المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حِكَايَةٌ تُرْوَىَ بِلَيْلْ



أحمد عيسى/أبوفارس
16/08/2011, 08:48 PM
عندما جاءني مسرعاً ، يرتجف من البرد ، جلس بجواري ، يحاول أن يلتصق بي ، لكأنه يريد أن يحتضنني ، أن يقفز فجأة ، ليصير داخلي فأحتويه ، علني أزيل عنه بعض ما يشعر به ، أو أخفف بعضاً من مصابه .
كان يطعمني ، يراقب اشتعالي فينقلب على انكماشه ، كأنه يزداد قوة كلما ازددت أنا ، لما هدأ ، جاء بمظروف صغير ، فضه عنوة ، حتى كاد يمزق ما داخله أيضاً ، أخرج ورقة صغيرة وصار يقرأ ، وملامح وجهه تعبس مرة أخرى ،والرجفة تعود لأوصاله ، فيعود إلي ليطعمني أكثر ، يرجو قوة من قوتي ، أو بعضاً من دفئي ، يعتصر الورقة الصغيرة بيده ، ويدندن بلحن شعبي :
- ضرب الخناجر ولا ... حكم النذل فيا
ينظر للسقف المحطم ، الذي تبدو النجوم منه ، بارزة قريبة يحسبها ستهوي فجأة لتسحقه ومنزله تحت ثقلها ، كنت أسميها باسمك ، تلك النجوم ، كلها كانت عندي مريم ، كلها لحنتها قصائد غزل وألقيت بها تحت أقدامك يوما ، علك ترضين ، علك تصفحين عن فقري وقلة حيلتي ، آه يا أنتِ كم عذبتني بفراقك .
ذهب عني ، وهو يحدث نفسه، ابتعد قليلاً ، حيث جهاز التليفون العتيق ، ضرب رقمها وانتظر ، وعندما سمع الاسم صرخ ، نادى باسمها بأعلى صوت يملكه ، كأنها تضيع منه ، تحسبها تسقط في بئر عميقة ، فيمد حبال صوته تستغيث بها ، لتتعلق بصدى صوته فتعود ..
ثم أنه استشاط غضباً ، ضرب الهاتف بقدمه فأسقطه من فوق "الترابيزة" الصغيرة التي يستقر عليها .
بالخارج كان صوت يقترب ، السيارة القديمة التي تحسبها قادمة من فيلم تاريخي ، تتوقف أمام المنزل ، يدخل صاحبها على عجل ، فيشاهد صاحبنا وقد احتضنته الأرض مع هاتفه ، تشاركا السقوط حين هوى مع هاتفه إذ تعثر بسلكه القصير ، يجد المنظر المضحك ، فلا يهتم بدموع أخيه التي نزفت ، بطيئة غير مرئية إلا للمدقق ، فيقول :
- أظنك ما تفعل في حياتك إلا أن تماطل ، تعلم يا أخي أني بحاجة للمنزل ، ولم تخله سيادتك حتى الآن.
أراه ينظر لأخيه بعينٍ لم تعد تحتمل أكثر ، ينفجر بصوتٍ أراده صراخاً ، فخرج متحشرجاً ضعيفاً :
- إن هذا المنزل لي ، عقد المنزل يقول هذا ، ألم يرضك والدي بما تريد وأكثر ، ألم يترك لك "الديوان" ودكان العطارة فقلبت الدكان محلاً لملابس النساء ، وديوان العائلة لمنزل صيفي ، ماذا تريد أكثر يا حسن ؟
كان يتحدث مرتجفاً، وهو يخرج من طيات ملابسه عقداً قديماً مهترئاً ، تناوله حسن بيده بسرعة خاطفة ، ورماه لي ، وانصرف .
وددت لو كففت ألسنتي ، وددت لو منعت نفسي ، لو كبلتها ، فلا أطال هذه الورقة ، فلم أستطع ، غير أني هدأت قليلاً ، حين مرت بعباءتها السوداء أمامي ، وجدت الباب موارباً فدخلت ، وجَدَتْه يستند إلى الجدار ، كأنه يخاف أن يسقط ، هو أو الجدار لم تعرف الفرق ، كأنهما يستندان لبعضهما ، فلا يود أحدهما الفراق .
شالها يغطي نصف شعرها ، تبدو الشمس كأنها جمعت كل جمالها في خصلات ذهبية وأهدتها إلى مريم ..
كأن الحياة اختصرت جمالها سراً أودعته في عينيها ، وسحراً وزعته في ثناياها ، فكل نظرة منها حكاية ، وكل همسة قصيدة ، احتضنته ، مررت يدها على شعره في حنو :
- ما بالك يا صغيري ، ألم نتفق على فراق هادئ ؟ ما بالك كأنك طفلي ولا عيش لك دوني

دفن رأسه قليلاً في صدرها ، صوته متهدج كأنه ينوح ، ثم أن نواحه تحول إلى ثورة إذ هتف فجأة :
- لن تتركيني يا مريم ، أنتِ لي ولن أتركك اليوم إلا وقد كتبت اسمي فيك ..
تنظر له في دهشة ، مستغربة سلوكه المفاجئ ، فيدفعها ، وهي تقاوم ، يلطمها على وجهها ، فلا تصدق ما تراه ، يتغلب حيناً عليها ، وتقترب هي من الهروب حيناً آخر ، يحاول أن يعتصرها بيديه ، فتقاوم وتستكين ، تضربه وتحضنه ، تدفعه وتجذبه ..
تسرقهما الغرفة الوحيدة ، تخبئهما عني ، فأزداد اشتعالاً كأني أريد أن أبلغ مدىً ليس لي ، لأرى ما لم يعد بإمكاني أن أراه ، أسمع الصوت فلا أميز الآه عن الأخرى ، ولا أعرف متى يكفان ..
جاءني هو أولاً ، يلهث كأن الدنيا كلها كانت تطارده ، يرمي برسالتها إلي ، يريد أن أبتلع كلمات الفراق وحدي ، وأن أظل بعدهما وحدي ، يربط أزرار قميصه ، يخرج من الباب تاركاً مريم ، تخرج وقد سقط شالها عن شعرها فبدا كأنه خاض معركة ، جسدها يرتجف ، نشوة أم انفعالاً لم أعد أعرف الفرق ، جلست قربي ، التصقت بي ، نزفت في صمتٍ كل سكونها وسكوتها ، ألمها وذنبها ، مطرقة رأسها نحوي ، وقد أدارت ظهرها له ، لعالمه ، لصمته وثورته ..
جاءتني ..
تقتلني بدموعها
حتى تمنيت أن أموت اليوم ، فلا أراها .
****
أحمد عيسى