المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صَمْتُ الاِنْكِسَار



البشير الأزمي
14/10/2011, 10:37 PM
وحيداً جلستُ أستعيد ذكرياتٍ عَبَرَتْ حياتي بغموض.
ما كنت أتوقع أن تسقط عني ذكريات طفولتي، ضاعت.. سراباً أضحت بل أطيافاً مخيفة، تقترب مني وتنأى.. تنأى وتنأى فتغدو كطيف غشيته موجة خوف. كنت أمنِّي نفسي بخيط أمل أتشبث به بقوة علَّني أنجو بذاتي بل بما تبقى منها. أطياف تلاحقني تُطَوِّقني، تُسَيِّجُنِي.. ضِقتُ بنفسي.. ضقتُ بالناس بل بكل شيء يحيط بي.. أحرك رأسي بقوة وفي كل الاتجاهات علَّني أنفض ما بقي عالقاً من ذكريات وشمت حافظتي وبَصَمَت على صدري أوشاباً. طيفُ صورة أخي يجول في عيني.. بجلبابه الأبيض وبلغته الصفراء وبهجة جذلة، على ثغره المرسل ابتسامة مشرقة وهو يعدو ويمرح أمامي. وصوت أمي المشبع بعاطفة أمومة تخشى أعنَّة مفاجأة غير سارَّة تتردَّدُ في أذني:
- انتبه لأخيك، لا تتركه وحيداً..
بصيغة الواثق من نفسه، أمسك بيده اليمنى وأجرُّه إلى خارج البيت وأنا أرفع صوتي عالياً في محاولة لطمأنة أمي: " لا عليك يا أمي، سأعتني به.. لا عليك.."
بجلبابه الأبيض وبلْغَتِه الصفراء، كعريس يعدو أخي الصغير أمامي. أثر بقع دم على جلبابه. خمسة أيام خلت على ختانه. استعاد عافيته واستعاد معها مرحه وفرحه الطفولي. أفي الآن بوعدي. وأصحبه معي ليستمتع بلحظات جذلة ولينفض عن كتفيه الخمول الذي سيّجه لفترة غير قصيرة؛ فترة إعداده لحفل ختانه.
- انتبه لأخيك.. اعتن به.. لا تتركه وحيداً..
ما اعتنيت بأخي، ما كان علي أن أتلهى عنه. للحظات كنت أتابعه وهو يرفل كفراشة تحط على الأزهار وتطير ثم تعود لتحط على الأزهار ثانية.. وأنا ألاحقه بنظرات حبلى بالفرح وبابتسامة صادقة أسيِّجه. ليتني كنت سَيَّجْتُه بحبال وأسلاك، ليتني كنت أحكمت وثاق يديه ورجليه، لو كنت فعلتُ ما كنتُ لاقيتُ ما لاقيتُ وما كانت الدنيا اسْوَدَّت في وجه أسرتي..
ابتعد الأطفال يتسابقون.. يتعثرون.. يقعون.. ينهضون ويتابعون سباقهم.. أخي يعدو خلفهم فاسحاً بين ساقيه، وأنا أتابع خطواته المتعثرة وأرسل ضحكات عالية بل قهقهة وأمسح الدموع التي تسري على خدي. استندت إلى الشجرة تفيَّأت ظلها الظليل وارتميت في بحر الغفو..
كنت مستلقياً إلى ظل شجرة حين عاد الأطفال.. أحسستُ بدبيب أقدام يقترب.. عادوا يلهثون.. وقفوا أمامي صامتين للحظة.. تبادلوا نظرات حائلة.. أحسست بضجيج صمتهم يخدش أذني.. حجاب الصمت بصَمَ على أفواههم.. وهنت نفسي.. تفجرت في صدري ينابيع القلق حين لم ألحظ أخي بينهم. كأصنام متحجرة ظلوا واقفين أمامي، خلتهم ابتلعوا ألسنتهم.. التفت أحدهم صوب من كان واقفاً إلى جانبه، تحدَّث إليه حديثاً خاطفاً ورجع إلى الخلف. شعرت بجفاف في حلقي، بدقات قلبي المتسارعة، بقطرة عرق تنزل من جبهتي لتستقر عند الزاوية اليسرى لفمي .. زرع صمت الأطفال مخالب الخوف في جسدي.. "النهر".. "الغرق".. سقط عنِّي لساني.. بدأت أمَنِّي نفسي بأمل كاذب؛ أمل أن تكون الكلمتان اللتان قرعتا أذني مجرد جزء من حلم.. انتصبت واقفاً.. الكلمتان الواهنتان تصلان إلى أذني، تقرعهما بعنف، قدماي لم تسعفاني على القيام.. صورة النهر وهو يجرف راعي القرية وقطيع ماشيته إثر غضبه السنة الماضية تعبر مخيلتي وتجرف ذاتي نحو الهاوية.. صورة الجسد الصغير لأخي في جلبابه الأبيض ككفن تعبر أمام عيني وابتسامة مشرقة تبصم على ثغره. أمي قبالتي واقفة كصنم شاهد على عبث الأقدار.. تنظر إلى الأفق وبأصبعها تشير تجاهي وتنحي باللائمة عَلَيَّ.. أركض وأركض حيث أشار علي الصغار.. أصل إلى شاطئ النهر وبأعلى صوتي أصيح منادياً أخي.. يجيبني الصدى.. فتفشل عيناي في حصر صبيب دموعي.. أنفض عن حافظتي صورة أمي.. لا أفلح في ذلك.. أعود إلى المنزل.. أطرق بابه.. ينفتح ويطل وجه أمي.. أقف صامتاً.. صمتٌ طافح بالانكسار يؤثث المكان.. تلتفت أمي يمنة ويسرة باحثة عن طيف أخي.. تخونني دموعي.. تنفلت مني كلمات تنفذ إلى قلب أمي كسهام، غارت في جسدها غير القادر على التحمل.. انبعث الأسى من أعماقها.. طفا على صفحة وجهها.. تَسَرَّبَ إلى داخلها.. لتغرق في يم ألمها.. من لحظتها لم تنقشع عن نفسها غيوم الاضطراب.. سجينة حزن دفين غدت..
تطوان/المغرب