المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (99) الفصل السادس - الدفاع عن شعب - عبد الله اوجلان



shiyar
04/04/2007, 11:07 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)
عبد الله أوج آلان
+++++++++++++++++++++++++++
الفـصـل السـادس

دور محكمة حقوق الإنسان الأوروبية
والاتحاد الأوروبي في دعوى عبدالله أوج آلان

سيؤدي التحليل السليم لحكاية صلب سيدنا عيسى دوراً هاماً في تنوير دعواي، باعتبارها إحدى أهم العوامل المؤثرة في الحضارة الأوروبية. ما يهمنا هنا هو مضمون الحكاية، أكثر من شكل حدوثها. وإذا ما تفحصنا المأثورات الأدبية المتناولة لهذا الموضوع من الناحية السوسيولوجية، وفي مقدمتها الإنجيل، سنرى أن الرأي المُجمَع عليه يشير إلى ارتكاز القوة والثقافة المرمَز إليها في شخصية سيدنا عيسى، إلى التباينات والفروقات الاجتماعية المتسارعة في ذاك الوقت. فمن جهة ثمة قوى أرستقراطية وبيروقراطية تقليدية ملتفة حول الإمبراطورية الرومانية المتنامية بسرعة ملحوظة في المنطقة، ومن جهة ثانية ثمة عالم الفقراء الذي يتعاظم بنفس الدرجة، والمؤلَّف من مختلف الثقافات والشعوب الموجودة. كانت القدس آنذاك في صدارة أهم المراكز في شرقي البحر الأبيض المتوسط. وكان قد طرأ التمايز الاجتماعي على القبائل العبرانية ذات التاريخ الغائر. وكانت اليهودية عبارة عن مَلَكية عبرية صغرى، تتخذ القدس مركزاً لها، وتشهد انقسام رجال الدين كجزء من ظاهرة التمايز الاجتماعي. في حين تميزت الطبقة العليا للمَلَكية ورجال الدين بتكامل رصين فيما بينها. لكنها قبلت بالتواطؤ مع الإمبراطورية الرومانية، بعد حكاية طويلة الأمد من المقاومة والتصدي.
وقد عصفت أهواء التمردات الواسعة في هذه الحالة، بحيث ولَّدَت العديد من المعارضات، وعلى رأسها معارضات الأسنيين. يعد سيدنا يحيى الرأسَ الزعيم لهذه الطريقة الدينية، حيث يناهض بلا هوادة المتواطئين مع المَلكية اليهودية. ولكنْ، يُقطَع رأسه فيما بعد، حصيلة دسائس ومكائد "الربجانيين Rebcanli " داخل المَلَكية، ليقدَّم قرباناً إلى الأوساط التي أفسد مصالحها ودمرها. لقد برز سيدنا عيسى كخليفة لسيدنا يحيى، قبل قتله. لذا، وقعت مسؤولية زعامة السخط الاجتماعي الظاهر على عاتقه، بعد موت سيدنا يحيى. إنه كان يسيِّر صراعاً في فحوى نضاله، ولكنْ على شكل طريقة دينية للفقراء.
في الحقيقة، فقد تشكلت بذلك حلقة هامة من سلسلة تقاليد النبوة الشائعة في تلك الحقبة. يكمن الفرق في هذه الطريقة في أنها _ ولأول مرة _ انفصلت عن الجماعة اليهودية، لتصبح ممثلة وناطقة باسم كافة الشعوب. إنها، بمعنى من معانيها، تمثل الأممية تجاه النزعة القوموية اليهودية. وقد خَلَقَت كوسموبوليتيةُ روما بالأصل، الأرضيةَ الموضوعية اللازمة لذلك. فالشعوب الشرق أوسطية تختمر ثانية في ظل الهيمنة الرومانية. ويتولد حزبان مختلفان للفقراء والأغنياء. كانت المَلَكية اليهودية قد شهدت شبيه هذا الانقسام في العهد الهيليني، على شكل الصادوقيين والفَريسيين. لكن هذه التقاليد كانت اخترقت نطاق القوم اليهودي، لأول مرة، على يد سيدنا عيسى، لتناشد الفقراء من مختلف الأقوام وتناديها. بالمقابل، يطالِب كهنة يهوذا البارزون المصابون بالذعر والفزع جراء ذلك، واليَ روما "بلاتوس" بمعاقبة سيدنا عيسى. ورغم عدم جنوح بلاتوس بدايةً لقبول ذلك، إلا إنه رضخ لتلك المطالب في النهاية، تحت ضغط المتواطئين اليهود وغلبتهم، وقبِل بصلبه حصيلة المصالح المشتركة.
كلنا على علم بماهية الدين الذي تمخض في ما بعد، من حكاية الحواريين والقِدِّيسين والقِدِّيسات. كان الإغريق من أكثر الأقوام المعتنقة لهذا الدين الجديد، نتيجة سخطهم على روما؛ ليطوروا بذلك مقاومة دينية قومية تجاهها. ويدخلون بلاد الأناضول وشبه الجزيرة الإغريقية على وجه الخصوص، عبر هذا الدين الجديد، ليحتلوا أماكنهم داخل الإمبراطورية، ويشاطروا الإمبراطور قسطنطين شؤون الدولة، ويلَقِّبوا روما الشرقية باسم البيزنطيين. كذلك تواجَدَ الآشوريون، الذين كانوا إحدى أبرز الأقوام قوة وثقافة في تلك الحقبة، والذين عُرِفوا بالسريانيين، حيث قاموا بإصلاحات ثقافية عظمى مع اعتناق الدين الجديد، في شرقي الإمبراطورية على وجه التخصيص. وتميزوا آنذاك بمكانة متينة ومرموقة ضمن الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية. وتحول الدين، خلال القرون الثلاثة اللاحقة لسيدنا عيسى، إلى أيديولوجية رسمية للدولة المعنية، وقاعدة للجماهير الملتفة حوله، حصيلة مبادرة الأساقفة اليونان ومساعيهم العظمى؛ لتصبح الديانة المسيحية، مع الإصلاحات الجارية، إحدى أبرز الأيديولوجيات في ميلاد العهد الرأسمالي الجديد، بعد أن كانت غطاء أيديولوجياً أولياً للإقطاعية الأوروبية أيضاً، في العصور الوسطى.
السؤال الذي بحثتُ عن ردٍّ له من خلال هذا الشرح المقتضب هو، مَن أراق دم سيدنا عيسى ليشربه كالشراب ويصبح دنيوياً؟ إنها الحضارة الغربية بذاتها. لقد أراقت الإمبراطورية الرومانية دم سيدنا عيسى كمَلَكية دنيوية للحضارة الغربية، في حين أن مؤسسة البابوية جعلَت منه شراباً ترتوي به، لتغدو مَلَكية معنوية وأُخرَوية، وتشكِّل بذلك أهم القيم المعنوية للحضارة الأوروبية.
أما سيدنا عيسى، والفقراء والناسكون الزاهدون وأتباعهم؛ فكان لهم النصيب الأكبر من العذابات الأليمة، والملاحقات وعمليات القتل. إذا ما حللنا هذه التطورات المكوِّنة لركائز الحضارة الغربية، سنرى أن هذا النظام هو قاتل ضحيته من جهة، والمبشِّر والسامي بها من جهة أخرى.
تكمن أهم التناقضات في الحضارة الغربية في هذه الحقيقة. بيد أن الكاتب والأديب الروسي الشهير "دوستوفسكي" يسهب في رواياته، بكل عمق، في كيفية إعادة صلب سيدنا عيسى مجدداً، على يد المطارنة المغترِبين عن جوهر سيدنا المسيح. وبينما يعبد المقتولون قَتَلَتَهم في بعض الحالات، نرى في الحضارة الغربية أن القاتل يعبد ضحاياه ومقتوليه. في الحقيقة، لا يمكن عزو هذه الواقعة إلى الحضارة الغربية، وحصرها بها فحسب. ذلك أن كافة الأنظمة المهيمنة والاستغلالية تقتات من دماء وعرق جبين مغدوريها. وكافة صراعات وحروب الشعوب، إنما هي حكاية الخلاص من هذه الوقائع. إلا أن هذه الحكايات لا تنجو في نهاية المآل من رفع منزلة أسيادها والسمو بهم.
وأنا أحد الذين أُقحِموا في مرحلة مشابهة لحكاية سيدنا عيسى، وفي بقعة قريبة من مكانه وثقافته، بعد مرور ألفي عام بالتمام عليها. وفي هذه المرحلة حلَّت أمريكا محل روما، باعتبارها القوة الإمبراطورية للحضارة الغربية. وبينما كانت روما قوة مولِّدة للحضارة الغربية، فأمريكا أقرب إلى أن تكون القوة القاضية عليها. وهي _ أي أمريكا _ تنتشر في منطقة الشرق الأوسط بسرعة، تماماً مثلما فعلت روما. وهي أيضاً بحاجة ماسة للمتواطئين معها. في حين يشهد مجتمع الشرق الأوسط، مرة أخرى، تمايزاً سريعاً على نحو ثنائية "الأغنياء _ الفقراء". وتولَّدت العديد من أحزاب الفقراء، إلى جانب أحزاب الأغنياء المتواطئة. لكن أشد شعوب المنطقة فقراً هذه المرة هم الكرد، حيث يعانون من قمع مشدَّد ومضاعَف. لا أقصد هنا أنني أستلطف أو أحبذ التشبُّه بأحد ومحاكاته. إلا أن طراز ولادتي وتكوُّني، وُلوجي داخل النظام، ومعارضتي إياه، وأسلوب اعتقالي؛ كل ذلك قريب، شكلاً ومضموناً، من حكاية سيدنا عيسى. فالكل يدرك أني اعتمدتُ أساساً على أشد شعوب الشرق الأوسط فقراً كقاعدة وركيزة. وبحثي عن الأيديولوجية الجديدة والعقلية الحديثة أمر بارز تماماً. وقد تشكلت جماعات مرتبطة بي لأبعد الحدود، مما زاد ذلك من سخط ونقمة الإمبراطورية الرومانية الجديدة _ أمريكا _ والمتواطئين معها. هذا بالإضافة إلى أن الدولة اليهودية هي من أقرب حلفائها إليها. وثمة موالون شديدون لها بين صفوف الإغريق أيضاً. فالإغريقي "كلاندريس"، صاحب الخيانة القاضية والمميتة _ تماماً مثلما يهوذا الإسخريوطي _ يتظاهر بتعاطفه ومؤازرته الحميمة. من جانب آخر، فإن تعاظم الفقراء الكرد يقضُّ مضاجع الملوك الصغار للمَلَكية اليهودية الكردية، ويُفزِعُهم. كل المتواطئين يحسون بحاجة ماسة لإحكام أوضاعهم في المنطقة وتمتينها. ذلك أن وضعيتي الأيديولوجية والسياسية تزعجهم أشد إزعاج. والمصالح ملائمة لأقصى حد لحبك المؤامرة إزائي، ليطول عمر استبدادهم، ولو قليلاً.
قُدِّمَ "ساينت باول" – أحد أكبر الحواريين – قرباناً مرة أو اثنتين على الأقل. أي أن روما أبدت تسامحها نوعاً ما. أما بالنسبة لي، فقد اختُطِفْتُ واعتُقِلْتُ في أول سفرة لي إلى أوروبا. لا داعي للإسهاب في كتابة هذه الحكاية. لكني جُبْتُ جميع مراكز المذاهب الموجودة. وعندما جَسَسْتُ نبض مركز أثينا للإغريق بدايةً، ومن ثم مركز موسكو للروس، ومركز روما للاتينيين، على الصعيد الرسمي؛ أدركتُ أنْ لا مكان لي في خضم حسابات المصالح الجليدية. كان مستحيلاً عليَّ الخلاص من دفع فاتورة مرض ممارسة السياسة المستندة إلى الدول بشكل باهظ، وإنْ كان مرضاً شكلياً، لا جوهرياً. لقد كانوا يبينون، بكل سطوع، مدى بخس قيمة الأيديولوجيات والصداقات، إزاء المصالح والمنافع. كما زخرف المال أفكارهم وعقائدهم منذ زمن بعيد. وكانوا سيُبدون الكفاءة والمهارة الخارقة في التصرف حسب متطلبات مصالح النقد (المال) المزركشة، وبأساليب المؤامرات والمكائد، التي هم خبيرون بها للغاية.
كانت روما هي السلطة البارزة في عهد سيدنا عيسى. حيث لولاها لما اعتُقِل عيسى، ولا صُلِب. أما السلطة البارزة في اعتقالي أنا، فهي أمريكا. إذ يستحيل التفكير في اعتقالي لولاها. أما الدور المنوط بالإداريين الأتراك، فلم يذهب أبعد من الجلاّد والسجّان. وفيما يتعلق بالدور المناط بالاتحاد الأوروبي، فقد تجسد في النطق بالكلمة الأخيرة الفصل في القضاء، باعتبارها السلطة القانونية للحضارة الغربية. بالمقدور تجسيد وتبيان الروابط القائمة بين هذه العلاقات التي طرحناها بخطوطها العريضة، على نحو ملموس أكثر.
الإمبراطورية البيزنطية أدنى إلى قوة الإمبراطورية الشرقية منها إلى الغربية. أما فيما يخص ترسُّخ الحروب الصليبية في الشرق، فقد كان أمراً مستحيلاً، نتيجة توازنات القوى التي كانت سائدة أيام الحضارة الإقطاعية. كان من الصعب عليها النجاة من الانحلال والزوال بعد عهد الاسكندر، مثلما حلَّ بالحضارة الهيلينية. أما أول هجوم ملموم الشمل شُنَّ في ضوء الرأسمالية المتعاظمة، فكان على يد نابليون عام 1798، تجاه الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشكل عقبة في طريقه.
كلما وطَّد النظام الرأسمالي مكانه كقوة مهيمنة جديدة، كان سيغدو مركزاً للحضارة الأوروبية. فالتفوق كان في أوروبا بكل تأكيد. في حين أن السلاطنة العرب الممثلون للحضارة الشرقية، وعندما طُرِدوا نهائياً من إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر، كانوا سيَدخُلون مرحلةَ تراجع سريع، بعد أن خرج العثمانيون بهزيمة نكراء من حصار فيينا الثاني عام 1683. وغدا التماسك والثبات مستحيلاً أمام حضارة أوروبا المتعاظمة، وفات أوانه منذ زمن بعيد. وبانهزام نابليون أضحت إنكلترا القوة المتقدمة للحضارة. وباشرت الإمبراطورية الإنكليزية بالتحامل على منطقة الشرق الأوسط، اعتباراً من أعوام 1800، ليقينها بأن الهيمنة على العالم تمر من هذه المنقطة. أما الإمبراطورية العثمانية المحصورة بين فكَّي روسيا القيصرية في الشمال، والإمبراطورية الإنكليزية في الجنوب؛ فكانت ستَتَّبِع سياسة التوازنات المعروفة، لتطيل من عمرها قرناً آخر من الزمن. الأمر المهم هنا يكمن في التطورات المتعلقة بضحايا سياسة التوازنات تلك. فبينما عانت أهم ثلاثة أقوام تاريخية من التصفية بنسبة هامة في خضم ألاعيب هذه التوازنات، ألا وهي الإيونيون في الأناضول، والأرمن في شرقي الأناضول وكيليكيا، والآشوريون في ميزوبوتاميا؛ تمكَّن الكرد من الحفاظ على وجودهم الجسدي، لا غير.
من جانب آخر، سعَت كلٌّ من إنكلترا وفرنسا وروسيا، الهارعة لبسط نفوذها الحديث العهد على المنطقة، إلى استخدام شعوبها التي ذكرناها آنفاً، كوسيلة ضغط وتهديد لاقتطاع التنازلات من العثمانيين. كانت اعتَبَرت حسابات المنفعة المادية للرأسمالية أعلى مرتبةً من ثقافات تلك الشعوب المعمِّرة آلافاً من السنين. وكلما تراجع الأتراك العثمانيون وانحسروا، كانوا يبحثون عن أسباب ذلك في تلك الشعوب، ليكتموا أنفاسها أكثر فأكثر. وعندما نصل إلى الحرب العالمية الأولى، سنرى أن نواقيس الخطر في التاريخ تدق مدوية. وبينما كان الإيونيون والأرمن والآشوريون يحتضرون تحت أنقاض الإمبراطورية، تمكَّن الكرد من الحفاظ على وجودهم الجسدي فحسب، في أحضان جبالهم الوعرة. وبينما انتهت المنازعات المحتدمة بين السلاطنة الأتراك من جهة، والإقطاعيين الأوروبيين وقوى الدول الرأسمالية من جهة ثانية، بالتفوق الأوروبي، بعد أن استمرت زهاء ثمانية قرون؛ كانت ستخلِّف وراءها ضحايا حزينة شجينة. لكن المؤرخين لا يتداولون الأسباب والنتائج الحقيقية لحكاية تلك الضحايا المحزنة، لأنهم بذلك سيَرَون وجوههم القبيحة والقاتلة في مرآة تلك الحقائق.
إن الدول الأوروبية العظمى هي المسؤول الأساسي والمصيري عن كل المجريات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في القرنين الأخيرين. فسابقاً أيضاً كانت هناك الشعوب ذاتها. حيث كانت _ بأقل تقدير _ مرتاحة وآمنة ثقافياً، وغنية اقتصادياً، عبر التوازنات التي أسستها داخل الإمبراطورية. ولم تكن أقل منزلة من الأتراك على الصعيد السياسي. لكن ثقتها بأوروبا، وحساباتها غير الواقعية لتكوين الدولة، جعلَتْها تقوم بأكبر لعبة قمار، وتصبح ألعوبة فيها في نفس الوقت. وتكبدت الخسائر الفادحة، ولم تترك وراءها سوى بقايا أصحاب السيوف النازحين صوب الغرب، والمتجهين نحو أوروبا وأمريكا، محاولين بذلك العيش بيوتوبياهم في "الأراضي المقدسة الموعودة".
