المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مهد العشق ... دوامات



مختار عبد العليم
12/11/2011, 11:35 PM
مهد العشق.
بقلم: مختار عبد العليم...
--1--
لم يعد يحتمل.
فمنذ ثلاثة أيام؛ كان قد أعد معها حقائب سفرها وودعها بمطار القاهرة إلى [بانكوك] لحضور مؤتمرها السنوي الخاص بالحماية الاجتماعية حول العالم.
لم تجب على تليفوناته سوى مرة واحدة عندما طمأنته على وصولها في أول يوم.
ومن بعدها سلمته إلى طواحين القلق تهرسه هرساً وتصعد به من طابق إلى طابق.
رجع إلى بيته اليوم قبل انقضاء وقت العمل بساعتين لشعوره بحالة من الإعياء.
وفي طريقه مر على حضانة ابنته سنى مصطحباً إياها.
وقبل أن يحملها ويغادر توجه إلى صاحبة الحضانة بعتاب شديد اللهجة:
هل هذه إنسانية يا مدام صباح؟
بنت لم تكمل الستة أشهر بعد؟!! وتتركيها هكذا عائمة في بولها؟
بحرجٍ متكلف:
يا أستاذ منتصر، البنت عملتها على نفسها حالا، وقبل أن تأتينا ببضع دقائق.
بنظرة حادة:
يا ست صباح، هذا كلام فارغ.
البنت كلها مبتلة من فوقها إلى تحتها.
وهذا يعني أنك لم تقتربي منها طوال الوقت، ونحن بفصل الشتاء يا سيدتي.
هذا غير الأمراض التي يمكن أن تصيبها بسبب أفعال الحضانة المتكررة.
بلهجة تحدٍ واضحة:
أستاذ منتصر، لسنا مهملين.
ونحن عندنا أولاد ولا يمكننا أن نتعامل مع الأطفال بما تتهمنا به.
ولك أن تسأل مدام أم مريم والأستاذ أبي شريف وهما واقفان أمامك الآن.
بهدوء مفتعل:
أنا يا سيدتي لا أسأل أحد. بنتي أمامي وأنا أسألك أنت بصفتك الأمينة عليها.
اقتربت منه قليلاً:
يا أبا سنى، إذا كان سؤال أولياء أمور زملاء ابنتك لا يعجبك؟
فاسأل أم سنى، المدام ليلى نفسها.
بابتسامة ساخرة:
يا سيدتي، أم سنى اشتكت لك ولي عدة مرات من مثل تلك التصرفات.
أشاحت وجهها عنه:
يا أستاذ يمكنك البحث عن مكان آخر يكون أفضل لابنتك.
تدخل أبو شريف مهدئاً:
يا ست صباح، الأستاذ منتصر لم يخطئ؛ فهو فقط يلفت انتباهك إلى شيء يراه سيئاً لابنته، وهذا من حقه.
وأنت يا أبا سنى، علينا أن نتحمل مدام صباح بعض الشيء، فهي معذورة فأطفال الحضانة كثيرون.
تراجعت صباح نوعاً ما عن حدتها المقصودة بغرض أن تبدو أمام الرجل غير مبالية بفقد طفل من عندها:
عموماً يا أستاذ منتصر،أنا آسفة على حدتي، واعطني سنى أغير لها.
-- 2 --
وضع ابنته في السرير، وحقيبة أغراضها بحضانتها معلقة بكتفه لم تزل.
وقف لحظات عند مقدمة السرير يتساءل وعيناه ممتلأتان بحنان مرهق:
هل تعجبك تصرفات ليلى يا سنى؟
توجه إلى المطبخ في صمت تام بخطوات منكسرة وأعد المطهر ووضع فيه رضّاعة رفيقة وجعه في هذه الأيام الثقيلة وجهزها لحين تستيقظ.
ثم إلى الحمام وأفرغ ما بحقيبتها في الماء الساخن وغسلها.
حمل ماعون الغسيل ووقف بشرفة الصالة يحاكي منشرها:
خذ بالك من تلك الملابس يا سيد.
فأنت تعرفها تمام المعرفة.
وأنا أحذرك إذا سقطت من فوقك أية قطعة منها يا أجمل منشر في الدنيا.
فأنت الذي تعود حمل أشرف ملابس لأروع اثنتين على وجه الأرض
ليلى وسنى.
طبعاً تعرفهما يا سيد السادة.
أغلق الشرفة وارتمى فوق فوتيه ومد يده إلى حذائه الذي نسى خلعه مع بقية ملابس خروجه إلى عمله.
