المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دوامات. قصة قصيرة. بقلم: مختار عبد العليم



مختار عبد العليم
01/11/2011, 10:20 PM
دوامات.
بقلم: مختار عبد العليم.
كلما اقترب من النجاح في محاولاته المضنية لالتقاط أنفاسه أعادته ضربة أخرى إلى النقطة صفر؛ لتدور به دوائر النزف من جديد.
وقد عود نفسه عندما تضرب حلقه مرارة ذلك الإحساس على أن يخرج ماشياً على قدميه ساعات طويلة بشوارع القاهرة وميادينها. وعندما يتمكن منه الإعياء يركن إلى مقهى حيثما يكون بميدان العباسية، أو بميدان الفلكي بالقرب من ميدان التحرير، أو بشارع التوفيقية بوسط البلد.
كان فشله ببداية عنفوانه لا يشكل له خطر ذو أهمية؛ غير أنه يقول لنفسه: اثبت فظهرك هو فقط حاميك، فإذا انكسر فلن تقوم لك قائمة أخرى.
أما هذه الأيام صار يلوك أحزانه من مطاردة الفشل، العمر يتقدم، والعنفوان يتأثر، والفشل يتغول، والقدرة على التحدي تشيخ.
ما عاد ينفعه الأكلاشيهات الممجوجة: [ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.] فما هو الذي كان مع غيره ثم اختاره ووصل إليه؟ [ اصبر فالصبر مفتاح الفرج.] أي مفتاح؟ وأية مرارة؟ [ الدنيا لا تعطي شخص واحد كل شيء.] ماذا أعطته الدنيا؟
خرج هذه المرة وبيده لوحة كان قد انتهى من رسمها وسط أسبوعه هذا، متوجهاً بها إلى صاحبه المقرب ليتبادلا الحديث عن هذا المنتج الجديد من إبداعه المحروم من زيارة الشمس له. فلم يستطع العثور عليه ولم يجده بأي مكان اعتادا أن يجدا بعضهما فيه فقال لنفسه: الله يخربيت أُمك يا ناجي. أنا لا أعرف لماذا لم أتصل بك على جوالك يا غبي؟ وحتى موبايلي نسيته في الزفت البيت. وأردف مستهزئاً: يا سيدي طز في كل شيء، يعني هي جاءت عند السيد ناجي ووقفت؟ جاتك إنتَ وهو ستين ألف خيبة.
وفوق أحد الأرصفة المحيطة بالحديقة الموجودة أمام مجمع التحرير جلس هذه المرة يتأمل الرائحين والغادين من شتى الجنسيات وهم يدخلون المجمع ويخرجون منه ويقول: تجديد إقامات وعمل باسبورات واستخراج أوراق مصر كلها من هنا، كل شيء موجود بهذا المبنى ولكن يا ترى؛ هل توجد مقابر بالداخل؟ أنا عمري ما دخلت هذا المجمع أبدا!! لماذا يا ترى؟ والله أنا لا أعرف لماذا فعلا؟ معقول بعد كل هذا العمر لم تكن لي أية ورقة رسمية طُلِبَت مني أبدا؟ هههههههههه!! حتى عندما عينوني بمصلحة الأحوال المدنية لم أدخل هذا المبنى لأستخرج أية ورقة. والله هذه غريبة فعلا!!
ثم يلف رأسه وينظر الطالعين والنازلين لسلم مترو الأنفاق ويتمتم: ههههههههه! الأشكال متقاربة! والسحنات متشابهة! ويرمق السماء بنظرة سريعة متسائلاً: ألم يكن موجود طين مختلف عن بعضه بعض الشيء؟!
أدار رأسه نحو السريحة من باعة البطاطة المشوية والبيض المسلوق والصميط ونادى أحدهما يطلب منه شيءاً يأكله، وتعانقا في حوار:
- قلي يا ريس: هل تعرف كل زملائك البائعين هنا؟
- طبعاً يا أستاذ، مثلما تعرف أنت عدد أصابعك.
- ههههه! ماشي يا سيدي. ولكن قلي: من أين يأتي البائع منكم ببضاعته؟ ولحساب مَن تبيعونها؟
تعجب السريح من سؤاله واستفسر:
- هل أنت صحفي يا أستاذ؟
- لا لا لا لايا أخي، أنا أدردش معك فقط.
