سليمان أبو ستة
21/10/2006, 02:41 AM
بحر الدوبيت وأثره في تأصيل أنماط وزنية جديدة في العروض العربي
لم يكف العروضيون بعد الخليل عن السعي في محاولاتهم المستمرة لاكتشاف أنماط وزنية جديدة في الشعر العربي تكمل رسم الخريطة الإيقاعية للنظم في ذلك العصر وما تلاه . وكان قد بلغ عدد الأوزان التي استنبطها الخليل من دوائره خمسة عشر في ثلاثة وستين ضربا، ومع ذلك فلم يكن من بينها الوزن الذي عرف من بعد باسم (الخبب) ، نحو قول بعض القدماء :
أشَجاكَ تَشَتُّتُ شِعبِ الحَيِّ .............. فأنتَ لَهُ أرِقٌ وَصِبُ
ثم جاء أبو الحسن العروضي ( ت 342 هـ ) وربط هذا الوزن بدائرة المتفق في موضعه الذي أهمله الخليل واستشهد له بالبيت المصنوع التالي :
في هَواهُ فأربى عَذولٌ فما.............زادَ بالعَذلِ إلا غَراما لَحا
وسماه ( الغريب )، ولم يلبث هذا الوزن حتى استقرت تسميته بعد ذلك على ( المتدارك ) نسبة إلى نوع من السير يشبه إيقاع هذا البحر وليس لأن الأخفش تداركه على الخليل كما زعم بعضهم .
والواقع أن الفارق بين الوزنين الخبب والمتدارك كبير جدا ؛ فتفعيلة المتدارك تتألف من سبب خفيف ووتد ، بينما لا يتحقق وجود التفعيلة في الخبب الذي نرى أنه يتألف من توالٍ للأسباب الثقيلة يصيبها ما يصيب مثيلاتها في (الوافر) و(الكامل) من عصب وإضمار لم ينتبه إليه البعض وحسبه تحولا من السبب الثقيل إلى السبب الخفيف ، فكأن أصحاب هذا القول لا يفترضون في نسق الخبب أي حركة إيقاعية ( زحاف ) ؛ فإذا عرض للسبب الثقيل زحاف يسكن فيه متحركه ظنوا أن السبب الخفيف حل محله .
وبهذا الوزن الذي استقر العروضيون على تسميته بالخبب نشأ نمط جديد من الإيقاع يستمد مادته من السبب الثقيل وحده وبات مقبولا في الذائقة الشعرية وخاصة بعد قصيدة الحصري التي اشتهرت بمعارضاتها العديدة .
غير أن إبداع الشعراء لم يتوقف عند هذا النوع الجديد من الإيقاع ، واستمر في محاولاته الحثيثة للبحث عن أشكال أخرى لعل أهمها ما يعرف بثورة الموشحات التي قلبت موازين النظام الخليلي رأسا على عقب ، وذلك في سعي أصحابها المحموم لابتكار أنساق وزنية جديدة ربما لا يمكننا أن نستسيغ سماعها بدون أن يجتمع في أدائها الموسيقى والغناء . ولن أتطرق في هذه العجالة إلى الحديث عن الموشحات فهو بحر عميق لا يكفي للإحاطة به مقال مختصر كهذا، ولكنني سأعرض هنا لشكل جديد من الشعر أطلق عليه اسم الدوبيت ( واختار الدكتور عمر خلوف في دراسته الرائدة عنه تسميته بالبحر الدبيتي تبعا لحازم القرطاجني )، وهو يجمع بين النمطين السابقين من الإيقاع ، أعني إيقاع أوزان الخليل المشتمل على السبب الخفيف والوتد ، وإيقاع الخبب المؤلف من الأسباب الثقيلة الصافية . وقد ظهر هذا الإيقاع في مرحلة مقاربة جداً لظهور بحر الخبب حيث تعود أول نماذجه المروية إلى بداية القرن الثالث الهجري كما ذكر خلوف استنادا إلى ابن تغري بردي .
