المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بورتريه ..



علي عكور
26/06/2011, 09:00 PM
بورتريه


وضعتُ الكاميرا على الحامل الثلاثيّ حتى لا تهتزّ , هيأتُ الإضاءة كالعادة , ابتعدتُ خطوتين و ألقيتُ نظرة فاحِصة , ثم اقتربتُ و انحنيت نصفَ انحناءةٍ . أغمضتُ عيني اليمنى و منْ خلالِ اليسرى صوّبتُ نظرَة امتدت من فتحة الكاميرا إلى وجههِ , كما يمتدُّ الموتُ اللامرئيّ منْ عينِ الصيادِ إلى هدفه .
تِكْ .. ثم ظهرت الصورةُ بعد أن تمتْ معالجَتُها . تفحّصتها لدقيقة , تقلّصَتْ ملامِحُ وجهي , و أطلقتُ صرخَةً مُدوّيةً في داخلي : " أنتَ مصوّرٌ فاشل " .. " صديقي و أعرفه جيّدا .. هذه ليستْ عيناه , ثمّة شيء يختبئ في محجريهما لم يظهر في الصورة ؟ " و كنتيجة طبيعية لفشلي أعجبته صورتُه ..
استحوذت عليّ فكرة أنّه لمن المعيبِ حقًّا أن تكونَ كاميرا مصوِّرٍ _ هاوٍ يريدُ الاحتراف _ أفضل منهُ !! و لأجلِ ذلك قرّرتُ أنْ أحطمها مثلما تُحطّمُ جماجِمُ الأعداء , لكنْ ليسَ قبلَ أنْ أمنَحَها قليلاً من الفرص . عمرها عامان و كثيرٌ من الصورِ الملوّنة و الكاذِبَة . اشتريتُها عندما تأكدتُ أنّ علاقتي بالرسمِ لن تكونَ أفضل بكثير من علاقةِ أخي الأوسط بالخطّ العربيّ ؛ حيثُ أنّ الحروفَ تظهَرُ كمُشرّدٍ منفوشِ الشعرِ ممزّقِ الثياب حينما يكتُبها !
وجدتُ في التصويرِ رسمًا و لكن بطريقَةٍ أخرى , أو ربما أسهل .. لا أدري . كلاهما يوقف الزمن , يوقف الحياة و يأخذ منها إمضاءاتٍ مختلفَة تدينُها في وقتٍ لاحق .
تِكْ مرّةً أخرى .. ثم ظهرت الصورة , و كالعادة صوتٌ داخليّ يرتطمُ بجدران رأسي : " أنتَ مصورٌ فاشل " و تتداخل حشائشُ الأفكار في بعضها : هذه الآلة بلهاء .. لا بل هم يتكلّفون .. ربّما الضوء يخيفهم و يكشفهم .. لا لا الزاوية لم تكنْ جيّدة ..
