المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العائد إلى الحياة



خالد حامد العرفى
16/06/2011, 07:18 AM
يوشك النهار على الرحيل بشمسه الملتهبة . توجَّه فى طريقه إلى وحدته الجديدة على طريق يمتد على جوانبه كُثيبات رملية فوق سهل منبسط بالرمال وقطع صخرية كلسية . تتناثر فوقه أَكَامٌ متباعدة ، من الحشائش الجافة كرؤوس شياطين . وأشــباح بأنياب حيَّات متوقّدة ، على طول الأفق .
تهبط السيارة "الجيب " العسكرية صاغرة على انحدار بسيط ، يُواجه ثكنات ثابتة على الأرض شاخصةً مثل المقامات تنتظر أولياء يمنحون البركة بالدعاء الصالح .
وصل إلى الكتيبة . تحيط بها مرتفعات رملية .. هضاب ملتفة كأفعى تعصر فريستها، حزام من تلال غير عالية ، كموج يعصب وسط قيادة الكتيبة ، ويشد أزرها ، في وجه الريح ، حين تهب عواصفها فى الصحراء.
استقبلته على الدرب أغنام هزيلة وجِمال مُشتتة بدون راعٍ لم ترَ كلأ ربيع في حِما بلا سياج !!
الوقت ليس وقت سراب لغدير تغيض بمائه رمال الصحراء !!
القطا والعصفور والحبارى طلقي . حيوان الصحراء الوحشي كامنٌ ينتظر فرائسه . وليل مظلم يغشى الصحراء . وتتلوّن في أثوابها الغُول!!
أدى التحية العسكرية للقائد الذي غادر " طابور " المساء . بثبات:
- " تمام يا” فندم “ . عقيد (مصطفى الدمرداش). قائد "الاستطلاع" الجديد منقول بقرار رقم .... "
يرى الجميع أن النقل نوع من " التكدير" والعقاب. يراه متعة لا حدود لها . سياحة وتطواف . توارثها من جدِّه الأكبر جيلاً بعد جيل. شاقاً الأودية والسهول ، صاعداً الجبال والتلال .
عن ظهر قلب يحفظ قصص وحكايات علماء الفلك . تتآلف روحه مع أرواحهم . يبثهم آماله . يكره التنجيم والمنجِّمين والعِرافة والعرَّافين . يعلم أن هناك كواكباً أخرى لم تخلق عبثاً أو باطلاً ! يرى وينظر. يمقت الآبق عن ربض الدين !!
يتدبر روعة الكون الأخاذ ، وأسراره .. تم بناؤه بإحكام شديد عجيب . لا يعقله مَنْ يبع وهماً . لم تتدبره بطانة السوء لفرعون وهامان وقارون . ورغم ذلك يصوم الصائمون . ويسيح السائحون في يوم القيظ ، برداً على القلوب .
نال ترقية حديثة فهنأَّوه . معانقة نسراً ، لمعت النجمتان الذهبيتان، تُزيّن كتفيه. تلألأت . التمعت بارقةً في عيون الغيلان المتربصة. أرعبتها . خشيت مخالب النسر وهويان النجوم . فرَّت هاربة إلى حين . دخلت كهفوها !
****
مرَّت على نقله بضعة أشهر . ألفه الجميع وألفهم . تَقبله القلوب وتَتبعه العيون . سبق إلى قلوبهم من محبّته ما هو أسرعُ من الماء إلى قراره ، ما لم يألفوه .. يجنُّ عليه الليل . يكسوه بسكينته . يدرى جَمَاله . يُعاين أنهار لبن وأبراج السماء. لم تغب نجومها . تتلألأ في ظلمتها . لم يفقد إحداهن !!
سماء شديدة .. قوية .. دقيقة .. متماسكة.. محكمة . مرآة تعكس صورة البحر الواسع الكبير تسكنها مجرَّة عجيبة يعرفها بسيماها.. ترسم طريقاً لبنياً . سكة التبِّانة .. منزوياً بها الإنسان!!
صيفاً ماء الإسكندرية هدية من بعض القادمين من الزملاء ، أو "جركن التعيين" عشرون لتراً من ماء الآبار المصفّى .. تمنحه الأرض الطيبة للعطشى.
يُحب التّين . يذهب أحياناً إلى قرية " بقبق " . تبيعه الأعراب بالشجرة وليس بالقفص . أحياناً تقايض به مؤنة من المعسكرات المتناثرة هنا وهناك . راهب الليل يشترى نفسه . لا يُسكره التِّين وليس إلى ذلك سبيل!!
ماء السماء أحلى من الشهد فى الشتاء ، وطهورا. يَردُ الماءَ ، يرتشف من برك الأرض الصخرية بيديه . يرى صورته صافية، بوجهه الأسمر، بخلفية السماء . يرتوي من الفرات قبل أن تمتصه بشراهة وَوَلَهٍ ، في بطنها رمالُ الهجير والقيظ . وترابٌ عَطِش لدماء الأعداء .