ويتحدد النسق الإيقاعي للدوبيت في البدء بأربعة أسباب ثقيلة ( تصل إلى خمسة كما في بحر السلسلة ) ثم يبدأ ظهور سببين خفيفين يعقبهما وتد ( مستفعلن ) ليختم هذا الإيقاع بثلاثة أسباب ثقيلة ( وصلت في النماذج التي رصدها خلوف أربعة ) .
ومن أمثلة هذا الدوبيت قول الحلاج :
كَم ينشُرُني الهَوى وكَم يَطويني
يا مالكَ دُنيايَ ومالكَ ديني
ويجوز لأي من الأسباب الثقيلة هنا أن تتبادل استخدام المقاطع القصيرة والطويلة على السواء بحرية لا تتوقف إلا عند نهاية النسق الخببي الأول بسبب الانتقال من هذا النسق إلى تفعيلة وتدية ( كما يرى الدكتور خلوف ). وأما في نهاية النسق الخببي الثاني فيثبت السبب الثقيل عند المقطع الطويل أو زائد الطول لأنه محل الوقف التام . وكذلك يمكن لتفعيلة الرجز أن تزاحف بأي من الزحافات المعروفة في هذا البحر على نحو ما رأينا في بيتي الحلاج .
وقد بلغ عدد قوالب البحر الدبيتي التي رصدها الدكتور خلوف ثلاثة وأربعين قالبا ما بين تامة ومجزوءة ومشطورة . وفي هذه القوالب جميهعا لا يقل عدد أسباب النسق الخببي الأول عن أربعة أسباب ثقيلة . وأما النسق الأخير فتعرض له ألوان من الجزء والحذف إلى الحد الذي طال وتد تفعيلته الوحيدة كما نرى في هذا القالب الذي استخرجه ابن المرحل :
أهلا بكَ يا رشا.................يا أحسنَ من مشى
إملك لكَ ما ترى...............واحكمْ لكَ ما تَشا
إن نظرة الدكتور خلوف في رصده لقوالب هذا البحر تبدو محكومة بالإرث الخليلي الذي ينظر إلى تشكيلات البحور على أنها ضروب تتنوع بتأثير من العلة والزحاف اللازم مع عوامل الحذف الأخرى من جزء وشطر ونهك . ولم ينظر إلى أن الشكل الدبيتي يتألف من مزيج من إيقاعين مختلفين تماما هما إيقاع الخبب وإيقاع التفعيلة ، وأنه طالما كان يوجد نسق إيقاعي له النمط : أ ب أ ، ومنه يمكن الوصول إلى النمط : أ ب فإنه من الممكن منطقيا افتراض وجود النمط : ب أ ، أي الوصول إلى شكل دبيتي يبدأ بالتفعيلة وينتهي بالنسق الخببي ، ولا يشترط أن تكون التفعيلة من الرجز بل من أي تفعيلة وتدية أخرى بحيث يكون النمط الحاصل هو (ج أ) أو (د أ) مثلا .وقد استمعنا إلى نموذجين اثنين من هذا الشكل الدبيتي أحدهما بالعامية والثاني بالفصحى كما يلي :
النموذج الأول لبيرم التونسي من ألحان رياض السنباطي وغناء أم كلثوم ، وهو من النمط ب أ :
القلب يعشق كل جميل
وياما شفت جمال يا عين
واللي صدق في الحب قليل
وان دام يدوم يوم ولا اثنين
والنموذج الثاني لا أعرف قائله أو ملحنه ، وكنت استمعت إليه في إحدى القنوات الفضائية المخصصة للأطفال وهو من النمط ج أ :
كلّ شيء حيّ كان
من نبات أو إنسان
كلّ طير في الأجواء
كلّ شيء تحت الماء
ربنا قد جلّ عُلاه
من مياه قد سوّاه
أرأيت البحر يثور
أرأيت النهر يسير
