المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ولي الله الصالح



وفاء بنداود
29/05/2011, 04:05 AM
ولي الله الصالح


ألبسته أمه أحلى الثياب، كأنه يوم عيد؛ أمسكته من يده وتوجهت به نحو الجبل.. لقد أحب دائماً الخروج قبيل الغروب، رغم بعد الطريق وصعوبته، إلا أنه بنشاطه الطفولي أحسها دائما كمغامرة بطولية منقطعة النظير.. في الطريق تلتقي أمه بالنسوة من حجاج الولي الصالح، وقد نفضن عنهن غبار يوم طويل من رعي الماعز، وحطب الحطب، وسقي الماء.. وغيرن ثيابهن البالية أو ثياب العمل ليرتدين ثياباً أخرى جديدة مكونة من قطعتين: منديل صوفي مقلم باللونين الأحمر والأبيض، يقمن بلفه وربطه حول خصورهن؛ ويضعن فوق رؤسهن فوطاً(1) بيضاء كبيرة الحجم، يمسكنها حول وجوههن النضرة بإحدى أيديهن..استغرب ثيابهن أول الأمر.. لكنه فهم بعد ذلك أنه اللباس التقليدي لسكان الجبل.. بينما أمه ليست سوى زائرة من المدينة تقضي هناك عطلة الصيف. تنشغل أمه بالحديث معهن وتعلو ضحكاتهن فينصرف هو للتقاط ثمار البلوط البري و لصيد السحالي.. بعينين متيقظتين يتربص بهن وما إن يمسك احداهن حتى يغلق عليها جميع المنافذ.. تجري المسكينة مذعورة من جهة إلى أخرى وحين تيأس من الخلاص تقطع ذيلها.. في كل مرة يقسم ألا يترك سبيلها مهما حصل، و لكن دائماً يرعبه منظر الذيل المقطوع الذى يتمرغ في التراب يميناً وشمالاً أكثر من خوفه من السحلية نفسها، هكذا يقضي طريقه في الجري، تارة يسبق أمه وتارة يتأخر عنها إلى أن يصلا إلى أسفل السلم الحجري المؤدي إلى المدفن.. لقد كره دائماً هذا المعبر لشدة ما يمتلئ بالمتسولين.. مع أول خطوة لهما هناك يتجمعون حولهما بشكل خانق، نساءا ورجالا وبعضا من الأطفال الذين اختاروا التعلم بدلاً من اللعب.. يمدون أيديهم ويتخاطفون الدراهم الممدودة إليهم كل يريدها لنفسه ولا يشبعون أبداً، يقضي الزائر الطريق في الجهاد لتخطيهم إلى أن يصل إلى الأعلى، وهناك يجد عذاباً من نوع آخر.. إخلع حذاءك! هكذا امرته أمه وقد تغيرت من إمرأة ضاحكة منشرحة إلى أخرى متجمدة الملامح..قوية النظرة.. وفي صوتها نبرة الجدية والصرامة.. إنحنى ينزع حذاءه وهو يتساءل كيف يستطيع كل هؤلاء البشر السير فوق البساط الفليني المثبت في الأرض بمسامير خشبية صلبة ناتئة مؤلمة؟ هكذا كانت أرضية المزار وتمتد لتغطي ما بين المسجد يمينا والضريح يساراً وترتفع نحو القبور في الأعلى.. و تمتلئ جميعها بالزوار بين قادم ومغادر.. وشريحة أخرى من حفظة القرآن، سكان البلد، يقعدون في حلقات يرتلونة بصوت مرتفع وفي وسط الحلقة ينشرون منديلاً يكومون فوقه فلوس الذين يرغبون في الترحم على أبائهم والدعاء لهم .. جرته أمه من يده وتوجهت به نحو الضريح.. أجبرته هو الآخرعلى الإمساك بالشباك الأخضر وطفقت تقرأ القرأن وترفع يديها لتمسح وجهها.. أما هو فأخذ يقلب بصره في المكان: صور من الحجر المصبوغ بالجير الأبيض يدور على مساحة واسعة بشجرة بلوط عظيمة تقوم في الوسط وتمتد فروعها نحو الخارج، لكن بعينيه الشقيتين وجسمه الصغير، استطاع أن يبصر، من بين عيدان الحديد المتشابكة بشكل متواز، القطع المعدنية المتناثرة في الداخل، نسي ألمه و انزلق نحو الأسفل في محاولة لإمساك النقود اللامعة.. أحس بيد قوية تسحبه نحو الخارج.. كانت أمه قد انتهت من (زيارتها) فأمسكته وتوجهت لتتخذ لها مكانا بين صاحباتها، فاستكان هو بجانبها وفي نفسه يشتم الفقر ويلعن الملل.
*
*
*

