفاعية. هذا ويؤدي الافتقار إلى العديد من الظروف والتداعيات اللازمة لخوض حرب مقاومة عامة، إلى ضرورة الإبقاء على الحرب ضمن حدود ضيقة ومعينة. أي أن الكفاح المسلح في التصدي لقوى الدول المهيمنة السياسية والعسكرية، يبقى محصوراً في المستوى ذي الكثافة المنخفضة أو الوسطى، بل وأحياناً يُطوَّق لحد تقليصه إلى حروب على نطاق أصغر من نمط الخلايا. لكن اللامقاومة مؤداها الخنوع والذل الأبديين. يتبدى أفضل الطرق وأنسبها، ضمن ظروف المقاومة الحالية، في الوصول بالدول المعنية إلى حالة ملائمة للقيام بالوفاق الديمقراطي، لا القضاء على هيمنتها. هكذا يمكن تعريف دور HPG في تطوير وحماية دمقرطة الشعب حتى البلوغ بها إلى الوفاق الديمقراطي. وفتح الطريق أمام الدمقرطة يمر بدوره من إزالة القلاقل والعراقيل غير المباشرة، والتي زرعتها القوى المتواطئة مع عنف الدولة المناهضة للديمقراطية.
يتجسد الظرف الآخر، الذي تُقبَل فيه حرب الدفاع، في مواجهة الهجمات التي تستهدف وجود HPG بالذات. وهنا يتحتم على الأخيرة اللجوء إلى نمط حرب الأنصار (الكريلا) إلى آخر درجة. وهي مكلفة بحل كل المشاكل التي تعترضها، بدءاً من التموقع وحتى العلاقات مع الشعب، ومن المشاكل اللوجستية إلى التدريب، ومن الريادة القيادية إلى الارتباطات السياسية. وربما تأتي فترات تصبح فيها المقومة الأساسية للشعب، ولكافة القوى المنظمة. أما صون كافة المساعي الديمقراطية وتصعيدها، فهو من ضمن مهامها. وهذا ما يحتم عليها القيام بالتحول والتغيير السياسي والتنظيمي اللازمين. في حين أن تحقيق التناغم والمواءمة بين وضعيتها الكمية والنوعية، وبين مهامها الواجب تأديتها من جانب، وتحديد استراتيجيتها وتكتيكاتها من جانب آخر؛ تعتبر من مهامها التي تستلزم التحليل والحل. وهي مسؤولة عن أمن الحزب والمؤتمر وجميع أبناء الشعب الذين يحيقهم الخطر. عليها تأدية مهامها الأولية والشاقة تلك، تجاه الجنود المدربين على أكمل وجه، وإزاء قوى الأمن الأخرى.
يتلخص الموضوع الهام الآخر في التطرق إلى دوري في كفاحنا المسلح. فنشاطاتي ما قبل قفزة 15 آب وما بعدها معروفة بعظمتها. إلا أن الفارق كان بارزاً للغاية، بين التطورات الحاصلة خلال الأعوام الخمسة عشر الأولى من المرحلة، وبين مفهومي في الحرب. لن أدخل في تكرار ما قدمناه من انتقادات وانتقادات ذاتية شاملة سلفاً. ولكن، لو أنني كنت على علم بتحريفه هكذا، لأمكنني القول أن وجودي في ظروف الوطن، بين أعوام 1980 وبدايات 1990، سيكون الأنسب. إذ يرجع السبب الأساسي للأوضاع التي أَوقَعَ العديد من الرفاق والمجموعات المكلفة بالمهام والمسؤوليات أنفسهم فيها، إلى جهلهم – أو قلة وعيهم وتدربهم – بطبيعة الحرب وركائزها السياسية وتحولاتها الأيديولوجية. وعدم تبني المهام القيادية، هي الدافع الأهم للخسائر والهزائم المتكبَّدة. يتوجب البحث والتقصي عن مكامن الأسباب الحقيقية لوقوعي في هذا الوضع، ضمن هذه الحقيقة أيضاً. فكفاءاتي ومهاراتي خوَّلتني لتوجيه الحرب بهذه الشاكلة نظرياً وعملياً، وتكوينها، أو تكوينها على غير المطلوب. عليَّ القول صراحة بأن استقصاء أساليب وطرق جذرية جديدة مغايرة، عوضاً عن التكرار المغالى فيه بعد أعوام 1995، كان سيكون الأصح بالنسبة لي. إذ كان من غير السليم انتظار إحراز الكوادر القيادية النصر المرتقب في عام 1993. كانت حملة 1993 – 1995 ذات أهمية بارزة. إلا أنها أدت إلى التكرارات المعروفة، حصيلة الإصرار على الكوادر المجرَّبة، ولكنْ القاصرة عن تحقيق النصر. من المعلوم أن الحملات السابقة لها أيضاً لم ترتكز إلى قيادة حكيمة وقديرة.
