المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأبواب



الدكتور ياسر منجي
21/10/2006, 05:30 AM
الأبواب

و لما كانت الليلة التالية قال الملك :
- و ماذا كان من أمر غانم بن أيوب ؟
قالت شهرزاد :
- بلغني أيها الملك السعيد ، ذو الرأي الرشيد ، أن غانم بن أيوب ، المتيم المسلوب ، طوف به الترحال حتى نسي نفسه ، فإذا الدنيا قد أظلمت و الشمس غربت ، فأخذ يجد في السير حتى وصل أسوار المدينة ، فإذا الأبواب قد أغلقت دونه ، فأسقط في يده ، و صار الضياء في وجهه ظلاما ، و خاف على نفسه المنسر و الذئاب ، و صار لا يدري إيش يعمل ...
- افتحي الباب يا خالتي . افتحي الباب يا ستي .. أمي بتقول لي ما تروحش عندهم .. إهئ ،إهئ .. افتحي ...
- تعال يا بن الكلب ، بتخبط على مين ؟!! .. مش قلت لك اوعى تروح عندهم تاني ؟
كان عصيا على فكري ساعتها أن أدرك هذا اللبس العظيم .. إننا عائلة واحدة .. نعيش سويا . نأكل سويا .. لا يفصلنا سوى النوم .. و النوم يجئ حين يعود بابا من الشغل .
حينما يعود بابا من الشغل تظلم الدنيا .. و يأتي الليل .. و النوم يجئ .. أبوس جدتي و أبوس خالتي و أذهب إلى حجرتنا لأنام .
حجرتنا أنا و بابا و ماما .. في آخر الصالة التي في أولها الحجرة الكبيرة التي تعيش فيها ستي و خالتي و ابنة خالتي .
و هناك الحجرة الواسعة التي لا يعيش فيها أحد .. فيها فراخ و أقفاص و زجاجات خضراء عليها صورة رجل على رأسه شئ أحمر اسمه طربوش .. كان في الزجاجات سائل أحمر حلو اسمه شربات .
إنهم يسمون على حجرتنا و على الصالة و على حجرة جدتي و خالتي و ابنة خاتي و على الحجرة الكبيرة التي لا يسكنها أحد – يسمونهم ( الشقة ) - ........
و هناك الحمام .. كلنا ندخله .. ليس فيه ماء .. وفيه أبو سبع رجلين .. و فيه عفريت ...
- استوحش غانم من الليل ، فوجد سورا تسلقه و إذا هو بداخل جبانة فقال : لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .. نطلع من نقرة إلى دحديرة .. توكلنا على الله العظيم .. ليلة أبيتها و السلام حتى يطلع النهار .. و عندما يأتي النهار و يفتح الباب أخرج كأني كنت أزور الموتى و أترحم عليهم ...
جميع أبواب منزلنا من الخشب .. جميع أبواب منزلنا لها ضلفتين ما عدا ثلاثة أبواب : باب الشارع .. هكذا يسمون الباب الخارجي .. لونه أصفر .. طعمه مر .. رائحته ترابية .
باب حجرة " رجاء " و زوجها بائع الحشيش .. لونه بني مائل للسواد .. تعلوه ثلاث قطع زجاجية ملونة .. أحمر ، أخضر ، أصفر .. رائحته دخانية .. طعمه حريف .
باب .... باب الكابينيه الذي بأسفل بئر السلم .. لونه عميق .. طعمه طعم الموت .. مغلق دائما .. لا يدخله أحد .
شنق نفسه عندما أفلس .. الحاج " عباس " .. ربط عنقه بحبل و هو واقف فوق سطوح البيت .. قذف بنفسه إلى أسفل بئر السلم أمام باب الكابينيه ... أخذ يتأرجح حتى مات .
- من يغش في الموازين أو يخلط بضاعته بأخرى مغشوشة يتم تسميره من يديه على باب دكانه حتى المغرب ... و لا تلوموا إلا أنفسكم .. يا أهل مصر القاهرة .. فرمان سلطاني شريف .
