جمال عبد القادر الجلاصي
09/04/2007, 02:27 PM
الرجل الذي يزرع الأطفال
إلى سي التيجاني الريباني:
أي سيدي، المدرسة مقفرة، فمتى تعود؟
كنت عائدا من المعهد مساء، فلاحظت عددا كبيرا من الأطفال أمام منزل متواضع على مشارف مدينة بوسالم، دفعني الفضول إلى سؤال أحدهم فأجابتني فتاة تشدّ شعرها بظفيرتين:" سيدي مريض". ماذا ؟
قلت كي أتأكد من الإجابة. "سيدي التيجاني مريض، لقد عاد البارحة من المستشفى ونحن هنا لزيارته". سألتها بابتسامة: وماذا أحضرت له؟ فقالت وقد احمرّت وجنتاها: " حارة عظام"... ربّتّ على شعرها بحنوّ وواصلت طريقي متعجبا من هؤلاء التلاميذ الذين لم تتجاوز أعمارهم العاشرة وفكّروا في زيارة سيّدهم المريض.
كنت أعرف سي التيجاني من خلال زياراته القليلة للمعهد للسؤال عن ابنه الذي أدرّسه. ولم يتعد حديثنا الأسئلة والأجوبة العادية بين وليّ وأستاذ. تمنيت أن تتاح لي الفرصة لمعرفة هذا الرجل الذي يحبه الأطفال لدرجة زيارته في منزل البعيد.
وجاءت الفرصة سريعا، فقد ذهبت إلى المقهى كعادتي لمجالسة بعض الزملاء فوجدتهم يتأهبون للمغادرة على غير عادتهم، ولما سألتهم أجابني سي رؤوف " نحن ذاهبون لزيارة سي التيجاني، فاقترحت أن أرافقهم للاطمئنان عليه... في الطريق سألت عما يمكن أن نأخذ معنا لمريض في مدينة ليس بها محل لبيع الزهور... فقال لي سي حسن " إنه يحب الكتب مثلك تماما" فرجوتهم أن نمرّ على بيتي لآخذ له كتابا من مكتبتي، ودخلت سريعا واتجهت إلى مكتبتي الصغيرة مباشرة، واحترت للحظات فيما سآخذ فكل كتاب عزيز عليّ كطفلي اللذين بهتا لدخولي صامتا على غير عادتي. اخترت " كتاب الضحك والنسيان" وهو من أحب الكتب إليّ وتمنيت ألاّ يكون قرأه، ثم أخبرت زوجتي أني سأتأخر لأني ذاهب لعيادة زميل مريض.
وصلنا إلى المنزل، كانت الساعة قد قاربت الثامنة في مدينة تنام مع الشمس شتاء. وكان سي صالح يتساءل طوال الطريق إن كنا سنحرج أهل البيت بالدخول عليهم في مثل هذه الساعة، وكان سي حسن يطمئنه بقوله: " إنها دار سي التيجاني". وكأن هذه الجملة كفيلة بألاّ نشعر بالحرج.
طرقنا الباب، ففتحت بعد حين صبية سمحة الوجه، وبدأت ترحّب بحرارة وهي ترجونا الدخول. دخلت خجلا ولكني لم أستطع ألا ألاحظ اتساع حوش البيت المكنوس بعناية وبعض الشجيرات المثمرة وأصص الزهور محفوظة بترتيب ملحوظ. سبقتنا الفتاة أثناء دخولنا وسمعنا حركة خفيفة خمنت معها أن النسوة يغادرن الغرفة التي سندخلها إلى غرفة أخرى كما يحدث عادة في الكثير من أريافنا، لكني فوجئت بامرأة أربعينية بشوشة تهم باستقبالنا والفتاة التي فتحت لنا الباب وأخت لها تتعاونان على رفع مائدة الطعام بينما أحمد تلميذي يعين أباه على النهوض. أصرّت ربّة البيت ألاّ نخلع أحذيتنا وهي تقول باسمة: "نحن لا نملك الزرابي لنخاف عليها". سلّمنا على سي التيجاني تباعا وأحسست وأنا أسلم عليه أنه فرح لقدومي وازداد فرحا لما قدّمت له الكتاب قائلا: لم أجد خيرا من هذا أقدّمه لك، أرجو ألا تكون قرأته وأن يعجبك." قال بعد أن قرأ العنوان واسم الكاتب: " لم أقرأه، وأنا متأكد أنه سيعجبني مادمت أنت من أحضره". أعجبني الجواب رغم أني لم أعرف سبب تأكّده.