وأخرج علبة سجائره وأشعل واحدة متمتماً:
ألهذه الدرجة يا ليلى؟ ألهذه الدرجة؟
أسرع إلى مطبخه ملتقطاً قنينة الحليب عندما نادته ترنيمات سنى كما تعود تسميتها حينما تبكي طلباً لأي شيء.
ألقم فم المترنمة حلمة الرضّاعة.
واتجه رأساً إلى خازنة الملابس ليغير ملابسه.
وبمجرد فتحها وقعت عيناه على واحد من فستانين لليلى والتي تعهدت بأنه لن يراهما أحد عليها أبداً.
فهما مصنوعان لمنتصر وفقط.
فستانان توأمان من الحرير الطبيعي، ينطقان بالبساطة الراقية، لا يفرق بينهما أبداً غير اللون؛ فأحدهما أبيض والآخر أحمر.
وقد عودته على أن تأخذ واحداً منهما في كل سفرة من سفراتها لتكون معه به على كاميرا النت في نهاية كل يوم من أيام رحلات تكليفها بعمل.
نسي مقصده للخزانة وسحب الفستان برفق حزين وقعد بطيئاً على حافة السرير، وترك عينيه الدامعتين تتأملانه بعد ما سواه فوق فخذيه:
حمالتان عريضتان تغطيان كتفي ليلى، نازلتين من الأمام بنصف مشد لنهديها منحوت بالفستان من نفس قماشه، بحيث يسكن نصفا النهدين الأسفل بحلمتيهما بينما يكون نصفهما الأعلى متحرراً إلا من شريطي الحمالتين.
وبطول البطن وعرضها مكشكشات بديعة على هيئة طبقات متدرجة يربطها مطاطان أحدهما يوجد في أعلى وتحت المشد مباشرة والآخر في أسفل يلف الوسط.
وينتهي الفستان عند حد ركبتيها بكلوشات رفرافة تتنسم بعطر متعة ممارسة العشق.
زادت دموع العينين بدون صوت منه وهو يعاتب في أسى نزّاف:
يا ترى قاعدة مستريحة يا ليلى؟
ولا أية سكة اتصال؟ حتى ولا رسالة محمول؟ ولا رد على اتصالاتي بكِ؟
أنا لست مصدقاً!!! واضح إني في كابوس ملعون.
هل حدث لكِ مكروه؟ أنا أعجز من أن أسأل بمقر عملك. أنا مرعوب من احتمالات ردودهم هناك.
احتقن عقله أكثر وهو يتخيل مصائب غير متوقعة.
لم يشعر بألمه المتفاخم بكتفيه ورقبته وهو مطأطئ الرأس والتي كادت أن تصل إلى ركبتيه مدة لا يعلمها.
ولم يمنع طول قامته من تصلب نصفه الأمامي كله بانحناءة تقويسية وهو جالس
وكأن أفكاره قد أصابته بحالة صرع مؤقتة مميتة.
-- 3 --
منتصر. منتصر. بابا منتصر.
صوت يحاول اختراق أذنيه على الرغم من ضآلة حجمه وضعفه الشديد.
يعاود الصوت:
هل تسمعني يا منتصر؟
بابا منتصر، انتبه لي.
لازم تنتبه فوراً.
ارتج قلب الرجل وانفك حصار صرع الأفكار، وحل محله تفكك الأوصال:
مَن؟ مَن هنا؟
بهدوء مرعب له:
ابنتك سنى.
يتلفت الأب المكلوم:
ابنتي؟!!!
سنى؟!!!
سامحك الله يا ليلى.
لقد أصبتينني بعطب في عقلي. لماذا كل هذا السوء يا حبيبتي؟
منذ متى وأنتِ بهذه القسوة يا عشيقتي؟
يتردد صوت سنى بأرجاء المكان بأكثر قوة:
افق يا منتصر.
إنك لست معتوهاً ولم يصبك الجنون.
انتفض الرجل واقفاً مذعوراً ودموع عيونه تغرق صدره وقد طار الفستان من فوق ركبتيه إلى أقصى الغرفة:
مَن يكلمني؟ مَن معي بالغرفة؟ أين أنا؟
بحسم:
اهدئ يا بابا، أنا سنى ابنتك.
كيف تكلمينني يا سنى؟ كيف؟ كيف؟
بصوت صوفيٍ:
يا منتصر، إن القادر على خلق العشق؟ سهل عليه أن يجعل ابنتك تكلمك وهي في مهدها.
