المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نشيد الماء



الحبيب ارزيق
01/08/2011, 12:53 PM
مسكين أبي لا يملك إلا سعادة قلبه،يعرج على السوق،ولم يتردد أن يشترى لنا حاوية الماء، خابية الطين أعني،ممشوقة القد،شابة لتوها تنضح بالبياض،رشفٌ من جوفها صفعٌ للعطش .. اشتراها ثم رجع من بعيد مطاردا بِحَرِّ الشمس وإن هو وقى رأسه بمظل من سعف،فقد عاد سيولا من عرق،
تحت السقيفة نشرنا نعناعا جنب ندى تلك الخابية،حاوية الماء،تحضنه الآن برقة الانتعاش، ثم شرعت تقطر يخضورا يافعا،وغلقنا كل منافذ الضوء، إلا بضع سيول من بقع هنا وهناك،ترتعش على خلفية سوداء، ذلك كان إزار أمي..
كانت الشمس عدوة لي ولأبي،كلما تخطى عتبة الباب تطاير غضبا من حرها ،يا له من يوم قائظ.ثم يعود هاربا لرحمة الظل،
سقيفة وما أحلاها،.ملاذ وحيد، نعتصم فيه لاجئين إليه من حر القيظ،ثم نتلفظ أنفاسنا في لهاث الفيء،ونشرع معا في مقارنة الأيام مع بعضها_أيام الصيف_ لنخلص أن الأربعاء كان أشدها حرا،وأن الخميس هو يوم السوق.
نشر أبي حصيرا عتيقا بالكاد يفصله عن التراب ثم اتكأ على مخدة بالية،ذلك أقصى ما يملك في هذه الدنيا،يملك كذلك بهجته والأمل،
وما إن غفا حتى سمعنا ترنيمة الماء،زغرودة تسرح في تجاويف الهواء أو سمفونية تُغرق البال في غفوة الحال،
لقد فتح الماء!..
خذ الغلاية بِلينٍ ..خذها ولا تخف
كانت الغلاية واطئة تحت جمر وهاج،تتلو ما تيسر لها من ترانيم البهاء،سورة سورة
تتأرجح رقصا من شدة الغناء،وتكاد من رقصها أن تسقط على أرضية السقيفة.فيلتهب أديم الثرى،يا ويلي من مكان _يلتهب_ نصلي من طهره بلا سجادة!
لكن أبي يستيقظ
يتربع عرش الصينية، فروة جديدة من تحته مزهو ببهائها،ثم يتخلص من تكسير قالب سكر محاذرا أن يزعج نيام الهجير،يطرْقُ بهدوء بحافة حديدة أعِّدتْ خصيصا لهذا الغرض،فإذا القالب أشلاء بين يديه مزقهُ تمزيقا،
تعْلقُ بالحديدة ندفٌ من السكر فأتولى أنا لحسها بلساني كم كان جميلا أن أتذوق طعم الجلسة قبل أن يبلغ البراد أشده فيفيض!.
باقة النعناع أملنا الوحيد في الاستمتاع بالخضرة اليانعة،كأنها جزء من بستان يستنب جنب الصينية،كل ما هنالك أن المجمر بمقام الجحيم،يخزر إلي بوعيد لهيبه الوهاج و نيرانه البنفسجية كأنما يقول بلسان حاله هكذا تكون جهنم الحمراء من عذابها..
آخذتُ باقة النعناع أشمها كعادتي،كانت الجارة _رقية_ الوحيدة التي تستقصي عن النعناع_نرسل لها قليلا ونحتفظ بالباقي.نقطعه عروشا ونحفظه في كنف الخابية.
لقد فتح الماء!..
بلغة أخرى الماء صار بخارا غازيا. بلغة أوضح الماء شهر سنبلته كأنه لسان سيف قاطع.
لم أكن أعلم أن الماء حين يعتلي عرش جهنم يصبح أكثر جرأة على النشيد صدحا وصياحا:أحتفظ لنفسي بنشيد الماء تتلوه لي جدتي يصعب على الفصيح ترجمته الآن.
قمت أنا أرقب الغلاية،أرقبها بنفسي
أرقب السنبلة الفوارة في امتداد عمودي يكاد يصل مقدمة السقف.فيهتز صدري بفرحة السؤال:
أيكون يشعر الماء بالبهجة أم في التأويل معنى آخر..؟
الماء والبخار، والنارُ من تحتهما تفعل فعلة ماكرة.
أكان ينصهر ليرتقي إلى مقام النشوة والفرح.؟
تلك أسرار أخرى يستحيل فكها.
قمت أراقب البراد،حتى إذا فتحته وجدته يهدل في نشوة الفرحان،يرغي كأنه نشيد رضيع،تختمر الحلاوة فيه بلذة المر،
الكون مبتهج يهتز في اضطراب بحر عريض كأنه نار،يتلقف رغوة زبد مستريح،والسقيفة على ضيقٍها عرضُها السماوات والأرض.
يضيف أبي قليلا من السكر محشو في عروش النعناع _بئس الأطباء ينهوننا عن شربه هذه الأيام_ثم يتكأ على مخدة، يحدثنا عن السوق وموجة الغلاء،كم كان يروق له أن يشبهه بالنار الكاوية،
كاوية حامية
ثم يعود أبي إلى مقامه العالي _الصينية/البراد ، يتذوق برشْفٍ حاذق نكهة الكأس الأول،دبت سرائر الفرح على محياه، بزغت شرارة الحبور من عيونه،كنت أعرف أن الكأس الأول كاللكمة الأولى لا يمكن أن تعوض.. ،هكذا يحكي لي أبي،يراهن في كل حياته على البدايات،لكنه لا ينسى أن تكون الخواتم أجمل.
الحبيب ارزيق