أخذ الأصدقاء يتبادلون الأسئلة عن صحّة سي التيجاني وكان يجيبهم باسما، بينما كانت عيناي تتجولان في الغرفة الفسيحة، غرفة مرتبة بعناية شديدة حتى لتحس وأنت تدخلها أنك تدخل غرفة عروس. وكانت الكتبة تغطي ثلثي الجدار المقابل لنا. حاولت
أن أقرأ بعض العناوين غير أن نظري لم يسعفني بغير "قصّة الحضارة" بمجلداتها الأنيقة وبعض المجلدات الأخرى عرفت من خلال أغلفتها الحمراء أنها منشورات دار الطليعة. كنت أقاوم بشدّة قدمي التي
تودّ الوقوف والاتجاه نحو مغارة علي بابا.
لم تمرّ دقائق على جلوسنا حتى أحضرت الفتاتان المائدة ودعتنا ربّة البيت للأكل قائلا:" على ما حضرتم، اليوم سوق الخميس، كسكسي كالعادة".
أنهيت الأكل بسرعة رغم أن الكسكسي لذيذ جدا وعدت وفي يدي كأس شاي قرب سي التيجاني
في محاولة لمعرفة الرجل الذي يحب الكتب ويحبّه الأطفال.
سألته عن مطالعاته فأجابني:" أنا أقرأ كل شيء" وصمت قليلا ثم أضاف:" وخاصة التاريخ، تاريخ الأمم... الكبيرة منها والصغيرة... يهمني أن أعرف أسباب قوّتها وضعفها، ذلك الصعود الاحتفالي ثم تلك السقطة المروّعة أو ذلك الانطفاء والاندثار." سألته بين الجدّ والهزل:" ونحن متى سيبدأ صعودنا" ؟
فكان جوابه جاهزا وجادا:" حين نعي أسباب تخلّفنا ونبدأ في القضاء عليها... لا يمكن لأمّة تعتبر الإنسان عنصرا ثانويا في تكوينها أن تنهض، علينا أن نعطي الإنسان ما يستحق من العناية والاحترام..." أراد أن يواصل غير أن عودة الجماعة من المائدة قطعت عليه تفكيره فدارى بقية إجابته بابتسامة قائلا: "ستكون أمامنا فرص كثير للحديث". واعتبرتها دعوة للصداقة أسعدتني. وسألته مغيّرا مجرى الحديث:" لقد رأيت عددا هائلا من التلاميذ هذا المساء أمام المنزل، هل استقبلتهم كلهم؟ أجابني:" طبعا، لقد نظمتهم نائلة، كل تلميذ يدخل يقبلني ويقول سيدي لا بأس، متى ستعود إلينا؟ فأقول بعد أيام قليلة، ثم يخرج ويدخل الذي يليه. تمنيت لو أني بقيت معهم وقتا أطول، ولكن ابنتي ممرضة صارمة، لم تذهب إلى الكلية منذ يومين لذّة التدخين ولذّة الجلوس معهم والاستماع إليهم." سألت:" أليس غريبا أن يأتي كل هؤلاء التلاميذ وخاصة في مثل سنهم والمنزل ليس قريبا من المدرسة" ؟
"وما الغرابة في ذلك؟ هم يعرفون أني أحبّهم جدا، بعضهم درّست آباءهم أو أمهاتهم... أنا أزرع الأطفال وأعتني بهم كما يفعل البستاني بأشجاره، ولا بد لهذه العناية أن تثمر... دعنا من هذا قم وانظر إلى تلك الكتب وخذ واقرأ ما شئت... " قاطعه سي صالح بنزقه الرياضيّ "أنصحك أن تبتعد على تلك الكتب الحمراء، لقد فات موسمها وها أنت ترى ما فعلت بصحّة سي التيجاني"... فقاطعته مناكفا " الكتب الحمراء شفاء لكل داء". فأشرق وجه سي التيجاني وقال بصوت عال:
" يرحم أمّك".
