المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذاكــــ الحــــلم الـــذي كــــان



محمد دلومي
12/04/2007, 08:29 PM
ذاك الحــــلم الـــذي كــــان


من نافذتي المقضبنة ’ أطل على أمتار ضئيلة أصبحت عندي هي الحياة كلها ليس فيها سوى عتمة شديدة السواد تنتشر أناء الليل ونور ضئيل من مخلفات الشمس يطوف بها أطراف النهار . من خلف هذه النافذة أطل على مجتمع الجرذان وهي تجتمع بالعشرات حول قطع الخبز المنثور ’ تقفز هنا وهناك بين المجاري الكريهة في ساحة مغلقة من جهاتها الأربع كانت هذه هي تفاصيل حياتي الجديدة يومها يشبه أمسها و غدها شبيه بما مضى من أيام مذ , أتوا بي إلى هنا و رموني خلف الزمن صرت رقما تسرب من أنامل الحياة .
لم أكن لأرضى بهذه الحياة الجديدة و أنا الذي عشقت الحرية كما تعشقها الذئاب الحرة فكان لابد لي من استدراج الذكريات و تفجير خزانها و أطلق عقال روحي تسبح أنى شاءت ’ وحدها هذه الروح كانت حرة غير خاضعة لمخلوق .
أسترجع أيام الطفولة وأنا أطل من نافذة بيتنا أتفرج على جمال حديقتنا اقفز فرحا بالمطر ورائحة التراب وتلك الألوان الجميلة كنت طفل المطر ’ أعشقه وأعشق المضي تحت زخاته دون قبعة أو معطف يقيني من رذاذه الجميل .. تلك الحديقة الجميلة كانت كل عالمي , لازالت تفاصيلها الدقيقة ماثلة أمام عيوني ’ أشجار التوت الجميلة والرمان التي تصطف أمام عيوني كأني أراها الآن . أطبق الجفون وارحل إلى ذلك العالم الذي عشته في صباي .. هاهو الياسمين يتسلق نافذة غرفة أمي , وأريجه ينتشر شذاه في البيت كله والدوالي تتسلق أسوار الحديقة فتدلى عناقيدها خلف الأسوار ليقطف منها أطفال المدارس والمارين جنب بيتنا غلتها ’ أما الطريق الصغير الذي يشق الحديقة نصفين فقد توزعت على جوانبه صنوف من الأزهار التي كانت تعني بها أمي عناية فائقة وكأنها بينها وبين إزهارها ألفة جميلة غارقة في السحر .. أما في الليالي الحالكات فيرحل بك الجمال إلى دنيا غير الدنيا حينما ينشر القمر نوره الضئيل فتصبح الأشجار التي نراها من النافذة خيالات جميلة لأشكال يصنعها خيال الأطفال ..
في الأيام الممطرة كنت اقضي أوقاتي تحت شجرة التوت أحاول اصطياد العصافير التي تنزل من على أشجار الحديقة لتحط على تربتها وبين حشائشها لتلتقط فتاة الخبز الجاف التي تنثره أمي لها ’ أو تبحث في التربة عن ديدان الأرض .. كانت كل محاولاتي فاشلة فلا الأحجار التي ارمي بها أسراب الطيور تصل ولا الفخاخ التي أعدها لها كانت تجدي نفعا . وعندما ينتصف النهار تطل علي أمي وتلوح لي بيدها أن حان وقت غدائي أسرع نحوها تقف أمام الباب تمسح عني ما علق بي من طين.. ولازال صوتها الرخيم يرن في أذني وهي تعاتبني بلطف " لقد عرضت نفسك للمطر ستمرض يا مجنون "
تغير لي ملابسي و تعاتبني مرة وتقبلني مرات , تضمني .. تحملني .. تبتسم .. تلقي لي نظرات ود .. تسألني عن عصافيري .. عن صيدي .. وتضحك . تضحك مثل حلم .
بالنسبة لي لم تكن الدنيا سوى بيتنا والعالم كله حديقته ’ ما أمضيته من لحظات الصبا مع أمي لا تهمله السنون . ولا تمحوه الأيام ولا تأخذه أو تغير منه رياح الزمن شيء كل شيء ماثل أمامي كأنه حدث الآن .. كم لعبنا الكرة .. كم جرت خلفي .. وجريت خلفها . لم أكن أعرف لي صديق ولا صديقة سواها .. لم أكن أخرج من البيت إلا نادرا عندما تزور أمي محلها وتتفقد عاملاتها . كنت أضيق ذرعا بثرثرة الحلقات والزبونات وأغراض السوق ... أعود إلى البيت وفي قلبي وحشة وشوق وحنين جارف إلى كل ركن من أركانه ’ كان بي مس من حنين إلى أغصانه ,,, أزهاره ,, أطياره ’’ قرميده الأحمر