أولم تؤمن بالعشق يا منتصر؟
أولم تتعهد لليلى بأنك تثق فيها ثقتك بنفسك؟
يقف الرجل أمام مقدمة السرير ويركز النظر في ابنته التي ألقت برضاعتها جانباً.
ويرى وجهها ناطقاً بالنور ونظرات عينيها إليه صافية حازمة.
وبأدب خاشع يرد:
نعم يا سنى، تعهدت وأنا كلي صدق.
- إذن أنت شككت في نفسك يا منتصر.
ويجب عليك علاج نفسك مما داهمها من مرض.
- أنا يا سنى؟
- نعم يا أبي الجميل.
- فهمت يا سنى، طالما أنني شككت في ليلى.
- وهي أيضاً أصابها مرض، ويجب علاج نفسها منه.
- وما هو يا ابنتنا.
- هي تعهدت لك بأنك أهم مَن في الكون عندها.
أنتما ضعيفان أمام ما ينطق به لسانكما يا منتصر.
- أعترف.
- وهي أيضاً تعترف يا منتصر.
- كيف يا سنى؟ كيف تعترف؟
- هي تسمعني مثلك تماماً الآن.
- إني في غفلة من الزمن. أنا لست مصدقاً لِما أنا فيه يا ابنتي.
- لأنك مريض يا أبي.
فلو كنت منتصر الذي تتمناه؟
لكنت قد اقتنعت بما قلته لك. بأنه من اليسير على إله العشق ما يصعب علينا نحن البشر.
عد لنفسك واصدق عشقكما يا أبي.
فأنا عشقكما يا منتصر.
حاول الرجل تحريك قدمه أو يده نحو سنى؛ إلا أنه أحس بقوة غامضة تربطه مكانه.
بلهجة آمرة:
قف مكانك ولا تظن أنك ستلمسني الآن.
فلن يستطيع أحد منكما لمسي قبل شفائكما مما أصابكما من مرض.
باستسلام:
عندك حق يا عشقنا.
بقوة ممزوجة بعاطفة الحرص:
ليلى، منتصر، اسمعاني جيداً:
سنى ليست قديسة.
فلا يجب أن يعرف بحالي أحد غيركما في الكون.
وإلا ستفقدانني للأبد.
فلا يوجد قديس سوى العشق وخالقه.
اغرورقت عيون الرجل بدمع الحزن من جديد:
حبيبتنا سنى، لك كل المجد.
- المجد لله وحده يا أبي.
أخذ الرجل يمسح صدره بيده ويدعو:
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا.
اللهم كن معنا ولا تكن علينا.
اللهم اغفر لنا تقصيرنا في حق عشقنا.
اللهم إنك سميع مجيب الدعاء.
بهدوء رزين:
إذا ألقيت ببصرك خلفك ستجد بداية علاجك يا منتصر.
استدار الرجل فوجد الفستان ملقى؛ فانطرح على بطنه ودثر وجهه بفستان العشق وظل يمرغه فيه، ويمسح دموعه ويصرخ بأعلى صوته:
سامحيني يا سيدتي.
أنتِ شرفي وعرضي وقوتي وإنسانيتي.
عالجيني يا ليلى واشفني مما أنا فيه.
أنا أستحقك؛ فلا تغضبي من حماقتي ووجعي من تصرفاتك.
أقسم بالله بأنني صادق معك يا عشيقتي.
وأنا أصلي بمعبد العشق وأطلب منك السماح.
سامحيني فالعاشق لا بد من أن يكون متسامحاً مع مَن يعشق يا ليلى.
ألسنا مؤمنين بذلك؟
بصوت رفيق:
هي أيضاً تفعل ما تفعله يا منتصر.
أجمل ما في العشق أنه يحمي نفسه بنفسه.
انتبه منتصر لأول رنة بمحموله وفتح:
ابقي عندك يا سيدتي.
فأنا فخور بعملك وحبك له.
أنا مغمور بعشقك يا ليلى.
يأتيه صوت ليلى المنتحب:
سامحني يا سيدي، سامحني يا عمري.
ألسنا مؤمنين بأن العشق تسامح.
وأخذ يتبادلان جملتين:
- ابقي عندك يا منجزة، فمصر تحتاجك في مكانك.
- أنا قادمة إليك، فمصر، تحتاجني عاشقة لك ولسنى.
ظلا هكذا حتى سمعا ابنتهما تبكي وفي نفسٍ واحد قالا:
سنى محتاجة رضاعتها.
الساعة الخامسة وخمسين دقيقة من يوم السبت والموافق 5 نوفمبر 2011