نشهد في يومنا تسارع بعض المحاولات في بلدان أمريكا والاتحاد الأوروبي، والشبيهة بالانطلاقات التي قام بها اليهود في المؤتمر الصهيوني المنعقد عام 1896. وقد يعقدون آمالهم على مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي. لقد مهد احتلال العراق لمرحلة جديدة هائجة. والكرد هم أقرب المرشحين ليكونوا الحليف السليم والأمين لهذا المشروع. الهدف هو تغيير البنية التحتية الاقتصادية والبنية العلوية العقلية والسياسية، التي تشكل خطراً وعائقاً أمام وجود إسرائيل والنظام الرأسمالي في المنطقة. وهيئة الأمم المتحدة وحلف الناتو مكلفان بلعب دور القوة الديبلوماسية والعسكرية الفعالة في المشروع، باعتبارهما قوتان منظمتان للنظام ومنسقتان إياه. فمجموعة الدول الثمانية (G _ 8) لن تقي القوة الاقتصادية أو تحميها.
تكمن المعضلة الأساسية في كيفية مواجهة تركيا، صاحبة الميراث العثماني، لهذه المرحلة. فلا الشروط الداخلية، ولا الخارجية، مساعدة لبدء مرحلة تحرر وطني ثانية. في حين أن مقاومتها للنظام لن تحرز نصراً أكبر مما أحرزه العراق أو يوغسلافيا، أو حتى روسيا. أما الاستسلام التام، فلا يتوافق وطموحاتها. ولا يمكن مواصلة شروط التحالف، مثلما كانت عليه بعد الخمسينات. ما يتبقى من الأمر هو مرحلة الإصلاح. لكنها تفتقر إلى الإرادة اللازمة للبدء بها. لذا، فهي تلجأ إلى الزحف قدر الإمكان، كسياسة أساسية. أي أن الجمهورية التركية تسعى لحماية ذاتها بعقلية متزمتة لأبعد الحدود، تظن بها أن كل يوم تعيشه في الوضع القائم هو مكسب لها. إنها فترة مشابهة بدرجة قصوى لأواخر عهد الإمبراطورية العثمانية.
أما المؤامرة المحاكة ضدي، فقد تحققت في ظل الظروف التي مرت بها الجمهورية التركية. وبدون الإدراك التام للوجه الخفي للمؤامرة، والأطراف المشاركة فيها، لا يمكن النوء إطلاقاً عن عبء أية مشكلة، ولا القيام بأية تحليلات أو شروح سليمة بصدد عاقبة الجمهورية التركية.
رغم النواقص والأخطاء الجدية البارزة، إلا أنه لا يمكن إنكار تجسيدي لانطلاقة ديمقراطية عظمى باسم كافة الشعوب عموماً، والشعب الكردستاني على وجه الخصوص. إذ من الساطع سطوع النهار محاولتي في تطوير تنظيم العقلية حتى عملية 15 آب. ومن الضروري القبول بأني اضطُرِرتُ للقيام بذلك، كحِبكة أو نسيج مختلط من تيارَي الاشتراكية المشيدة والتحرر الوطني، لعجزي عن الانطلاق به إلى سوية أكثر رفعة. تُعتَبَر الأعوام الخمسة عشر، المتراوحة بين 15 آب 1984 و15 شباط 1999، مرحلةَ عمليةِ تنظيم الذهنية وتطبيقها. أي أنها الفترة التي برزت فيها العملية، وأفصحت عن الممارسة العملية بأفضل أشكالها. وقد تجلى تعريفي لذاتي بشكل أوضح وأفضل مع مرحلة الممارسة العملية تلك. إذ يمكن القول، من خلال الحقيقة الظاهراتية التي مثلتُها، بأني اختبرتُ المشاكل وإمكانيات الحل لدى الفرد بصددها. لكن، عندما أقول "أنا"، فمن الضروري عدم الجنوح إلى المبالغة. فأنا مجرد وسيلة. أما ما برز إلى الوسط، فهو الشعب المنتسب لواقع اجتماعي مكبوت منذ آلاف السنين. ورغم تحليلي الفائق الجودة للألوهية، إلا أن المصطلحات الفنية التي استخدمتُها، كانت أقرب إلى العلمية.
ما ظهر للعيان كان بدء ضيق الذرع والسخط البليغ لأصحاب التواطؤ (بدءاً من العلاقة الكامنة بين كلكامش وأنكيدو، حتى الأعيان البارزين إلى الميدان)، و"الفاتحين" بدرجة كبرى، إزاء واقع الشعب الكردستاني البارز إلى الوسط، رغم استثمارهم إياه آلافاً من السنين. حيث بدؤوا مرحلة معاهدة أنقرة – واشنطن في 1998 تحت شمسية أمريكا، القوة الإمبراطورية في راهننا. واتفقوا على صياغة برنامج سياسي يعني فيما يعنيه تأسيس الدولة الكردستانية الفيدرالية. ورأى ذاك البرنامج النور تحت وصاية إدارة أنقرة وحمايتها. والمقابل، كان إصدار حكم مشترك بحق رأس عبد الله أوج آلان و"إرهابية" PKK. يفيد هذا الحكم موضوعياً بـ"التصفية والإبادة". ورغم التحفظ على الأمر وسريته، إلا أن أي محلِّل سياسي حاذق ودقيق، كان لن يرى صعوبة في ملاحظة أن المعاهدة (المبرمة في أنقرة – واشنطن في 17 أيلول 1998) مليئة بالتناقضات، ولا تذهب أبعد من كونها تقرباً تكتيكياً تسعى من خلاله الأطراف المعنية إلى خداع بعضها البعض. لقد تسارعت وتيرة رسم الطوق وحركات المراقبة والاقتفاء المتعاظمة على عبد الله أوج آلان على الصعيد العالمي، مع تلك المعاهدة. وأبدى جناح واحد – بأقل تقدير – في أمريكا عزمه الأكيد في ذلك. كما ولليمين الإسرائيلي أيضاً نصيبه الوافر من المساندة والإصرار المفروض. إذ، وبينما رسمت إنكلترا مخططاً بارعاً لذلك، أبدى الموساد الإسرائيلي مساهمته في المخطط، عبر نشاطاته في العمالة الحسنة. وقد طُرِحَ المخطط التآمري الأخير هذا، بعد برم الاتفاقية العسكرية والاقتصادية مع الإدارة الإسرائيلية، بعد حادثة الانفجار المدمِّر الذي أطاح بالأبنية الموجودة عبر السيارة المفخخة المحمَّلة بألف كيلو من القنابل الملغَّمة (الديناميت) في 6 أيار 1996 في مدينة دمشق؛ والذي استدانت رئيسة الوزراء التركية تانسو جيللر خمسين (50) مليوناً من الدولارات لأجل تنفيذه. وتقدَّمَت الأمور خطوة أخرى، مع الحديث الذي أدلاه رئيس القوات البرية التركية، موجهاً إياه إلى سوريا في 17 أيلول من نفس العام؛ والذي كان بمثابة إنذار لاذع لها. ولدى طرح مسألة الحرب مع سوريا في الميدان، لم نرَ من الإدارة السورية سوى تصرفاً أشادت فيه بالقول لي: "اذهب حيثما شئت".
عزمتُ على "مجازفة أثينا"، بعد النداء الذي يمكن نعته بالدعوة نصف الرسمية، والذي عجزنا عن فهم خفاياه بشكل تام حتى الآن. كان خيالي هو التوجه نحو جبال الوطن. غير أني أجَّلتُ هذا السفر، تحسباً لما قد يتمخض عنه من موت الآلاف بسببي. وفكرتُ بأنه من الأنسب تجربة فرصة الحل السياسي في أوروبا. وقد نضجَت قناعتي تلك وبرزت أكثر، لدى إبلاغ تنظيمنا في أوروبا إياي ببضعة معلومات (اعتقدتُ بأنها من مصدر عسكري) منذ 1997. لكن مَن استقبلني في أثينا لم يكونوا أناساً من الأصدقاء الحقيقيين، بل كانت المومس الفاجرة "أتينا Athena" الميثولوجية المخلوقة من جبين إله الذكور زيوس، والتي دفعت بهيكتور، بطل طروادة الشهير، إلى حرب خاطئة لا جدوى منها. لقد أرغمني ذلك على خوض الحرب مع كافة القوى الحضارية ذات العقلية المنفعية، في ساحة مميتة وقاضية. أما المقابل – حسب الزعم – فكان الحظي بطروادة (بلاد الأناضول) وقبرص. أو على الأقل، كانت ستتولَّد الإمكانيات السياسية اللازمة في هذا الاتجاه. كان من المحال على أصحاب النهج الأيديولوجي الاشتراكي المشيد والتحرري الوطني الشائع في القرن العشرين، والذين اقتاتوا منه مثلما هي حالي أيضاً؛ أن يفكوا رموز هذه المكيدة. وماذا كان بوسع حِكمة وبسالة الشرق الأوسط فعله، إزاء تقاليد الدولة اليونانية المتشربة بدسائس "أتينا" (الميثولوجية) البالغة الشهرة عبر التاريخ، والتي طالما تطرق إليها كل من نابليون والإسكندر؟.
يرتكز الموضوع الرئيسي الواجب انتقاده في مرحلة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية من دعواي، إلى العلاقة الكامنة بين الفرد والمجتمع. إذ تكتسب المجتمعية أولوية بارزة في تطور الجنس البشري، وقد تناولتُ ذلك بإسهاب في الفصل الأول من مرافعتي. كل تعاريف "الفرد" غير المستندة إلى المجتمعية، ليست سوى زيفاً ورياء. يعتمد الجانب المهيمن في المجتمعات الشرقية أساساً على المجتمعية باستمرار. إنه موقف مرتبط بقِدَم تلك المجتمعات الغابر ومسار تطورها. في حين أن الفردية هي الغالبة في ولادة الحضارة الغربية. إذ لم تتناقص حدة التطلعات الفردية إطلاقاً، سواء في أيام روما الإغريقية، أو في شروحات الديانة المسيحية وتفاسيرها في العصور الوسطى لاحقاً. أما في فترة الإصلاح وما بعدها، فكأن الفردية شهدت ثورة تاريخية من تطورها. حيث، وعبر حركات النهضة والإصلاح والتنوير والثورة العلمية المتعاقبة على التوالي، مُزِّقت المجتمعية – المتعاظمة بإفراط في المجتمعات الشرقية، والخانقة للفرد على مر آلاف السنين – إرباً إرباً؛ لتسود مرحلة من التوازن بين الفرد والمجتمع، أعقبها تصاعد مغالى فيه للفرد في القرنين التاسع عشر والعشرين.
طبعت الفردية عصرنا بطابعها، وتوارت في هذه المرة وراء المرض المتفاقم بشكل مفرط، والذي نخر في جسد المجتمع. وكأن التوازن السليم بين الفرد والمجتمع لصالح الفرد، أصبح هذياناً وهراء. ونُظِر إلى المجتمعية على أنها عبودية. إن هذا النوع من الفردية هو، في الحقيقة، أشبه بحيوانية ما بعد الحداثة، وبنوع من التحول مجدداً إلى فصيلة الحيوانات الثديية البدائية؛ ولكن، بأبعاد أعلى وحسب الظروف الحديثة.
إن انعكاس حق تقديم "الطلب الفردي" فحسب على محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، يفيد بانعكاس هذا المرض على الساحة القانونية. ذلك أن النظر إلى الفرد المجتمعي بكل معنى الكلمة، والواهب كل ما لديه بموجب ذلك، على أنه منفصل عن مجتمعه وإرادة شعبه؛ إنما هو مكيدة قانونية بحتة. وهو منافٍ كلياً لمفهوم العدالة كركيزة للقانون. هذا علاوة على أنه آلة لمواراة الحقيقة السياسية الهامة الموجودة، سواء بوعي أو بدونه. كما أنه يُبقي على الحركة السياسية الحرة للشعب الكردي خارج إطار القانون. إن الاتحاد الأوروبي، وبتهميشه لأحقية حركة الحرية الكردية؛ يمهد السبيل لإخفاء مسؤولياته إزاء الشعب الكردي والنوء عنها. تتبدى هذه الحقيقة بوضوح أكبر في دعوى ليلى زانا وأصدقائها. ذلك أنه – الاتحاد الأوروبي – يسعى لتمييزهم عن المعتقلين داخل السجون وخارجها (الذين يُعتَبَرون يَحيَون في معتقلات بلا أسقُف أو سطوح) من أبناء الشعب الكردي، ليُنقِذ بذلك حقوق الإنسان (حسب مزاعمه). وانطلاقاً من دعواي، من المحال عليَّ تَقَبُّل أو هضم هذه المكيدة النابعة من الحضارة الأوروبية. بل ما أنتظره هو الإقرار بقبول التوازن بين الفرد والمجتمع.
لم تتقبل محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في قرارها الصادر بتاريخ 6 أيار 2003 القرار الصادر عن محكمة الأمن في دولة تركيا، بذريعة أن "المحكمة ليست مستقلة، وأنا لم أُحاكَم بعدالة". مقابل ذلك، صرَّحت المحكمة اللامستقلة واللاعادلة في قرارها، عن رأيها بأن الإتيان بي إليها حصيلة المؤامرة الأشمل على الإطلاق في القرن العشرين، إنما يوائم القانون ويناسبه. هذا الرأي (أو القرار) هو ذو مضمون سياسي بحت، وامتداد للمؤامرة بحد ذاتها؛ وقد حُدِّد سلفاً كجزء من المخطط المرسوم.
ورغم أن اختطافي ينافي تماماً المادة (5/2) من مواد معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية، وأن إعادتي إلى المكان الذي جُلِبتُ منه هي من ضرورات وشروط القانون والمعاهدة؛ إلا أن عدم سماع إفادتي يبيِّن بجلاء الحكمَ الصادر بحقي سلفاً. ثمة آلاف الأدلة – وليس دليلاً واحداً فحسب – التي تُدين باختطافي. الأهم من ذلك أنني اختُطِفتُ من بقعةٍ يتوجب اعتبارها من الأراضي الأوروبية. على الدائرة العليا (محكمة حقوق الإنسان الأوروبية) أن تقوم بسماع إفادتي، إن كانت تود احترام الحقيقة. وإن كانت لا ترى داعياً لذلك، فعليها أن تطالب بسماع آراء الشهود ديلان وكالاندريس والآخرين. هذا علاوة على ضرورة أخذها نصب العين أقوال محاميني الشاملة والقوية في هذا الشأن.
أنا لا أتهرب من المحاكمة، بل من حقي الطبيعي أنْ تتم محاكمتي في محكمة مستقلة عادلة توائم روح وفحوى المعاهدة التي تُعَدُّ تركيا طرفاً فيها. وعلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن تفتح السبيل لمحاكمة كهذه، كمهمة أساسية لها. إن التمهيد لسبيل كهذا هو أول خطوة على طريق العدل والاتسام به. إلا أن المحكمة، بقرارها الصادر، لم تقم بذلك. بل على النقيض، ارتأت أنه من الأنسب عرقلة عقوبة الإعدام، وتَركي عُرضة للاهتراء الأبدي. لقد أشارت بالبَنان إلى الموت، وأَرغَمَت على الرضا بالإصابة بالملاريا. أظن أنني لا أفتقر للإدراك لدرجة العجز عن تحليل ذلك بأنه حيلة من حيل القوى المهيمنة المتسلطة، التي طالما لجأَتْ إليها وجرَّبَتْها على مر آلاف السنين. وإذا كانت الدائرة العليا، أي محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، ترغب في فتح الطريق بحق أمام محاكمة عادلة، فعليها أن تضع هذه النقاط نصب نظرها:
أولاً، هويتي هي حق الالتجاء السياسي، حسب القرار الصادر من محكمة روما الاستئنافية. ووثيقتها في حوزة المحكمة.
ثانياً، يجب أن أكون متواجداً داخل الحدود اليونانية، وفق القرار الصادر بحقي من محكمة أثينا الجنائية. أي أنني لا أزال أُعتَبَر ضمن حدود الدولة اليونانية، وفقاً للقانون وقرار المحكمة. هذا ما معناه أن تواجدي في سجن الحجرة الانفرادية في جزيرة إمرالي، أمر خارج عن القانون. إنه أمر لا شائبة فيه. والسؤال الذي يتوجب على الدائرة العليا البحث عن جواب له هو، كيف يُحكَم عليَّ بالمؤبد في الحجرة الانفرادية التي أمكث فيها منذ ست سنوات، في حين أنه يجب تواجدي – قانونياً – ضمن الحدود اليونانية؟. إن المصادقة على قرار الدائرة الأولى، بدون إيجاد رد سليم على هذا السؤال، ستبرهن على سلوك الموقف السياسي كلياً. إذا كانت المحكمة ترغب فهم تفاصيل حادثة الاختطاف، وإذا كانت غير مسبقة الحكم؛ فعليها تناول إفادتي المقتضبة، ومعالجتها بشمولية، والإصغاء لأقوال كافة الشهود، وتأمين ظروف ذلك. وإذا ما أصدرَتْ قراراً صائباً، فسأُعَدُّ موجوداً داخل حدود الاتحاد الأوروبي. حينها سيُصغى إلى ادعاءات كل من الجمهورية التركية والأطراف الكردية في محكمة مستقلة، ليصدر عنها قرار قانوني عادل. إن الجمهورية التركية تراني على الدوام مسؤولاً عن موت ثلاثين إلى أربعين ألف شخصاً. لكن إفراغها قرابة أربع آلاف قرية ومزرعة خاصة بالطرف الكردي، وارتكابها ما يناهز عشر آلاف جناية مجهولة الفاعل، وما يضاهي مئات الآلاف من الاعتقالات، وحوادث النفي والتهجير، والتعذيب المتأصل والمزمن، وتسببها في استشهاد قرابة ثلاثين ألفاً من الأنصار (الكريلا)، وانتهاكها كافة حقوق الإنسان وإنكارها للديمقراطية؛ كل ذلك هو جزء صغير من هذه الإحصائيات. فكيف بإمكان محكمة حقوق الإنسان الأوروبية إعطاء قرارها، دون الانتباه إلى هذه النقاط؟
إنها إحصائية الحرب. ما من إرهابي في التاريخ امتلك القدرة بمفرده على قتل ثلاثين إلى أربعين ألف شخصاً. وإذا ما قُبِلَ بوجود حرب صهر مطبَّقة على الشعب الكردي، فإن القيام بمحاكمة لأجلي ولأجل الأطراف المعنية الأخرى على السواء، هو السبيل الوحيد للمحاكمة العادلة. وستكون حينها شبيهة بالمحاكم المقامة تحت حماية الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد حروب النورامبارغ (Nuremberg) وبوسنة والهرسك، وبعد المجازر الحاصلة في لاهاي وبعض الدول الأفريقية. ثمة آلاف الدعاوى المتعلقة بالمغدورين الكرد في حوزة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية. ألن تستذكرها كل هذه الدعاوي بإحصائية الحرب أبداً؟
لقد خُدِع الكرد على الدوام في التاريخ. ولكن، أسنستمر في قبول خداعنا، في وسطٍ تبرز فيه العلانية والصراحة كأوروبا؟ كيف سيحتمل الوجدان الإنساني ذلك؟ وكيف تجرؤ محكمة حقوق الإنسان الأوروبية وتتجاسر على الاشتراك في جرم محاكمة شعب، لم يقدر حتى على تخطي الحظر الموجود فعلياً على لغته الأم بشكل تام، ممثلاً في شخصي؛ وبألف مكيدة وحيلة، لتُوائِم ذلك مع القوانين الأوروبية؟
هناك مئات من الأسئلة القانونية التي يمكن طرحها على هذه الشاكلة، والتي ستبرهن ما إذا كانت المحكمة مستقلة عن المؤثرات السياسية أم لا، وما إذا كانت ستتيح المجال لمحاكمة عادلة أم لا. فإنْ سُدَّتْ طريق المحاكمة العادلة، وتُرِكْتُ والآلافَ من أصدقائي (بما فيهم ليلى زانا ورفاقها) عُرضةً للاهتراء المؤبد (إطلاق السراح مسألة ثانية)؛ فسنضطر للقول صراحةً بأن قاضينا هو الاتحاد الأوروبي بذاته، وأن إدارة الجمهورية التركية اضطرَّت لقبول استخدامها كملقط وسيط. تماماً مثلما سنضطر للقول علانية، وبحنقة كبرى، أن الدول الأوروبية البارزة هي المسؤولة عن حرب الصهر المفروضة على الشعب الكردي خلال القرنين الأخيرين، وأن أمريكا أيضاً انضمت إليها بعد الخمسينات. وكأن القضاء على الشعوب الأرمنية والإيونية والآشورية وتصفيتها لم يكفِ، ليأتي الدور على الكرد في هذه المرة.