اتجهت إلى المكتبة وجلا وبدأت أقلّب نظري بين الكتب،ما هذا؟ كل حنا مينا، كل جبرا، توفيق زياد، ماركس، لينين، الطاهر الحداد، ابن خلدون، منيف، أمل دنقل، نُعيمة، منوّر صمادح، قلقامش... كتب، كتب مرصوفة بعناية شبه مرضية. على يسار المكتبة رأيت مجموعة أشرطة، اقتربت منها فوجدت ما ينقص لاكتمال المشهد: الشيخ إمام، مارسيل، البحث الموسيقي، أولاد بومخلوف، الحمائم البيض، مظفر،وغيرها. مددت يدي متردّدا، كنت متأكدا أنه يتابعني، فأومأ برأسه مبتسما، أخذت "يعيش أهل بلدي" وعدت لأجلس مكاني. سألني عن رأيي في مكتبته في شيء من الفخر اللذيذ، فقلت صادقا:" إنها ليست مكتبة، إنها تحفة..." قال بما يشبه الهمس:" هذا ما سيرث أبنائي".
كانت الجماعة تستعدّ للمغادرة، حاول أن يبقينا جادا لكنا اعترنا بلطف، تمنيت له الشفاء، وأمسك يدي وأنا أسلم عليه وقال:"لقد أسعدتني زيارتك كثيرا، أرجو أن نلتقي دائما ونواصل حديثنا."
سرت في يدي حرارة إنسانية افتقدتها منذ سنين وأحسست أني أعود طالبا شابا مندفعا أتقد حماسا، وكادت دموعي أن تنزلق خارجا، لكني غالبتها قائلا:
" عد سريعا فالتلاميذ دوما بحاجة للتشذيب والكثير من الماء".
أشعلت سيجارة عندما خرجت من الغرفة فقد امتنعنا عن التدخين قرب سي التيجاني الذي شكا لنا من الحصار المضروب عليه لمنع التدخين من الوصول إليه.
أوصلتنا زوجته وابنتاه وابنه حتى الباب، وطوال طريق العودة كنت أفكر بهذا الرجل الهزيل الذي يحمل بين جنبيه روح الأنبياء وفطنتهم التي أوصلته لسنّ قانون قيام الحضارات ودوامها:
زراعة الأطفال الذين يعرفون أن سيّدهم يحبّهم لأنهم جديرون بكل هذا الحبّ، وأكثر.
5 /2 / 2002
إلى سي التيجاني الريباني:
أي سيدي، المدرسة مقفرة، فمتى تعود؟
كنت عائدا من المعهد مساء، فلاحظت عددا كبيرا من الأطفال أمام منزل متواضع على مشارف مدينة بوسالم، دفعني الفضول إلى سؤال أحدهم فأجابتني فتاة تشدّ شعرها بظفيرتين:" سيدي مريض". ماذا ؟
قلت كي أتأكد من الإجابة. "سيدي التيجاني مريض، لقد عاد البارحة من المستشفى ونحن هنا لزيارته". سألتها بابتسامة: وماذا أحضرت له؟ فقالت وقد احمرّت وجنتاها: " حارة عظام"... ربّتّ على شعرها بحنوّ وواصلت طريقي متعجبا من هؤلاء التلاميذ الذين لم تتجاوز أعمارهم العاشرة وفكّروا في زيارة سيّدهم المريض.
كنت أعرف سي التيجاني من خلال زياراته القليلة للمعهد للسؤال عن ابنه الذي أدرّسه. ولم يتعد حديثنا الأسئلة والأجوبة العادية بين وليّ وأستاذ. تمنيت أن تتاح لي الفرصة لمعرفة هذا الرجل الذي يحبه الأطفال لدرجة زيارته في منزل البعيد.
وجاءت الفرصة سريعا، فقد ذهبت إلى المقهى كعادتي لمجالسة بعض الزملاء فوجدتهم يتأهبون للمغادرة على غير عادتهم، ولما سألتهم أجابني سي رؤوف " نحن ذاهبون لزيارة سي التيجاني، فاقترحت أن أرافقهم للاطمئنان عليه... في الطريق سألت عما يمكن أن نأخذ معنا لمريض في مدينة ليس بها محل لبيع الزهور... فقال لي سي حسن " إنه يحب الكتب مثلك تماما" فرجوتهم أن نمرّ على بيتي لآخذ له كتابا من مكتبتي، ودخلت سريعا واتجهت إلى مكتبتي الصغيرة مباشرة، واحترت للحظات فيما سآخذ فكل كتاب عزيز عليّ كطفلي اللذين بهتا لدخولي صامتا على غير عادتي. اخترت " كتاب الضحك والنسيان" وهو من أحب الكتب إليّ وتمنيت ألاّ يكون قرأه، ثم أخبرت زوجتي أني سأتأخر لأني ذاهب لعيادة زميل مريض.