بات يعرف رائحة الزعتر والريحان والنعناع والبردقوش. يجمع الأعشاب والنباتات . يقطف الأزاهير البريّة .. والسُّم الزُعاف ترياقاً لنفوس ضعفاء.. والأريج!!
هنا بكور وبكارة . ليل أخاذ . ونجوم يعرفها من سيناء . يسامرها. يودعها سرَّه. يعرفها آخرون كما عرفها كثيرون. يتفكر في مواقعها . تستهويه أسماؤها . تَسْبَح روحه معها، في أفلاكها.. تُسَبِّح . بظلمة الكون تنير له الدرب . تنطق .
يتمنى أن يمتطى شهاباً أو مذنباً . تشق ظلمة الليل سفنا بيضاء اللون ، تخرج به إلى عالم آخر ، من فروج وأبواب السماء.. عالم لا تسكنه غيلان الأرض !
لا يكتفِ بِمَ يراه . يريد ما لا يراه أحد الآن . يتعدى ما يُبصِر إلى ما لا يُبصَر ، من المجرَّات ، عبر مادة مظلمة قوية ، وشديدة.. غير مرئية . تملأ الكون . بنظام دقيق جداً . لا تُرى . عن ذلك ، يُخبر الجنود !!
يريد سبر غور تلك المادة . تنتشر محبوكة على شكل طرق ، أو على شكل نسيج . تتخلق فيها المجرات . تجري أشبه بطرق سريعة . مادة تتحكم بما هو مرئي في الكون . يزيده حباَ الجحود!!
- “ يافندم “ هل تعرف أن الجنّ تسكن الصحراء؟!.."
لم يغير ما نوى الحديث فيه . يخبرهم بعض الشيء عن تحكم مادة الكون بتوزع المجرات . عن سنن الله وآياته .
- " هذه النجوم والمجرات والنجوم البعيدة اللامعة مثل المصابيح المعلقة . تكشف ما حولها . صورها الله كما شاء...، الجنُّ ، الجنَّةُ ، الجانُّ ، واحدةٌ مخلوقة من نار .. !!"
كاد يُنهى حديثه للجنود التي جلست على الأرض ، في أمسية تدريبية صيفية ، في "حباطة " .. صحراء مصر الغربية .. خلف أرض " طابور " الكتيبة.
استحالت محاضرة التدريب المُركِّز لحكاية أسطورية . ترهف لها آذان متعطشة ، وقلوب وِجِلَة . تدفئ جُمله الأفئدة . تأسر كلماته العقول . في كهوفها المظلمة تحارب الغيلان كلمات الشهداء. لم تنتهي رحلته . طالبته الجنود بمزيد من الغيلان لقتلها!!..
بأسلوب يجذب القلوب ويفتنها ، يَشرح . أمثلة تأسر الأفئدة، يُعطى. مضي متحدثاً كأنه يخبرهم عن حبيبته . يرونه فارساً جاءهم ينثر على رؤوسهم وأمامهم نورا . تعرفه الأندلس .. غرناطة .. قرطبة .. القاهرة .. بغداد .. ومدن للتِّيه هُدِّمِت .. وألف بحر ونهر وألف سور .. ودمشق الفيحاء!!
- " إحكِ لنا يا “ فندم “ . إروِ لنا "
- " عن الجنّ ولاَّ الغيلان ولاَّ النجوم ؟! "
- " عن أىّ الأشياء تحبُّ ؟!"
- " ها هي السماء فوقنا مبنيّة .. مزيَّنة بِمَصَابِيحَ .. ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق .. بناء محكم .. "
- " يافندم “ هذه ليست محاضرة !.. هذا شيء كما ألف ليلة وليلة . حضرتك تجعلنا نُّحب الجيش والعلم والنجوم .. حبَّبَّتنا في الليل ونجومه و نُّحبك والسماء.. !! "
- " هل تعرفون أن كثيرين. ماتوا ، أو أُسروا في الحرب بسبب جهلهم النجوم . وقعوا في التِّيه . لم يقرأوا الكتاب !.. كثيرون أولئك مَنْ تاهوا في الصحراء !!"
- " هل هذا يعنى أن نُصبح عُلماء ؟ "
- " ليس هكذا .. على الأقل يجب أن تعرفوا ماذا ينقذ حياتكم. تستدلون بالنجوم ليلاً . بالشمس نهاراً . إذا جرى لكم شيء أو تُهتم . أو جاءكم الأعداء !! .."
عاشقاً النجوم والـتأمل في السماء . يخبرهم أنها آية من آيات الله. يخبرهم عمَّن تاهوا لأنهم ضلوا الطريق . لم يعرفوا شرقاً من غرب ، ولا سنناً للكون .. سُنة الله التي قد خَلَت من قبل وليس لسُنةِ الله تبديلاً.. لم يهتدوا..!
أكمل حديثه في حُبٍ :
- " أنظروا هذه "مجموعة الدبّ الأكبر". أحبِّوها تعرفكم.. وتُحبكم ! يعنى كما تحبون نجوماً زائفةً، اعرفوا نجوم السماء ..."