لم يكف العروضيون بعد الخليل عن السعي في محاولاتهم المستمرة لاكتشاف أنماط وزنية جديدة في الشعر العربي تكمل رسم الخريطة الإيقاعية للنظم في ذلك العصر وما تلاه . وكان قد بلغ عدد الأوزان التي استنبطها الخليل من دوائره خمسة عشر في ثلاثة وستين ضربا، ومع ذلك فلم يكن من بينها الوزن الذي عرف من بعد باسم (الخبب) ، نحو قول بعض القدماء :
أشَجاكَ تَشَتُّتُ شِعبِ الحَيِّ .............. فأنتَ لَهُ أرِقٌ وَصِبُ
ثم جاء أبو الحسن العروضي ( ت 342 هـ ) وربط هذا الوزن بدائرة المتفق في موضعه الذي أهمله الخليل واستشهد له بالبيت المصنوع التالي :
في هَواهُ فأربى عَذولٌ فما.............زادَ بالعَذلِ إلا غَراما لَحا
وسماه ( الغريب )، ولم يلبث هذا الوزن حتى استقرت تسميته بعد ذلك على ( المتدارك ) نسبة إلى نوع من السير يشبه إيقاع هذا البحر وليس لأن الأخفش تداركه على الخليل كما زعم بعضهم .
والواقع أن الفارق بين الوزنين الخبب والمتدارك كبير جدا ؛ فتفعيلة المتدارك تتألف من سبب خفيف ووتد ، بينما لا يتحقق وجود التفعيلة في الخبب الذي نرى أنه يتألف من توالٍ للأسباب الثقيلة يصيبها ما يصيب مثيلاتها في (الوافر) و(الكامل) من عصب وإضمار لم ينتبه إليه البعض وحسبه تحولا من السبب الثقيل إلى السبب الخفيف ، فكأن أصحاب هذا القول لا يفترضون في نسق الخبب أي حركة إيقاعية ( زحاف ) ؛ فإذا عرض للسبب الثقيل زحاف يسكن فيه متحركه ظنوا أن السبب الخفيف حل محله .
وبهذا الوزن الذي استقر العروضيون على تسميته بالخبب نشأ نمط جديد من الإيقاع يستمد مادته من السبب الثقيل وحده وبات مقبولا في الذائقة الشعرية وخاصة بعد قصيدة الحصري التي اشتهرت بمعارضاتها العديدة .
غير أن إبداع الشعراء لم يتوقف عند هذا النوع الجديد من الإيقاع ، واستمر في محاولاته الحثيثة للبحث عن أشكال أخرى لعل أهمها ما يعرف بثورة الموشحات التي قلبت موازين النظام الخليلي رأسا على عقب ، وذلك في سعي أصحابها المحموم لابتكار أنساق وزنية جديدة ربما لا يمكننا أن نستسيغ سماعها بدون أن يجتمع في أدائها الموسيقى والغناء . ولن أتطرق في هذه العجالة إلى الحديث عن الموشحات فهو بحر عميق لا يكفي للإحاطة به مقال مختصر كهذا، ولكنني سأعرض هنا لشكل جديد من الشعر أطلق عليه اسم الدوبيت ( واختار الدكتور عمر خلوف في دراسته الرائدة عنه تسميته بالبحر الدبيتي تبعا لحازم القرطاجني )، وهو يجمع بين النمطين السابقين من الإيقاع ، أعني إيقاع أوزان الخليل المشتمل على السبب الخفيف والوتد ، وإيقاع الخبب المؤلف من الأسباب الثقيلة الصافية . وقد ظهر هذا الإيقاع في مرحلة مقاربة جداً لظهور بحر الخبب حيث تعود أول نماذجه المروية إلى بداية القرن الثالث الهجري كما ذكر خلوف استنادا إلى ابن تغري بردي .