أذكر عندما يغشى المطر الحديقة , أصعد على كرسي صغير وأطل من نافذة غرفة أمي على أسراب عصافير الدوري والحساسين والحمام وبعض الطيور التي لا أعرف لها سميا ’ وهي تنزل من سطح المنزل ومن فوق الأغصان لتجتمع كلها في ارض الحديقة وقد اختلطت تغريدها فأصاب بحالة من الفرح ممزوجة بخيبة .. خيبة الصياد الفاشل الذي لم يقدر على اصطياد عصفور منذ أيام ’ وأبقى على حالي أتأمل جمال العصافير وهي تقفز من مكان على مكان .وأمي مستلقية على فراشها غارقة في شرودها وصوت نجاة الصغيرة الحالم يسترسل مع تغريد العصافير ’ فتهدأ النفس وتركن الروح إلى عالم جميل , فيخيل لي أن العصافير ترقص والأغصان ترقص ’و الأشجار ترقص وكل الدنيا ترقص .
وعندما يتوقف المطر وتطل الشمس ويرتقي قوس قزح في السماء , تخرج معي أمي إلى الحديقة ’ تتوسط الحديقة و تبتسم لي في حنو وتطلب مني أن ابتعد عنها أتراجع إلى الخلف إلى أن أصل باب البيت فأجلس هناك أتأمل مشاهدا لازالت تتشبث بخيالي وذاكرتي .. كان المنظر ساحرا وأنا أرى أمي ترفع يديها إلى السماء وتفتح كفيها فتهطل عليها الطيور وتطوف بها , كان مشهدا حالما , كانت تنثر الخبز الجاف المطحون من حولها وتدور في كل جهة والعصافير تتسلق كتفيها وتحتل رأسها فيتناثر شعرها الحالك السواد وتغرق هي في ضحك جميل وينزل عصفور وآخر و آخر حتى لم يعد على الأغصان طيرا ولا عصفورا إلا كان أمامها أو على أحد كتفيها وتضع بعضا من الحب على شفاهها فينزل عصفور بلطف ليخطف طعامه من شفتيها في شبه قبلة ساحرة , أما هي فغارقة في ضحك جميل ’ كانت أمي في تلك الفترة ربما في عامها الثالث بعد العشرين لذا كانت لازالت طفلة تصنع لها جمالا آخر وعالم ساحر . كانت رائعة وهي تتوسط كل تلك الأشكال من العصافير ’ وقد انسدل شعرها على كتفيها ساحرا تتقاذفه نسمات ما بعد المطر الخفيفة . كنت أعجب كيف لا تفر منها الطيور . ومرة على مرة كانت تنظر نحوي وهي غارقة في الضحك والعصافير تقفز تارة إلى كتفيها وأحيانا تحط بين أناملها وأحيانا تحاول أخذ فتاة الخبز من شفتيها في ما يشبه قبلة سريعة , وكأن بينها وبين أمي ميثاق حب قديم وعقد من الحنان المتبادل , وتعود أمي أدراجها نحوي وتضع في كفي الصغيرة شيء من الطحين وفتاة الخبز الجاف وتطلب مني أن أصنع مثل صنيعها ’ أتقدم بخطوات ثقيلة نحو تلك الأسراب وقلبي الصغير يخفق وبصري يزيغ ذات اليمين وذات الشمال ومرة التفت إلى الخلف نحو أمي ’ أسير الهوينى كالخائف من خطب وما هو بخطب لكنه الجمال الذي تدفق فخشيت أن يتسرب من حولي فجأة وسرعان ما تفر العصافير محلقة نحو أغصان الأشجار , وإلى سطح القرميد وتظل رابضة في أمكنتها وكأنها تشك في نواياي , ولا عصفور واحد يغامر وينزل نحو كفي المفتوحة على فتاة الخبز .. ومثل الأبله أو (فزاعة) المزارع أنتظر هطولها نحوي ولكن عيون العصافير ترقبني ولا تغامر بالنزول ’ وتضحك أمي , تضحك .. تضحك حتى يردد صمت المكان صدى ضحكاتها فيخيل لي أن الدنيا كلها تضحك معها وتهرول نحوي ضاحكة وتنزل إلي بركبتيها وتقبلني في كل وجهي , ولازلت أحفظ منها ذلك الكلام الجميل وهي ماسكة بيدي متجهين نحو مدخل البيت
( يا طفلي .. قبل أن تطعمها من كفك . أطعمها من قلبك ) .
لم أكن أعرف ولا افهم كيف هو طعام القلوب هذا الذي أهبه للطيور والعصافير .
ها أنا اليوم خلف القضبان بعد مضي تسع وعشرين سنة على الجمال الذي مضى وها أنا اليوم قد تعلمت معنى أن أطعم الناس من قلبي ..
كثيرون أطعمناهم من قلوبنا ولم ينل منهم هذا القلب سوى النكران والجحود ..
أفتح عيوني ببطء وكأني أمني نفسي بحديقة أمي , وأيام جميلة خلت .. ولما أتبين معالم المكان أرى من نافذتي الحديدية قطيعا من الجرذان يهجم على الخبز الجاف .. وانسحب إلى فراشي القذر محاولا رسم خيال آخر لقطعة من جمال وزمن من جمال أمضى وبين عيني صورة أمي ,,, وضحكة أمي ,,, وتبكيني دموع أمي وأنام على دموع تبلل وجهي أستجدي بها حلم أرحل به إلى حريتي .

