المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بشراك أن عفوت.....



عبدالله سويدان العكله
03/06/2011, 12:29 AM
هذه قصة نقلها لي أحد الأصدقاء, حيث سمعها من سائق سيارة الأجرة عندما ركب معه ذات مرة. للأسف لم يذكر اسم الشيخ ولا مكان إقامته بالضبط, حيث أنه نسي أن يسأل عن ذلك.



بشراك أن عفوت .....

قال سائق سيارة الأجرة: في يوم من الأيام, وقبل سنين طوال, كنت أقود سيارتي, خارجاً من مدينة دير الزور التي أنا أحد أبناءها, قاصداً مدينة الحسكة لعمل مهم. وقد كنت أقود سيارتي بسرعة فائقة كي أنهي عملي, وأعود إلى دير الزور في اليوم نفسه. وفي طريقي المذكور شاهدت صبياناً يلعبون بكرة القدم على جانب الطريق, فخففت من سرعة سيارتي خوفاً من أن يقترب أحدهم من الشارع فيحصل مالا يحمد عقباه.

ولكن كما يقول المثل: لا يحمي حذر من قدر, فقد فوجئت بأحد الصبيان أمام السيارة, حيث كان يجري خلف الكرة, فوقع ما كنت أحذر منه, ودهست الصبي, رغم محاولتي اليائسة لتفاديه. نزلت من سيارتي بعد توقفها, وأنا في حالة شعورية لا أحسد عليها, والأفكار تتصارع في ذهني, غير مصدق أنني دهست طفلاً بريئاً, ثم أقول في نفسي: لعله لم يمت, لعلي أسعفه, صرخت في نفسي باكياً, لا لقد مات, فما العمل الآن؟ ثم لا تلبث فكرة أخرى تلح عليَّ بالهرب قبل أن يقتلني أهل الصبي وعشيرته, الهرب؟ ولكن إلى أين؟ فها هم الناس بدؤا يركضون نحوي من كل حدب وصوب. آه, ما هي إلا لحظات ويصلون إلىَّ, وأصبح الخوف يتمكن مني أكثر فأكثر, فإن وصلوني فإن أحدهم سيقتلني لا محالة, وكانت لحظات مرعبة, وأنا أتلفت يمنة ويسرى, بحثاً عن مكان أحتمي به.

في تلك اللحظات العصيبة, شاهدت بيتاً هو أكبر بيوت المنطقة, فقلت في نفسي: ليس أمامي من خيار إلا أن ألجأ إلى ذلك البيت, لعلهم يحمونني من غضب أولئك الناس. جريت بسرعة نحو البيت, وأنفاسي تكاد أن تتوقف حتى وصلت إلى البيت وأنا منهك القوى, ولا أستطيع الكلام إلا بصعوبة. وهناك وجدت رجلاً ذا هيبة ووقار, تبدو على محياه سمات الشهامة, والرجولة, والأخلاق العربية الأصيلة. فطلبت منه أن يحميني, فقال لي: يا ابن أخي لا تخف, فأنت في مأمن هنا, ولن أسمح لأحد أن يمسك بسوء ولو كلفني ذلك حياتي. فأدخلني إحدى غرف بيته, وهو يهدأ من روعي بكلماته الطيبة, وبصوته الجهوري الذي يبعث في النفس الثقة والاطمئنان.