باختصار، وإذا ما نظرنا بعينٍ عامة، سنرى أن الأطراف المعنية أصلاً في دعواي هي بلدان الاتحاد الأوروبي والكرد وأنا. إن تأجيرهم الدعوى إلى تركيا، ليس سوى خداعاً زائفاً. لقد بَذَلَت بلدان الاتحاد الأوروبي مساعيها بكل علانية – بمؤازرة أمريكية وإسرائيلية – لإخراجي من دائرة القانون الأوروبي. واستهلكت الحكومة الإيطالية كل قواها في هذا الأمر. وطبقَّت ضغطاً نفسياً فظيعاً عليّ، واستنفرَت إمكاناتها المالية لأجله. ورغم عدم ذهابي إلى إنكلترا وسويسرا، فقد أعلنتا بأنني "الرجل المنبوذ" (Persona non Grata). وشرعت ألمانيا وفرنسا رسمياً بمحاكمتي في المحكمة. كذلك، ثمة العديد من الدول الأخرى التي أجحفت بحقي في طلب الالتجاء، ورفضته مقدَّماً رغم شرعيته. أي أن حملة عامة من الإبلاء النفسي واستنزاف الطاقة النفسية قد طُبِّقَت. تتوارى وراء كل هذه التطورات، الاتفاقيات الصامتة والسرية، التي بوشر بها مع الجمهورية التركية بعد قفزة 15 آب، في ضوء علاقات المنفعة المادية البالغة القبح والسوء. كلنا على يقين تام بأن الحكومات التركية أهدت نصف تركيا تقريباً إلى الدول الأوروبية حتى دفعتها للرضى بالبقاء بعيدة عن PKK، والقبول بـ"إرهابية" الحرب التحررية الكردية. ولولا علاقات المنفعة تلك، والتي وارتها الحكومات الأوروبية وبرزت للعيان مع دعواي، لكان من الواجب حيازتي على حق الالتجاء السياسي على الفور.
لقد انتُهِك قانون أوروبا (معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية) علانية، حصيلة العلاقات المنفعية تلك. هكذا استُهدِف اختطافي إلى خارج أوروبا، وبالتالي إخراجي من نطاق القانون الأوروبي. وما جَرِّي إلى كينيا سوى ثمرة هذه الروابط المصلحية المقرفة والبغيضة. لذا، وإذا كانت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية مرتبطة حقاً بمعايير القانون الأوروبي ومعاهداته، فعليها رفض انتهاك القانون هذا. رغم افتقاد محكمة روما الاستئنافية ومحكمة أثينا الجنائية لمعناهما الفعلي، إلا أن قراراتهما الإيجابية تخص محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أيضاً. إنها تنص على كوني ملتجئ سياسي، وتعتبرني حراً داخل الأراضي الأوروبية. كما وحسب هذه القرارات، تُعَدُّ فترة المحاكمة والإنفاذ الجارية في إمرالي مناقضة كلياً للقانون الأوروبي، ومنافية له. ما هو منتظَر من الدائرة العليا لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، هو الاعتراف بحقي في البقاء حراً داخل الأراضي الأوروبية، حسب القوانين الأوروبية (وهي قرارات محكمتَي روما وأثينا)، ودحض انتهاك القانون في إمرالي، وتمهيد السبيل لقضاء مستقل وعادل؛ إن كانت ثمة حاجة للقضاء (قرار الدائرة الأولى لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية). وإذا ما سُنَّ قرار إيجابي بموجب ذلك، سيكون قد تم التحرك حسب معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية حقاُ. وفي حال العكس، لن تنجو المحكمة العليا (محكمة حقوق الإنسان الأوروبية) أيضاً من كونها آلة في مؤامرة سياسية عظمى.
لهذا السبب خصَّصتُ القسم الأعظم من مرافعتي لشرح وإيضاح الحضارة الأوروبية التي تفنينا. فالساسة لا يتخوفون أساساً من زوال أي شعب من صحن التاريخ، إكراماً لمنافع سلطتهم ومصالح أسيادهم لعدة سنين. نحن على علم بذلك. لكن – وبأقل تقدير – على مؤسسةٍ كمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن تدع جانباً طريقَ الزيف المريع (كمحاكمتي على الصعيد الفردي)، وأن تصدر قراراً بشأن فحوى المجريات الحاصلة. أي، عليها سن قرارها بوضعها نصب العين، كيف يمكن أن يكون القضاء موضوعياً وواقعياً وعصرياً، بأقل تقدير. فإذا كانت الجمهورية التركية طرفاً في الحرب (وهذا ما تعلمه كل الدنيا، وتقوله هي أيضاً علانية)، وتقوم المحكمة بالمقابل بإعلاني – وتنظيمي – بالعدوُّ اللدود والخطر الفتاك؛ فكيف ستقوم حينئذ بالقضاء العادل المستقل؟ كيف يتقبل عقل المحكمة (محكمة حقوق الإنسان الأوروبية) ومنطقها ذلك؟ وإلا، أهناك ألاعيب أخرى نجهلها نحن؟ إذا كان كذلك، فلماذا قبِلَت دعواي؟ إذا لم تُعطِ أجوبة مقنعة لكل هذه الأسئلة، ألن يتبين يقيناً – كخيار أخير – الاستمرار في لَعِبِ لُعبَة سياسية مخططة ومدروسة مسبقاً، وبمهارة؟ إذن، والحال هذه، لن يتبقى أمامي سوى تأدية متطلبات إدراكي وضميري، كي لا أغدو وشعبي آلة في هذه اللعبة.
تُسلِّط هذه الحقيقة الضوء على أهمية وضرورة تطوير مرافعتي سياسياً، أكثر منها حقوقياً. فالكرد شعب غير مدرج في نطاق القوانين الأوروبية الوطنية، ولا العالمية. وغضُّ الطرْفِ عن الحقيقة التاريخية والاجتماعية المستترة وراء إصرار القوانين الأوروبية على البُعد الفردي في قضيتي، إنما يفيد بعدم وجود المشكلة التي يمكن حلها عن طريق القانون. يستمر هذا المفهوم منذ معاهدة لوزان، حيث تخلت الجمهورية التركية عن كركوك والموصل للإنكليز، مقابل الاعتراف بوجود الأولى دون الكرد. تمَّت المصادقة على ذلك في لوزان، مقابل هضم الجمهورية التركية للرأسمالية كنظام. وفي حين اعترفت الدول الغربية بالأرمن والإيونيين والآشوريين كأقليات، ظلت قاصرة عن إعطاء أية ضمانات للكرد. يشير هذا التوجه إلى التغاضي عن مسح الكرد ثقافياً وسياسياً، وإن لم يكن جسدياً. من الضروري الإمعان جيداً في نتائج العلاقات والتناقضات والنزاعات والاشتباكات، التي دخلتها الدول الإمبريالية الغربية مع الإدارات التركية في غضون القرنين الأخيرين. يعود انحسار وتراجع الشرق الأوسط، وافتقاره إلى الديمقراطية والحرية في راهننا بأساسه، إلى العلاقات السائدة في تلك الأثناء. هذا ويجب النظر إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير كمحصلة لا مناص منها للقرنين الأخيرين، وقراءة مضمونه على نحو نبيه ودقيق. نخص هنا الكرد الذين يجب أن يقيِّموا أنفسهم على جميع الأصعدة كعنصر أكثر استراتيجية وحيوية في هذا المشروع. وهذا ما يعد أحد أهم أهدافي التي أرمي إليها في مرافعتي.
ثمة روابط جلية تماماً بين مرحلة إرسالي إلى إمرالي من جهة، وتأسيس الدولة الفيدرالية الكردستانية في شمال العراق من جهة ثانية. على إدارات الجمهورية التركية ملاحظة الحقيقة التالية وإدراكها بعناية: لقد أهديتم – أنتم – الفيدرالية الكردستانية إلى القوى نصف الإقطاعية – نصف البورجوازية الكردية، مقابل إبادتي وإبادة PKK. وستكونون مسؤولين عن تحمل نتائجها أيضاً. إنها خطوة أساسية شبيهة بأسس الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الراهن. ومثلما عُرِّيُت ركائز الجمهورياتية الثورية وأُفنِيَت بها، فقد تشكلت الأرضية الخصبة لاستثارة كافة النعرات القوموية أيضاً عبرها. إنها ترمي بذلك إلى إطالة عمر نُظُمها المهيمنة بأشكال جديدة، عبر تأليب الشعوب على بعضها في ظل النعرات القوموية الجديدة البارزة. تماماً مثلما دُفِع بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ليكاد يكون معضلة القرن الأخير، ويصبح الذريعة المشروعة لإبقاء أسوأ الإدارات العربية مسلَّطة على شعوبها. والآن يُدرَج الكرد في إطار اللعبة ذاتها، ولا تزال هذه المحاولات مستمرة.
في هذه النقطة بالذات اكتسبت المؤامرة المحاكة ضدي بُعدها الدولي. ذلك أن وجودي ووجود الحركة التي مثلتُها لم يمتثل لهذه الألاعيب. كما كان يشكل خطراً محيقاً لإفراغها من محتواها. لقد كانوا يرون في أخذ المبادرة والمراقبة على الكرد من يد حركتنا، لإبقائها بيد القوى الإمبريالية، مسألة ذات أهمية استراتيجية مصيرية. كانوا سيروِّضون بذلك الدول القومية العربية والفارسية والتركية. كان ثمة عشرات الآلاف من الكرد يروَّضون في أوروبا وأمريكا لهذا الغرض. وتشكلت كردياتية ملائمة لمعاييرهم بكل إصرار. في الحقيقة، فقد اتسع نطاق المرحلة التي باشرَت بها إسرائيل تصاعدياً بعد عام 1945، عن طريق عائلة البارزاني. لهذا السبب ابتدأت أهميةُ كسب الكرد كأحباء وأعزاء جدد تتبدى لدى الغرب. وتدارست الدول الشرق الأوسطية ذات تقاليد الفتح وضع كُردِها من جديد. وأسَّست جيشاً كردياً من الاستخبارات والحُماة المرتزقة بإمرة قوى الأمن. أما القسم الثالث، أي المجموعة الكردية الفقيرة والكادحة، فأسَّسه PKK ضمن منهج وطني وديمقراطي. وهكذا تشكلت ثلاث مجموعات كردية:
الكرد التابعون لأمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وهم شرائح الطبقة العليا القديمة نصف الإقطاعية – نصف العشائرية، والمتجهة صوب الانتقال إلى البورجوازية. حيث يجهدون لبسط نفوذهم، باستغلالهم العواطف العشائرية، ونيلهم دعم الدول مالياً. والدولة الكردية الفيدرالية تشكِّل حالياً برنامجهم السياسي الأولي.
كل ما يرنو إليه الكرد القائمون على خدمة قوى الأمن لدى الدول القومية الفاتحة العربية والتركية والفارسية بوساطة المال والعواطف العشائرية، هو الحظي بالنقود والسلطة المحلية، لا غير.
في حين أن هدف الكرد المرتبطين بـPKK، والملتفين حوله بوعي وعواطف وطنية وديمقراطية، هو الدمقرطة وكردستان حرة.
يشكِّل هذا التمايز الثلاثي، بعلاقاته وتناقضاته الكثيفة، رحماً للعديد من الكيانات. وتُشكِّل كردستان الناهضة من سُبات آلاف السنين، والوالجة في مرحلة نشيطة حَرَكية، عاملاً بارزاً في تكوين توازنات الشرق الأوسط الجديدة. حيث لا مفر من لعبها أدواراً مختلفة في العديد من السيناريوهات.
إن الجمهورية التركية التي رأت في الكرد عضواً أصلياً في مرحلة تأسيسها، ترتكب أحد أفدح أخطائها ونواقصها، بتحويلها مسألة إبقاء الكرد على هامش السياسة والقانون كلياً إلى مبدأ دائمي، بسبب هويتهم (وإن كان لذلك معناه من الناحية المرحلية سابقاً، بسبب التمردات الكردية). وأنا أدَّعي أن القوى الإمبريالية شرعت، بوعي وإدراك، في تصفية الكرد الفقراء والكادحين المتطلعين إلى الحرية، ممثَّلين في شخصيتي؛ وذلك بغرض إتْباع الإدارات التركية والإيرانية والعربية – التي تتضارب مصالحها في تسخير تلك التناقضات الناجمة عن تينك الأخطاء والنواقص الفادحة لصالح كيانات كُردِها هي، كلاً على حدة – بذاتها أكثر، وإلا فَشَلُّ تأثيراتها. وبينما يشكل الكيان الفيدرالي الكردي في شمال العراق أولى ثمار هذه التناقضات، فستتشكل كيانات أخرى لاحقاً. إذا ما أَسنَدَت إدارةُ تركيا ظهرَها إلى إيران وسوريا وبعض العرب العراقيين، ليتحاملوا سوية على الكرد؛ فإنها ستقع في المصيدة. إن ضيق وسخط الإيرانيين والعرب من الطرف التركي أمر معلوم، وله جذوره التاريخية. فإذا ما دُفِع الكردُ للتحامل على الأتراك، فستتأجج بعض المشاكل التاريخية مجدداً، ومن ضمنها أطماع العرب التاريخية الممتدة حتى إيونيا، أرمينيا، جورجيا، إيران وحتى سلاسل طوروس. وفي هذه الحالة سينحسر الأتراك إلى وضعيتهم التي كانوا عليها في القرن السادس عشر.
بينما تحاشى ياووز سليم هذا الخطر بسياسته الكردية، قام مصطفى كمال أتاتورك بعرقلته في العشرينات، في ضوء التحالف المبرَم مع الكرد بموجب علاقات الحرية. إن تاريخ الأتراك في بلاد الأناضول ذو روابط جدلية وطيدة للغاية بالعلاقات الكردية. وتمزيق هذه العلاقات وتحويلها إلى عداوة تامة، سيكلف الأتراك خسائر استراتيجية عظمى، سواء كانوا يدركون ذلك أم لا. كان للطرفين قصورهما وأخطاؤهما في التمردات الحاصلة. فالنزعتان القومويتان، البدائية والشوفينية، والتقاليد الإقطاعية الدينية، لم تكن في وضع يخوِّلها لتفَهُّم العلاقات الاستراتيجية وتطبيقها. ولدى المغالاة في الإبادة الكردية، شارفت العلاقات الاستراتيجية على حافة الفناء والزوال. وقد تنبه كل من مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو إلى الأمر في الآونة الأخيرة، ولكنهما عجزا عن تلافيه. كما أدى تعزيز الإقطاعية الكردية مجدداً فيما بعد عام 1950، مقابل إنكارها أصلها ونسبها، إلى ازدياد تحطم العلاقات الاستراتيجية وافتقادها معناها. أما ما بعد 1980، فاعتَبَرَت التركيبة التركية – الإسلامية، ذات الخاصية التركياتية والمزايا الدينية المفرطة، أن هذه العلاقات الاستراتيجية معدومة تماماً. مقابل هذا الوضع، أبدت القوى الغربية والدول الإقليمية سخطها التقليدي، بتغاضيها عن PKK. إلا أن جميعها – بما في ذلك الدعم الإيراني والسوري الأكيد – لعبت دورها في تأسيس الدولة الفيدرالية الكردية، لتخطو بذلك أهم الخطوات في سبيل بروز الألاعيب التاريخية إلى الميدان. إن الحركة الكردية المرتبطة بالقوموية، ستدمِّر العلاقات الاستراتيجية التقليدية القائمة مع الأتراك كلياً. فعلى سبيل المثال، ثمة الصراعات الإسرائيلية – الفلسطينية، الروسية – الشيشانية، واليوغسلافية في البلقان. إن السياسات اليومية الزائفة بعيدة كل البعد عن استيعاب حيوية العلاقة التاريخية. فبينما أعْمَت النزعات القوموية والدينية أعينهم جميعاً، أقحمتهم السمسرة الاقتصادية والسياسية في حال، يعجزون فيها حتى عن حساب يوم آخر للغد. وقد بذلتُ مساعي حثيثة بحق، كي لا أُستَغَل وPKK في هذه اللعبة.