" في البورتريه لا تكنْ مُجرّدَ مصوّرٍ عابر , كنْ أكثرَ من ذلك .. كن عالم نفس و اجتماع .. كنْ كاهنا و عرافا .. و التقط صورتك " هذه نصيحةٌ من مصوّر محترف لآخرَ هاوٍ .. أيضًا قال : " تحيّن اللحظة العفويّة للشخص الذي أمامك .. و التقط صورتك "
اخترت الشارعَ مكانًا للظفرِ بلحظةٍ عفويّة , في أقصى الشارع ثمّة رجلٌ مسنّ , يجلسُ على كرسيٍّ خشبيٍّ أمامَ دكانِه القديم , يقلّبُ بأصابعِه المرتعشة حباتِ سُبحتِه البيضاء , مثلما يُقلّبُ أفكارَه المتزاحمة في رأسه , شَيبُه الأكثر بياضًا من الثلجِ يتناغمُ بجمالٍ صارخ مع شماغِهِ الداكنِ الحمرَة , و بعينين حائرتين ينظرُ إلى الأفق الأزرق . الحقّ أنني لم أكنْ أحلم بمنظرٍ كهذا تجتمعُ فيه ألوانٌ أثيرة عندي : زرقة السماء و بياض الشيب و احمرار الشماغ . كدتُ أصرخ منتشيا , كلّ الظروف مواتية لالتقاط صورة معبّرة . أيضًا عليّ أن أشكر السماء ؛ حيثُ أنها تبدو زرقاء هذا اليوم أكثر من المعتاد . أخرجتُ الحاملَ الثلاثي من حقيبتي بسرعة , ثبته و تأكدتُ من ثبات أرجله النحيلة على الرصيف , وضعتُ الكاميرا على رأسه و ثبتها جيدًا هي الأخرى , مازال الشيخُ ساكنًا , هادئًا مثل تاريخ قديم . ضبطتُ إعدادات الصورة , و جعلتُ ثلثي اللقطة على وجه الشيخ , و الثلث الباقي على صفحة السماء حسب قاعدة الأثلاث . انحنيت و أغمضت عينا و فتحت الأخرى , ثم ضغطتُ نصفَ ضغطة استعدادًا للالتقاط .. ببطء أدارَ رأسه ناحيتي , لقد شعر بوجودي , رفع طرف الشماغ المتدلي على صدغه و ابتسم , .. أكملت النصف الآخر من الضغطة .. تكْ .. ظهرت الصورة لكن دون عينين حائرتين , كالعادة صورة فاشلة ..!!
كلما هممتُ بتصوير إنسان , قال لي : " دعني أتهيأ .. دعني أرتب ملامحي " ثم يبدو مختلفًا .. مبتسمًا أو جادًا أو أي شيء آخر , لكن ليسَ هو . في المقابل لم يحدثْ أن قالت لي وردة قبيلَ تصويرها : " دعني أميلُ قليلاً "
قبلَ أن أعيد معدات التصوير إلى الحقيبَة , لمحتُ طفلاً يجلسُ على طرف حوض إسمنتي حوافه رخامية و بوسطه شجيرة ندية . لا يختلف عن الأطفال البائسين , ملابسه قديمة , و وجهه أكثرُ شحوبًا من قطعة قماش مهملة على حبل غسيل لسنوات , يضعُ إحدى يديه على خده الأسمر , و الأخرى يعبثُ بها في تراب الحوض , ينظر إلى أصابعه العابثة في التراب بانكسار يغلفه حزن شفيف , و يبدو في العاشرة من عمره أو أكبر بقليل .
هذه فرصة أخرى . اقتربتُ منه مع المحافظة على مسافة لا تشعرهُ بوجودي , و في الوقت ذاته تسمحُ لي بالتقاط صورة بورتريه جيدة . اخترتُ زاويةً مناسبة , ثم كمن يغطي طفلا نائما و يخشى أن يزعجَه , وضعت الحامل الثلاثي على سطح الرصيف بهدوء . كالعادة ثبتُّ الكاميرا على رأسه ثم ضبطت قراءات الصورة . و صوبت نظري من خلال الفتحة الصغيرة نحو الشجرة الندية و الوجه الشاحب . نصف ضغطة على الزر الصغير لتتهيأ الكاميرا للالتقاط .. و قبل أن أكمل الضغطة رفع رأسه و رآني .
تأملني قليلا , ثم عاد إلى عبثه في التراب بنظرة منكسرة يغلفها حزن شفيف , و كأنني لن ألتقط له صورة , لم يعرني اهتمامًا . كنت حقًّا خارج إطار عدسته التي يرى من خلالها الحياة ! فكرتُ : ماذا لو كان الآخرون مثله ؟ كنتُ ربحتُ عشرات الصور . أعدت إصبعي بفرح إلى الزر , و بنصف ضغطة هيأت الآلة لالتقاط الصورة , و قبل أن أكمل الضغطة جاءني من الخلف صوتٌ لرجل في منتصف عمره , امتد الصوت إلى الطفل : " ابتسمْ .. ابتسمْ "