صابرين الصباغ
17/04/2007, 12:26 PM
صديقي المبدع
محمد دلومي
مرحبا بعودة قلمك ليستنشق عبير الحرية
حمدا لله على سلامتك
لنعود لقصتك ودعني القبك هنا بسيد المطر
فقد كتبت بقصتك أكثر من فقرة عن المطر
أتفرج على جمال حديقتنا اقفز فرحا بالمطر ورائحة التراب
في الأيام الممطرة كنت اقضي أوقاتي تحت شجرة التوت
أذكر عندما يغشى المطر الحديقة , أصعد على كرسي صغير وأطل من نافذة غرفة أمي
وعندما يتوقف المطر وتطل الشمس ويرتقي قوس قزح في السماء
أخي محمد
غرقتنا يارجل ( مزح طبعا ) ههههههههههههه
الاماكن الرائعة والحياة الحلوة لانشعر بجمالها إلا اذا اعقبها ظلام ووحشة
قلم لدية نفس طويل ليسير طويلا فوق الورق
دمت مبدعا
:good:

نزار ب. الزين
18/04/2007, 07:02 AM
الأديب الأستاذ محمد دلومي
هذه هي المرة الأولى التي أصافح فيها أحد نصوصك ، فكان بحق نصا لافتا
فقد أفضت يا أخي في وصف اللحظات الحلوة التي كانت فأجدت ، و أتقنت بحِرَفيِّة بالغة تصوير حنان الوالدة و تلقينها ابنها أهم درس في الحياة ، ألا و هو درس الحب و كيف يحب .
ثم تغيرت الأيام و ساء الحال و استبدلت الحديقة عصافيرها بجرذانها ، و لم تبقَ غير الذكريات.
أسلوب شاعري و لغة مكينة و إبداع رائع
سلمت أناملك و دمت متألقا
نزار