عبدالله بن بريك
01/08/2011, 07:48 PM
أخي الغالي المبدع الفياض الحبيب أرزيق :

استمتعتُ بهذه القصةِ الاصيلة ، فواقعيتُها كبيرةٌ تلتقطُ أحداثَها من ذاكرةٍ تحتفي

بالتفاصيل الدالّة و تمتحُ من طقوس القريةِ و تسترجعُ في حنينٍ واقعاً لذيذاً بعمقِه

الإنساني -رغم المعاناة - و تعتزّ بالمحتدِ و الارض و الطبيعة و خصوصاً بالإنسانِ

ممثّلا في الأبِ بحنانِه و خبرتِه و كدِّه ..و تمجّدُ الماء قوّةً أسطوريةً خلاقةً في الصحراء.

أخي العزيز :تقبّلْ أحرَّ التهاني بشهر رمضان الكريم.

تقديري الدائم.

الحبيب ارزيق
01/08/2011, 08:30 PM
أخي الغالي المبدع الفياض الحبيب أرزيق :

استمتعتُ بهذه القصةِ الاصيلة ، فواقعيتُها كبيرةٌ تلتقطُ أحداثَها من ذاكرةٍ تحتفي

بالتفاصيل الدالّة و تمتحُ من طقوس القريةِ و تسترجعُ في حنينٍ واقعاً لذيذاً بعمقِه

الإنساني -رغم المعاناة - و تعتزّ بالمحتدِ و الارض و الطبيعة و خصوصاً بالإنسانِ

ممثّلا في الأبِ بحنانِه و خبرتِه و كدِّه ..و تمجّدُ الماء قوّةً أسطوريةً خلاقةً في الصحراء.

أخي العزيز :تقبّلْ أحرَّ التهاني بشهر رمضان الكريم.

تقديري الدائم.
--------------
يشرفني حضورك الكبير أيها البارع
ويعجبني غوصك العميق في منتهيات الأمور
بالقطع الذي لا يحتمل الشك عبد الله قوة نعتز بك في مجال التحليل الدقيق للابداع
كن جناحي كما عهدتك نحلق جميعا في سماء الخلق
ذق رشفا ذكيا من كأس مغربية لا ينكهها إلا ذوقك الرفيع
مودتي ما امتد الكون

عبدالله بن بريك
12/08/2011, 09:28 AM
أفرحني كأس الشاي الذي دعوتني إلى رشفه ،ن

و كمْ سيكونُ لذيذاً و منعِشاً بين النّخلاتِ و العرَصاتِ

وقتَ الغروبِ الصّحراويّ السّاحر و على إيقاع "البلْدي"

في الليالي المقمرة ..

اشتقْتُ كثيراً إلى تلك الأجواء الفردوسية.

لك أرقَّ تحيةٍ و أصدقَ محبّة ، أخي المبدع المتميز.

الحبيب ارزيق
26/08/2011, 07:56 PM
الف مرحى بعوك مجددا
مودتي