سَمْرَاءُ ـ قصيدة جديدة

[الدكتور/عزت سراج]

سَمْرَاءُ يَا حُلْمَ الْفُؤَادِ تَمَتَّعِي
بِالْفَجْرِ إِذْ شَقَّ الظَّلامَ بِأَضْلُعِي


مِيلِي عَلَى صَدْرِي الْحَزِينِ هُنَيْهَةً
وَتَعَلَّمِي التَّحْنَانَ لا تَتَمَنَّعِي

طُوفِي بِكَعْبَةِ عِشْقِنَا مُزْدَانَةً
وَتَمَسَّحِي بِنُحَاسِهَا وَتَضَرَّعِي

وَتَوَضَّئِي بِالْمِسْكِ خَالَطَ عَنْبَرًا
وَعَلَى بِسَاطِ الْفُلِّ قُومِي وَارْكَعِي

وَتَرَقَّبِي الْفَجْرَ الْمُضِيءَ بِلَيْلِنَا
وَعَلَى فُرُوعِ الْكَرْمِ غَنِّي وَاسْجَعِي

وَإِلَى الْعَصَافِيرِ الطَّلِيقَةِ حَلِّقِي
وَمِنَ الْعَنَاقِيدِ الشَّهِيَّةِ فَارْضَعِي

وَبِغَيْرِ قَصْرٍ شَاهِقٍ فَوْقَ الرُّبَى
بَيْنَ الرِّيَاضِ مُشَيَّدٍ لا تَطْمَعِي

وَبِغَيْرِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ مُسَافِرٍ
مُتَلأْلأٍ فَوْقَ الذُّرَا لا تَقْنَعِي

وَلِغَيْرِ حَرْفِي شَامِخًا فِي عِزَّةٍ
بَيْنَ الْحُرُوفِ جَمِيعِهَا لا تَسْمَعِي

حَرْفِي أَنَا هَذِي الدِّمَاءُ مِدَادُهُ
وَلِغَيْرِ بَابِكِ رَاغِبًا لَمْ يَقْرَعِ

أَنَا وَالْقَصِيدَةُ أَنْتِ دُونَ غُلالَةٍ
وَلأَنْتِ نَبْضُ فُؤَادِهَا الْمُتَوَجِّعِ

أَنْسَابُ كَالنِّيلِ الْجَرِيحِ بِرِيشَةٍ
بِالْوَجْدِ تُزْهِرُ فِي بَرَارِي الأَدْمُعِ

فَمَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ كُنْتِ مَلِيكَتِي
فِي زَهْوَةِ الْخَلْقِ الْبَهِيِّ الْمَطْلَعِ

ذَابَتْ دِمَاؤُكِ فِي دَمِي فَرَأَيْتُنِي
فَوْقَ الْخَيَالِ الْجَامِحِ الْمُتَمَنِّعِ

هَذَا أَنَا فَوْقَ الْعُرُوشِ مَلِيكُهَا
تَنْقَادُ خَاشِعَةَ الْجَبِينِ لِمَوْضِعِي

أَخْتَارُ بَيْنَ عَرَائِسٍ مَصْفُوفَةٍ
فَتَنَامُ نَاعِسَةَ الْعُيُونِ بِمَخْدَعِي

أَمْشِي عَلَى الأَمْوَاجِ لَسْتُ بِغَارِقٍ
فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ الْعَتِيِّ الْمُفْزِعِ

رِجْلايَ فَوْقَ الرِّيحِ تَبْطِشُ يَمْنَةً
وَيَدَايَ تَعْصِفُ يَسْرَةً لَمْ تُمْنَعِ

مَا زِلْتُ أَرْسُمُ لِلسَّمَاءِ فَضَاءَهَا
وَأُضِيئُهَا فَوْقَ السَّحَابِ الْمُتْرَعِ

الشَّمْسُ تَاجُ الرَّأْسِ حِينَ أُرِيدُهَا
وَالْبَدْرُ خَاتِمُ فِضَّةٍ فِي إِصْبَعِي

وَأُعِيدُ لِلأَرْضِ الْفُصُولَ تَتَابُعًا
إِنْ شِئْتُ أَوْ إِنْ شِئْتُهَا لَمْ تَرْجِعِ

هَذَا الشِّتَاءُ دُمُوعُ عَيْنِي كَاشَفَتْ
وَجَعِي فَبَاحَتْ حِينَ لَمْ تَتَقَنَّعِ

وَعَلَى الرَّبِيعِ مَدَتُ تَالِدَ خُضْرَتِي
وَجَدِيدَهَا فَوْقَ الْبِسَاطِ الْمُمْتِعِ

وَمَعَ الْخَرِيفِ عَصَفْتُ ثَمَّ فَأَسْقَطَتْ
أَوْرَاقَهَا ـ خَلْفَ الْعَوَاصِفِ ـ أَفْرُعِي