و شنق " طومان باي " على باب زويلة .. و تركت جثته حتى أنتنت .. طاف السلطان و الأمراء و على رؤوسهم القلانس و القلابق و القواويق .. يشهدون مصرع الباغي .. و طاف الشربتلية يسقون الناس .. شيئا أحمر في زجاجات خضراء .. طعمه حلو .. اسمه شربات .. و كان على رأس " طومان باي " طائر الموت .. لونه أسود .. طعمه ضياع .. و من عنقه يسيل سائل أحمر .. طعمه خديعة .. اسمه دم .
كان عصيا على فكري ساعتها أن أدرك هذا اللبس العظيم في كل دروس التاريخ .. لماذا يقتلون " توران شاه " حرقا و غرقا و رميا بالسهام ؟ .. لماذا يربطون خصيتي " عز الدين أيبك " بوتر و يجذبونهما حتى الموت ؟ .. لماذا يعلقون " طومان باي " على الباب ؟
- بعد أن تنتهوا من استذكار الباب الأول هناك امتحان .. من يحصل على درجة ضعيفة أو يغش في الإجابة يقف و وجهه إلى الحائط حتى الظهيرة .. و لا يلومن إلا نفسه .. يا طلاب فصل 4/5 .. هذا قرار مدرس التاريخ .
- إذن فقد فعلتها و طرحت أسئلتك المجنونة على موجه مادة التاريخ ؟!!
قالها الناظر و هو يجلس أسفل الصورة .. في الصورة رجل متجهم فوق رأسه شئ أحمر اسمه طربوش .. مثبت بها نحاسة منقوش عليها ( رائد التعليم ) .
- من الذي علمك هذه المعلومات المأفونة يا ولد ؟!! .. " شجرة الدر " ملكة عظيمة .. " توران شاه " مات في حادث .. و " عز الدين أيبك " مات في حادث .. من الذي قال أنهم ربطوا .. ؟!!.. من هو " المقريزي " هذا ؟!! .. لماذا لا تحفظ من كتاب الوزارة ؟!!
تنطلق الصورة بعنف .. صورة الرجل المتجهم تنطلق بعنف نحو اليسار .. تختلط الملامح فيها .. تصبح كلها شئ أحمر اسمه صفعة قوية .. صفعة قوية تنطلق برأسي نحو اليمين بعنف .. على صدغي الأيسر خمسة أصابع و كف .. لونها أحمر .. يميل للزرقة .. طعمها كهربي .
صفعة قوية تنطلق بعيني من خشب الباب في الحجرة التي تسكنها جدتي و خالتي و ابنة خالتي إلى حيث الأقفاص في الحجرة التي لا يسكنها أحد .. زجاجات .. لونها أخضر .. فيها سائل كان اسمه شربات .. طعمه قديم ..
- لماذا يربطون ذراع أبي بوتر و يطعنونه فيها بحقنة ثم يجذبونها حتى النوم ؟!!
أمي تقول إنه مريض .. و أن خالتي ( نظرت له في لقمته ) .. و أنها تشاجرت معها لأنها أخذت ملعقة سمن بلدي من إنائهم ..
- السمن لنا وحدنا .. تأخذينه حتى تطعمي البغل بتاعك ؟!!
أغلقوا الباب في وجهي .. لم أعد أذهب إلى جدتي كل صباح لأسمع قصة " غانم بن أيوب " .. لم أعرف ماذا حدث له في ليل الجبانة .. أكيد أنه شاهد الحاج " عباس " يتدلى و الحبل في عنقه .. أفلس .. باع شئ اسمه حشيش .. رائحته دخانية .. طعمه حريف .
بعد ثلاثة أيام .. انفتح الباب .. لم أسمع قصة " غانم بن أيوب " .. سمعت قصة " شجرة الدر " .. كانت ملكة عظيمة .. بكت لمدة ثلاثة أيام عندما مات " عز الدين أيبك " في حادث أليم ..
- من الذي علمك هذه المعلومات المأفونة يا حبيبي ؟!! .. خالتك لم تتشاجر مع أمك على السمن .. السمن في الإناء .. و الإناء في الحجرة التي لا يسكن فيها أحد .. إنه لنا جميعا .. ألسنا أسرة واحدة .. نعيش معا .. نأكل معا ؟!!
حاولت أن أحكي لجدتي عن الصفعة ..
- من الذي قال هذا يا حبيبي ؟!! أنا ضربتك لأنك ذهبت إلى باب جدتك ؟!!
قالتها أمي : جدتك حبيبتك .. إننا أسرة واحدة .. نعيش معا .. نأكل معا !!
كنت كلما حاولت أن أقاطعها .. لا أستطيع .

