المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إلى الأمام ..سر



محمد فؤاد منصور
23/05/2011, 08:31 PM
إلى الأمام ..سر
عندما كتبت مقالاً عنوانه "لاتحاكموا مبارك.." ذكرت فيه بعض الأسباب المنطقية لتلك الدعوة ولم أستبعد خيار المحاسبة المالية واستعادة الأموال المنهوبة التي هي حق الشعب ولايستطيع كائن أن يتجاهلها أويقفز فوقها وهي لم تكن دعوة تنطلق من عاطفة حب أو تعاطف أو إهدار لدماء الشهداء وإنما كان دافعها الخوف من أن تبتلع المسارات الجانبية والأحراش والدهاليز ملايين الثوار فيواجهون بعضهم بعضاً أو تتخطفهم قوى الثورة المضادة .
كنت أود المحافظة على زخم المسيرة الظافرة في الانطلاق إلى الأمام .. عندها قوبلت بهجوم شديد من كل من قرأ المقال تقريباً وبخاصة تلك الفئة من القراء التي تحكم على المقال من عنوانه دون الرجوع إلى تفاصيله ومحاولة تفهم وجهة نظر الكاتب .. في الحقيقة كان ذلك في الأيام الأولى لنجاح الثورة ،وكنت أعرف أن أمام الثورة وحكومتها برئاسةالدكتور عصام شرف مرحلة محورية هامة لترجمة أحلام الشباب الثائر وإنقاذالاقتصاد الوطني من حالة الشلل التي أصابته بسبب توقف كل الأنشطة الاقتصادية أيام الثورة. وسبب آخر مهم هوأنني أردت للوطن أن يتجاوز أزمته ويتطلع إلى تحديات المستقبل وماأثقلها من تحديات. ولم أكن في الحقيقة أستقي تصوري من فراغ فالسيرة النبوية المشرفة تحدثنا عن تجربة مشابهة انتصر فيها تيار الحداثة والمعاصرة والنظرة المتعمقة للأمور وتبعاتها على السطحية وضيق الأفق والرغبة في الانتقام لدى أنصار هدم كل ماهو قائم وإبادة كل ماهو قديم .
ولو عدنا لقصة فتح مكة في التاريخ الإسلامي ، لوجدنا أنها كانت بنفس القياس انقلاباً ثورياٍ ضد نظام قديم ومتحجر ، كان أبوسفيان بن حرب هو رأس ذلك النظام والعدو الأول للمسلمين .. ومع ذلك فقد اكرمه الرسول الكريم وتجاوز عن كل ماسبق من مظالم ارتكبها الرجل في حق المسلمين بما في ذلك الحروب الدامية التي جيش فيها الجيوش للقضاء على الإسلام في مهده ،بل وأكثر من ذلك هوتكريم الرسول لألد أعداء الإسلام وتجاوزه عن كل ماسبق من سيئاته بأن قال قولته الرائعة " ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن " .. قال ذلك في الوقت الذي ظن أبو سفيان ذاته أنه هالك لامحالة .
ماهي حكمة مثل هذا السلوك في ذلك الظرف الدقيق ؟ ..
لقد اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم النظام القديم وكانت أمامه مهام كبرى في بناء الدولة الإسلامية وإرساء دعائمها ، ولم يشأ أن يشتت الجهود ويبدد القوى في عمليات انتقامية قد تؤخر البناء وتعطل التنمية وتثير الأحقاد والنعرات العصبية أو القبلية وليس أدل على ذلك من عفوه عن حاطب ابن أبي بلتعة الذي سارع إلى تسريب خبر زحف المسلمين على مكة لتأخذ قريش حذرها من الجيش الإسلامي وتستعد لمواجهته ، ذلك الصحابي الجليل واجهه الرسول بالدليل القاطع على خيانته وتجسسه وإخباره لقريش عن زحف جيش المسلمين ، والرجل قدم اعترافاً صريحاً واعتذر للرسول عن فعلته فلم يقتنع عمر بن الخطاب واستأذن الرسول في قتله جزاء خيانته ، لكن الرسول الكريم عفا عنه وتجاوز عن خيانته إكراماً لسابقة مشاركته بمعركة بدر وقال موجهاً حديثه لعمر بن الخطاب فيمايعد درساً في قيم الصفح النبيلة " ومن أدراك ياعمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ماشئتم فقد غفرت لكم" ..