وخروجي المعروف في 1998 كان بتأثير من هذه الحقائق. كان بإمكاني دخول الوطن. لكنه بقي الطريق الذي لم أجربه، تحسباً من احتمال إبادة كاملة بسببه. كنت حتى حادثة 11 أيلول 2001 منحازاً إلى إيقاف الكفاح المسلح، في حال تحقيق الوحدة على ضوء وفاق الحل الديمقراطي، ولو بحده الأصغري. لكن، وبعد هذه الحادثة، لم نلحظ وجود أية نية لأجل الوفاق لدى الإدارة التركية. وباعتقادي، كان من الممكن خوض حرب الدفاع المشروع، بعد تفهمنا لعدم رغبة الحكومة في الرد على الحل المطروح، بعد انتخابات تشرين الثاني 2002. ولكن، محال أن يكون هذا القرار عائداً لي، أو صادراً مني. حيث أن شروط الاعتقال لا تتحمل إصدار قرارات كهذه. ومن غير الصحيح أن ينتظروا مني أمراً كهذا. فتحديد أسلوب الحرب المعتمدة على تحليل شمولي للمرحلة الجديدة، ورسم استراتيجيتها وتكتيكاتها؛ هو من شأن الكوادر المسؤولين الواثقين بأنفسهم والمعتدِّين بها. وقد تركتُهم على حريتهم التامة. حيث لم أَرَ من الصواب أخلاقياً استثمار مسألة الحرب كورقة ضغط ضدي. فالحرب عملية يُقام بها بما يوافق مطاليب الشعب التاريخية التي لا يمكن الاستغناء عنها. ولأجل ذلك قلت لهم: "ناقشوا الأمر بكثرة مع الشعب، واتخذوا قراراتكم بأنفسكم". ولا زلت أصون آرائي هذه.
لقد أعربتُ عن بعض أفكاري النظرية في مواضيع الحرب، وطورتها أكثر في مرافعتي هذه. كانت لدي مواقفي المبدئية المتعلقة بدور العنف في وطننا، وبطبيعة حرب المقاومة والصمود. جلي أنها ليست أوامر أو تعليمات، وإنما مجرد أفكار تنويرية. كما وقدمت في هذه الفترة بضعة نصائح بشأن وضعية الاتحادات النسائية، تكوينة المناطق المستقلة الذاتية الديمقراطية، وحول خصوصية حروب الشعب الدفاعية. يمكن أن تكون هي الأخرى آراءً وأفكاراً تستوجب أخذها بمنظور الدقة. ذلك أن شروط الحرب قد تتبدل خلال أربع وعشرين ساعة. وقد تحتاج لتغيير أو تعديل تكتيكي في أية لحظة. وقد يتغير كل شيء في أوضاع كهذه. لذا، لا يمكن رؤية اقتراحاتنا بعين الأوامر البحتة. فالإدارة المعيِّنة في الحرب هي المقاتلون أنفسهم. هم الذين سيقررونها وينفذونها نظرياً وعملياً. وسيعتبرون ذواتهم مسؤولين عن كل نصر أو إخفاق أو هزيمة. وحسب ما يقيِّمون شروطهم وقواهم وخبراتهم ونظرياتهم ويرونها مناسبة، فهم المسؤولون في النهاية عن قرار الحرب أو الحياد عنها.