ويتحدد النسق الإيقاعي للدوبيت في البدء بأربعة أسباب ثقيلة ( تصل إلى خمسة كما في بحر السلسلة ) ثم يبدأ ظهور سببين خفيفين يعقبهما وتد ( مستفعلن ) ليختم هذا الإيقاع بثلاثة أسباب ثقيلة ( وصلت في النماذج التي رصدها خلوف أربعة ) .
ومن أمثلة هذا الدوبيت قول الحلاج :
كَم ينشُرُني الهَوى وكَم يَطويني
يا مالكَ دُنيايَ ومالكَ ديني
ويجوز لأي من الأسباب الثقيلة هنا أن تتبادل استخدام المقاطع القصيرة والطويلة على السواء بحرية لا تتوقف إلا عند نهاية النسق الخببي الأول بسبب الانتقال من هذا النسق إلى تفعيلة وتدية ( كما يرى الدكتور خلوف ). وأما في نهاية النسق الخببي الثاني فيثبت السبب الثقيل عند المقطع الطويل أو زائد الطول لأنه محل الوقف التام . وكذلك يمكن لتفعيلة الرجز أن تزاحف بأي من الزحافات المعروفة في هذا البحر على نحو ما رأينا في بيتي الحلاج .
وقد بلغ عدد قوالب البحر الدبيتي التي رصدها الدكتور خلوف ثلاثة وأربعين قالبا ما بين تامة ومجزوءة ومشطورة . وفي هذه القوالب جميهعا لا يقل عدد أسباب النسق الخببي الأول عن أربعة أسباب ثقيلة . وأما النسق الأخير فتعرض له ألوان من الجزء والحذف إلى الحد الذي طال وتد تفعيلته الوحيدة كما نرى في هذا القالب الذي استخرجه ابن المرحل :
أهلا بكَ يا رشا.................يا أحسنَ من مشى
إملك لكَ ما ترى...............واحكمْ لكَ ما تَشا
إن نظرة الدكتور خلوف في رصده لقوالب هذا البحر تبدو محكومة بالإرث الخليلي الذي ينظر إلى تشكيلات البحور على أنها ضروب تتنوع بتأثير من العلة والزحاف اللازم مع عوامل الحذف الأخرى من جزء وشطر ونهك . ولم ينظر إلى أن الشكل الدبيتي يتألف من مزيج من إيقاعين مختلفين تماما هما إيقاع الخبب وإيقاع التفعيلة ، وأنه طالما كان يوجد نسق إيقاعي له النمط : أ ب أ ، ومنه يمكن الوصول إلى النمط : أ ب فإنه من الممكن منطقيا افتراض وجود النمط : ب أ ، أي الوصول إلى شكل دبيتي يبدأ بالتفعيلة وينتهي بالنسق الخببي ، ولا يشترط أن تكون التفعيلة من الرجز بل من أي تفعيلة وتدية أخرى بحيث يكون النمط الحاصل هو (ج أ) أو (د أ) مثلا .وقد استمعنا إلى نموذجين اثنين من هذا الشكل الدبيتي أحدهما بالعامية والثاني بالفصحى كما يلي :
النموذج الأول لبيرم التونسي من ألحان رياض السنباطي وغناء أم كلثوم ، وهو من النمط ب أ :
القلب يعشق كل جميل
وياما شفت جمال يا عين
واللي صدق في الحب قليل
وان دام يدوم يوم ولا اثنين
والنموذج الثاني لا أعرف قائله أو ملحنه ، وكنت استمعت إليه في إحدى القنوات الفضائية المخصصة للأطفال وهو من النمط ج أ :
كلّ شيء حيّ كان
من نبات أو إنسان
كلّ طير في الأجواء
كلّ شيء تحت الماء
ربنا قد جلّ عُلاه
من مياه قد سوّاه
أرأيت البحر يثور
أرأيت النهر يسير