-----------------------------------------------------------------------
(1) الفُوَطُ ، كصُرَدٍ: ثيابٌ تُجْلَبُ من السِّنْدِ، أو مآزِرُ مُخَطَّطَةٌ،
الواحِدَةُ: فُوطَةٌ، بالضم، أو هي لغةٌ سِنْدِيَّةٌ. ( القاموس المحيط )

عبد الرحمان الخرشي
29/05/2011, 09:36 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


الأخت المكرمة الأديبة الأريبة : (( وفاء بنداود ))

تحية أخوة ومودة

اطلعت على هذا النص السردي المدموغ بواقعية نقدية لواقع جدير بالتجاوز عن طريق إثارة الأسئلة الكبرى في الإبداع لواقع الفقر والجهل و ... و هي من المظاهر التي تؤدي إلى تغييب العقل وتغييب القيم الدينية الحقيقية عند شريحة اجتماعية نعرفها بالبداهة والمعايشة في المغرب وفي غيره من البلدان العربية الأخرى ، وهي تتقاطع مع سلوكات مشابهة في العالم الإسلامي بعامة ، عدا في بعض البلدان التي وإن تحصنت بترسيخ العقيدة في النفوس ، فهي لم تسلم من نفس الظاهرة التي طرحت هنا ؛ لكن بطرق تختلف ، وهي ليست مسؤولة عنها في واقع الأمر .

إن ما تعالجه هذه القصة باعتباره ظاهرة اجتماعية ارتسمت في الذاكرة الشعبية المغربية بـمدلولات ( ولي الله الصالح ) هي مما يستحق الوقوف عنده كما فعلت هنا ...

لن أجادل في النص من الناحية الفنية فقد اكتملت عناصره في بناء محبوك .. القائم بالسرد بقدر ما أنه بالغ في السرد والوصف فهو لم يلجأ إلى الحوار المادة الخام لإضفاء الواقعية على النص ، كما لم يحتط من الناحية اللغوية وهو يسرد ، إذ كادت تجرفه الدارجة المغربية إلى مالايستطيع تمثله المشارقة مثلا كما هو أمر العنوان ...




***



.

وفاء بنداود
29/05/2011, 10:52 AM
سيدي الكريم عبد الرحمن الخرشي
لقد أسعدني أن تكون أول قراءة لنصي هي قراءة نقدية
وأشكرك لتصحيح الكلمات التي طبعت سهوا بشكل خاطئ
ممنونة لمرورك الكريم
تحياتي وتقديري

كرم زعرور
29/05/2011, 12:18 PM
ألأخت الفاضلة وفاء
قرأتُ القصَّة َ، وأعجبتني الفكرة ُ،
أعجبني البناءُ القصصيُّ والسَّرد ُ ،
أعجبني نقدُ الأستاذ عبد الرحمان ،
ثُمَّ أعجبني تقبُّلُ النقد ِوالصَّدرُ الرَّحبُ !
تحيّاتي - كرم زعرور

وفاء بنداود
29/05/2011, 12:43 PM
سيدي الفاضل كرم زعرور
لقد أسرني مرورك الكريم
أشكرك جزيل الشكر لطيب كلامك
تحياتي وتقديري