حتى الآن حصل أن تطرقتُ إلى أمور بماهية التنبيه والإنذار، بالنسبة لقوى الدولة والمؤتمر على السواء، وإن كانت بشكل غير مباشر. وفي الآونة الأخيرة، وعندما لاحظتُ مواقفهم المفرِّغة لمقررات المؤتمر المنعقد من محتواها، تقدمتُ بآرائي واقتراحاتي بشأن إعادة بناء PKK؛ وذلك على ضوء الالتزام بالمؤتمر الطارئ وإرادته، كضرورة من ضرورات مسؤوليتي التاريخية. كان لا بد لي من الإعراب عن آرائي بهذا الخصوص، مهما كان الثمن، وحتى لو كان ذاك النفَس الأخير لي. ورغم حنقتي على نقصان الاتصال والتواصل حينها، إلا أنني بذلت ما بوسعي عمله. وأخيراً عبَّرتُ عن آرائي بشكل مجمَّع ومنتظم في هذا الشأن مع هذه المرافعة.
أعتقد أن المؤتمر سينهي استعداداته حتى الخريف، بأكثر تقدير. آمل ألا يحصل ما ليس في الحسبان. ومن الآن فصاعداً تنتظر الرفاقَ المسؤولين مهامٌ ووظائف، أهم مما كانت عليه في 15 آب. ومن سيتسلمون الوظائف باسم الحزب أو المؤتمر أو HPG، سيواصلون مسيرتهم بثقتهم بقواهم الذاتية. ذلك أن عقد الآمال عليَّ أمر لا معنى له إطلاقاً. بالطبع، سأبدي بدوري القدرة على بلوغ نهاية مشرفة ومكرمة، مهما لم تحالفني صحتي في ذلك. لكني أود القول أنه لو كان ثمة أصدقاء حقيقيون، لما تصرفوا على هذا المنوال في الوسط الحالي. يقال أن كمال بير، حين وصلته أنباء عملية فرهاد كورتاي، تمتم قائلاً: "كان علينا نحن القيام بهذه العملية". وهكذا – مثلما هو معلوم – يبدأ بالإضراب عن الطعام حتى الموت. إنني بالتأكيد لا أؤيد العملية الانتحارية، بل لا أصادق عليها. إلا أني لا أعتبر عمليات الرفاق كمال بير ومحمد خيري دورموش ومظلوم دوغان وفرهاد كورتاي عمليات انتحارية. لقد عبَّروا بأنفسهم عن مقاييس الحياة اللازمة في مقولتهم "لو أنه ثمة إمكان بسيط جداً للعيش بحياة مكرمة، لاتخذناه أساساً، ولعشنا معززين مكرمين حتى النهاية". لم يتبقَّ سوى شيء واحد فقط لأجل كرامة الإنسانية وعزتها. وبذلك قاموا بعمليتهم الصمودية. معلوم أن محمد خيري دورموش كان أعرب عن عزيمتهم التي لا تلين بقوله "لقد نجحنا". أما شعارهم فكان: "ستنتصر كرامة الإنسانية!". هذه هي تقاليد حربنا الصمودية، ويتحتم فهمها بشكل صحيح لتطبيقها بصحة.