ستتسارع المستجدات في المرحلة المقبلة ضمن إطار مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي. ولا زال غامضاً كون تركيا هدفاً فيه أم شريكاً. إنها – حسب الزعم – أقوى الشركاء في المشروع. وقد كثُر الحديث في التسعينات أيضاً عن الشراكة الاستراتيجية بينهما. أظن أن نتائجها كانت خير معلِّم. لن تستطيع تركيا مواصلة وضعها السابق، سواء كانت هدفاً أو شريكاً. فالإصرار على الوضع القديم يعني عراقاً ثانياً ويوغسلافيا ثانية. بيد أن الدولتين المذكورتين كانتا تعترفان بالكثير من الحقوق لشعبَيهما. أما القوالب الشوفينية في تركيا، فهي الأمتن على الإطلاق. وقد اقتات الشعب منها على مر سنين. وإذا ما استمر ذلك، فلا محال من الانكسار والتحطم. وقد كانت الاشتباكات مع PKK كافية لإظهار هذه الحقيقة. ستدمِّر الكياناتُ الكردية – التركية المشحونة بالنزعة القوموية، العلاقةَ الاستراتيجية التاريخية، وستحطمها إرباً إرباً. لقد طُوِّر هذا المخطط بقصد ووعي، اعتباراً من الخمسينات، على حد قناعتي. حيث صُعِّدت القوموية التركية أولاً إلى مرتبة الفاشية والنعرات الدينية بتأثير خارجي. وقد صُعِّدت قُبَيْل الحرب العالمية الأولى مرة ثانية، على شكل تيار تركياتي بحت، وآخر إسلامي بحت، وبتأثير خارجي أيضاً. وأفضل من أدرك هذه الحقيقة هو مصطفى كمال باشا، حيث أعاق هذين التيارين الأيديولوجيين، وقام بالانفتاح لوطنية مفتوحة للحرية.
دَمَّرت المؤثرات الاستفزازية في التمردات الكردية هذه السياسة والعلاقة الاستراتيجية بين الطرفين. ووقعت في اللعبة، ظناً منها أن النعرات القوموية المفرطة ستمحو وجود الكرد. لأجل ذلك قال شخص يدعى أبا القوموية المتطرفة مثل "كوك ألب gokalp" بأنْ "لاوجود للتركي بدون الكردي، ولا للكردي بدون التركي". تتحلى إعادة تحليل المواقف إزاء الكرد على ضوء المستجدات اللاحقة لأعوام الخمسينيات، بأهمية قصوى. أما ما بعد أعوام الألفين، فقد تسارعت النزعة القوموية الكردية، وبتأثير خارجي مرة أخرى. ورغم كل قصوره ونقصانه، إلا أن PKK غدا مؤثراً رئيسياً في إفساد هذه اللعبة بمواقفه الأممية إزاء شعوب المنطقة. لم يكن قبول أمريكا المباشر لـ"ارهابية PKK" إكراماً لعيون الأتراك، أو حباً فيهم. بل كان ادعاءً يرمي إلى تجذير الاشتباكات. ولو أن أمريكا والاتحاد الأوروبي فَعَلا لأجل القضية الكردية عُشْرَ أو 1% مما فعلاه لقبرص، لالتحقت تركيا أخرى بتركيا. لكنهما ابتعدا عن ذلك، وكأنهما مارسا سياسة لائقة بالحيوانات، تفيد بـ"اهرب يا أرنب، الحقه يا كلب". وتشبثت الأوساط الاقتصادية والسياسية الغارقة في السمسرة بهذه السياسة بأسنانها وأطرافها.
في هذه النقطة بالذات عُقِدَت الآمال مع تسليمي إلى تركيا على سلوكي مقاومةً فظة تودي بحياتي، لتلج العلاقات التركية – الكردية مرحلةَ انهيار كامل. كانت كل خيوط الحركة الكردية ستُجمَع في يد واحدة. وما كان سيحصل بعد ذلك، نستطيع اليوم الجزم به بصورة أوضح. فمهما تَكُن نوايا أمريكا والاتحاد الأوروبي حسنة، إلا أنهما كانا لن يتورعا عن مساندة النزعة القوموية الكردية إطلاقا. وإسرائيل في حاجة ماسة ومؤكدة لتلك النزعة في منطقة الشرق الأوسط. وبدونها سيعجز الغرب أيضاً عن إيصال الوزن العربي والإيراني والتركي إلى النقطة التي يشاء. وأسلوب استخدام PKK غدا مصيدة للطرفين المعنيين على السواء. أي أن الطرفين يتكبدان معاً خسائر فادحة في سياسة مطاردة كلب الصيد للأرنب الهارب. هذا ما حصل بعد عام 1925 أيضاً.
بات من الصعب الوقوف في وجه النزعة القوموية الكردية، بعد حصولها على تقنية مسلَّحة حديثة فيما بعد أعوام الألفين. قد يعجز الطرفان عن نيل النصر والمكاسب الاستراتيجية. لكن المؤكد هنا هو تكبدهما خسائر جسيمة. ومن سيبقى محرزاً النصر الأكيد، مثل كل مرة، هو القوى الإمبريالية. تُعَدُّ كلٌّ من النزعة القوموية الكردية من جهة، والإنكار الكردي وانتهاك حقوقه من جهة ثانية، مسؤولَيْن على السواء، وبالتساوي، في الوصول إلى هذا الوضع. ماذا ربحت الجمهورية التركية من إبقاء القضية الكردية عالقة بلا حل، طيلة خمس وسبعين عاماً؟ علاوة على أن السياسات الإنكارية في عصر التقنية الحديث _ دعك من كسبها ونجاحها _ ستمهد لنزاعات واشتباكات كردية – تركية متأججة تصاعدياً مع كل يوم. إن عدم رؤية ذلك يتطلب أن يكون المرء أعمى البصر. وقد تجلت المحصلات المؤسفة للاستناد إلى القوة العسكرية بكل سطوع في كل من الاتحاد السوفييتي والعراق. ومنذ الآن، غدت الأسفار صوب كردستان متكافئةً والأزمةَ الاقتصادية. سيؤدي إطالة عمر المشكلة الكردية، وإبقاؤها في حالة الاشتباك، وإقحامها في مرحلة حرب جديدة محتلمة؛ إلى دكّ دعائم إحدى أهم الركائز الركن للاستراتيجية، التي طالما مدت الأتراك بالحياة في بلاد الأناضول، طيلة ألف عام. أكررها ثانية، إن عدم رؤية ذلك يتطلب أن يكون المرء خائن وطنه، أو عدو شعبه.
يجب ألا يَعقِدَ أحد آماله على استسلام حركة تنامت كثمرة لمصاعب مريعة وجهود مضنية، بشكل تلقائي. وقد حفَّزتُ ذاتي وتنظيمي منذ عام 1998، بصبر عظيم وبسلوك أيديولوجي وسياسي شمولي، على اتباع أرفع المواقف إدراكاً ووعياً، لإكساب شعبنا وكل الأطراف والوطن برمته، النصرَ المراد. وبينما وجدتُ موقف الرفاق إيجابياً، فمن الضروري القول بأن الدولة – لن أقول أنها أهملت الأمر كلياً – بقيت بعيدة عن الاتسام بالقدرة على الحل. والبقاء في حالة الانتظار أكثر من ذلك، سيفرغ المرحلة من محتواها كلياً. لا يمكن لـPKK أن يترك كردستان لرجعية الدولة الستاتيكية الجامدة، ولا للقوموية البدائية. هذا ولم يصر PKK أبداً على أن تكون له دويلة. لكنه لم يتخلَّ قط – ولن يتخلى – عن مشروع "كردستان (وكردي) ديمقراطية وحرة". ما من شك في أن الحوار الديمقراطي سيُكوِّن العلاقة الأكثر تقدمية وقدرة على الحل في التاريخ. والضليعون بخفايا وأغوار التاريخ التركي والإيراني والعربي، سيجدون أن الوضعية في الشرق الأوسط أدنى على الدوام إلى الفيدرالية. أما السبيل الوحيد لعدم تمخض الفيدرالية عن الاشتباكات والصراعات العقيمة، فهو الديمقراطية التامة. وقد عجز التاريخ حتى الآن عن اكتشاف حل أكفأ وأقدر منها.
بمقدور تركيا أن تؤدي الدور الأمثل، لعدم دفع الكرد عموماً وحملة PKK على وجه الخصوص، إلى ألاعيب جديدة تحاك على المنطقة، ولعدم إقحامهم في أوضاع خطيرة. إن تأدية هذا الدور الأمثل هي أفضل ما يليق وينسجم مع تاريخها، وخاصة مع أصولها الاستراتيجية مع الكرد. لا اجتثاث الكرد من التاريخ أمر ممكن، ولا هو يدرُّ نفعاً على تركيا. بل على النقيض، فحياتية روابطهما موضوع لا يقبل الجدل. والانتظار أكثر بعد هذه النقطة، سيعني الاهتراء والنتونة، وتعرية أرضية العلاقة الإيجابية المحتملة بين الطرفين، وإفناءها. وفي حال عدم الحوار الديمقراطي، سيفضِّل الكرد حملة الحرية العظمى. أما عن مسار الحرب ووجهتها، فستحددها الأطراف المعنية ومواقف الأوساط الخارجية.
من الضروري دراسة المستجدات المحتملة، حين تتخبط تركيا في فوضى الشرق الأوسط دون حلها القضية الكردية. فمنذ الآن تتبدى بوادر تنازع ثلاث قوى على كردستان. أولها، أمريكا وإسرائيل والمتواطئون معهما من الكرد. ثانيها، القوى التركية والإيرانية والعربية القالبية، مع بضعة من الميليشيات الكردية والشرائح البورجوازية الكومبرادورية العشائرية المتواطئة. أما ثالثها، وهي الأرجح، فتتألف من الكادحين الفقراء والوطنيين والديمقراطيين من أبناء الشعب. هذه أول مرة يحصل فيها تمايز كهذا.
اضمحلال الكرد المتواطئين والمتحركين حسب الوضع القائم احتمال بارز. يمكن استخلاص حدوث مستجدات في هذا الاتجاه من أوضاع الكرد في العراق. فإذا لم تقم الإدارات التركية والإيرانية والعربية بالإصلاحات الكردية لديها، ستتطور مختلف أنواع التحالفات بين الكرد الوطنيين الديمقراطيين من جانب، والكرد المتواطئين مع الإمبريالية من جانب آخر، وعلى كافة الأصعدة. والمحصلة ستكون احتلال كافة الكرد أمكنتهم في الائتلاف بزعامة أمريكا. وإذا لم تَرَ (الإدارات التركية والإيرانية والعربية) إمكاناً للوفاق، فقد يُطوِّر الكرد الملتفون حول PKK أيضاً علاقاتهم مع قوى الائتلاف، في ضوء وقف إطلاق النار والحل الديمقراطي. وقد لحقت ضربة استراتيجية بارزة بالإدارة العراقية والعربية جراء هذه العلاقة. فما دمَّر العراق هو التحالف الأمريكي – الإسرائيلي – الكردي. وإرجاء تركيا الدائم للحل الكردي، قد ينمُّ عن محصلات، تضاهي ما كانت عليه في قبرص أضعافاً مضاعفة. أما نصيب الدول الغربية في نظام الامتيازات الأجنبية والودائع – لكتم صوتها – فلن يكون فعالاً في المرحلة الجديدة. أما تركيا ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير – وإن لم يكن مثل معاهدة سيفر الرسمية بعد الحرب العالمية الأولى – فلن تستمر في وضعيتها الجمهورية القالبية، كدولة قومية هي ثمرة التوازنات الداخلية والخارجية.
مؤكد أن تركيا تمر بمرحلة فوضى بَيْنِيَّة، ترتبط كيفية خروجها منها بالحسم السليم والصائب لوضعها الجديد. فإذا ما تعززت الحرب بدل الوفاق مع الكرد، فمن المحتمل حدوث ما يشابه الوضع في الفترة بين معاهدتَي سيفر ولوزان. في حين أن الحل الديمقراطي للقضية الكردية سيُزيد من احتمال لعب تركيا مع الكرد دوراً ريادياً في شرق أوسط ديمقراطي. وفي حال العكس، ستتفكك الأواصر الاستراتيجية التاريخية تماماً، لتتبدى تهلكة انحصارها – أي تركيا – في بلاد الأناضول الداخلية فحسب. وستحصل متغيرات – بطيئة حيناً وسريعة أحياناً أُخَر – في هذا المنحى في جدول أعمال تركيا على الدوام، سواء كانت تلك المتغيرات قصيرة أم متوسطة أم بعيدة المدى. في حين سيمهد تحديث الوفاق التركي – الكردي اللاحق للحرب العالمية الأولى، وفق أسس ديمقراطية (فالإقطاعية ونصف الإقطاعية – نصف البورجوازية مشحونة بالمخاطر الهالكة النابعة من القوموية) لنفاذ الطرفين المعنيين معاً من فوضى الشرق الأوسط بأقوى الأشكال، وبما يليق بالماضي العريق؛ ولكن على ضوء الوحدة الحرة الديمقراطية هذه المرة. وإلا، فلا مهرب من كردستانٍ كإسرائيلٍ ثانية.
خلاصة، تواجِه الدائرة العليا لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية مسألة سنّ قرار تاريخي ومصيري، يتيح المجال لقضاء عادل في محكمة مستقلة. وإذا كان ثمة دور يقع على كاهل القانون في إفساح المجال لحل ديمقراطي في القضية الكردية، فسيمر هذا الدور من إفساد المؤامرة السياسية وإفشالها. بهذه الوسيلة فقط سيتضح الجانب المتعلق بالسلام لقوانين الاتحاد الأوروبي. إذ يتوارى عدم تطبيق القوانين الأوروبية وراء المحاكمة الجارية في خضم ظروف ساحقة بهذا القدر.
لأجل هذا تم إخراج حادثة الاختطاف من إطار هذه القوانين. فحكاية الاختطاف، التي يمكن أن تكون موضوعاً روائياً، أبعد – في معناها – بكثير من أن تكون مسألة شخصية. حيث أُجرِيت صفقات كبيرة بين الدول الغربية وتركيا بصدد النضال التحرري للشعب الكردي، خلال الربع الأخير من القرن الأخير. وتم إسقاط هذا النضال، الذي عانى شعبنا خلاله من الفقر المدقع والآلام الأليمة، إلى مجرد إخلال بسيط بالحقوق الفردية، ممثلاً في ذاتي، وعلى نحو غير عادل إطلاقاً وبسيط جداً؛ وذلك بسبب أطماع نظام رأس المال المنفعية. وتسعى كل من الجمهورية التركية والاتحاد الأوروبي إلى الوفاق مجدداً بناء على هذه الخلفية. أما الخاسر الحقيقي، فسيكون الشعب الكردي (ممثلاً في شخصي). من المهم بمكان ألا تصبح محكمة حقوق الإنسان الأوروبية آلة بيد هذه اللعبة. بأية ذريعة قانونية تُطالَب تركيا بإجراء قضاء عادل ومستقل، بينما يتجلى مدى وكيفية التلاعب بشأن إرادتي بكل سطوع؟ إن معاملة كهذه لا تُطَبَّق حتى على حيوانات الكابيا*.
الجميع على علم بأن المحاكمة المجراة على الكرد، خاصة في تركيا، إنما أُجرِيَت بالأوامر العلوية. فمؤسسة القضاء تتصدر البؤر الفاشية، ولا تتحلى بأية سمة قانونية بسيطة، بسبب مسارها المتَّبَع تجاه الكرد. لذا، فانتظار قضاء حيادي وعادل من مؤسسة كهذه، هو إهانة لي ولشعبي. إذ لا يُعتَرَف أبداً باسمنا وبثقافتنا ووجودنا. فالقانون ينفي وجود الكرد والكردياتية. فكيف يمكن ارتجاء قضاء عادل وحيادي، بينما يكون واقع القانون في تركيا هكذا؟
لم أُعتَقَل بموجب القوانين الدولية. أفهل استسلمتُ لتركيا بمحض إرادتي في ساحة القانون الأوروبي؟ كيف تعجز الدائرة الأولى لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية عن تحديد ماهية الاختطاف، باتباعها أكثر الأساليب سفالة ودناءة؛ رغم أن الاختطاف حقيقة رآها حتى الأطفال؟. لا يتبقى هنا سوى خيار واحد للإيضاح: إن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية تدفع ديونها باسم النظام القائم، مقابل المنافع والأرباح التي جناها رأس المال الأوروبي من تركيا، في حرب الصهر الدائرة على الشعب الكردي، منذ ما يناهز العشرين عاماً.
يتسم قرار الدائرة الأولى لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية هنا بكونه غير عادل حقاً، ويوصد الأبواب أمام قضاء حيادي مستقل. على الدائرة العليا لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن تُبطِل هذا القرار، وتطعن فيه، لتؤدي متطلبات معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية. حينها فقط سيُفسَح المجال أمام قضاء حيادي وعادل بحق، وستتولَّد إمكانية تلافي الخسائر الجسيمة والآلام الكبرى التي عاناها الشعب الكردي، ولو بمقدار ضئيل جداً. ووقتئذ فقط، ستَلِدُ فرصة حقيقية لتكون تركيا دولة ممتثلة للقانون على طريق الاتحاد الأوروبي. وتركيا الملتزمة بالقانون الأوروبي، ستكون صمام الأمان للسلام. كل هذه الدوافع والذرائع ستبرهن على أن الاتحاد الأوروبي – الذي يَعتَرِف بالسلم وحقوق الإنسان كأسمى الفضائل على الإطلاق، والذي تكوَّن حصيلة تقديم النقد الذاتي إزاء الماضي الأوروبي المليء بالحروب – إنما هو قلعة القانون والديمقراطية التي لا تتزعزع.