وفي الغرفة بدأت الأفكار تدور في مخيلتي, والحزن والألم يعتصران قلبي,والتفكير يكاد يقتلني. فقد تسببت في إزهاق روح بريئة, فلجأت إلى الله بالدعاء أن يسامحني, وأن يخرجني من ورطتي, ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أجهش بالبكاء بحرقة لم أعهدها من قبل. لقد أحسست لحظتها أن روحي تكاد أن تنفصل من جسدي, وأحسست بجسدي يرتجف, وكأن برداً قارساً قد أصابني. وما هي إلا لحظات, وإذا بي أسمع أصوات الناس تقترب من المنزل, رويداً رويداً, فازددت هلعاً, وخوفاً, ورعباً. فقد ظننت أنهم لاشك جاءوا لينتقموا مني, فأصبحت أمشي, بل أهرول في الغرفة, وأنا أشعر أنها ما عادت تسعني, وفكرّت بالهرب, ولكن كيف, والشيخ أغلق الغرفة عليّ, وأصوات الناس تقترب مني, وكلما اقتربت زاد خوفي, وزادت سرعتي في المشي والهرولة. فها أنا ذا أقطع الغرفة طولاً وعرضاً, وجيئةً وذهابا, استند على هذا الجدار, وأضرب الآخر بيديَّ, أو أضرب ذاك بجبيني. أجلس تارة وأقف تارة, وأصوات الناس تقترب أكثر فأكثر, حتى أفقدني ذلك القدرة على التفكير والعجز عن أي تصرف.

وفي هذه الأثناء, وصلت جموع الناس إلى المنزل, وإذا بالعويل والصراخ يملأ البيت, فقد صاحت النساء, وبكى الرجال, ذلك أن الطفل الذي دهسته كان ابن صاحب البيت الذي لجأت إليه. ولقد كانت صدمة أخرى لي عندما عرفت ذلك, وشعرت بأن قلبي يدق بسرعة شديدة, وبقوة أستشعرها, بل أسمع صوت ضرباته. تفطر قلبي عندما علمت أن هذا الولد هو ولده الوحيد, وأيقنت أني هالك لا محالة, فبعض الناس يلوم الشيخ لأنه آواني, وبعض آخر يريد أن يقتحم الغرفة ليقتص مني, والشيخ يقف أما باب الغرفة يدافع عني, ويقول لهم: لقد أدخلت هذا الرجل بيتي, وأمنته. وأن من أراد قتله فليقتلني قبل أن يقتله. ورغم حزن الشيخ الذي لمسته في صوته, إلا أنه دافع عني باستماتة, وقال: بأن هذا أجل الله وإرادته, وأنني دخيل في بيته.

انصاع الناس لأمر صاحب البيت, وانشغلوا بأمر الصبي, وعرفت من خلال الحديث بأن هذا الرجل هو شيخ القبيلة. فجاء الشيخ الجليل, ومعه بعض خدمه, فأخرجني من الغرفة, وأنا لا أستطيع النظر في عينيه, ورافقني بنفسه حاملاً سلاحه, يرافقه خدمه حتى أوصلوني إلى سيارتي, وقال لي: اذهب يا بني إلى أهلك والله يسامحك, ولا تتوقف إلا عند أهلك.

قدت سيارتي عائداً إلى مدينتي, دير الزور, وأنا غير مصدق أن الشيخ قد عفا عني, فلعل أحداً من أقاربه, تأخذه الحمية فيلحق بي وخصوصاً أن الصبي كان ولده الوحيد, حيث أن الشيخ الجليل قد تزوج بثلاث نساء, ولم يرزقه الله إلا ذلك الولد الذي دهسته بسيارتي. والذي هو اليوم جثة هامدة. فيا لله در هذا الشيخ على صبره, ولله دره على ما أبداه من رباطة جأش, ورجولة وشهامة. لله دره على ما أبداه نحوي من كرم ومروءة, ومن تسامح ورفق. إنه رجل عظيم بحق, وإلا كيف يكون العظماء, فقد ذكّرني موقف الشيخ الجليل بشيم الكرم والعفو الصفح عند العرب, والتي كنا نقرأ عنها في بطون الكتب, ولا غرابة أن يتصرف الشيخ بتلك الأريحية, وبتلك الرجولة, فهو القائد في قومه, وهو الشيخ فيهم, ولا بد للقائد أن يكون قدوة في قومه, فيضرب أروع الأمثلة في الصبر والوفاء والتضحية, كما فعل ذلك الشيخ الجليل. فقد صبر على مقتل فلذة كبده, وليست أية فلذة, إنها ولده الوحيد, فقد أبت نساءه أن يلدن له ولداً غيره.