محمد فؤاد منصور
01/08/2007, 01:03 AM
أخى الدكتور ياسر
وهذا ايضاً نص رائع أتيت به من غياهب النسيان ، لكم شدنى إليه حتى لم أعد أدرى أى الأشياء أعجبنى أكثر هل القدرة الفائقة على القص ؟ هل إمتلاك وعى القارئ بحيث يعيد القراءة أكثر من مرة ليزيد زمن الإستمتاع ؟ هل يكون الموضوع هو مصدر المتعة؟ لاأدرى فأنا أمام نص أقف له إحتراماً ، إنه يرصد الطفل فى مراحل التلقى حين يصبح النفاق ممزوجاً بالتعلم منذ البدء وهو مايزال يتلقى أسماء الأشياء حتى أنه لايقول طربوش إلا مقروناً بشئ أسمه طربوش وشئ أسمه كذا وكذا إنها مراحل تكويننا الأولى ترصده يد بارعة ولغة رائعة وأسلوب عذب جميل ، إنه شئ أسمه الإبداع .تحياتى وعظيم إحترامى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl: :vg: :fl:

محمد فؤاد منصور
01/08/2007, 01:05 AM
أخى الدكتور ياسر
وهذا ايضاً نص رائع أتيت به من غياهب النسيان ، لكم شدنى إليه حتى لم أعد أدرى أى الأشياء أعجبنى أكثر هل القدرة الفائقة على القص ؟ هل إمتلاك وعى القارئ بحيث يعيد القراءة أكثر من مرة ليزيد زمن الإستمتاع ؟ هل يكون الموضوع هو مصدر المتعة؟ لاأدرى فأنا أمام نص أقف له إحتراماً ، إنه يرصد الطفل فى مراحل التلقى حين يصبح النفاق ممزوجاً بالتعلم منذ البدء وهو مايزال يتلقى أسماء الأشياء حتى أنه لايقول طربوش إلا مقروناً بشئ أسمه طربوش وشئ أسمه كذا وكذا إنها مراحل تكويننا الأولى ترصده يد بارعة ولغة رائعة وأسلوب عذب جميل ، إنه شئ أسمه الإبداع .تحياتى وعظيم إحترامى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl: :vg: :fl:

عبد العزيز غوردو
01/08/2007, 03:44 AM
هذا النص الصغير... اختزل عالما كبيرا يضج بالحركة...

عالم الطفولة بكل شغبها ومشاكساتها...

دون أن ننسى أن للكبار طفولتهم أيضا...

نص ثري... من أنامل مبدعة

مودتي أيها المتألق

الدكتور ياسر منجي
01/08/2007, 09:40 PM
المبدع الكريم، الدكتور/ محمد فؤاد منصور
حقيقة لا أجد في مستطاعي ألفاظا تستطيع أن تفيك حق الشكر على المداخلة الكريمة
دامت أخوة الإبداع
خالص احترامي

الدكتور ياسر منجي
01/08/2007, 09:42 PM
الأخ الفاضل، اللغوي البارز/ عبد العزيز غوردو
شرفني مروركم الكريم
خالص احترامي