shiyar
04/04/2007, 11:07 PM
الـدفـاع عـن شعـب
(المرافعة المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية)
عبد الله أوج آلان
+++++++++++++++++++++++++++
الفـصـل السـادس

دور محكمة حقوق الإنسان الأوروبية
والاتحاد الأوروبي في دعوى عبدالله أوج آلان

سيؤدي التحليل السليم لحكاية صلب سيدنا عيسى دوراً هاماً في تنوير دعواي، باعتبارها إحدى أهم العوامل المؤثرة في الحضارة الأوروبية. ما يهمنا هنا هو مضمون الحكاية، أكثر من شكل حدوثها. وإذا ما تفحصنا المأثورات الأدبية المتناولة لهذا الموضوع من الناحية السوسيولوجية، وفي مقدمتها الإنجيل، سنرى أن الرأي المُجمَع عليه يشير إلى ارتكاز القوة والثقافة المرمَز إليها في شخصية سيدنا عيسى، إلى التباينات والفروقات الاجتماعية المتسارعة في ذاك الوقت. فمن جهة ثمة قوى أرستقراطية وبيروقراطية تقليدية ملتفة حول الإمبراطورية الرومانية المتنامية بسرعة ملحوظة في المنطقة، ومن جهة ثانية ثمة عالم الفقراء الذي يتعاظم بنفس الدرجة، والمؤلَّف من مختلف الثقافات والشعوب الموجودة. كانت القدس آنذاك في صدارة أهم المراكز في شرقي البحر الأبيض المتوسط. وكان قد طرأ التمايز الاجتماعي على القبائل العبرانية ذات التاريخ الغائر. وكانت اليهودية عبارة عن مَلَكية عبرية صغرى، تتخذ القدس مركزاً لها، وتشهد انقسام رجال الدين كجزء من ظاهرة التمايز الاجتماعي. في حين تميزت الطبقة العليا للمَلَكية ورجال الدين بتكامل رصين فيما بينها. لكنها قبلت بالتواطؤ مع الإمبراطورية الرومانية، بعد حكاية طويلة الأمد من المقاومة والتصدي.
وقد عصفت أهواء التمردات الواسعة في هذه الحالة، بحيث ولَّدَت العديد من المعارضات، وعلى رأسها معارضات الأسنيين. يعد سيدنا يحيى الرأسَ الزعيم لهذه الطريقة الدينية، حيث يناهض بلا هوادة المتواطئين مع المَلكية اليهودية. ولكنْ، يُقطَع رأسه فيما بعد، حصيلة دسائس ومكائد "الربجانيين Rebcanli " داخل المَلَكية، ليقدَّم قرباناً إلى الأوساط التي أفسد مصالحها ودمرها. لقد برز سيدنا عيسى كخليفة لسيدنا يحيى، قبل قتله. لذا، وقعت مسؤولية زعامة السخط الاجتماعي الظاهر على عاتقه، بعد موت سيدنا يحيى. إنه كان يسيِّر صراعاً في فحوى نضاله، ولكنْ على شكل طريقة دينية للفقراء.
في الحقيقة، فقد تشكلت بذلك حلقة هامة من سلسلة تقاليد النبوة الشائعة في تلك الحقبة. يكمن الفرق في هذه الطريقة في أنها _ ولأول مرة _ انفصلت عن الجماعة اليهودية، لتصبح ممثلة وناطقة باسم كافة الشعوب. إنها، بمعنى من معانيها، تمثل الأممية تجاه النزعة القوموية اليهودية. وقد خَلَقَت كوسموبوليتيةُ روما بالأصل، الأرضيةَ الموضوعية اللازمة لذلك. فالشعوب الشرق أوسطية تختمر ثانية في ظل الهيمنة الرومانية. ويتولد حزبان مختلفان للفقراء والأغنياء. كانت المَلَكية اليهودية قد شهدت شبيه هذا الانقسام في العهد الهيليني، على شكل الصادوقيين والفَريسيين. لكن هذه التقاليد كانت اخترقت نطاق القوم اليهودي، لأول مرة، على يد سيدنا عيسى، لتناشد الفقراء من مختلف الأقوام وتناديها. بالمقابل، يطالِب كهنة يهوذا البارزون المصابون بالذعر والفزع جراء ذلك، واليَ روما "بلاتوس" بمعاقبة سيدنا عيسى. ورغم عدم جنوح بلاتوس بدايةً لقبول ذلك، إلا إنه رضخ لتلك المطالب في النهاية، تحت ضغط المتواطئين اليهود وغلبتهم، وقبِل بصلبه حصيلة المصالح المشتركة.
كلنا على علم بماهية الدين الذي تمخض في ما بعد، من حكاية الحواريين والقِدِّيسين والقِدِّيسات. كان الإغريق من أكثر الأقوام المعتنقة لهذا الدين الجديد، نتيجة سخطهم على روما؛ ليطوروا بذلك مقاومة دينية قومية تجاهها. ويدخلون بلاد الأناضول وشبه الجزيرة الإغريقية على وجه الخصوص، عبر هذا الدين الجديد، ليحتلوا أماكنهم داخل الإمبراطورية، ويشاطروا الإمبراطور قسطنطين شؤون الدولة، ويلَقِّبوا روما الشرقية باسم البيزنطيين. كذلك تواجَدَ الآشوريون، الذين كانوا إحدى أبرز الأقوام قوة وثقافة في تلك الحقبة، والذين عُرِفوا بالسريانيين، حيث قاموا بإصلاحات ثقافية عظمى مع اعتناق الدين الجديد، في شرقي الإمبراطورية على وجه التخصيص. وتميزوا آنذاك بمكانة متينة ومرموقة ضمن الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية. وتحول الدين، خلال القرون الثلاثة اللاحقة لسيدنا عيسى، إلى أيديولوجية رسمية للدولة المعنية، وقاعدة للجماهير الملتفة حوله، حصيلة مبادرة الأساقفة اليونان ومساعيهم العظمى؛ لتصبح الديانة المسيحية، مع الإصلاحات الجارية، إحدى أبرز الأيديولوجيات في ميلاد العهد الرأسمالي الجديد، بعد أن كانت غطاء أيديولوجياً أولياً للإقطاعية الأوروبية أيضاً، في العصور الوسطى.
السؤال الذي بحثتُ عن ردٍّ له من خلال هذا الشرح المقتضب هو، مَن أراق دم سيدنا عيسى ليشربه كالشراب ويصبح دنيوياً؟ إنها الحضارة الغربية بذاتها. لقد أراقت الإمبراطورية الرومانية دم سيدنا عيسى كمَلَكية دنيوية للحضارة الغربية، في حين أن مؤسسة البابوية جعلَت منه شراباً ترتوي به، لتغدو مَلَكية معنوية وأُخرَوية، وتشكِّل بذلك أهم القيم المعنوية للحضارة الأوروبية.
أما سيدنا عيسى، والفقراء والناسكون الزاهدون وأتباعهم؛ فكان لهم النصيب الأكبر من العذابات الأليمة، والملاحقات وعمليات القتل. إذا ما حللنا هذه التطورات المكوِّنة لركائز الحضارة الغربية، سنرى أن هذا النظام هو قاتل ضحيته من جهة، والمبشِّر والسامي بها من جهة أخرى.
تكمن أهم التناقضات في الحضارة الغربية في هذه الحقيقة. بيد أن الكاتب والأديب الروسي الشهير "دوستوفسكي" يسهب في رواياته، بكل عمق، في كيفية إعادة صلب سيدنا عيسى مجدداً، على يد المطارنة المغترِبين عن جوهر سيدنا المسيح. وبينما يعبد المقتولون قَتَلَتَهم في بعض الحالات، نرى في الحضارة الغربية أن القاتل يعبد ضحاياه ومقتوليه. في الحقيقة، لا يمكن عزو هذه الواقعة إلى الحضارة الغربية، وحصرها بها فحسب. ذلك أن كافة الأنظمة المهيمنة والاستغلالية تقتات من دماء وعرق جبين مغدوريها. وكافة صراعات وحروب الشعوب، إنما هي حكاية الخلاص من هذه الوقائع. إلا أن هذه الحكايات لا تنجو في نهاية المآل من رفع منزلة أسيادها والسمو بهم.
وأنا أحد الذين أُقحِموا في مرحلة مشابهة لحكاية سيدنا عيسى، وفي بقعة قريبة من مكانه وثقافته، بعد مرور ألفي عام بالتمام عليها. وفي هذه المرحلة حلَّت أمريكا محل روما، باعتبارها القوة الإمبراطورية للحضارة الغربية. وبينما كانت روما قوة مولِّدة للحضارة الغربية، فأمريكا أقرب إلى أن تكون القوة القاضية عليها. وهي _ أي أمريكا _ تنتشر في منطقة الشرق الأوسط بسرعة، تماماً مثلما فعلت روما. وهي أيضاً بحاجة ماسة للمتواطئين معها. في حين يشهد مجتمع الشرق الأوسط، مرة أخرى، تمايزاً سريعاً على نحو ثنائية "الأغنياء _ الفقراء". وتولَّدت العديد من أحزاب الفقراء، إلى جانب أحزاب الأغنياء المتواطئة. لكن أشد شعوب المنطقة فقراً هذه المرة هم الكرد، حيث يعانون من قمع مشدَّد ومضاعَف. لا أقصد هنا أنني أستلطف أو أحبذ التشبُّه بأحد ومحاكاته. إلا أن طراز ولادتي وتكوُّني، وُلوجي داخل النظام، ومعارضتي إياه، وأسلوب اعتقالي؛ كل ذلك قريب، شكلاً ومضموناً، من حكاية سيدنا عيسى. فالكل يدرك أني اعتمدتُ أساساً على أشد شعوب الشرق الأوسط فقراً كقاعدة وركيزة. وبحثي عن الأيديولوجية الجديدة والعقلية الحديثة أمر بارز تماماً. وقد تشكلت جماعات مرتبطة بي لأبعد الحدود، مما زاد ذلك من سخط ونقمة الإمبراطورية الرومانية الجديدة _ أمريكا _ والمتواطئين معها. هذا بالإضافة إلى أن الدولة اليهودية هي من أقرب حلفائها إليها. وثمة موالون شديدون لها بين صفوف الإغريق أيضاً. فالإغريقي "كلاندريس"، صاحب الخيانة القاضية والمميتة _ تماماً مثلما يهوذا الإسخريوطي _ يتظاهر بتعاطفه ومؤازرته الحميمة. من جانب آخر، فإن تعاظم الفقراء الكرد يقضُّ مضاجع الملوك الصغار للمَلَكية اليهودية الكردية، ويُفزِعُهم. كل المتواطئين يحسون بحاجة ماسة لإحكام أوضاعهم في المنطقة وتمتينها. ذلك أن وضعيتي الأيديولوجية والسياسية تزعجهم أشد إزعاج. والمصالح ملائمة لأقصى حد لحبك المؤامرة إزائي، ليطول عمر استبدادهم، ولو قليلاً.
قُدِّمَ "ساينت باول" – أحد أكبر الحواريين – قرباناً مرة أو اثنتين على الأقل. أي أن روما أبدت تسامحها نوعاً ما. أما بالنسبة لي، فقد اختُطِفْتُ واعتُقِلْتُ في أول سفرة لي إلى أوروبا. لا داعي للإسهاب في كتابة هذه الحكاية. لكني جُبْتُ جميع مراكز المذاهب الموجودة. وعندما جَسَسْتُ نبض مركز أثينا للإغريق بدايةً، ومن ثم مركز موسكو للروس، ومركز روما للاتينيين، على الصعيد الرسمي؛ أدركتُ أنْ لا مكان لي في خضم حسابات المصالح الجليدية. كان مستحيلاً عليَّ الخلاص من دفع فاتورة مرض ممارسة السياسة المستندة إلى الدول بشكل باهظ، وإنْ كان مرضاً شكلياً، لا جوهرياً. لقد كانوا يبينون، بكل سطوع، مدى بخس قيمة الأيديولوجيات والصداقات، إزاء المصالح والمنافع. كما زخرف المال أفكارهم وعقائدهم منذ زمن بعيد. وكانوا سيُبدون الكفاءة والمهارة الخارقة في التصرف حسب متطلبات مصالح النقد (المال) المزركشة، وبأساليب المؤامرات والمكائد، التي هم خبيرون بها للغاية.
كانت روما هي السلطة البارزة في عهد سيدنا عيسى. حيث لولاها لما اعتُقِل عيسى، ولا صُلِب. أما السلطة البارزة في اعتقالي أنا، فهي أمريكا. إذ يستحيل التفكير في اعتقالي لولاها. أما الدور المنوط بالإداريين الأتراك، فلم يذهب أبعد من الجلاّد والسجّان. وفيما يتعلق بالدور المناط بالاتحاد الأوروبي، فقد تجسد في النطق بالكلمة الأخيرة الفصل في القضاء، باعتبارها السلطة القانونية للحضارة الغربية. بالمقدور تجسيد وتبيان الروابط القائمة بين هذه العلاقات التي طرحناها بخطوطها العريضة، على نحو ملموس أكثر.
الإمبراطورية البيزنطية أدنى إلى قوة الإمبراطورية الشرقية منها إلى الغربية. أما فيما يخص ترسُّخ الحروب الصليبية في الشرق، فقد كان أمراً مستحيلاً، نتيجة توازنات القوى التي كانت سائدة أيام الحضارة الإقطاعية. كان من الصعب عليها النجاة من الانحلال والزوال بعد عهد الاسكندر، مثلما حلَّ بالحضارة الهيلينية. أما أول هجوم ملموم الشمل شُنَّ في ضوء الرأسمالية المتعاظمة، فكان على يد نابليون عام 1798، تجاه الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشكل عقبة في طريقه.
كلما وطَّد النظام الرأسمالي مكانه كقوة مهيمنة جديدة، كان سيغدو مركزاً للحضارة الأوروبية. فالتفوق كان في أوروبا بكل تأكيد. في حين أن السلاطنة العرب الممثلون للحضارة الشرقية، وعندما طُرِدوا نهائياً من إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر، كانوا سيَدخُلون مرحلةَ تراجع سريع، بعد أن خرج العثمانيون بهزيمة نكراء من حصار فيينا الثاني عام 1683. وغدا التماسك والثبات مستحيلاً أمام حضارة أوروبا المتعاظمة، وفات أوانه منذ زمن بعيد. وبانهزام نابليون أضحت إنكلترا القوة المتقدمة للحضارة. وباشرت الإمبراطورية الإنكليزية بالتحامل على منطقة الشرق الأوسط، اعتباراً من أعوام 1800، ليقينها بأن الهيمنة على العالم تمر من هذه المنقطة. أما الإمبراطورية العثمانية المحصورة بين فكَّي روسيا القيصرية في الشمال، والإمبراطورية الإنكليزية في الجنوب؛ فكانت ستَتَّبِع سياسة التوازنات المعروفة، لتطيل من عمرها قرناً آخر من الزمن. الأمر المهم هنا يكمن في التطورات المتعلقة بضحايا سياسة التوازنات تلك. فبينما عانت أهم ثلاثة أقوام تاريخية من التصفية بنسبة هامة في خضم ألاعيب هذه التوازنات، ألا وهي الإيونيون في الأناضول، والأرمن في شرقي الأناضول وكيليكيا، والآشوريون في ميزوبوتاميا؛ تمكَّن الكرد من الحفاظ على وجودهم الجسدي، لا غير.
من جانب آخر، سعَت كلٌّ من إنكلترا وفرنسا وروسيا، الهارعة لبسط نفوذها الحديث العهد على المنطقة، إلى استخدام شعوبها التي ذكرناها آنفاً، كوسيلة ضغط وتهديد لاقتطاع التنازلات من العثمانيين. كانت اعتَبَرت حسابات المنفعة المادية للرأسمالية أعلى مرتبةً من ثقافات تلك الشعوب المعمِّرة آلافاً من السنين. وكلما تراجع الأتراك العثمانيون وانحسروا، كانوا يبحثون عن أسباب ذلك في تلك الشعوب، ليكتموا أنفاسها أكثر فأكثر. وعندما نصل إلى الحرب العالمية الأولى، سنرى أن نواقيس الخطر في التاريخ تدق مدوية. وبينما كان الإيونيون والأرمن والآشوريون يحتضرون تحت أنقاض الإمبراطورية، تمكَّن الكرد من الحفاظ على وجودهم الجسدي فحسب، في أحضان جبالهم الوعرة. وبينما انتهت المنازعات المحتدمة بين السلاطنة الأتراك من جهة، والإقطاعيين الأوروبيين وقوى الدول الرأسمالية من جهة ثانية، بالتفوق الأوروبي، بعد أن استمرت زهاء ثمانية قرون؛ كانت ستخلِّف وراءها ضحايا حزينة شجينة. لكن المؤرخين لا يتداولون الأسباب والنتائج الحقيقية لحكاية تلك الضحايا المحزنة، لأنهم بذلك سيَرَون وجوههم القبيحة والقاتلة في مرآة تلك الحقائق.
إن الدول الأوروبية العظمى هي المسؤول الأساسي والمصيري عن كل المجريات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في القرنين الأخيرين. فسابقاً أيضاً كانت هناك الشعوب ذاتها. حيث كانت _ بأقل تقدير _ مرتاحة وآمنة ثقافياً، وغنية اقتصادياً، عبر التوازنات التي أسستها داخل الإمبراطورية. ولم تكن أقل منزلة من الأتراك على الصعيد السياسي. لكن ثقتها بأوروبا، وحساباتها غير الواقعية لتكوين الدولة، جعلَتْها تقوم بأكبر لعبة قمار، وتصبح ألعوبة فيها في نفس الوقت. وتكبدت الخسائر الفادحة، ولم تترك وراءها سوى بقايا أصحاب السيوف النازحين صوب الغرب، والمتجهين نحو أوروبا وأمريكا، محاولين بذلك العيش بيوتوبياهم في "الأراضي المقدسة الموعودة".