ماقيمة هذا الدرس من دروس النبوة ؟! ..
ألا يعني هذا في أقل تقدير له أن نتابع السير الإصلاحي للبناء ولاننشغل بالماضي مادام الله قد منّ علينا بالفتح المبين والانتصار الساحق ؟ .. وماالذي آلت إليه أحوالنا بعد أربعة شهور من الانتصار الساحق لثورة الخامس والعشرين من يناير سوى أن كل أطياف المجتمع قد تركت مهمة البناء والإصلاح وراحت تمسك بخناق بعضها البعض ، وطفت على السطح دعاوى الانتقام والتشفي وتخليص الثارات القديمة.. لم تكن بلادنا تدار إدارة مؤسسية في أي مرحلة من تاريخها الحديث منذ يوليو 1952 بل كانت إرادة الحاكم هي العليا مهما شابها من عسف أو مظالم ، وكان يجد دائماً من يبارك خطواته ويشيد بجهوده حتى يقع في ظنه أنه مبعوث العناية الإلهية وأن ملايين البشر إن هم إلا عبيد إحساناته ، فهل نترك من زين له سوء عمله بلاحساب ونضيع جهودنا في تحقيقات تطول وتطول ومسلسلات تبدأ ولاتنتهي حتى صارت أخبار المحاكمات العبثية والأزمات القلبية مادة رئيسية للصحف التي تبحث عن الإثارة والمتعة في تتبع أخبار مبارك وعصابته من انصاف الآلهة السابقين ؟ .. أم نترك الأمر بين يدي القضاء الأمين يديره دون تأثير من الرأي العام الضاغط وننصرف لبناء الوطن الذي أصابه الوهن حتى لم يعد يقدم أبسط أنواع الحماية لأبنائه. لاشك أن تباطؤ القيادات الحالية في اتخاذ قرارات ثورية حاسمة قد اوصلت البلاد إلى حالة من الفوضى الشاملة والانفلات الأمني والفتن والصراعات حتى وقع في ظن الجميع أن كل هذه محاولات تستهدف إجهاض الثورة وتفريغها من مضمونها ، وأن ماتم حتى الان وهو ليس بالقليل لايتناسب مع ثورة شعب قدم أرواحاً من خيرة شبابه قرباناً على مذبح الحرية . ولعل ماساهم في سوء النية هو تلك الخطوات التي اتخذتها القيادة العسكرية منذ تسلمها مقاليد الأمور ، فقد حاولت في البداية إصلاح النظام من داخله ولم تتعامل مع الأمرعلى أنه ثورة شاملة تريد اقتلاع النظام القائم وآلياته من الجذور ، أضاعوا الوقت في محاولة تمكين عمر سليمان ومعه وزارة برئاسة احمد شفيق ، ثم في خطوة لاحقة عزلوا سليمان وأبقوا على شفيق ، ثم بدا أنهم رضخوا للإرادة الشعبية بتكليف عصام شرف في نهاية المطاف ، وأضاع عصام شرف الفرصة بتعيين وزراء منهم من تخطى السبعين ومنهم من يقف على أعتابها وهؤلاء لايمكن أن يكون آداءهم مرضياً لثورة شباب طامح إلى التغيير فضلاً عن أن كثيراً منهم من محاسيب النظام السابق وممن تقلدوا المناصب الهامة في عهده ومن ثم فهم موالون بشكل ما للنظام القديم ..
إن المطلوب الآن هو كنس كل هذه القيادات جميعاً وتولية جيل مادون الخمسين في كل قطاعات الدولة حتى نضمن ولاءهم لمباديء الثورة واحترامهم لدماء شهدائها ، إن القيادات الوسطى في كل وزارة يجب أن تحل محل القيادات التي لم تستطع أن ترتفع لمستوى الحدث لأن أياديهم مرتعشة والأيدي المرتعشة لاتقوى على البناء ، ولن يحدث ذلك إلا بثورة تصحيحية تعيد قاطرة الوطن من جديد على الطريق الصحيح.