- ولا من مباحث التموين؟ ولا من بتوع البلدية؟
أمسك بيده برفق:
- يا رجل؛ لو أنا ممن تقول عنهم؟ كنت محتاج أسألك يعني؟ ثم إنك خير العارفين إن هذه الأيام لا يوجد ضابط ولا رابط بعد الثورة.
- آه والله يا سيد؛ عندك حق. الثورة دية جاءت لنا بالخراب المستعجل.
أفزعه ما قاله السريح وبادره:
- كيف تقول هذا الكلام وأنت بنفسك ومن لحظة فقط كنت خائف مني أحسن أكون مباحث أو بلدية؟
- ماذا تقصد يا أستاذ؟
- أقصد أن النظام المخلوع بفضل الثورة هو الذي وضع فيك كل هذا الرعب يا رجل.
تنهد البائع تنهيدة سخينة:
- والله يا محترم، الواحد ما عاد فاهم أي حاجة خالص، نخلص من الذين قلت عليهم؟ يطلع علينا البلطجية.
- وماذا يفعلون معكم هؤلاء الأوغاد؟
- يفروضون علينا الإتاوات والله يا أستاذ.
- ماشي يا سيدي؛ أنت أيضاً كنت تدفع الإتاوات لمباحث التموين والبلدية. أليس كذلك؟
- كلامك مضبوط والله العظيم.
- اصبر قليلاً لبعض الوقت وكل شيء سينصلح حاله إن شاء الله.
- وماذا نملك غير الصبر يا سيد؟ سواء قبل الثورة أو بعدها؟ تعرف هذا الرجل القاعد بشوية الفانيلات والكلوتات ويبيعهم هناك ده؟
- ما له؟
- بلطجي علينا جميعاً.
هز كتفه بيده بالراحة:
- ألم تعلمك الثورة أي شيء يا رجل؟ لماذا تسمحون له بالبلطجة عليكم وأنتم أكتر من حبات الرمل وهو رجل واحد؟
- يا أستاذ هو الذراع اليمين للحاج ابراهيم عضو مجلس الشعب وأكبر تاجر مخدرات.
نظر إليه في تعجب:
- أي مجلس شعب تقصد؟
- مجلس الشعب بتاعنا يا سيد، يعني حضرتك لا تعرف أعضاء المجلس بتاعنا؟
- يا أخي لم يعد هناك شيء اسمه مجلس الشعب من شهور طويلة.
انفرجت أسارير السريح وسأله بدهشة عارمة: هل تقسم بالله العظيم أنه لم يعد عندنا مجلس شعب؟
باغته استحلاف السريح له: ماذا تقول يا رجل؟ ألم تسمع إذاعة؟ ألم تشاهد تليفزيون؟ ألم تقرأ جرنال؟ ألم تتكلم مع أي شخص أبداً؟
- يا أستاذ أنا لا أقرأ ولا أكتب، والتليفزيون الزفت ده ما بيفهمش حد أي حاجة خالص، الله يلعن أبوهم كلهم. وخلينا فيما نحن فيه وحياة أُمك عندك يا شيخ. هل ستقسم بالله العظيم؟ ولا لا؟
نظر إليه بإشفاق: يا سيدي؛ أقسم بالله العظيم ثلاث: أنه لم يعد عندنا مجلس شعب بعد انتهاء الثورة بفترة قليلة، وكمان يا سيدي كلهم في ليمان طرة دلوقتي.
تهلل وجه البائع بالفرح المدوي: يعني مافيش الحاج ابراهيم؟ يعني مافيش الحاج ابراهيم؟ مافيش الحاج ابراهيم؟
وبسرعة البرق أحال السريح طاولته الصاج التي يحمل عليها بضاعته إلى سلاح وطار نحو بلطجي الفانيلات والكلوتات وظل يضربه على رأسه بكل ما أتاه الخبر من قوة، حتى ألقاه صريعاً على الأرض. وكل المارة يشاهدون الموقعة بتركيز عظيم...
الرابعة وسبع دقائق من فجر يوم الأحد الموافق السادس عشر من أكتوبر 2011.