لا أعرف كيف قطعت المسافة إلى دير الزور, ذلك أني فقدت الإحساس بالزمن, فقد استغرقت في الأفكار والهواجس, وعيناي تذرفان الدمع على ذلك الشيخ الجليل وما حصل له, وما بدر منه من طيب. وبقي الخوف يلازمني طوال الطريق. ومن شدة خوفي من أن يلحق بي أحد لجأت إلى الشرطة في دير الزور, وقصصت لهم حكايتي, علهم يضعونني في السجن حيث أجد مأمناً. وبالطبع أرسلت الشرطة دورية إلى منزل الشيخ الجليل الذي كان يقطن في إحدى القرى.

كان مجيء الشرطة مفاجأة للشيخ ولعشيرته, فهم قد دفنوا جثمان الصبي دون أن يبلغوا الشرطة بالحادث, وقد استغرب الشيخ الجليل حضورهم إلى منزله. فنبشوا قبر الصبي, واستخرجوا الجثة. وقد تعرّض الشيخ الجليل للمسائلة القانونية. وكان إخواني وأهلي, وأقاربي قد استأذنوا الشيخ ليأتوه معزين, وشاكرين له موقفه الكريم. وبالفعل ذهبوا لتعزيته, حيث وجدوا منه كل ترحاب وكرم, وطلبوا منه أن يتنازل عني لدى الشرطة, فاستجاب الشيخ دون تردد, وتنازل عني, وقابلني عند الشرطة, وقد لامني لأني ذهبت للشرطة, وقال لي: ألم أقل لك اذهب إلى أهلك؟ سامحك الله لم لجأت للشرطة؟ فقد سببت لنا ولك المشاكل.

ذهبت إلى بيتي وأهلي, ومرت الأيام والشهور, وأنا أعاني نفسياً من تبعات الحادث, فصورة الطفل لا تفارق مخيلتي, ولحظات الخوف المرعبة التي مرت بي لا زالت ماثلة أمامي, وأنا أدعو لذلك الشيخ الجليل بالتوفيق, وأن يعوضه الله خيراً عن فقده لولده الوحيد. وبقيت على هذه الحال حتى مضى نحو عام كامل على الحادثة. فإذا بشخص يأتي إليَّ مرسلاً من الشيخ الجليل, يدعوني وإخواني ومن نحب اصطحابه معنا إلى وليمة في بيت الشيخ الجليل في يوم كان قد حدده له الشيخ.

لا أخفي سراً فقد كنت متردداً من الذهاب, وكانت الأفكار تدور في ذهني, ما بين خوف, وحياء من الذهاب, وحرج من اللقاء بذلك الشيخ الجليل, فأنا لا أعلم كيف أصبح حاله. ولا أضمن تصرف بعض أخوال الصبي أو أعمامه. ولكن أهلي وإخواني أشاروا عليّ بتلبية دعوة الشيخ, حتى لو كان في ذلك هلاكي, وأخبروني بأنهم سيذهبون معي إلى هناك. وفي اليوم المحدد ذهبنا, وكنت أتمنى في داخلي لو أن الطريق يطول ويطول. ولكن ما هي إلا فترة قصيرة من الزمن حتى وصلنا إلى منزل الشيخ الجليل. وعند وصولنا وجدنا الناس قد اجتمعوا عنده, حيث الجميع تبدوا عليه السعادة, والسرور, حتى الأطفال يلعبون ويضحكون, وأنا كأنني في عالم آخر, حيث كان يبدوا عليّ الارتباك والحزن والتردد, فما بداخلي من مشاعر لم يعد بإمكاني وصفه. وأنا أتساءل عن هذا السرور, والابتهاج الذي قابلنا به الشيخ الجليل الذي لا حظ علامات الاستغراب والتساؤل ترتسم على وجوهنا, فبادرنا بالكلام, ليزيل ذلك. فقال الشيخ الجليل: يا بني إن الله لا ينسى عباده, وأن الله قد عوضه خيراً, والحمد لله, فقد رزقه الله ثلاثة أولاد كلهم صبيان من زوجاته الثلاثة, وقال يا بني ما حدث كان بأمر الله, فلا تبتئس. فتقدمنا له جميعاً بالتهنئة القلبية الصادقة. أما أنا, ورغم ما أشعر به من ألم على موت ذلك الصبي, فإن فرحتي لذلك الشيخ لا يمكن وصفها, وقد فرحت كثيراً, وشكرت الله كثيراً على فضله.

