المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : على أعتاب المكاشفة



مصطفى لغتيري
22/10/2006, 02:53 AM
على أعتاب المكاشفة

حين حط الرحال بالمدينة، لم يتباطأ في التوجه نحو الآثار المحاذية لها. شغف بالأبنية القديمة اكتسحه من حيث لا يدري، فإلى عهد قريب أبدا لم يحفل بوجودها، لم تكن – بالنسبة له – سوى حجارة صماء لا معنى لها، بل هي تافهة وزائدة عن اللزوم. في المدة الأخيرة، ونتيجة لعملية كميائية ما، حدثت في دواخله، لمس ميلا غامضا نحو هذه المعالم الأثرية، نظرته نحوها ما فتئت تتغير.. شيئا فشيئا استبد به عشقها، فانبثق له المعنى من ثناياها. هكذا، أصبح كلما زار إحداها، أصاخ السمع برهافة، ليلتقط ذبذباتها الصامتة، حينها تنكشف له أسرار من ماض، يأبى أن يظل طي الكتمان.. لا يدري كيف حدث ذلك ؟ فقط, هو متأكد، أنه بشكل ما نطق الحجر، تلقف بوحه، فانتسجت علاقة حميمية بينهما.. لم يكن بد – حينئذ – من أن يفقد حياده نحو الآثار، بشتى أنواعها.

حين أشرف على البقايا المتناثرة، لاحت له غافية في رحاب التلال.. هبت على سحنته بعض من نسائهما، فاختلج الفرح في أعماقه .. كان حريصا أن يكون المكان خاليا من البشر، فاختار اللقاء قبيل الغروب .. الشمس أضحت برتقالة كبيرة معلقة في الفراغ، ظلال كابية تنتشر على امتداد البصر، تمازجها حمرة أرجوانية ، تكلل ذرى النجود، وتستلقي في بعض الفجاج والفجوات.. شيء من الرهبة داهمه، وهو يطأ أرض المدينـة المنسية .. السواري المتبقية والخلفية – من ورائها – تقدمان نفسيهما كلوحة ولا أجمل .. طفق يخطر بين الجدران والأعمدة، يتطلع في الفجوات، يترصد بقايا الأرصفة، يستحضر أقداما بلا حصر، من الزمن الغابر، وطأت هذا المكان.

