المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محضر إهمال



خالد حامد العرفى
16/06/2011, 07:23 AM
امتثلت القاهرة . أعلنت طاعتها لمن شق صدرها بطرقات وأزقّةِ ضيّقة.. لا تشغلها أحلام بريّة ضاعت في المدن . تجوب فيها أشباح تائهة من سطور التاريخ . مخنوقة العبرات. تتضور جوعاً وسغباً بآهات واهنة . تتقوت على ذكرياتها فلا تشبع . تعتريها صُفرة الوهن تحت وطأة حِمل القرون وذكرى الماضين. تنغرس في قلبها تستبيح شوارعها. تتشحط مكلومة في دمها الممتزج بضجيج الهائمين . يلعنها أنين من لا يلحقون بمركبة عامة. لا تأبه بهم أو بِرُكّاب (ميكروباص) لا يجدون مهرباً من الوقوع في دمها المسفوح على الطُرقات .. تتعالى أصواتهم في سماء باهتة رماديّة عارية .. طبولاً لا تبهجُ السامعين . أصواتاً لا تجتاز جدراناً صدئة مطبقة على ضلوعٍ قد اختلفت .. بصوت غاضب وفى توتر غير معقول!!
- يا ( أُسطه ) حرامٌ عليْك .. لدينا أشغال ..
- يا ( أُسطه ) لا تنزلني هنا .. الولد مريض وذاهبة به إلى المستشفى .. الولد محموم حرامٌ عليْك !!
- يا جماعة ألا ترون " لجنة المرور " سوف يأخذون السيارة منى .. الرخصة منتهية ..
- ما الأمر ؟
- هذا ( كمين ) مرور..
- ولماذا تسير بلا رُخص ؟
- هل ستعطونى درساً .. ألا يكفيكم وقف حالي ؟!
بدأ الركاب يهبطون على بُعد مائة متر من رجال الدرك ..تلقفها الطريق الأسير .. لم يفلتها !
- ألا تعرف طريق المستشفى يا أخي ؟!
- تمشين قليلا لتصلين إلى النيل ثم اسلكي الطريق إلى الشمال..
- الولد (مُولع ) على كتفي .. يهذى من الحُمّى
- أمي .. أمي !!
- تعالى هنا يا علىّ .. هل أمسك بك يا بني أم أحمل أخاك ؟!
- لا تترك " الجلابية " يا علىّ !
تعلَّق قلبها بسيارة قادمة من الكمين لعلها تصل بها إلى طبيب . وهو ما لم يحدث . تثاقلت خطواتها مع وزن السنوات الست.. لم تحمله عنها القاهرة. ألقت بها إلى الطوفان !!
- يا علىّ .. يا علىّ .. أين ذهبت يا بني .. يا عليّ !
تشابكت الأصوات على بعد خطوات متبقية ..
- يا علىّ .. يا علىّ ..
لم تتبين شيئا من الزحام على السُّور الفاصل عن نهر أكله الحنينُ للطمي البضّ .. وصلت حرارة المحموم إلى فؤادها . كَوَت كبدها . لم يطفئها النيل !!
- يا علىّ .. يا علىّ
- ألم يلحق أحدٌ الطفل ؟!
- مع من كان هذا الطفل .. كيف سقط في النيل ؟
- يا علىّ .. يا علىّ .. يا عليّ
- على من تبحثين ؟!
- طفل صغير ..
- كم سنة عمره ؟
- سبع سنوات !!
***
اشتد القيد على الدرب المأسور .. لم يتنبأ " المقريزى " بهذا العُقم . وقد أرَّخ للمستنصرىّ واصفاً مآدب الحزن .. في القاهرة لم يعد أحدٌ يرى فيضان النيل بعد بناء عالٍ للسّدّ .. ولا يسأل أحدٌ أين المُعز ولا قائده جوهر الصقليّ .. ولا أين صارت خزائن " يوسف " الكريم .. فقد سرق التاريخ السرَّ . ما بعد سفينة " نوح " فُلْك يستوي على الجُوديّ !
- ما هذا الزحام ؟
- يقولون أحدهم سقط في النيل ..
- يا علىّ .. يا علىّ .. أين أنت يا علىّ ؟!
- ابنُ مَنْ هذا ؟! .. ألا يوجد أحد يعرفه ؟!
- ابني .. ابني .. يا عليّ يا عليّ
***
حلَّق طائرَ الروح بوحشتهِ ممتلئاً بماء النهر !! محفوفا برفيفِ أجنحةِ الملائكة . دون قُبْلَة وضمَّة الأمِ .. دون دعاء الأولياء والعارفين . عثرت الدابّة .. شقَّت صرختها الأكباد .. لم تسمعها مآذن القاهرة أو تّدق لها الأجراس . لم يُسطر في تاريخها اليومُ جديداً . لم تمنح الطائر دماً وحياة . سكنت النيلَ صرخُتها فاحتفى بها دون أن يُسجل هذا الاحتفال ابن إياس في بدائعه ، أو ابن تغري بردي في نجومه .. انفرط العقد .. ولفظت أنفاسها البريّة!!
لم يُمهد أحد للدابّة طريقاً .. التف الهائمون . وقفوا ولم يبكوا في حضرةِ الموت . فما أصعب أن يبكي القلب ولا تعرف العين الدموع. شهقت الأمُّ شهقتها الفريدة . مزَّقت قلوب دهماء مكلومة حتى الثمالة . أحاطوا بها صامتين دون أن ينطقوا بكلمة. سقطت حاملةً المحموم غائبيْن عن الوعي . وجهه زهرةٌ من الشمس. جمرةٌ من نار لم تَلفح وجوه من حضروا!!
جاء ضباط الكمين يزِّفون لتحرير الطريق من أسره .. تزداد الأوراق الرسمية ورقة والسطور سطرا ، فلم يهرب الموت من ورد السماء الحزينة . اُنتشلت الجثة نديّة للمرة الأخيرة. طُويت السبعُ الملآى بالانتظار بين أوراقَ الأشجارِ المتناثرة أنصالاً في قلب الأرض .. انسلَّ الحضور على شفاههم ملحٌ أُجَاجٌ .. لم يرتشفوا من النهر العذب الفرات ، أُشربوا في قلوبهم حب الصمت ولم يمنحهم جرعة ماء.. لم يغتسلوا من رائحة الموت..!!
- طفل غريق ؟! أين أهله ؟! .. ما هذا الإهمال ؟!
- هذه أمُّه يا ( باشا ) .. غائبةٌ عن الوعي !!
- أفِقْها يا ( عسكري ) .. لا يصحُّ أن نُبدد الوقت . هذا ليس بوقت موت . الطريق (لازم يمشى ) .... سوف يُحرر لها محضر إهمال لغرق الابن..!



عبدالله بن بريك
16/06/2011, 07:43 AM
قصة رائعةٌ

مزجٌ ناجحٌ بين الأصوات و الحركات و المواقف.

سردٌ متزنٌ تخففُ من سرعته الحواراتُ .

ساهم الاختزال في منح المتلقي فرصاً للتأويل..

التفاصيل الخاصة بالزمان و المكان أضافتْ للنص بعداً تأْريخياً.

تقديري الفائق ، أخي المبدع خالد حامد العرفي.

خالد حامد العرفى
17/06/2011, 05:16 AM
أخى الكريم استاذ عبد الله أشكرك على كلماتك الطيبة وتحليلك المدرك لروح هذا النص . دمت بود وبخير وبارك الله فيك