ثمة إلى جانبكم العديد العديد من رفاقنا المطلق سراحهم. والأمر يستحق محاكمتهم بشأن ما فهموه من الحياة. ما من أحد ينتظر منكم القيام بالعمليات الانتحارية، مثلما كنتم تفعلون بكثرة طيلة حملة 15 آب. وهذا أمر غير مقبول أصلاً. إلا أنه لا يمكن – بالمقابل – الزعم بعدم وفرة الإمكانيات للقيام بكل أنواع العمليات الديمقراطية وخوض حرب الدفاع عن الذات، والشكوى من شروط الزمان أو المكان لأجل الحركة الحرة. بالتالي، لا يمكن إنكار توفر الإمكانيات والظروف المساعدة لتجريب كل خيار محتمل، في سبيل صون كرامة الشعب وكرامتكم. كنا قد رأينا انتقاداتكم الذاتية فيما بعد أعوام الألفين بعين الجد، واعتقدنا بأنكم ستكونون أصحاب ممارسات عملية مجدية ومثمرة. لكن ما نجم في المحصلة كان أن وضعتم ميراثنا موضع جثة هامدة، شطرتموها إلى قسمين، وبعثتموها إلينا، كجواب على آمالنا بكم. ساطع سطوع النهار استحالة أن تكون هذه هي حرب الكرامة. إنكم تعيشون في أحضان الإنسانية الحرة وأحضان شعبنا، حصيلة الجهود الحثيثة والعظمى. والأهم من ذلك أنكم في أحضان الجبال، التي تَعِدُ بالحرية. لذا، فتكرموا بعدم نسيان الجهود الجليلة، التي بذلتها كي يبلغ كل فرد منكم إلى هذه الحال. لا أنتظر منكم مقابلاً لأجلي. لكني عاجز كلياً عن تصويب مواقفكم هذه، التي تشيد، بمعنى من معانيها، بالتلاعب بكرامة شعبنا. دعكم من الشعب الآن، بل عليكم معرفة الحالة التي أبقيتم كرامتكم فيها. نحن، أنا، لم نرتكب أي خطأ أو نقصان يستحق منكم تصرفاً كهذا. سأواصل – أنا – التحلي برؤية سليمة لحرب كرامة الإنسانية، واقتفاء أثر متطلباتها وتأديتها.
في النتيجة، لقد عملتُ على تنوير الظاهرة الكردية وقضيتها، على ضوء التحليلات والدراسات الشمولية. وقدمتُ بضعة اقتراحات في الحل. يمكن اعتبار ذلك جواباً مني لكل الأوساط المعنية. أما من الآن فصاعداً، فسيقع عبء الرد على ذلك، وكيفية تطبيقه، على كاهل كل وسط معني بالأمر.
أظن أني بهذه الوسيلة تطرقتُ إلى بعضٍ من نواقصي وأخطائي، التي ارتكبتها إزاء فترة 15 آب، وفي مقدمتها الغموض الذي كان يكتنف مطاليبنا. بناء عليه، إني أقبل عدم اتسامي بالوضوح والقدرة على الحل بالمستوى الكافي في بدايات الثمانينات، وأومن بتقديمي النقد الذاتي على نحو صائب، عبر هذه المرافعات. يتمثل الخطأ والنقص الثاني في عدم وضوح الرؤية بشأن العملية المراد تطبيقها. وأنا على ثقة بأني حسمت هذا الأمر أيضاً، وأعطيت جوابي المرتقب للأوساط المعنية. ثمة نوعان من العمليات من الآن فلاحقاً:
أ) العملية الديمقراطية وإمكانيات الحل. لا جدال في إبدائي مواقف مصرة وعنيدة للغاية وشمولية، كخيار أساسي أُفَضِّله في هذا الاتجاه. علاوة على أن عجزي عن بلوغ هذا المستوى من الجزم والصفاء في بدايات التسعينات، يعد نقصاناً بحد ذاته. يتسم طرحي لطراز العملية الديمقراطية والحل القابل للإدراك والفهم والتنفيذ – وإن جاء في وقت جد متأخر، وتحملت لأجله عبء الجهود المضنية العظمى والانزواء الموحش – يتسم بأهمية خاصة، عشية المستجدات الهامة وسط الشروط التاريخية السائدة في حاضرنا.
إننا نمتلك قوة شعبية تحتضن الآلاف من أبنائها الناشطين الفعالين المعربين عن عزمهم الرصين في خوض النضال الديمقراطي، والملايين من المنتفضين المتوجهين إلى الحرية. إنها قوة جماهيرية ومناضلية قادرة على إعطاء أي جواب شافٍ للمشاكل، التي يمكن حلها، دون اللجوء إلى امتشاق السلاح. وعدم تفعيل المسؤولين القياديين – حسب ما يسمون أنفسهم – والبارزين لهذه الإمكانيات، وعدم إفادتهم منها، سيحمِّلهم مسؤولية كبرى أمام التاريخ. في حين أن مواصلة المسير من خلال منظمات المجتمع المدني وكافة المنظمات الديمقراطية، والمطالبة بحقوق الملايين من الشعب، سيكون مؤداه: الحرية للوطن، والديمقراطية للشعب. ما يلزم هنا هو بضعة من الزمن. وما يتبقى، فهو وجود قيادة سياسية ديمقراطية هاضمة للديمقراطية وضليعة فيها، مؤمنة بأهدافها، وملتحمة بشعبها كما الظفر واللحم. وإذا ما دعت الحاجة سيستلزم الأمر الصراع القانوني الهادف إلى البلوغ بالقانونية غير الديمقراطية إلى الحرية والحقوق الديمقراطية.