وصلنا إلى المنزل، كانت الساعة قد قاربت الثامنة في مدينة تنام مع الشمس شتاء. وكان سي صالح يتساءل طوال الطريق إن كنا سنحرج أهل البيت بالدخول عليهم في مثل هذه الساعة، وكان سي حسن يطمئنه بقوله: " إنها دار سي التيجاني". وكأن هذه الجملة كفيلة بألاّ نشعر بالحرج.
طرقنا الباب، ففتحت بعد حين صبية سمحة الوجه، وبدأت ترحّب بحرارة وهي ترجونا الدخول. دخلت خجلا ولكني لم أستطع ألا ألاحظ اتساع حوش البيت المكنوس بعناية وبعض الشجيرات المثمرة وأصص الزهور محفوظة بترتيب ملحوظ. سبقتنا الفتاة أثناء دخولنا وسمعنا حركة خفيفة خمنت معها أن النسوة يغادرن الغرفة التي سندخلها إلى غرفة أخرى كما يحدث عادة في الكثير من أريافنا، لكني فوجئت بامرأة أربعينية بشوشة تهم باستقبالنا والفتاة التي فتحت لنا الباب وأخت لها تتعاونان على رفع مائدة الطعام بينما أحمد تلميذي يعين أباه على النهوض. أصرّت ربّة البيت ألاّ نخلع أحذيتنا وهي تقول باسمة: "نحن لا نملك الزرابي لنخاف عليها". سلّمنا على سي التيجاني تباعا وأحسست وأنا أسلم عليه أنه فرح لقدومي وازداد فرحا لما قدّمت له الكتاب قائلا: لم أجد خيرا من هذا أقدّمه لك، أرجو ألا تكون قرأته وأن يعجبك." قال بعد أن قرأ العنوان واسم الكاتب: " لم أقرأه، وأنا متأكد أنه سيعجبني مادمت أنت من أحضره". أعجبني الجواب رغم أني لم أعرف سبب تأكّده.
أخذ الأصدقاء يتبادلون الأسئلة عن صحّة سي التيجاني وكان يجيبهم باسما، بينما كانت عيناي تتجولان في الغرفة الفسيحة، غرفة مرتبة بعناية شديدة حتى لتحس وأنت تدخلها أنك تدخل غرفة عروس. وكانت الكتبة تغطي ثلثي الجدار المقابل لنا. حاولت
أن أقرأ بعض العناوين غير أن نظري لم يسعفني بغير "قصّة الحضارة" بمجلداتها الأنيقة وبعض المجلدات الأخرى عرفت من خلال أغلفتها الحمراء أنها منشورات دار الطليعة. كنت أقاوم بشدّة قدمي التي
تودّ الوقوف والاتجاه نحو مغارة علي بابا.
لم تمرّ دقائق على جلوسنا حتى أحضرت الفتاتان المائدة ودعتنا ربّة البيت للأكل قائلا:" على ما حضرتم، اليوم سوق الخميس، كسكسي كالعادة".
أنهيت الأكل بسرعة رغم أن الكسكسي لذيذ جدا وعدت وفي يدي كأس شاي قرب سي التيجاني
في محاولة لمعرفة الرجل الذي يحب الكتب ويحبّه الأطفال.