وتناولنا الطعام في بيت الشيخ الجليل, الذي أثبت من جديد أصالة الكرم العربي, بما قدم من وليمة, حيث نحرت الذبائح الكثيرة, وحيث البهجة والسرور لم يفرقا محياه, وبما لقينا من ترحاب واهتمام قل نظيرهما. وفي ختام الحفل, ودعنا الشيخ الجليلو وشكر لنا حضورنا, فعدت مع إخواني إلى مدينتي دير الزور, وأنا في حالة من الفرح والسرور لا توصف.



عبدالله سويدان العكله

نصرالدين عمروش
03/06/2011, 02:05 AM
السلام عليكم و رحمة الله تعالى

أستاذي الكريم شكرا لك على هذه القصة المشوقة الهادفة


يقول تعالى :(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22]

العفو ... إنها نصيحة الخالق لعباده

الكثير من المشاكل اللتي يتخبط فيها العرب اليوم جراء نسيان هذه الفضيلة و ضيقة القلوب

لهذا نرى شعب واحد يتقاتل من أجل شخص واحد بل وصل بهم ان يستنجدوا بالأجانب لحمايتهم و لما لا قتل حتى أخوانهم

مفاهيم اختلطت من ضيقة القلوب و من ظلم الكراسي و من الفتن و من و من .......

و لو كان الكثير من هذا الشيخ في عالمنا اليوم , لن يشهد هذا العالم مشاكل قطا

شكر لك مرة ثانية

عبدالله سويدان العكله
03/06/2011, 09:08 AM
السلام عليكم و رحمة الله تعالى

أستاذي الكريم شكرا لك على هذه القصة المشوقة الهادفة


يقول تعالى :(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22]

العفو ... إنها نصيحة الخالق لعباده

الكثير من المشاكل اللتي يتخبط فيها العرب اليوم جراء نسيان هذه الفضيلة و ضيقة القلوب

لهذا نرى شعب واحد يتقاتل من أجل شخص واحد بل وصل بهم ان يستنجدوا بالأجانب لحمايتهم و لما لا قتل حتى أخوانهم

مفاهيم اختلطت من ضيقة القلوب و من ظلم الكراسي و من الفتن و من و من .......

و لو كان الكثير من هذا الشيخ في عالمنا اليوم , لن يشهد هذا العالم مشاكل قطا

شكر لك مرة ثانية




شكراً لك أستاذ نصر الدين عمروش على تعليقك الطيب.
هذه القصة حدثت قبل أكثر من ثلاثين عاماً بحسب تقدير الأخ الذي قصها لي,

سميرة رعبوب
03/06/2011, 09:24 AM
قصة جدا رائعة ومؤثرة أستاذنا الفاضل
من عفا عفا الله عنه ، وإن النصر مع الصبر
والعوض من الله تعالى .
وفقك الله ورعاك

عبدالله سويدان العكله
03/06/2011, 10:32 AM
قصة جدا رائعة ومؤثرة أستاذنا الفاضل
من عفا عفا الله عنه ، وإن النصر مع الصبر
والعوض من الله تعالى .
وفقك الله ورعاك



شكراً لك أستاذة سميرة, لقد أسعدني تعليقك المبارك.

أحمد المدهون
08/09/2011, 11:27 AM
الأستاذ عبدالله سويدان العكله،

قصة تعددت فيها العبر والحكم. فسبحان القائل:
(( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)) [سورة الرعد : 8-9].

أشكرك،
وأحييك.

عبدالله سويدان العكله
02/11/2011, 09:47 AM
الأستاذ عبدالله سويدان العكله،

قصة تعددت فيها العبر والحكم. فسبحان القائل:
(( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)) [سورة الرعد : 8-9].

أشكرك،
وأحييك.



شكرا لك أستاذي الكريم, وشكرا لإهتمامك الكريم.