لو ثمة آثار طفيفة متبقية من الهوية اليسارية الاجتماعية الديمقراطية – حسب ما تسمى – التي تُقَدِّم آمال الشعب هدية وهِبة إلى حيثيات العصور الوسطى، فمن المحال أن تتواجد قضية في السلام والأخوة والحرية والمساواة، إلا وستحقق الظفر الأكيد في تركيا وكردستان راهننا، عبر الديمقراطية بحدها الأصغري، ودون أي تمييز في القومية أو الجنس أو الدين أو المذهب.
ب) الطريق الثاني: إذا لم يُعطَ الجواب اللازم رغم كل نداءاتنا وتنبيهاتنا، واستمر قمع كافة آمال شعبنا (وشعوبنا) وخطواته المتجهة نحو الحرية والمساواة والديمقراطية، عبر أساليب الحرب الخاصة بمكر ودهاء خبيثين، وإذا فُرِضت بإصرار المواقف غير المنسجمة ولا المتوافقة مع مبادئ الجمهورية الثورية، ولا مع تكامل الوطن أو أنماط التعابير العصرية المتحضرة للدولة والأمة؛ في حال ذلك فسيكون الرد بالتطبيق الشمولي لحرب الدفاع عن الذات. معلوم أن هذا ليس خيارنا، إلا إن العديد العديد من الألاعيب المحاكة في الوسط تستدعي – بل وتفرض علينا – قمة الاستعداد في هذا الشأن، وعدم التواني عن تطوير وتصعيد حرب المقاومة للدفاع عن الذات، في أي لحظة تتطلب القيام بذلك. لا غُمام في أنه لا يمكن اعتباري مسؤولاً عن تحديد أسلوب هذه الحرب وإدارتها (حتى لو رغبتُ). إذ لا أستطيع صدها، ولا القول لهم بألا يفعلوها. إنما تقع مسؤوليتها التاريخية على عاتق الدول المعنية وقوى الدفاع الشعبي. هذان الطرفان هما اللذان يحددان استراتيجياتهما وتكتيكاتهما بشكل متبادل. وينعقد مدى محدودية أو اتساع التطبيقات المنفذة على قوة كل واحد منهما وقُدُراته وكفاءاته. لذا، على كل طرف أن يعرف الآخر حق المعرفة، ليخطو خطواته بناء عليه.
لا أتمالك نفسي عن التنويه إلى إمكانية إعلان هدنة (وقف إطلاق نار متبادل) على شكل مواد محددة سلفاً. هذا ويمكن الإعلان مسبقاً عن قواعد وأصول الحرب الواجب الامتثال لها، في حال حدوث أي حرب محتملة؛ وذلك على شكل بلاغ تُلفَت به أنظار الأوساط الدولية المعنية ودقتها. هذا إلى جانب وجوب تقديم وثيقة الهدنة. وإذا ما تولَّد وضع كهذا، ستقع قوتان بالأساس في حرب البقاء أو الموت في شروط كردستان: قوى الدولة، وقوى المؤتمر. في حين قد تُصَفَّى القوى البينية بسرعة. لذا، يمكن توجيه نداء لها أيضاً، كي لا يصيب الضير والضرر – بلا سبب – المدنيين والأطفال والنساء والعُجَّز وغير المعنيين بالأمر، على أقل تقدير. قد يَترُك امتثالُ الأطراف المعنية لقواعد وأصول الحرب البابَ مفتوحاً أمام طريق أكثر إنسانية. بمعنى آخر، قد يؤدي إلى الهدنة، وربما إلى سبيل الوفاق الديمقراطي. لا شك في لزوم المواد اللوجستية والأشخاص لأجل العيش. دعامة الأنصار الأساسية هي الجبال والشعب. وقد تتصاعد الحروب في الجبال والمدن والقرى. حيث ستُجرَّب عمليات قطع الطرقات والاستيلاء على الأماكن في كل الأرجاء. فإلحاق الأشخاص بالجندية الإلزامية وجبي الضرائب ممارستان اعتيد تطبيقهما على الدوام. لذا، على كل طرف أن يدرك كيف يحدد أهدافه، وكيف ينفذها، كي يتمكن من العيش.