بعد لحظات من التجوال، اختار موقعا مناسبا، يسعفه في احتضان المشهد، كل المشهد بعينيه المتعطشتين.. أبدا لم يكتف بالنظرة العامة، الشاملة، التقط بصره أدق التفاصيل: الخطوط الدقيقة المنتشرة عبر الأبنية، أنواع الحجارة وأشكالها، تنوع هندستها.. الأقواس الدارس أكثرها .. كل ذلك أشعره بانتشاء لا يقارن .. حينها فقط، أحس أنه على أعتاب المكاشفة، هسهسة الريح وطدت لديه اليقين، بأنه حثيثا يدنو من مبتغاه، مدد أطرافه في ارتخاء تام، الخدر أخذ يتسلل إلى كيانه، لم يقاومه، بل تماهى معه إلى أقصى الحدود .. فجأة لاحت له أطياف ملتبسة، تدريجيا راحت تحتل المكان من حوله، لم يرعبه ذلك، بل فاجأه .. برباطه جأش حافظ علـى هدوئه .. فقط اكتفى باختلاس النظر.. إحساس قوي تبرعم داخله، بأن أي نأمة قد تطيح بكل شيء.. ابتسامة خفرة احتلت شفتيه.. ها هو ذا الوعد السري يتحقق من جديد، الآثار تكشف له أسرارها دون مواربة.. بمرور الزمن أخذت ملامح الأطياف تتضح، البنايات المهدمة تكتسب أجزاءها الضائعة، والأقواس في أتم اكتمالها، إنها في أبهى عنفوانها، الجدران، كل الجدران تنتصب قائمة، كأنها بنيت منذ زمن قريب ..طازجة لم تزل تفوح طراوة وبأسا .. هاهي الصور تتدفق جلية. أول ما ميز منها حراسا .. على رؤوسهم خودات صقيلة، يمتشقون رماحا مسننة، سيقانهم عارية، ينتظمون في طابور صغير، محافظين على تناسق حركاتهم .. أبهجه المشهد إلى أبعد الحدود، التزم الصمت وهو يرنو إليهم، بغتة توجه أحدهم نحوه، خفق قلبه .. تحفزت أعصابه، مستعدا لكل طارئ .. مر الجندي أمامه، لم يحفل بوجوده. حينذاك تيقن أن وجوده ليس مؤكدا، فما علي إلا أن يلزم مكانه دون أن يخدش هذا العالم، الذي يقدم له نفسه دون تحفظ .. بحرص، استرق النظر نحو الجهة الشرقية من موقعه، امرأة ترتدي ملابس مختلفة، لم يلمس قاسما مشتركا يجمعهما بالجنود.. على رأسها تحمل سلة ممتلئة، قدر أن فيها خضرا أو فواكه .. إنها بلا شك، امرأة محلية.. لفتت انتباهه ضفيرتاها المستلقيتان على كتفيها، أنواع من الحلي تتوزع على امتداد الجسد، حين أمعن النظر، راعه كثرة الوشم على وجهها ويديها.. كانت ترطن بكلمات مبهمة، تتوجه بها نحو الجنود لإثارة انتباههم .. بائعة هي، بلا ريب، تعرض بضاعتها، جمالها لافت، وإن كانت الأسمال على جسدها لا تفي بالمطلوب.. خلفها كلب من فصيلة محلية، يقتفي خطواتها.. حين مرت بجانبه، تطلع إليها بكل جسارة. لم تحفل بوجوده. بحسرة تذكر أن وجوده زئبقي، مخاتل، فاكتفى بالمشاهدة، هي أكثر ما يصبو إليه. تجاوزته المرأة مستمرة في ندائها .. لم يمض زمن طويل على عبورها حتى ارتفع ضجيج في الأجواء.. فزعا التفت نحو مصدره، التقطت عيناه مشهدا استفزه، جنديان يسحبان رجلا، يبدو أنه من السكان المحليين، يستغيث بلا جدوى، هكذا قدر كلماته التي لم يفهم منها شيئا. كان الجنديان فظين، متسلطين.. فكر أنه باسم قانون ما يفرضان على الرجل سطوتهما. إحساس بالمرارة اكتسحه، إنه عاجز عن فعل أي شيء. فقط تألم وهو يتابع خطوات الرجل المرتبكة.. لا يدري كيف استقر في خلده لحظتها أن الأمور لم تتغير، وأن العالم – منذ الأزل – محكوم بنفس المنطق، الأشكال تتبدل، أما العمق فواحد.

في تلك الأثناء، وهو يتماهى مع أحاسيسه، رّّجه صوت مختلف لا ينتمي إلى العالم الذي يكشف له نفسه.

" أسي محمد، آسي محمد "

بشدة انتشل نفسه مما هو فيه، فإذا برجل من زمانه الآني يناديه. كان يبعد عنه بأمتار قليلة. تدريجيا لملم شتات ذهنه، أحس وكأنه يستفيق من نوم عميق، لم يفسح الرجل له المجال حتى يرتب العالم من حوله، خاطبه بشئ من الغلظة:

-ممنوع الجلوس في هذا المكان بعد غروب الشمس.

اعتذر من الرجل، مسح الأبنية بنظرة وديعة، ثم حمل كيانه، غادر المكان، وعلى ملامح وجهه يستلقي شرود، لم يقو على انتزاع نفسه منه، إلا وهو في أحضان المدينة التي حط بهاالرحال صبيحة ذلك اليوم.