نشهد في يومنا تسارع بعض المحاولات في بلدان أمريكا والاتحاد الأوروبي، والشبيهة بالانطلاقات التي قام بها اليهود في المؤتمر الصهيوني المنعقد عام 1896. وقد يعقدون آمالهم على مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي. لقد مهد احتلال العراق لمرحلة جديدة هائجة. والكرد هم أقرب المرشحين ليكونوا الحليف السليم والأمين لهذا المشروع. الهدف هو تغيير البنية التحتية الاقتصادية والبنية العلوية العقلية والسياسية، التي تشكل خطراً وعائقاً أمام وجود إسرائيل والنظام الرأسمالي في المنطقة. وهيئة الأمم المتحدة وحلف الناتو مكلفان بلعب دور القوة الديبلوماسية والعسكرية الفعالة في المشروع، باعتبارهما قوتان منظمتان للنظام ومنسقتان إياه. فمجموعة الدول الثمانية (G _ 8) لن تقي القوة الاقتصادية أو تحميها.
تكمن المعضلة الأساسية في كيفية مواجهة تركيا، صاحبة الميراث العثماني، لهذه المرحلة. فلا الشروط الداخلية، ولا الخارجية، مساعدة لبدء مرحلة تحرر وطني ثانية. في حين أن مقاومتها للنظام لن تحرز نصراً أكبر مما أحرزه العراق أو يوغسلافيا، أو حتى روسيا. أما الاستسلام التام، فلا يتوافق وطموحاتها. ولا يمكن مواصلة شروط التحالف، مثلما كانت عليه بعد الخمسينات. ما يتبقى من الأمر هو مرحلة الإصلاح. لكنها تفتقر إلى الإرادة اللازمة للبدء بها. لذا، فهي تلجأ إلى الزحف قدر الإمكان، كسياسة أساسية. أي أن الجمهورية التركية تسعى لحماية ذاتها بعقلية متزمتة لأبعد الحدود، تظن بها أن كل يوم تعيشه في الوضع القائم هو مكسب لها. إنها فترة مشابهة بدرجة قصوى لأواخر عهد الإمبراطورية العثمانية.
أما المؤامرة المحاكة ضدي، فقد تحققت في ظل الظروف التي مرت بها الجمهورية التركية. وبدون الإدراك التام للوجه الخفي للمؤامرة، والأطراف المشاركة فيها، لا يمكن النوء إطلاقاً عن عبء أية مشكلة، ولا القيام بأية تحليلات أو شروح سليمة بصدد عاقبة الجمهورية التركية.
رغم النواقص والأخطاء الجدية البارزة، إلا أنه لا يمكن إنكار تجسيدي لانطلاقة ديمقراطية عظمى باسم كافة الشعوب عموماً، والشعب الكردستاني على وجه الخصوص. إذ من الساطع سطوع النهار محاولتي في تطوير تنظيم العقلية حتى عملية 15 آب. ومن الضروري القبول بأني اضطُرِرتُ للقيام بذلك، كحِبكة أو نسيج مختلط من تيارَي الاشتراكية المشيدة والتحرر الوطني، لعجزي عن الانطلاق به إلى سوية أكثر رفعة. تُعتَبَر الأعوام الخمسة عشر، المتراوحة بين 15 آب 1984 و15 شباط 1999، مرحلةَ عمليةِ تنظيم الذهنية وتطبيقها. أي أنها الفترة التي برزت فيها العملية، وأفصحت عن الممارسة العملية بأفضل أشكالها. وقد تجلى تعريفي لذاتي بشكل أوضح وأفضل مع مرحلة الممارسة العملية تلك. إذ يمكن القول، من خلال الحقيقة الظاهراتية التي مثلتُها، بأني اختبرتُ المشاكل وإمكانيات الحل لدى الفرد بصددها. لكن، عندما أقول "أنا"، فمن الضروري عدم الجنوح إلى المبالغة. فأنا مجرد وسيلة. أما ما برز إلى الوسط، فهو الشعب المنتسب لواقع اجتماعي مكبوت منذ آلاف السنين. ورغم تحليلي الفائق الجودة للألوهية، إلا أن المصطلحات الفنية التي استخدمتُها، كانت أقرب إلى العلمية.
ما ظهر للعيان كان بدء ضيق الذرع والسخط البليغ لأصحاب التواطؤ (بدءاً من العلاقة الكامنة بين كلكامش وأنكيدو، حتى الأعيان البارزين إلى الميدان)، و"الفاتحين" بدرجة كبرى، إزاء واقع الشعب الكردستاني البارز إلى الوسط، رغم استثمارهم إياه آلافاً من السنين. حيث بدؤوا مرحلة معاهدة أنقرة – واشنطن في 1998 تحت شمسية أمريكا، القوة الإمبراطورية في راهننا. واتفقوا على صياغة برنامج سياسي يعني فيما يعنيه تأسيس الدولة الكردستانية الفيدرالية. ورأى ذاك البرنامج النور تحت وصاية إدارة أنقرة وحمايتها. والمقابل، كان إصدار حكم مشترك بحق رأس عبد الله أوج آلان و"إرهابية" PKK. يفيد هذا الحكم موضوعياً بـ"التصفية والإبادة". ورغم التحفظ على الأمر وسريته، إلا أن أي محلِّل سياسي حاذق ودقيق، كان لن يرى صعوبة في ملاحظة أن المعاهدة (المبرمة في أنقرة – واشنطن في 17 أيلول 1998) مليئة بالتناقضات، ولا تذهب أبعد من كونها تقرباً تكتيكياً تسعى من خلاله الأطراف المعنية إلى خداع بعضها البعض. لقد تسارعت وتيرة رسم الطوق وحركات المراقبة والاقتفاء المتعاظمة على عبد الله أوج آلان على الصعيد العالمي، مع تلك المعاهدة. وأبدى جناح واحد – بأقل تقدير – في أمريكا عزمه الأكيد في ذلك. كما ولليمين الإسرائيلي أيضاً نصيبه الوافر من المساندة والإصرار المفروض. إذ، وبينما رسمت إنكلترا مخططاً بارعاً لذلك، أبدى الموساد الإسرائيلي مساهمته في المخطط، عبر نشاطاته في العمالة الحسنة. وقد طُرِحَ المخطط التآمري الأخير هذا، بعد برم الاتفاقية العسكرية والاقتصادية مع الإدارة الإسرائيلية، بعد حادثة الانفجار المدمِّر الذي أطاح بالأبنية الموجودة عبر السيارة المفخخة المحمَّلة بألف كيلو من القنابل الملغَّمة (الديناميت) في 6 أيار 1996 في مدينة دمشق؛ والذي استدانت رئيسة الوزراء التركية تانسو جيللر خمسين (50) مليوناً من الدولارات لأجل تنفيذه. وتقدَّمَت الأمور خطوة أخرى، مع الحديث الذي أدلاه رئيس القوات البرية التركية، موجهاً إياه إلى سوريا في 17 أيلول من نفس العام؛ والذي كان بمثابة إنذار لاذع لها. ولدى طرح مسألة الحرب مع سوريا في الميدان، لم نرَ من الإدارة السورية سوى تصرفاً أشادت فيه بالقول لي: "اذهب حيثما شئت".
عزمتُ على "مجازفة أثينا"، بعد النداء الذي يمكن نعته بالدعوة نصف الرسمية، والذي عجزنا عن فهم خفاياه بشكل تام حتى الآن. كان خيالي هو التوجه نحو جبال الوطن. غير أني أجَّلتُ هذا السفر، تحسباً لما قد يتمخض عنه من موت الآلاف بسببي. وفكرتُ بأنه من الأنسب تجربة فرصة الحل السياسي في أوروبا. وقد نضجَت قناعتي تلك وبرزت أكثر، لدى إبلاغ تنظيمنا في أوروبا إياي ببضعة معلومات (اعتقدتُ بأنها من مصدر عسكري) منذ 1997. لكن مَن استقبلني في أثينا لم يكونوا أناساً من الأصدقاء الحقيقيين، بل كانت المومس الفاجرة "أتينا Athena" الميثولوجية المخلوقة من جبين إله الذكور زيوس، والتي دفعت بهيكتور، بطل طروادة الشهير، إلى حرب خاطئة لا جدوى منها. لقد أرغمني ذلك على خوض الحرب مع كافة القوى الحضارية ذات العقلية المنفعية، في ساحة مميتة وقاضية. أما المقابل – حسب الزعم – فكان الحظي بطروادة (بلاد الأناضول) وقبرص. أو على الأقل، كانت ستتولَّد الإمكانيات السياسية اللازمة في هذا الاتجاه. كان من المحال على أصحاب النهج الأيديولوجي الاشتراكي المشيد والتحرري الوطني الشائع في القرن العشرين، والذين اقتاتوا منه مثلما هي حالي أيضاً؛ أن يفكوا رموز هذه المكيدة. وماذا كان بوسع حِكمة وبسالة الشرق الأوسط فعله، إزاء تقاليد الدولة اليونانية المتشربة بدسائس "أتينا" (الميثولوجية) البالغة الشهرة عبر التاريخ، والتي طالما تطرق إليها كل من نابليون والإسكندر؟.
يرتكز الموضوع الرئيسي الواجب انتقاده في مرحلة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية من دعواي، إلى العلاقة الكامنة بين الفرد والمجتمع. إذ تكتسب المجتمعية أولوية بارزة في تطور الجنس البشري، وقد تناولتُ ذلك بإسهاب في الفصل الأول من مرافعتي. كل تعاريف "الفرد" غير المستندة إلى المجتمعية، ليست سوى زيفاً ورياء. يعتمد الجانب المهيمن في المجتمعات الشرقية أساساً على المجتمعية باستمرار. إنه موقف مرتبط بقِدَم تلك المجتمعات الغابر ومسار تطورها. في حين أن الفردية هي الغالبة في ولادة الحضارة الغربية. إذ لم تتناقص حدة التطلعات الفردية إطلاقاً، سواء في أيام روما الإغريقية، أو في شروحات الديانة المسيحية وتفاسيرها في العصور الوسطى لاحقاً. أما في فترة الإصلاح وما بعدها، فكأن الفردية شهدت ثورة تاريخية من تطورها. حيث، وعبر حركات النهضة والإصلاح والتنوير والثورة العلمية المتعاقبة على التوالي، مُزِّقت المجتمعية – المتعاظمة بإفراط في المجتمعات الشرقية، والخانقة للفرد على مر آلاف السنين – إرباً إرباً؛ لتسود مرحلة من التوازن بين الفرد والمجتمع، أعقبها تصاعد مغالى فيه للفرد في القرنين التاسع عشر والعشرين.
طبعت الفردية عصرنا بطابعها، وتوارت في هذه المرة وراء المرض المتفاقم بشكل مفرط، والذي نخر في جسد المجتمع. وكأن التوازن السليم بين الفرد والمجتمع لصالح الفرد، أصبح هذياناً وهراء. ونُظِر إلى المجتمعية على أنها عبودية. إن هذا النوع من الفردية هو، في الحقيقة، أشبه بحيوانية ما بعد الحداثة، وبنوع من التحول مجدداً إلى فصيلة الحيوانات الثديية البدائية؛ ولكن، بأبعاد أعلى وحسب الظروف الحديثة.
إن انعكاس حق تقديم "الطلب الفردي" فحسب على محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، يفيد بانعكاس هذا المرض على الساحة القانونية. ذلك أن النظر إلى الفرد المجتمعي بكل معنى الكلمة، والواهب كل ما لديه بموجب ذلك، على أنه منفصل عن مجتمعه وإرادة شعبه؛ إنما هو مكيدة قانونية بحتة. وهو منافٍ كلياً لمفهوم العدالة كركيزة للقانون. هذا علاوة على أنه آلة لمواراة الحقيقة السياسية الهامة الموجودة، سواء بوعي أو بدونه. كما أنه يُبقي على الحركة السياسية الحرة للشعب الكردي خارج إطار القانون. إن الاتحاد الأوروبي، وبتهميشه لأحقية حركة الحرية الكردية؛ يمهد السبيل لإخفاء مسؤولياته إزاء الشعب الكردي والنوء عنها. تتبدى هذه الحقيقة بوضوح أكبر في دعوى ليلى زانا وأصدقائها. ذلك أنه – الاتحاد الأوروبي – يسعى لتمييزهم عن المعتقلين داخل السجون وخارجها (الذين يُعتَبَرون يَحيَون في معتقلات بلا أسقُف أو سطوح) من أبناء الشعب الكردي، ليُنقِذ بذلك حقوق الإنسان (حسب مزاعمه). وانطلاقاً من دعواي، من المحال عليَّ تَقَبُّل أو هضم هذه المكيدة النابعة من الحضارة الأوروبية. بل ما أنتظره هو الإقرار بقبول التوازن بين الفرد والمجتمع.
لم تتقبل محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في قرارها الصادر بتاريخ 6 أيار 2003 القرار الصادر عن محكمة الأمن في دولة تركيا، بذريعة أن "المحكمة ليست مستقلة، وأنا لم أُحاكَم بعدالة". مقابل ذلك، صرَّحت المحكمة اللامستقلة واللاعادلة في قرارها، عن رأيها بأن الإتيان بي إليها حصيلة المؤامرة الأشمل على الإطلاق في القرن العشرين، إنما يوائم القانون ويناسبه. هذا الرأي (أو القرار) هو ذو مضمون سياسي بحت، وامتداد للمؤامرة بحد ذاتها؛ وقد حُدِّد سلفاً كجزء من المخطط المرسوم.
ورغم أن اختطافي ينافي تماماً المادة (5/2) من مواد معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية، وأن إعادتي إلى المكان الذي جُلِبتُ منه هي من ضرورات وشروط القانون والمعاهدة؛ إلا أن عدم سماع إفادتي يبيِّن بجلاء الحكمَ الصادر بحقي سلفاً. ثمة آلاف الأدلة – وليس دليلاً واحداً فحسب – التي تُدين باختطافي. الأهم من ذلك أنني اختُطِفتُ من بقعةٍ يتوجب اعتبارها من الأراضي الأوروبية. على الدائرة العليا (محكمة حقوق الإنسان الأوروبية) أن تقوم بسماع إفادتي، إن كانت تود احترام الحقيقة. وإن كانت لا ترى داعياً لذلك، فعليها أن تطالب بسماع آراء الشهود ديلان وكالاندريس والآخرين. هذا علاوة على ضرورة أخذها نصب العين أقوال محاميني الشاملة والقوية في هذا الشأن.
أنا لا أتهرب من المحاكمة، بل من حقي الطبيعي أنْ تتم محاكمتي في محكمة مستقلة عادلة توائم روح وفحوى المعاهدة التي تُعَدُّ تركيا طرفاً فيها. وعلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن تفتح السبيل لمحاكمة كهذه، كمهمة أساسية لها. إن التمهيد لسبيل كهذا هو أول خطوة على طريق العدل والاتسام به. إلا أن المحكمة، بقرارها الصادر، لم تقم بذلك. بل على النقيض، ارتأت أنه من الأنسب عرقلة عقوبة الإعدام، وتَركي عُرضة للاهتراء الأبدي. لقد أشارت بالبَنان إلى الموت، وأَرغَمَت على الرضا بالإصابة بالملاريا. أظن أنني لا أفتقر للإدراك لدرجة العجز عن تحليل ذلك بأنه حيلة من حيل القوى المهيمنة المتسلطة، التي طالما لجأَتْ إليها وجرَّبَتْها على مر آلاف السنين. وإذا كانت الدائرة العليا، أي محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، ترغب في فتح الطريق بحق أمام محاكمة عادلة، فعليها أن تضع هذه النقاط نصب نظرها:
أولاً، هويتي هي حق الالتجاء السياسي، حسب القرار الصادر من محكمة روما الاستئنافية. ووثيقتها في حوزة المحكمة.
ثانياً، يجب أن أكون متواجداً داخل الحدود اليونانية، وفق القرار الصادر بحقي من محكمة أثينا الجنائية. أي أنني لا أزال أُعتَبَر ضمن حدود الدولة اليونانية، وفقاً للقانون وقرار المحكمة. هذا ما معناه أن تواجدي في سجن الحجرة الانفرادية في جزيرة إمرالي، أمر خارج عن القانون. إنه أمر لا شائبة فيه. والسؤال الذي يتوجب على الدائرة العليا البحث عن جواب له هو، كيف يُحكَم عليَّ بالمؤبد في الحجرة الانفرادية التي أمكث فيها منذ ست سنوات، في حين أنه يجب تواجدي – قانونياً – ضمن الحدود اليونانية؟. إن المصادقة على قرار الدائرة الأولى، بدون إيجاد رد سليم على هذا السؤال، ستبرهن على سلوك الموقف السياسي كلياً. إذا كانت المحكمة ترغب فهم تفاصيل حادثة الاختطاف، وإذا كانت غير مسبقة الحكم؛ فعليها تناول إفادتي المقتضبة، ومعالجتها بشمولية، والإصغاء لأقوال كافة الشهود، وتأمين ظروف ذلك. وإذا ما أصدرَتْ قراراً صائباً، فسأُعَدُّ موجوداً داخل حدود الاتحاد الأوروبي. حينها سيُصغى إلى ادعاءات كل من الجمهورية التركية والأطراف الكردية في محكمة مستقلة، ليصدر عنها قرار قانوني عادل. إن الجمهورية التركية تراني على الدوام مسؤولاً عن موت ثلاثين إلى أربعين ألف شخصاً. لكن إفراغها قرابة أربع آلاف قرية ومزرعة خاصة بالطرف الكردي، وارتكابها ما يناهز عشر آلاف جناية مجهولة الفاعل، وما يضاهي مئات الآلاف من الاعتقالات، وحوادث النفي والتهجير، والتعذيب المتأصل والمزمن، وتسببها في استشهاد قرابة ثلاثين ألفاً من الأنصار (الكريلا)، وانتهاكها كافة حقوق الإنسان وإنكارها للديمقراطية؛ كل ذلك هو جزء صغير من هذه الإحصائيات. فكيف بإمكان محكمة حقوق الإنسان الأوروبية إعطاء قرارها، دون الانتباه إلى هذه النقاط؟
إنها إحصائية الحرب. ما من إرهابي في التاريخ امتلك القدرة بمفرده على قتل ثلاثين إلى أربعين ألف شخصاً. وإذا ما قُبِلَ بوجود حرب صهر مطبَّقة على الشعب الكردي، فإن القيام بمحاكمة لأجلي ولأجل الأطراف المعنية الأخرى على السواء، هو السبيل الوحيد للمحاكمة العادلة. وستكون حينها شبيهة بالمحاكم المقامة تحت حماية الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد حروب النورامبارغ (Nuremberg) وبوسنة والهرسك، وبعد المجازر الحاصلة في لاهاي وبعض الدول الأفريقية. ثمة آلاف الدعاوى المتعلقة بالمغدورين الكرد في حوزة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية. ألن تستذكرها كل هذه الدعاوي بإحصائية الحرب أبداً؟
لقد خُدِع الكرد على الدوام في التاريخ. ولكن، أسنستمر في قبول خداعنا، في وسطٍ تبرز فيه العلانية والصراحة كأوروبا؟ كيف سيحتمل الوجدان الإنساني ذلك؟ وكيف تجرؤ محكمة حقوق الإنسان الأوروبية وتتجاسر على الاشتراك في جرم محاكمة شعب، لم يقدر حتى على تخطي الحظر الموجود فعلياً على لغته الأم بشكل تام، ممثلاً في شخصي؛ وبألف مكيدة وحيلة، لتُوائِم ذلك مع القوانين الأوروبية؟
هناك مئات من الأسئلة القانونية التي يمكن طرحها على هذه الشاكلة، والتي ستبرهن ما إذا كانت المحكمة مستقلة عن المؤثرات السياسية أم لا، وما إذا كانت ستتيح المجال لمحاكمة عادلة أم لا. فإنْ سُدَّتْ طريق المحاكمة العادلة، وتُرِكْتُ والآلافَ من أصدقائي (بما فيهم ليلى زانا ورفاقها) عُرضةً للاهتراء المؤبد (إطلاق السراح مسألة ثانية)؛ فسنضطر للقول صراحةً بأن قاضينا هو الاتحاد الأوروبي بذاته، وأن إدارة الجمهورية التركية اضطرَّت لقبول استخدامها كملقط وسيط. تماماً مثلما سنضطر للقول علانية، وبحنقة كبرى، أن الدول الأوروبية البارزة هي المسؤولة عن حرب الصهر المفروضة على الشعب الكردي خلال القرنين الأخيرين، وأن أمريكا أيضاً انضمت إليها بعد الخمسينات. وكأن القضاء على الشعوب الأرمنية والإيونية والآشورية وتصفيتها لم يكفِ، ليأتي الدور على الكرد في هذه المرة.