- " هذه المجموعة تتكون من نجوم .... "
- "" يافندم “ من أين أنت ؟! "
تجاهل الإجابة عن السؤال . استمر شارحاً :
- " أتعلمون أن للسماء طرقاً وأبواباً وفروجاً .. أشبه بطرق سريعة فى مدينة مزدحمة !! "
– " يافندم “ كيف جِئت هنا ؟!
- كيف أصبحت هكذا .. من علمَّك .. فعِلمت كل ذاك؟!
- نحن نرى هذا في الريف والصعيد ولا نعرفه ، هكذا مُضاء ؟!
- ونحن لا نراه أصلاً في المدينة .. هنالك الدخان والغبار والعادم والزحام والآثام ؟! "
لاحقه الجنود بالأسئلة . عزف لحناً يحبّه . أصَّروا . لم يتململوا . تشوَّقوا . أذاقهم خمره . استزادوا . جاءتهم كائنات الصحراء . ومخلوقات الليل من الماضي السرمدي . زادهم نشوة. الكل حضر يسمع اللحن الجميل . لم يداعب النوم جفونا مرهقة . لم تملّ الأرواح. سمعوا صوتاً رخيماً تتردد أصداؤه ، تدوي عذوبته في الفضاء.
- " لست بقادر على وصف جمال السماء وبناءها الذي يذهل أولى النهى ويسحرهم.. !! ... من يستطع أن يرى كل نجوم السماء!!.. من يرى تلك السماء كما أراها .. "
- " يا “ فندم “ إحكِ لنا..!! "
- " لففتُ ودُرتُ .. سيدي برانى .. سيوة .. الواحات .. السويس .. الإسماعيلية .. فايد .. الفالوجة ..، وطفت سيناء . والآن هنا معكم في " حباطة " .. وغداً لا أعرف أين أكون.. لكل شيء وقتاً لا يعدوه !! "
- " يعنى كعب دائر " يافندم “ ؟! "
" الحكاية بدأت بجدِّى العارف بالله . أصل من لا يعرف ربَّه. ربُّه لا يعرفه .. لا يورثه الأرض."
كبيرةٌ الأرض.. واسعةٌ .. لا يقدر أحدٌ لّمها ! جدَّى طوّاف سوَّاح. عارفٌ بكل شبر . لا يقع في متاهةٍ ، أو يبتلعه تِّيه . تلي الكتاب..! "
- “ ماذا بعد يا “ فندم “ ؟! "
- " كيف عاش ؟! "
- " يمدّ كفيه في هجيرها يفتح صفحاتها، يبْسطها ، ولا تصكّ بوهجها اللافح وجهه . لا يخدعه السراب كبريق سيف. عارف بلغة كتاب الصحراء .. جبالها وسهولها ..أوديتها .. وِهادها.. رياضها .. رمالها .. أبارقها .. هجيرها .. جدبها . شراستها .. قسوتها .. جفافها. والحياة كاسية الأرجاء . عطاءاً واسعاً رحباً ، وأثراً لا تمحوه الأيام . يعرف ما يكون بما قد كان .. وما عاقلٌ في أرض بِغَريب ! “
- " أكان يخاف ، أو يخشى شيئاً ... ؟! "
- " جدّى لا تُخيفه السحب الثقيلة ، تحت أصوات الرعد العنيفة .. لا يهاب الغيوم السوداء ... يسمع للجنّ في الفلاة أصواتاً، تزعق. تعانق صوت الريح . يُميّزها . لا يخشاها .. ليس له أراجيف أو خيالات !
تتراءى له ، في تسبيحه ، كثبان الرمال أجساداً للعذارى وحُوراً تتنفس الصبح ، ونسائم الربيع... يخشى الله "
ذهبت عسعسة الليل وانتصف . نجوم السماء لم تغرْ. العيون لم تهدأ . بدأ رواية حكاية جدِّه . عاد للحياة فرأوه . انطفأت "ماكينة الكهرباء " في المعسكر بموعدها . . أنارت النجوم ظلام الليل . أنارت كلماته القلوب . طهَّرتها . أكملَ للجنود الحكاية عن جدّه، وفى حُبّ وَلِهَ الجنود!
استحالت السماء بنجومها المتلألئة ، قُبةً أوبـسـاطاً من زمـرد.. بحـراً خـضـماً .. فيها دراري من عقيقٍ . وزهر هوادي .. نجومُ جوهـرِ،.. تحتفل بسَحَرٍ، بعد سَحَرٍ . وتكسوه سِحْراً ، يشفى القلوب بذكر الله !!
بدأ في وصف نجوم مجموعة " كثيوبيا ".
انسلخ الليل عن أسحاره . انقضى الدجى . انشق بفجر جديد . انقضت شهب السماء رعداً يكاد يخطف سناه الأبصار . أحرقت الشياطين . لم تخطف عيون الجند الأطهار !!
نادي المُنادى : “ الصلاةُ خيرٌ من النَّوم . الصلاةُ الصلاةُ‏!!”