محمد نجيب العمامي
24/10/2006, 01:45 AM
"لا يدري كيف استقر في خلده لحظتها أن الأمور لم تتغير، وأن العالم – منذ الأزل – محكوم بنفس المنطق، الأشكال تتبدل، أما العمق فواحد."
على هذا النحو، صديقي مصطفى، باحت الأقصوصة ببعض سرّها سادّة باب الاجتهاد أمام القارئ. هل هو الخوف ألاّ تبلغ الرسالة ؟ هل هو سوء ظنّ بقدرة القارئ على الفهم؟ إنّ النتائج المضمّنة أبلغ أثرا من تلك المصرّح بها. ففي حالة التضمين يعتقد القارئ أن النتيجة الضمنية نتيجته هو لذلك يتمسّك بها وربّما يعمل وفقها. أمّا في الحالة الثانية فلا شيء يمنع القارئ من الإحساس بأنّه قاصر يؤخذ بيده ويهدى سواء السبيل...
في الأقصوصة لحظتان مهمّتان: لحظة انسجام الشخصية مع المشهد المثقل دلالة ولحظة نفور دشّنها قول الراوي: "فزعا التفت نحو مصدره، التقطت عيناه مشهدا استفزه، جنديان يسحبان رجلا، يبدو أنه من السكان المحليين، يستغيث بلا جدوى، هكذا قدر كلماته التي لم يفهم منها شيئا."
ما من شكّ في أنّ قدر الإنسان أن تكون له جذور وأن يكون له ماض. ولكنّ الحكيم هو ذاك الذي يُدرك أنّ السلف ليس خيرا كلّه وليس، في الآن نفسه، شرّا كلّه. فالماضي المجيد المضيء وهم ضخّمه حاضر المعاناة والأزمة والهزيمة الحضاريّة.
دمت بخير
محمّد نجيب العمامي

حسام الدين نوالي
24/10/2006, 02:20 AM
للحضارة عنفها، والتاريخ سلّم المواجع..
هذه الرسالة وصلت، من خلال التنامي السردي، وقوة اللغة كانت القصة مقنعة بالتأكيد..
لكن هل تصادر حقنا في الاكتشاف؟
أعتقد أن اختيار نوع الراوي محدد أساسي في تواصلنا مع الرسالة، فالراوي ذو "نظرة الله" يسير في اتجاه البوح، وهنا حساسيته التي في لحظة ما قد يربك دراما النص و"يمنحنا السر"، لكن ما يضير إذا التقينا في فهم ما مع البطل أيخفيه الراوي من باب "سر النص" أم يمنحه إذ للنص مداخل أخرى؟
أعجبتني جملة في بداية النص تقول "لم يكن بد – حينئذ – من أن يفقد حياده نحو الآثار، بشتى أنواعها."..
وتحية للمبدعيْن..

نزار ب. الزين
24/10/2006, 04:37 AM
بطلك يا أستاذ مصطفى مرهف الحس لمشاكل الناس ، و الإحساس بالمشكلة أحد أعمدة الإبداع ،و بطلك فيلسوف فقد اكتشف أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان و مكان ، هو الرؤوف ، الأنيس ، المحب للجمال ، و هو نفسه المستبد و الظالم و المنتهك لأبسط حقوق الإنسان .
أسلوب رائع و لغة مكينة ، دمت و دام إبداعك
نزار ب. الزين

مصطفى لغتيري
24/10/2006, 04:42 PM
الناقد الصديق محمد نجيب العمامي.
دائما تفلح في الكشف عن سوءات النصوص ، يساعدك في ذلك حسك النقدي المتميز ،وتعاملك الصارم معها.. ومرة أخرى لا أملك إلا الاتفاق معك حول الملاحظات التي تفضلت بها ،وخاصة فيما يتعلق بالجملة التي ذكرتها في ردك ..ولا أخفيك أن نفسي كثيرا ما تنازعتها الهواجس حول هذه الجملة ،وكم من مرة فكرت في حذفها ،لكن توجهي العام في الكتابة تغلب علي في آخر المطاف ،فعادة ما أضع نصب عيني نوعين من المتلقين ،النوع الأول يحتاج إلى بعض المؤشرات الواضحة التي تسعفه في التواصل مع النصوص وهو المعني بهذه الجملة ،والنوع الثاني ،أعني به ذلك القارئ النموذجي الذي يكفيه التلميح ويغنيه عن التصريح ،وأنت بالطبع من هذا النوع بحكم ثقافتك النقدية وتمرسك في التعاطي مع النصوص.
هذا فضلا عن المعطى التاريخي العام الذي يجعلني أنتمي إلى جيل من الكتاب لازالت مقولة الإلتزام في الأدب يتردد بعض صداها في دواخله ،وأعني هنا الإلتزام بمفهومه المرتبط خصوصا بالهموم الإجتماعية والسياسية التي تعاني منها الطبقة الإجتماعية التي ينتمي إليها صاحب النص.
ودمت ناقدا فذا أعتز بتواصله العالم مع نصوصي.
مع أجمل التحايا.