باختصار، وإذا ما نظرنا بعينٍ عامة، سنرى أن الأطراف المعنية أصلاً في دعواي هي بلدان الاتحاد الأوروبي والكرد وأنا. إن تأجيرهم الدعوى إلى تركيا، ليس سوى خداعاً زائفاً. لقد بَذَلَت بلدان الاتحاد الأوروبي مساعيها بكل علانية – بمؤازرة أمريكية وإسرائيلية – لإخراجي من دائرة القانون الأوروبي. واستهلكت الحكومة الإيطالية كل قواها في هذا الأمر. وطبقَّت ضغطاً نفسياً فظيعاً عليّ، واستنفرَت إمكاناتها المالية لأجله. ورغم عدم ذهابي إلى إنكلترا وسويسرا، فقد أعلنتا بأنني "الرجل المنبوذ" (Persona non Grata). وشرعت ألمانيا وفرنسا رسمياً بمحاكمتي في المحكمة. كذلك، ثمة العديد من الدول الأخرى التي أجحفت بحقي في طلب الالتجاء، ورفضته مقدَّماً رغم شرعيته. أي أن حملة عامة من الإبلاء النفسي واستنزاف الطاقة النفسية قد طُبِّقَت. تتوارى وراء كل هذه التطورات، الاتفاقيات الصامتة والسرية، التي بوشر بها مع الجمهورية التركية بعد قفزة 15 آب، في ضوء علاقات المنفعة المادية البالغة القبح والسوء. كلنا على يقين تام بأن الحكومات التركية أهدت نصف تركيا تقريباً إلى الدول الأوروبية حتى دفعتها للرضى بالبقاء بعيدة عن PKK، والقبول بـ"إرهابية" الحرب التحررية الكردية. ولولا علاقات المنفعة تلك، والتي وارتها الحكومات الأوروبية وبرزت للعيان مع دعواي، لكان من الواجب حيازتي على حق الالتجاء السياسي على الفور.
لقد انتُهِك قانون أوروبا (معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية) علانية، حصيلة العلاقات المنفعية تلك. هكذا استُهدِف اختطافي إلى خارج أوروبا، وبالتالي إخراجي من نطاق القانون الأوروبي. وما جَرِّي إلى كينيا سوى ثمرة هذه الروابط المصلحية المقرفة والبغيضة. لذا، وإذا كانت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية مرتبطة حقاً بمعايير القانون الأوروبي ومعاهداته، فعليها رفض انتهاك القانون هذا. رغم افتقاد محكمة روما الاستئنافية ومحكمة أثينا الجنائية لمعناهما الفعلي، إلا أن قراراتهما الإيجابية تخص محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أيضاً. إنها تنص على كوني ملتجئ سياسي، وتعتبرني حراً داخل الأراضي الأوروبية. كما وحسب هذه القرارات، تُعَدُّ فترة المحاكمة والإنفاذ الجارية في إمرالي مناقضة كلياً للقانون الأوروبي، ومنافية له. ما هو منتظَر من الدائرة العليا لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، هو الاعتراف بحقي في البقاء حراً داخل الأراضي الأوروبية، حسب القوانين الأوروبية (وهي قرارات محكمتَي روما وأثينا)، ودحض انتهاك القانون في إمرالي، وتمهيد السبيل لقضاء مستقل وعادل؛ إن كانت ثمة حاجة للقضاء (قرار الدائرة الأولى لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية). وإذا ما سُنَّ قرار إيجابي بموجب ذلك، سيكون قد تم التحرك حسب معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية حقاُ. وفي حال العكس، لن تنجو المحكمة العليا (محكمة حقوق الإنسان الأوروبية) أيضاً من كونها آلة في مؤامرة سياسية عظمى.
لهذا السبب خصَّصتُ القسم الأعظم من مرافعتي لشرح وإيضاح الحضارة الأوروبية التي تفنينا. فالساسة لا يتخوفون أساساً من زوال أي شعب من صحن التاريخ، إكراماً لمنافع سلطتهم ومصالح أسيادهم لعدة سنين. نحن على علم بذلك. لكن – وبأقل تقدير – على مؤسسةٍ كمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن تدع جانباً طريقَ الزيف المريع (كمحاكمتي على الصعيد الفردي)، وأن تصدر قراراً بشأن فحوى المجريات الحاصلة. أي، عليها سن قرارها بوضعها نصب العين، كيف يمكن أن يكون القضاء موضوعياً وواقعياً وعصرياً، بأقل تقدير. فإذا كانت الجمهورية التركية طرفاً في الحرب (وهذا ما تعلمه كل الدنيا، وتقوله هي أيضاً علانية)، وتقوم المحكمة بالمقابل بإعلاني – وتنظيمي – بالعدوُّ اللدود والخطر الفتاك؛ فكيف ستقوم حينئذ بالقضاء العادل المستقل؟ كيف يتقبل عقل المحكمة (محكمة حقوق الإنسان الأوروبية) ومنطقها ذلك؟ وإلا، أهناك ألاعيب أخرى نجهلها نحن؟ إذا كان كذلك، فلماذا قبِلَت دعواي؟ إذا لم تُعطِ أجوبة مقنعة لكل هذه الأسئلة، ألن يتبين يقيناً – كخيار أخير – الاستمرار في لَعِبِ لُعبَة سياسية مخططة ومدروسة مسبقاً، وبمهارة؟ إذن، والحال هذه، لن يتبقى أمامي سوى تأدية متطلبات إدراكي وضميري، كي لا أغدو وشعبي آلة في هذه اللعبة.
تُسلِّط هذه الحقيقة الضوء على أهمية وضرورة تطوير مرافعتي سياسياً، أكثر منها حقوقياً. فالكرد شعب غير مدرج في نطاق القوانين الأوروبية الوطنية، ولا العالمية. وغضُّ الطرْفِ عن الحقيقة التاريخية والاجتماعية المستترة وراء إصرار القوانين الأوروبية على البُعد الفردي في قضيتي، إنما يفيد بعدم وجود المشكلة التي يمكن حلها عن طريق القانون. يستمر هذا المفهوم منذ معاهدة لوزان، حيث تخلت الجمهورية التركية عن كركوك والموصل للإنكليز، مقابل الاعتراف بوجود الأولى دون الكرد. تمَّت المصادقة على ذلك في لوزان، مقابل هضم الجمهورية التركية للرأسمالية كنظام. وفي حين اعترفت الدول الغربية بالأرمن والإيونيين والآشوريين كأقليات، ظلت قاصرة عن إعطاء أية ضمانات للكرد. يشير هذا التوجه إلى التغاضي عن مسح الكرد ثقافياً وسياسياً، وإن لم يكن جسدياً. من الضروري الإمعان جيداً في نتائج العلاقات والتناقضات والنزاعات والاشتباكات، التي دخلتها الدول الإمبريالية الغربية مع الإدارات التركية في غضون القرنين الأخيرين. يعود انحسار وتراجع الشرق الأوسط، وافتقاره إلى الديمقراطية والحرية في راهننا بأساسه، إلى العلاقات السائدة في تلك الأثناء. هذا ويجب النظر إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير كمحصلة لا مناص منها للقرنين الأخيرين، وقراءة مضمونه على نحو نبيه ودقيق. نخص هنا الكرد الذين يجب أن يقيِّموا أنفسهم على جميع الأصعدة كعنصر أكثر استراتيجية وحيوية في هذا المشروع. وهذا ما يعد أحد أهم أهدافي التي أرمي إليها في مرافعتي.
ثمة روابط جلية تماماً بين مرحلة إرسالي إلى إمرالي من جهة، وتأسيس الدولة الفيدرالية الكردستانية في شمال العراق من جهة ثانية. على إدارات الجمهورية التركية ملاحظة الحقيقة التالية وإدراكها بعناية: لقد أهديتم – أنتم – الفيدرالية الكردستانية إلى القوى نصف الإقطاعية – نصف البورجوازية الكردية، مقابل إبادتي وإبادة PKK. وستكونون مسؤولين عن تحمل نتائجها أيضاً. إنها خطوة أساسية شبيهة بأسس الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الراهن. ومثلما عُرِّيُت ركائز الجمهورياتية الثورية وأُفنِيَت بها، فقد تشكلت الأرضية الخصبة لاستثارة كافة النعرات القوموية أيضاً عبرها. إنها ترمي بذلك إلى إطالة عمر نُظُمها المهيمنة بأشكال جديدة، عبر تأليب الشعوب على بعضها في ظل النعرات القوموية الجديدة البارزة. تماماً مثلما دُفِع بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ليكاد يكون معضلة القرن الأخير، ويصبح الذريعة المشروعة لإبقاء أسوأ الإدارات العربية مسلَّطة على شعوبها. والآن يُدرَج الكرد في إطار اللعبة ذاتها، ولا تزال هذه المحاولات مستمرة.
في هذه النقطة بالذات اكتسبت المؤامرة المحاكة ضدي بُعدها الدولي. ذلك أن وجودي ووجود الحركة التي مثلتُها لم يمتثل لهذه الألاعيب. كما كان يشكل خطراً محيقاً لإفراغها من محتواها. لقد كانوا يرون في أخذ المبادرة والمراقبة على الكرد من يد حركتنا، لإبقائها بيد القوى الإمبريالية، مسألة ذات أهمية استراتيجية مصيرية. كانوا سيروِّضون بذلك الدول القومية العربية والفارسية والتركية. كان ثمة عشرات الآلاف من الكرد يروَّضون في أوروبا وأمريكا لهذا الغرض. وتشكلت كردياتية ملائمة لمعاييرهم بكل إصرار. في الحقيقة، فقد اتسع نطاق المرحلة التي باشرَت بها إسرائيل تصاعدياً بعد عام 1945، عن طريق عائلة البارزاني. لهذا السبب ابتدأت أهميةُ كسب الكرد كأحباء وأعزاء جدد تتبدى لدى الغرب. وتدارست الدول الشرق الأوسطية ذات تقاليد الفتح وضع كُردِها من جديد. وأسَّست جيشاً كردياً من الاستخبارات والحُماة المرتزقة بإمرة قوى الأمن. أما القسم الثالث، أي المجموعة الكردية الفقيرة والكادحة، فأسَّسه PKK ضمن منهج وطني وديمقراطي. وهكذا تشكلت ثلاث مجموعات كردية:
الكرد التابعون لأمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وهم شرائح الطبقة العليا القديمة نصف الإقطاعية – نصف العشائرية، والمتجهة صوب الانتقال إلى البورجوازية. حيث يجهدون لبسط نفوذهم، باستغلالهم العواطف العشائرية، ونيلهم دعم الدول مالياً. والدولة الكردية الفيدرالية تشكِّل حالياً برنامجهم السياسي الأولي.
كل ما يرنو إليه الكرد القائمون على خدمة قوى الأمن لدى الدول القومية الفاتحة العربية والتركية والفارسية بوساطة المال والعواطف العشائرية، هو الحظي بالنقود والسلطة المحلية، لا غير.
في حين أن هدف الكرد المرتبطين بـPKK، والملتفين حوله بوعي وعواطف وطنية وديمقراطية، هو الدمقرطة وكردستان حرة.
يشكِّل هذا التمايز الثلاثي، بعلاقاته وتناقضاته الكثيفة، رحماً للعديد من الكيانات. وتُشكِّل كردستان الناهضة من سُبات آلاف السنين، والوالجة في مرحلة نشيطة حَرَكية، عاملاً بارزاً في تكوين توازنات الشرق الأوسط الجديدة. حيث لا مفر من لعبها أدواراً مختلفة في العديد من السيناريوهات.
إن الجمهورية التركية التي رأت في الكرد عضواً أصلياً في مرحلة تأسيسها، ترتكب أحد أفدح أخطائها ونواقصها، بتحويلها مسألة إبقاء الكرد على هامش السياسة والقانون كلياً إلى مبدأ دائمي، بسبب هويتهم (وإن كان لذلك معناه من الناحية المرحلية سابقاً، بسبب التمردات الكردية). وأنا أدَّعي أن القوى الإمبريالية شرعت، بوعي وإدراك، في تصفية الكرد الفقراء والكادحين المتطلعين إلى الحرية، ممثَّلين في شخصيتي؛ وذلك بغرض إتْباع الإدارات التركية والإيرانية والعربية – التي تتضارب مصالحها في تسخير تلك التناقضات الناجمة عن تينك الأخطاء والنواقص الفادحة لصالح كيانات كُردِها هي، كلاً على حدة – بذاتها أكثر، وإلا فَشَلُّ تأثيراتها. وبينما يشكل الكيان الفيدرالي الكردي في شمال العراق أولى ثمار هذه التناقضات، فستتشكل كيانات أخرى لاحقاً. إذا ما أَسنَدَت إدارةُ تركيا ظهرَها إلى إيران وسوريا وبعض العرب العراقيين، ليتحاملوا سوية على الكرد؛ فإنها ستقع في المصيدة. إن ضيق وسخط الإيرانيين والعرب من الطرف التركي أمر معلوم، وله جذوره التاريخية. فإذا ما دُفِع الكردُ للتحامل على الأتراك، فستتأجج بعض المشاكل التاريخية مجدداً، ومن ضمنها أطماع العرب التاريخية الممتدة حتى إيونيا، أرمينيا، جورجيا، إيران وحتى سلاسل طوروس. وفي هذه الحالة سينحسر الأتراك إلى وضعيتهم التي كانوا عليها في القرن السادس عشر.
بينما تحاشى ياووز سليم هذا الخطر بسياسته الكردية، قام مصطفى كمال أتاتورك بعرقلته في العشرينات، في ضوء التحالف المبرَم مع الكرد بموجب علاقات الحرية. إن تاريخ الأتراك في بلاد الأناضول ذو روابط جدلية وطيدة للغاية بالعلاقات الكردية. وتمزيق هذه العلاقات وتحويلها إلى عداوة تامة، سيكلف الأتراك خسائر استراتيجية عظمى، سواء كانوا يدركون ذلك أم لا. كان للطرفين قصورهما وأخطاؤهما في التمردات الحاصلة. فالنزعتان القومويتان، البدائية والشوفينية، والتقاليد الإقطاعية الدينية، لم تكن في وضع يخوِّلها لتفَهُّم العلاقات الاستراتيجية وتطبيقها. ولدى المغالاة في الإبادة الكردية، شارفت العلاقات الاستراتيجية على حافة الفناء والزوال. وقد تنبه كل من مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو إلى الأمر في الآونة الأخيرة، ولكنهما عجزا عن تلافيه. كما أدى تعزيز الإقطاعية الكردية مجدداً فيما بعد عام 1950، مقابل إنكارها أصلها ونسبها، إلى ازدياد تحطم العلاقات الاستراتيجية وافتقادها معناها. أما ما بعد 1980، فاعتَبَرَت التركيبة التركية – الإسلامية، ذات الخاصية التركياتية والمزايا الدينية المفرطة، أن هذه العلاقات الاستراتيجية معدومة تماماً. مقابل هذا الوضع، أبدت القوى الغربية والدول الإقليمية سخطها التقليدي، بتغاضيها عن PKK. إلا أن جميعها – بما في ذلك الدعم الإيراني والسوري الأكيد – لعبت دورها في تأسيس الدولة الفيدرالية الكردية، لتخطو بذلك أهم الخطوات في سبيل بروز الألاعيب التاريخية إلى الميدان. إن الحركة الكردية المرتبطة بالقوموية، ستدمِّر العلاقات الاستراتيجية التقليدية القائمة مع الأتراك كلياً. فعلى سبيل المثال، ثمة الصراعات الإسرائيلية – الفلسطينية، الروسية – الشيشانية، واليوغسلافية في البلقان. إن السياسات اليومية الزائفة بعيدة كل البعد عن استيعاب حيوية العلاقة التاريخية. فبينما أعْمَت النزعات القوموية والدينية أعينهم جميعاً، أقحمتهم السمسرة الاقتصادية والسياسية في حال، يعجزون فيها حتى عن حساب يوم آخر للغد. وقد بذلتُ مساعي حثيثة بحق، كي لا أُستَغَل وPKK في هذه اللعبة.
