المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حديث مع فَنْزَة



عبد الرحيم صادقي
23/05/2011, 05:37 PM
قال فَنْزةُ حكيمُ كليلة ودمنة إن الواتِرَ إذا دنا من المَوْتور فقد عرَّض نفسه للهلاك. صدق فنزة، وإنه لكذلك تكون العاقبة. ألستَ ترى العرب تأخذ بثأرها من الحاكم عند أول سانح؟ ألستَ تراها ترمي عن قوس واحدة؟ صدقتَ يا فنزة صدقت! ألاَ إن الحاكم واترٌ والشعبَ موتور. وُتِر الشعبُ ماله وعرضه وأرضه، وُتر حريته وكرامته، حتى لكأنه غريبٌ والدار دارُه، أو لكأنه عابر سبيل. ولو أجملنا الكلامَ لقلنا وُتر الشعبُ إنسانيته. فليس العربي في حِسْبان الحاكم بهواهُ إنسانا إلا بالصورة والجسد، أما الروح فلا روح له.
يقول فنزة: "وشر الملوك الذي يخافه البريء، ولا يواظب على حفظ أهل مملكته". أوَمِنْ تبعات الإمارة أن يحافظ الملك على أهل مملكته يا فنزة؟! وكيف يحافظ عليهم وهم عبيده؟ وهل يملكون من الأمر شيئا؟ ما أطيبَك يا فنزة! وما أعظم حُسنَ ظنك بالملوك! أليس من حق ولاة الأمور أن يُصَلِّبُوا من سوَّلت له نفسه حُلماً بعيشٍ كريم؟ أليس من حقهم أن يُقَطِّعُوا أيدي الطامحين وأرجُلَهم من خِلاف؟ أليست الأرضُ أرضَهم والسماءُ سماءَهم؟ فماذا لو دكُّوا الأرض دَكًّا وأسقطوا السماءَ كِسَفا؟ وماذا لو نكَّلوا بالعبيد ورجموا الآبقين؟ أليسوا في مُلكهم والملوك لا يُسألون؟ أم تُراك يا فنزة قد نسيت ما للملوك من حق على الناس؟ أوَفاتك أن تُنْزِلَ الناسَ منازلهم؟ ألستَ القائل إن الملوك يستصغرون ما يرتكبونه من عظيم الذنوب، ويستعظمون اليسيرَ إذا خولفت فيه أهواؤهم؟ أرأيتَ عِظم التَّجَني أيها الطيب فنزة! وهل أزيدُكَ أنَّ الملوك لا يرون للعبيد أهواءً غير أهواءِ ملوكهم؟
لقد ذكَّرَني رُجحان عقلِك مع طيبتِك بصديقنا بَيْدَبا، فإني تركتُه ينصحُ دبشليم يقول: "إن المُلْك لا يُستطاع ضبطُه إلا مع ذوي الرأي وهم الوزراء والأعوان. ولا يُنتفَع بالوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا مودة ولا نصيحة إلا لذوي الرأي والعفاف". أوَيعفُّ الوزراء والأعوان يا بيدبا؟ تقول أيها الفيلسوف على المَلك أن لا يُوجِّهَ إلى الأعمال إلا من يثق بدينه وأمانته وعفته! وكيف يكون ذلك يا بيدبا؟ وأنى لنا بهؤلاء الوزراء؟ ستقول إن الملوك أحقاء باختيار الأعوان؟ أويكون للملوك أعوان ووزراء حقا؟ لعَمري إنهم بطانة السوء، هم الأفَّاكون المدَّاحون بالليل والنهار. أوَليس قد قال ابن آوى إنما يُقدِم على خدمة السلطان غيرَ هائب رجلان لستُ بواحد منهما: إما مصانعٌ ينال حاجته بفجوره ويَسْلَم بمصانعته وإما هيِّن لا يحسُده أحد! وأنه من أراد أن يَخدُمَ السلطان بالصدق والعفاف غير خالِطٍ ذلك بمصانعته فقَلَّ أن يَسْلَمَ على ذلك!
ثم مُذ متى اشتفى مَلك من حُبِّ السلطة أيها الحكيم؟ أم تُراك ستذكرُ كلاما يُعجِب الأغْرارَ وتقول "أيها الناس لقد وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم..."؟ ثم تُحدِّث حديثا عُجابا عن أميرٍ يقاضيه راعِي غَنَم! إفكٌ كلامُك يا بيدبا وافتراء، فالناس صنفان: أسياد وأقنان. وأنَّى للقن أن يبلغ معشار سيده؟ والعبدُ راض ما رضيَ سيده، وليس بعدَ الرِّضا غير السخط. لو شئتُ أن أحدثكما، يا فنزة ويا بيدبا، عن عَين الصواب لقلت إن العبد كَلٌّ على مولاه، وهذي الرعية دون ما أراد الملك. فإنها لا تُحْسِن الصنعَ ولا تَجِدُّ في الطَّلَب ولا تَحُثُّ الخُطى، وإنها فوق ذلك تُنكر صنائعَ المعروف. ستقول يا فنزة: "إن المُكرَه لا يستطيع المبالغة في العمل"، بل هو الكفران والجحود، ولبئس الخُلق! أم تُراك ستقول إن الناس على دين ملوكهم؟
كذلك ستُحَدِّثُك روحُ المَلِك الخبيثة يا فنزة فاعجبْ حينها أو لا تعجب!
فلَكَ الله أيها العربي، أيُّ غبراء تُقِلُّك؟ وأيُّ خضراء تُظلُّك؟ وأنت أيها الحاكم بهواه على رِسْلِك! أيُّ شهوات تكفيك؟ وأي أهواء تملأ جوفَك؟ لكَ النساءُ والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، لك الخيل المُسوَّمَة، لك الأنعام والحرث، لك ما ينوء بالعصبة أولي القوة. فأيُّ شَرَه وأي فضاضة؟ أي نَهم وأي نذالة؟ طفح الشَّيْنُ على الشَّين، وفوق الضُّرِّ ضُرٌّ. ولأنت الآن الصادق يا فنزة! لعَمري ما أصدقك وأنت تخاطب المَلك قائلا: "ومَثل الحاكم مَثل من لم يُقَدِّر لُقمته فعظَّمَها فوق ما يسَعُ فوه، فربما غصَّ بها فمات". والسلطة لقمة الحاكم التي غصَّ بها فلقيَ حتفه، ومنهم مَن ينتظر. ولأنت الصادق في قولك إن الأحقاد مَخوفَةٌ حيث كانت، وأخوفُها وأشدها ما كان في أنفس الملوك.
فواعجباً لحاكم ينتشي من حُكمِه ويهيم به حبا حتى يصلَ حبُّه حدَّ الوَلَه! واعجباً لمخلوق يرى الجاهَ مُلكاً بِجوْرٍ على أُبَّهَة وزينة! ما أحمقَ المَلِك حين يَرْفُلُ في متاع لا يدوم! ويا خُسْرانه حين يُوَلِّي ثانِيَ عِطْفِه ليُضِلَّ عن سبيل الله! وما أحقرَه حين لا يُقَدِّرُ الأمانة حقَّ قَدْرِها!