محمد صباح الحواصلي
24/10/2006, 10:31 PM
من أجمل ما قرأت في الآونة الأخيرة القصص التالية: "مشيرة" لسمير الفيل, و "موقعة الجمل" لمحمد مستجاب, و "على أعتاب المكاشفة" لمصطفى لغتيري.
مع محبتي
محمد صباح الحواصلي

مصطفى لغتيري
24/10/2006, 11:45 PM
الأستاذ حسام الدين نوالي.
أسعدني جدا تعليقك المحتفي بالنص ، رغم مصادرة حق المتلقي في الاكتشاف.
إن المرء ليشعر -حقا- بالاعتزاز حين يضع نصه بين أيد خبيرة في التناول والتحليل.. فذلك لا ريب يفيده كثيرا في تدارك مافاته ،و يدفعه ليعض بالنواجد على ما وفق فيه.
كل التقدير والاحترام.
تحياتي.

محمد نجيب العمامي
25/10/2006, 12:12 AM
"دائما تفلح في الكشف عن سوءات النصوص"
الصديق مصطفى سامحك الله فما كانت غايتي ما ذكرت. وإنّما كان قصدي فتح حوار حقيقيّ بيني وبين نصّك، حوار لا مجاملة فيه فالإطراء يؤدّي إلى الرضا عن النفس وهذا يؤدي إلى الجمود والتكلس وأنت يا صاحبي ممّن يأخذون أنفسهم بالشدة ودوري أن أساعدك على السير في هذا الاتجاه. لم أتحدّث عن الإيجابيات وكنت أعتقد أن سكوتي حديث...
"فعادة ما أضع نصب عيني نوعين من المتلقين ،النوع الأول يحتاج إلى بعض المؤشرات الواضحة التي تسعفه في التواصل مع النصوص وهو المعني بهذه الجملة ،والنوع الثاني ،أعني به ذلك القارئ النموذجي الذي يكفيه التلميح ويغنيه عن التصريح.. هذا فضلا عن المعطى التاريخي العام الذي يجعلني أنتمي إلى جيل من الكتاب لازالت مقولة الإلتزام في الأدب يتردد بعض صداها في دواخله ،وأعني هنا الإلتزام بمفهومه المرتبط خصوصا بالهموم الإجتماعية والسياسية التي تعاني منها الطبقة الإجتماعية التي ينتمي إليها صاحب النص."
أنا أيضا، صديقي مصطفى، أنتمي إلى هذا الجيل. ولا أرى الأدب إلا في الدائرة التي رسمت. ولكنّي أختلف معك في تقسيم الفراء قسمين. فمن حق الصنف الأول أن يعامل معاملة الراشد وإذا كان قارئا غير مستهلك فسيصل إلى المقصود بسهولة. فالإشارات الخفيّة في نصّك كثيرة. وفي مجرد إقامة الأقصوصة على تقابل الجوابُ.
دام سعيك إلى تطوير أدواتك ودمت بخير.

مصطفى لغتيري
25/10/2006, 12:19 AM
أستاذ نزار.
لم يفاجئني إعجابك بالنص ،فلكثرة ما قرأت نصوصك ،أصبحت على بينة بطبيعة النصوص التي تستحسنها ،أقصد تلك التي فيها حس من الالتزام بقضايا الناس وهمومهم.
دمت كاتبا ملتزما ،أعتز بصداقته.
تحياتي.

مصطفى لغتيري
25/10/2006, 12:27 AM
الصديق محمد نجيب.
أدرك غايتك النبيلة جيدا ،وأنا فخور باهتمامك ، وتخصيص حيز من وقتك لنصوصي ،لقراءتها وتحليلها،والتعليق عليها.
إنني يا صديقي ممتن لهذا الاهتمام ،وأحيي فيك صرامتك وصراحتك ، فبمثل هذا التناول نمضي قدما نحو تطوير آلياتنا وتجديدها ، فالكاتب الذي يرضى عن كتاباته كاتب لا يتطور.
دمت قاسيا وبهيا.
تحياتي القلبية.

مصطفى لغتيري
25/10/2006, 12:51 AM
المبدع محمد صباح الحواصلي.
سعدت باختيارك لقصتي ضمن أجمل القصص التي قرأتها في الأونة الأخيرة.
أتمنى لك مسيرة إبداعية موفقة.
كل التقدير والاحترام.
تحياتي.