ستتسارع المستجدات في المرحلة المقبلة ضمن إطار مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي. ولا زال غامضاً كون تركيا هدفاً فيه أم شريكاً. إنها – حسب الزعم – أقوى الشركاء في المشروع. وقد كثُر الحديث في التسعينات أيضاً عن الشراكة الاستراتيجية بينهما. أظن أن نتائجها كانت خير معلِّم. لن تستطيع تركيا مواصلة وضعها السابق، سواء كانت هدفاً أو شريكاً. فالإصرار على الوضع القديم يعني عراقاً ثانياً ويوغسلافيا ثانية. بيد أن الدولتين المذكورتين كانتا تعترفان بالكثير من الحقوق لشعبَيهما. أما القوالب الشوفينية في تركيا، فهي الأمتن على الإطلاق. وقد اقتات الشعب منها على مر سنين. وإذا ما استمر ذلك، فلا محال من الانكسار والتحطم. وقد كانت الاشتباكات مع PKK كافية لإظهار هذه الحقيقة. ستدمِّر الكياناتُ الكردية – التركية المشحونة بالنزعة القوموية، العلاقةَ الاستراتيجية التاريخية، وستحطمها إرباً إرباً. لقد طُوِّر هذا المخطط بقصد ووعي، اعتباراً من الخمسينات، على حد قناعتي. حيث صُعِّدت القوموية التركية أولاً إلى مرتبة الفاشية والنعرات الدينية بتأثير خارجي. وقد صُعِّدت قُبَيْل الحرب العالمية الأولى مرة ثانية، على شكل تيار تركياتي بحت، وآخر إسلامي بحت، وبتأثير خارجي أيضاً. وأفضل من أدرك هذه الحقيقة هو مصطفى كمال باشا، حيث أعاق هذين التيارين الأيديولوجيين، وقام بالانفتاح لوطنية مفتوحة للحرية.
دَمَّرت المؤثرات الاستفزازية في التمردات الكردية هذه السياسة والعلاقة الاستراتيجية بين الطرفين. ووقعت في اللعبة، ظناً منها أن النعرات القوموية المفرطة ستمحو وجود الكرد. لأجل ذلك قال شخص يدعى أبا القوموية المتطرفة مثل "كوك ألب gokalp" بأنْ "لاوجود للتركي بدون الكردي، ولا للكردي بدون التركي". تتحلى إعادة تحليل المواقف إزاء الكرد على ضوء المستجدات اللاحقة لأعوام الخمسينيات، بأهمية قصوى. أما ما بعد أعوام الألفين، فقد تسارعت النزعة القوموية الكردية، وبتأثير خارجي مرة أخرى. ورغم كل قصوره ونقصانه، إلا أن PKK غدا مؤثراً رئيسياً في إفساد هذه اللعبة بمواقفه الأممية إزاء شعوب المنطقة. لم يكن قبول أمريكا المباشر لـ"ارهابية PKK" إكراماً لعيون الأتراك، أو حباً فيهم. بل كان ادعاءً يرمي إلى تجذير الاشتباكات. ولو أن أمريكا والاتحاد الأوروبي فَعَلا لأجل القضية الكردية عُشْرَ أو 1% مما فعلاه لقبرص، لالتحقت تركيا أخرى بتركيا. لكنهما ابتعدا عن ذلك، وكأنهما مارسا سياسة لائقة بالحيوانات، تفيد بـ"اهرب يا أرنب، الحقه يا كلب". وتشبثت الأوساط الاقتصادية والسياسية الغارقة في السمسرة بهذه السياسة بأسنانها وأطرافها.
في هذه النقطة بالذات عُقِدَت الآمال مع تسليمي إلى تركيا على سلوكي مقاومةً فظة تودي بحياتي، لتلج العلاقات التركية – الكردية مرحلةَ انهيار كامل. كانت كل خيوط الحركة الكردية ستُجمَع في يد واحدة. وما كان سيحصل بعد ذلك، نستطيع اليوم الجزم به بصورة أوضح. فمهما تَكُن نوايا أمريكا والاتحاد الأوروبي حسنة، إلا أنهما كانا لن يتورعا عن مساندة النزعة القوموية الكردية إطلاقا. وإسرائيل في حاجة ماسة ومؤكدة لتلك النزعة في منطقة الشرق الأوسط. وبدونها سيعجز الغرب أيضاً عن إيصال الوزن العربي والإيراني والتركي إلى النقطة التي يشاء. وأسلوب استخدام PKK غدا مصيدة للطرفين المعنيين على السواء. أي أن الطرفين يتكبدان معاً خسائر فادحة في سياسة مطاردة كلب الصيد للأرنب الهارب. هذا ما حصل بعد عام 1925 أيضاً.
بات من الصعب الوقوف في وجه النزعة القوموية الكردية، بعد حصولها على تقنية مسلَّحة حديثة فيما بعد أعوام الألفين. قد يعجز الطرفان عن نيل النصر والمكاسب الاستراتيجية. لكن المؤكد هنا هو تكبدهما خسائر جسيمة. ومن سيبقى محرزاً النصر الأكيد، مثل كل مرة، هو القوى الإمبريالية. تُعَدُّ كلٌّ من النزعة القوموية الكردية من جهة، والإنكار الكردي وانتهاك حقوقه من جهة ثانية، مسؤولَيْن على السواء، وبالتساوي، في الوصول إلى هذا الوضع. ماذا ربحت الجمهورية التركية من إبقاء القضية الكردية عالقة بلا حل، طيلة خمس وسبعين عاماً؟ علاوة على أن السياسات الإنكارية في عصر التقنية الحديث _ دعك من كسبها ونجاحها _ ستمهد لنزاعات واشتباكات كردية – تركية متأججة تصاعدياً مع كل يوم. إن عدم رؤية ذلك يتطلب أن يكون المرء أعمى البصر. وقد تجلت المحصلات المؤسفة للاستناد إلى القوة العسكرية بكل سطوع في كل من الاتحاد السوفييتي والعراق. ومنذ الآن، غدت الأسفار صوب كردستان متكافئةً والأزمةَ الاقتصادية. سيؤدي إطالة عمر المشكلة الكردية، وإبقاؤها في حالة الاشتباك، وإقحامها في مرحلة حرب جديدة محتلمة؛ إلى دكّ دعائم إحدى أهم الركائز الركن للاستراتيجية، التي طالما مدت الأتراك بالحياة في بلاد الأناضول، طيلة ألف عام. أكررها ثانية، إن عدم رؤية ذلك يتطلب أن يكون المرء خائن وطنه، أو عدو شعبه.
يجب ألا يَعقِدَ أحد آماله على استسلام حركة تنامت كثمرة لمصاعب مريعة وجهود مضنية، بشكل تلقائي. وقد حفَّزتُ ذاتي وتنظيمي منذ عام 1998، بصبر عظيم وبسلوك أيديولوجي وسياسي شمولي، على اتباع أرفع المواقف إدراكاً ووعياً، لإكساب شعبنا وكل الأطراف والوطن برمته، النصرَ المراد. وبينما وجدتُ موقف الرفاق إيجابياً، فمن الضروري القول بأن الدولة – لن أقول أنها أهملت الأمر كلياً – بقيت بعيدة عن الاتسام بالقدرة على الحل. والبقاء في حالة الانتظار أكثر من ذلك، سيفرغ المرحلة من محتواها كلياً. لا يمكن لـPKK أن يترك كردستان لرجعية الدولة الستاتيكية الجامدة، ولا للقوموية البدائية. هذا ولم يصر PKK أبداً على أن تكون له دويلة. لكنه لم يتخلَّ قط – ولن يتخلى – عن مشروع "كردستان (وكردي) ديمقراطية وحرة". ما من شك في أن الحوار الديمقراطي سيُكوِّن العلاقة الأكثر تقدمية وقدرة على الحل في التاريخ. والضليعون بخفايا وأغوار التاريخ التركي والإيراني والعربي، سيجدون أن الوضعية في الشرق الأوسط أدنى على الدوام إلى الفيدرالية. أما السبيل الوحيد لعدم تمخض الفيدرالية عن الاشتباكات والصراعات العقيمة، فهو الديمقراطية التامة. وقد عجز التاريخ حتى الآن عن اكتشاف حل أكفأ وأقدر منها.
بمقدور تركيا أن تؤدي الدور الأمثل، لعدم دفع الكرد عموماً وحملة PKK على وجه الخصوص، إلى ألاعيب جديدة تحاك على المنطقة، ولعدم إقحامهم في أوضاع خطيرة. إن تأدية هذا الدور الأمثل هي أفضل ما يليق وينسجم مع تاريخها، وخاصة مع أصولها الاستراتيجية مع الكرد. لا اجتثاث الكرد من التاريخ أمر ممكن، ولا هو يدرُّ نفعاً على تركيا. بل على النقيض، فحياتية روابطهما موضوع لا يقبل الجدل. والانتظار أكثر بعد هذه النقطة، سيعني الاهتراء والنتونة، وتعرية أرضية العلاقة الإيجابية المحتملة بين الطرفين، وإفناءها. وفي حال عدم الحوار الديمقراطي، سيفضِّل الكرد حملة الحرية العظمى. أما عن مسار الحرب ووجهتها، فستحددها الأطراف المعنية ومواقف الأوساط الخارجية.
من الضروري دراسة المستجدات المحتملة، حين تتخبط تركيا في فوضى الشرق الأوسط دون حلها القضية الكردية. فمنذ الآن تتبدى بوادر تنازع ثلاث قوى على كردستان. أولها، أمريكا وإسرائيل والمتواطئون معهما من الكرد. ثانيها، القوى التركية والإيرانية والعربية القالبية، مع بضعة من الميليشيات الكردية والشرائح البورجوازية الكومبرادورية العشائرية المتواطئة. أما ثالثها، وهي الأرجح، فتتألف من الكادحين الفقراء والوطنيين والديمقراطيين من أبناء الشعب. هذه أول مرة يحصل فيها تمايز كهذا.
اضمحلال الكرد المتواطئين والمتحركين حسب الوضع القائم احتمال بارز. يمكن استخلاص حدوث مستجدات في هذا الاتجاه من أوضاع الكرد في العراق. فإذا لم تقم الإدارات التركية والإيرانية والعربية بالإصلاحات الكردية لديها، ستتطور مختلف أنواع التحالفات بين الكرد الوطنيين الديمقراطيين من جانب، والكرد المتواطئين مع الإمبريالية من جانب آخر، وعلى كافة الأصعدة. والمحصلة ستكون احتلال كافة الكرد أمكنتهم في الائتلاف بزعامة أمريكا. وإذا لم تَرَ (الإدارات التركية والإيرانية والعربية) إمكاناً للوفاق، فقد يُطوِّر الكرد الملتفون حول PKK أيضاً علاقاتهم مع قوى الائتلاف، في ضوء وقف إطلاق النار والحل الديمقراطي. وقد لحقت ضربة استراتيجية بارزة بالإدارة العراقية والعربية جراء هذه العلاقة. فما دمَّر العراق هو التحالف الأمريكي – الإسرائيلي – الكردي. وإرجاء تركيا الدائم للحل الكردي، قد ينمُّ عن محصلات، تضاهي ما كانت عليه في قبرص أضعافاً مضاعفة. أما نصيب الدول الغربية في نظام الامتيازات الأجنبية والودائع – لكتم صوتها – فلن يكون فعالاً في المرحلة الجديدة. أما تركيا ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير – وإن لم يكن مثل معاهدة سيفر الرسمية بعد الحرب العالمية الأولى – فلن تستمر في وضعيتها الجمهورية القالبية، كدولة قومية هي ثمرة التوازنات الداخلية والخارجية.
مؤكد أن تركيا تمر بمرحلة فوضى بَيْنِيَّة، ترتبط كيفية خروجها منها بالحسم السليم والصائب لوضعها الجديد. فإذا ما تعززت الحرب بدل الوفاق مع الكرد، فمن المحتمل حدوث ما يشابه الوضع في الفترة بين معاهدتَي سيفر ولوزان. في حين أن الحل الديمقراطي للقضية الكردية سيُزيد من احتمال لعب تركيا مع الكرد دوراً ريادياً في شرق أوسط ديمقراطي. وفي حال العكس، ستتفكك الأواصر الاستراتيجية التاريخية تماماً، لتتبدى تهلكة انحصارها – أي تركيا – في بلاد الأناضول الداخلية فحسب. وستحصل متغيرات – بطيئة حيناً وسريعة أحياناً أُخَر – في هذا المنحى في جدول أعمال تركيا على الدوام، سواء كانت تلك المتغيرات قصيرة أم متوسطة أم بعيدة المدى. في حين سيمهد تحديث الوفاق التركي – الكردي اللاحق للحرب العالمية الأولى، وفق أسس ديمقراطية (فالإقطاعية ونصف الإقطاعية – نصف البورجوازية مشحونة بالمخاطر الهالكة النابعة من القوموية) لنفاذ الطرفين المعنيين معاً من فوضى الشرق الأوسط بأقوى الأشكال، وبما يليق بالماضي العريق؛ ولكن على ضوء الوحدة الحرة الديمقراطية هذه المرة. وإلا، فلا مهرب من كردستانٍ كإسرائيلٍ ثانية.
خلاصة، تواجِه الدائرة العليا لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية مسألة سنّ قرار تاريخي ومصيري، يتيح المجال لقضاء عادل في محكمة مستقلة. وإذا كان ثمة دور يقع على كاهل القانون في إفساح المجال لحل ديمقراطي في القضية الكردية، فسيمر هذا الدور من إفساد المؤامرة السياسية وإفشالها. بهذه الوسيلة فقط سيتضح الجانب المتعلق بالسلام لقوانين الاتحاد الأوروبي. إذ يتوارى عدم تطبيق القوانين الأوروبية وراء المحاكمة الجارية في خضم ظروف ساحقة بهذا القدر.
لأجل هذا تم إخراج حادثة الاختطاف من إطار هذه القوانين. فحكاية الاختطاف، التي يمكن أن تكون موضوعاً روائياً، أبعد – في معناها – بكثير من أن تكون مسألة شخصية. حيث أُجرِيت صفقات كبيرة بين الدول الغربية وتركيا بصدد النضال التحرري للشعب الكردي، خلال الربع الأخير من القرن الأخير. وتم إسقاط هذا النضال، الذي عانى شعبنا خلاله من الفقر المدقع والآلام الأليمة، إلى مجرد إخلال بسيط بالحقوق الفردية، ممثلاً في ذاتي، وعلى نحو غير عادل إطلاقاً وبسيط جداً؛ وذلك بسبب أطماع نظام رأس المال المنفعية. وتسعى كل من الجمهورية التركية والاتحاد الأوروبي إلى الوفاق مجدداً بناء على هذه الخلفية. أما الخاسر الحقيقي، فسيكون الشعب الكردي (ممثلاً في شخصي). من المهم بمكان ألا تصبح محكمة حقوق الإنسان الأوروبية آلة بيد هذه اللعبة. بأية ذريعة قانونية تُطالَب تركيا بإجراء قضاء عادل ومستقل، بينما يتجلى مدى وكيفية التلاعب بشأن إرادتي بكل سطوع؟ إن معاملة كهذه لا تُطَبَّق حتى على حيوانات الكابيا*.
الجميع على علم بأن المحاكمة المجراة على الكرد، خاصة في تركيا، إنما أُجرِيَت بالأوامر العلوية. فمؤسسة القضاء تتصدر البؤر الفاشية، ولا تتحلى بأية سمة قانونية بسيطة، بسبب مسارها المتَّبَع تجاه الكرد. لذا، فانتظار قضاء حيادي وعادل من مؤسسة كهذه، هو إهانة لي ولشعبي. إذ لا يُعتَرَف أبداً باسمنا وبثقافتنا ووجودنا. فالقانون ينفي وجود الكرد والكردياتية. فكيف يمكن ارتجاء قضاء عادل وحيادي، بينما يكون واقع القانون في تركيا هكذا؟
لم أُعتَقَل بموجب القوانين الدولية. أفهل استسلمتُ لتركيا بمحض إرادتي في ساحة القانون الأوروبي؟ كيف تعجز الدائرة الأولى لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية عن تحديد ماهية الاختطاف، باتباعها أكثر الأساليب سفالة ودناءة؛ رغم أن الاختطاف حقيقة رآها حتى الأطفال؟. لا يتبقى هنا سوى خيار واحد للإيضاح: إن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية تدفع ديونها باسم النظام القائم، مقابل المنافع والأرباح التي جناها رأس المال الأوروبي من تركيا، في حرب الصهر الدائرة على الشعب الكردي، منذ ما يناهز العشرين عاماً.
يتسم قرار الدائرة الأولى لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية هنا بكونه غير عادل حقاً، ويوصد الأبواب أمام قضاء حيادي مستقل. على الدائرة العليا لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن تُبطِل هذا القرار، وتطعن فيه، لتؤدي متطلبات معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية. حينها فقط سيُفسَح المجال أمام قضاء حيادي وعادل بحق، وستتولَّد إمكانية تلافي الخسائر الجسيمة والآلام الكبرى التي عاناها الشعب الكردي، ولو بمقدار ضئيل جداً. ووقتئذ فقط، ستَلِدُ فرصة حقيقية لتكون تركيا دولة ممتثلة للقانون على طريق الاتحاد الأوروبي. وتركيا الملتزمة بالقانون الأوروبي، ستكون صمام الأمان للسلام. كل هذه الدوافع والذرائع ستبرهن على أن الاتحاد الأوروبي – الذي يَعتَرِف بالسلم وحقوق الإنسان كأسمى الفضائل على الإطلاق، والذي تكوَّن حصيلة تقديم النقد الذاتي إزاء الماضي الأوروبي المليء بالحروب – إنما هو قلعة القانون والديمقراطية التي لا تتزعزع.