لا أرى داعياً للإسهاب في هذه المسائل. وكل أمنيتي ألا تندرج في جدول الأعمال. أود الإيضاح للأطراف المعنية بأن أي سيناريو محتمل كهذا، قد ينبه الجميع. ولربما يحصل ما هو أسوأ. وإذا ما وضعنا تراجيديا الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وأحداث العراق المأساوية الأخيرة نصب أعيننا، سيُدرَك تماماً أننا لا نتكلم هباء أو سدى. أعتبر الإشارة إلى هذه النقاط مَهَمة وواجباً ضرورياً، لتحليل رموز المؤامرة المحاكة ضدي. وأقول بكل إيمان وقناعة أنه ما من مشاكل يستعصي حلها مع تركيا، بشرط توفر التكامل الديمقراطي للوطن، وارتباط الدولة بالديمقراطية جوهرياً. ومن دواعي إيماني ذاك أن نمد المشاركة والمشاطرة المتداخلة التاريخية لشعبينا بالقوة والدفع، من خلال المعايير العصرية والديمقراطية ومبادئ الحرية والمساواة. وكَوني منفتح لكل موقف جوهري متفانٍ، أمر لا يحتمل الجدل. فالنقطة التي طالما ارتعشَت أفصادي لأجلها وارتعدت، كانت في سبيل ألا يريق إنساننا ولو قطرة دم واحدة من عروقه، وألا يجتر الآلام ولو للحظة واحدة. لكن النقطة الأخرى التي لا تشوبها شائبة، هي تحليلي وإيضاحي الشمولي للغاية لكل هذه الأمور، وعجزي عن فصل ذلك عن هويتي الإنسانية والاجتماعية والشعبية. وبالأصل، ما من جانب من الحياة يمكن تفهمه أو العيش ضمنه خارج إطار هذه الخاصيات.
قد يُسأَل مرة أخرى: ما علاقة هذه المواضيع، التي حاولتُ معالجتها في مرافعتي حتى الآن، بدعواي في محكمة حقوق الإنسان الأوروبية؟. إلا إن المستجدات المتجددة في كل يوم ضمن إطار مشروع الشرق الأوسط لوحدها، تكفي للدلالة على مدى متانة العلاقة تلك وكثبها. إذ، وبدون تحليل الحضارة الغربية، محال أن تُفهَم دعواي أو العلاقات القائمة بين تركيا من جهة، والاتحاد الأوروبي وأمريكا من جهة أخرى، على نحو سليم صحيح. وفي حال عدم التحليل السليم لتلك العلاقات، لا يمكن إيجاد أجوبة صحيحة لمشاكل المعيشة، التي تحولت إلى جهنم مستعر وفوضى عارمة في حياة كافة شعوب الشرق الأوسط، وعلى رأسها الشعبان التركي والكردي. إن فصل دعاوى الاتحاد الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية ذات الأبعاد التاريخية عن بعضها البعض، وقطع الأواصر فيما بنيها، وإنزالها إلى مستوى البُعد الشخصي (الفردي)؛ بعيد كل البعد عن الدمقرطة وحقوق الإنسان المزعومة. بل إنه يعكس مرض الفردية المفرطة للحضارة الأوروبية ومصالحها ومنافعها. سأخصص فصل النتيجة من مرافعتي لهذه المسألة. وسأبين فيه للفرد كيف يمكن أن يتواجد بالعدل والإنصاف بحق مجتمع العدالة. بالتالي، سأكون قد برهنت على أن الحرية الفردية، إنما تمر من حرية المجتمع والشعب المنتمى إليهما.