سألته عن مطالعاته فأجابني:" أنا أقرأ كل شيء" وصمت قليلا ثم أضاف:" وخاصة التاريخ، تاريخ الأمم... الكبيرة منها والصغيرة... يهمني أن أعرف أسباب قوّتها وضعفها، ذلك الصعود الاحتفالي ثم تلك السقطة المروّعة أو ذلك الانطفاء والاندثار." سألته بين الجدّ والهزل:" ونحن متى سيبدأ صعودنا" ؟
فكان جوابه جاهزا وجادا:" حين نعي أسباب تخلّفنا ونبدأ في القضاء عليها... لا يمكن لأمّة تعتبر الإنسان عنصرا ثانويا في تكوينها أن تنهض، علينا أن نعطي الإنسان ما يستحق من العناية والاحترام..." أراد أن يواصل غير أن عودة الجماعة من المائدة قطعت عليه تفكيره فدارى بقية إجابته بابتسامة قائلا: "ستكون أمامنا فرص كثير للحديث". واعتبرتها دعوة للصداقة أسعدتني. وسألته مغيّرا مجرى الحديث:" لقد رأيت عددا هائلا من التلاميذ هذا المساء أمام المنزل، هل استقبلتهم كلهم؟ أجابني:" طبعا، لقد نظمتهم نائلة، كل تلميذ يدخل يقبلني ويقول سيدي لا بأس، متى ستعود إلينا؟ فأقول بعد أيام قليلة، ثم يخرج ويدخل الذي يليه. تمنيت لو أني بقيت معهم وقتا أطول، ولكن ابنتي ممرضة صارمة، لم تذهب إلى الكلية منذ يومين لذّة التدخين ولذّة الجلوس معهم والاستماع إليهم." سألت:" أليس غريبا أن يأتي كل هؤلاء التلاميذ وخاصة في مثل سنهم والمنزل ليس قريبا من المدرسة" ؟
"وما الغرابة في ذلك؟ هم يعرفون أني أحبّهم جدا، بعضهم درّست آباءهم أو أمهاتهم... أنا أزرع الأطفال وأعتني بهم كما يفعل البستاني بأشجاره، ولا بد لهذه العناية أن تثمر... دعنا من هذا قم وانظر إلى تلك الكتب وخذ واقرأ ما شئت... " قاطعه سي صالح بنزقه الرياضيّ "أنصحك أن تبتعد على تلك الكتب الحمراء، لقد فات موسمها وها أنت ترى ما فعلت بصحّة سي التيجاني"... فقاطعته مناكفا " الكتب الحمراء شفاء لكل داء". فأشرق وجه سي التيجاني وقال بصوت عال:
" يرحم أمّك".
اتجهت إلى المكتبة وجلا وبدأت أقلّب نظري بين الكتب،ما هذا؟ كل حنا مينا، كل جبرا، توفيق زياد، ماركس، لينين، الطاهر الحداد، ابن خلدون، منيف، أمل دنقل، نُعيمة، منوّر صمادح، قلقامش... كتب، كتب مرصوفة بعناية شبه مرضية. على يسار المكتبة رأيت مجموعة أشرطة، اقتربت منها فوجدت ما ينقص لاكتمال المشهد: الشيخ إمام، مارسيل، البحث الموسيقي، أولاد بومخلوف، الحمائم البيض، مظفر،وغيرها. مددت يدي متردّدا، كنت متأكدا أنه يتابعني، فأومأ برأسه مبتسما، أخذت "يعيش أهل بلدي" وعدت لأجلس مكاني. سألني عن رأيي في مكتبته في شيء من الفخر اللذيذ، فقلت صادقا:" إنها ليست مكتبة، إنها تحفة..." قال بما يشبه الهمس:" هذا ما سيرث أبنائي".
كانت الجماعة تستعدّ للمغادرة، حاول أن يبقينا جادا لكنا اعترنا بلطف، تمنيت له الشفاء، وأمسك يدي وأنا أسلم عليه وقال:"لقد أسعدتني زيارتك كثيرا، أرجو أن نلتقي دائما ونواصل حديثنا."
سرت في يدي حرارة إنسانية افتقدتها منذ سنين وأحسست أني أعود طالبا شابا مندفعا أتقد حماسا، وكادت دموعي أن تنزلق خارجا، لكني غالبتها قائلا:
" عد سريعا فالتلاميذ دوما بحاجة للتشذيب والكثير من الماء".
أشعلت سيجارة عندما خرجت من الغرفة فقد امتنعنا عن التدخين قرب سي التيجاني الذي شكا لنا من الحصار المضروب عليه لمنع التدخين من الوصول إليه.
أوصلتنا زوجته وابنتاه وابنه حتى الباب، وطوال طريق العودة كنت أفكر بهذا الرجل الهزيل الذي يحمل بين جنبيه روح الأنبياء وفطنتهم التي أوصلته لسنّ قانون قيام الحضارات ودوامها:
زراعة الأطفال الذين يعرفون أن سيّدهم يحبّهم لأنهم جديرون بكل هذا الحبّ، وأكثر.
5 /2 / 2002