عبلة محمد زقزوق
18/04/2007, 10:29 AM
أمام روعة الحرف والذكرى المنسابة أقف أمامهما في إجلال واحترام لفيض الغذوبة الممزوجة بجميل الذكريات.
فما أروع الوصف مع تلاحم الذكرى والواقع المؤلم، فلقد تداخلا ولم يتشابكا بل رسمتا لنا الخطوط لمعالم الطريق؛ فتعلمنا أن ما نزرعه في عقول وقلوب ابنائنا سوف تحصده نفوسهم يوما ما في لحظات يأس وقنوط، فنكون لهم باب نور، وبستانا من الزهور.
عاشت لنا الذكرى، وعشنا لها ينبوع من الحنان.
مع فائق تقديري لنصك الزاخر والرائع بجميل الوصف والذكرى أديبنا الرائع أ. محمد دلومي
:fl: :fl:

محمد دلومي
20/04/2007, 08:52 PM
صديقي المبدع
محمد دلومي
مرحبا بعودة قلمك ليستنشق عبير الحرية
حمدا لله على سلامتك
لنعود لقصتك ودعني القبك هنا بسيد المطر
فقد كتبت بقصتك أكثر من فقرة عن المطر
أتفرج على جمال حديقتنا اقفز فرحا بالمطر ورائحة التراب
في الأيام الممطرة كنت اقضي أوقاتي تحت شجرة التوت
أذكر عندما يغشى المطر الحديقة , أصعد على كرسي صغير وأطل من نافذة غرفة أمي
وعندما يتوقف المطر وتطل الشمس ويرتقي قوس قزح في السماء
أخي محمد
غرقتنا يارجل ( مزح طبعا ) ههههههههههههه
الاماكن الرائعة والحياة الحلوة لانشعر بجمالها إلا اذا اعقبها ظلام ووحشة
قلم لدية نفس طويل ليسير طويلا فوق الورق
دمت مبدعا
:good:

الأديبة الفاضلة صابرين الصباغ تحية مودة وتقدير وبعد .
شاكر لك مرورك من هنا ورغم ذلك عاتب عليك غياب ثلاث سنوات .

محمد دلومي
29/04/2007, 05:33 PM
الأديب الأستاذ محمد دلومي
هذه هي المرة الأولى التي أصافح فيها أحد نصوصك ، فكان بحق نصا لافتا
فقد أفضت يا أخي في وصف اللحظات الحلوة التي كانت فأجدت ، و أتقنت بحِرَفيِّة بالغة تصوير حنان الوالدة و تلقينها ابنها أهم درس في الحياة ، ألا و هو درس الحب و كيف يحب .
ثم تغيرت الأيام و ساء الحال و استبدلت الحديقة عصافيرها بجرذانها ، و لم تبقَ غير الذكريات.
أسلوب شاعري و لغة مكينة و إبداع رائع
سلمت أناملك و دمت متألقا
نزار


استادي الكريم مرورك كان مثل ربيع جميل
تقبل خالص محبتي :fl:

محمد دلومي
30/04/2007, 02:08 AM
أمام روعة الحرف والذكرى المنسابة أقف أمامهما في إجلال واحترام لفيض الغذوبة الممزوجة بجميل الذكريات.
فما أروع الوصف مع تلاحم الذكرى والواقع المؤلم، فلقد تداخلا ولم يتشابكا بل رسمتا لنا الخطوط لمعالم الطريق؛ فتعلمنا أن ما نزرعه في عقول وقلوب ابنائنا سوف تحصده نفوسهم يوما ما في لحظات يأس وقنوط، فنكون لهم باب نور، وبستانا من الزهور.
عاشت لنا الذكرى، وعشنا لها ينبوع من الحنان.
مع فائق تقديري لنصك الزاخر والرائع بجميل الوصف والذكرى أديبنا الرائع أ. محمد دلومي
:fl: :fl:

الفاضلة عبلة
ربما النص فيه الكثير من الحنين والكثير من الصدق لاني كتبته وانا في السجن
مع خالص مودتي .