وَالصَّيْفُ لَفْحُ الرُّوحِ حِينَ تَنَهَّدَتْ
فِي الصَّدْرِ مُشْعَلَةَ الأَنِينِ الْمُدْقِعِ

وَأُعِيدُ لِلْمَطَرِ الْحَزِينِ سَحَابَهُ
مُتَرَاكِمًا فِي شَوْقِهِ لَمْ يَصْدَعِ

وَالرَّعْدُ صَيْحَةُ ثَوْرَةٍ فِي خَاطِرِي
نَفَذَتْ إِلَى سَمْعِ الْوَرَى لَمْ تُقْمَعِ

وَالْبَرْقُ لَمْعَةُ فَرْحَةٍ فِي أَعْيُنِي
مُسْتَرْسِلاً فَوْقَ الشُّعَاعِ الأَسْطَعِ

وَأُبَعْثِرُ الرِّيحَ الأَبِيَ مُسَافِرًا
فَوْقَ الْمَهَامِهِ فِي الْجِهَاتِ الأَرْبَعِ

هَيَّأْتُ لِلْبَحْرِ الشُّطُوطَ وَرَمْلَهَا
وَدَفَعْتُ بِالْمَوْجِ الْغَرِيقِ الْمُسْرِعِ

وَحَمَلْتُ فَوْقَ حَبَابِهِ مَرْجَانَهُ
وَمَنَحْتُ لُؤْلُؤَهُ الْبَدِيعَ لِقَوْقَعِي

أَسْقِي حُقُولَ الْيَاسَمِينِ فَتَرْتَوِي
مِنْ جَدْوَلٍ عَذْبٍ زُلالٍ مُشْبِعِ

فَالْبَحْرُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤُوسِ مَدَامِعِي
وَالنِّيلُ يَنْهَلُ صَافِيًا مِنْ مَنْبَعِي

يَا بَحْرُ كُنْتَ عَلَى الْجَزِيرَةِ لُجَّةً
فَقَطَعْتُ مَوْجَكَ بِالسَّفِينِ الْمُشْرَعِ

أَبْكَيْتَنِي يَا بَحْرُ حِينَ ضَمَمْتَنِي
فَسَقَتْ شُطُوطَكَ بِالصَّبَابَةِ أَدْمُعِي

وَعَلَوْتُ أَصْعَدُ لِلسَّمَاءِ تَشُدُّنِي
أَنْوَارُ حَرْفٍ فِي النَّدَى مُتَنَوِّعِ

فَقَبَسْتُ قَبْسِةَ عَاشِقٍ فِي شَوْقِهِ
مُسْتَغْرِقٍ مُسْتَوْثِقٍ مُسْتَمْتِعِ

أَشْرَقْتُ بِالصُّبْحِ الْمُضِيءِ مُغَرِّبًا
فَوْقَ الْمَصَابِيحِ الَّتِي لَمْ تَطْلُعِ

فَأَضَأْتُ لَيْلاً بِالظَّلامِ مُوَشَّحًا
فَوْقَ الْمَدَائِنِ فِي بُكَاءٍ أَوْجَعِ

وَأَعَدْتُ حُلْمًا لَمْ نَزَلْ نَحْيَا بِهِ
قَدْ مَاتَ تَحْتَ رُكَامِنَا الْمُتَصَدِّعِ

أَفْلَتُّ نَسْرًا فِي الضِّيَاءِ وَأَمْسَكَتْ
بِسَمَائِهِ خَلْفَ الْغَمَامَةِ أَذْرُعِي

وَنَفَخْتُ فِي طِينِ الْمَوَدَّةِ فَانْتَهَتْ
طَيْرًا يُحَلِّقُ فِي الْفَضَاءِ الأَوْسَعِ

سَمْرَاءُ مَا زَالَتْ بَرَاءَةُ حُلْمِنَا
وَطُفُولَةٌ فِي الْقَلْبِ لَمْ تَتَصَنَّعِ

صُونِي عُهُودًا لِلْمَوَدَّةِ أَوْرَقَتْ
بَيْنَ الضُّلُوعِ مَحَبَّةً أَوْ ضَيِّعِي

مَا زِلْتِ أَنْتِ حَيَاةَ قَلْبٍ نَابِضٍ
مُتَعَلِّقٍ بِكِ وَاثِقٍ مُسْتَشْفِعِ

وَلأَنْتِ جِيدٌ وَالْكَوَاكِبُ كُلُّهَا
حَبَّاتُ عِقْدٍ بِالْجُمَانِ مُرَصَّعِ

فَسُهَيْلُ حَبَّةُ لُؤْلُؤٍ فِي عِقْدِكُمْ
وَالْحُوتُ يَغْرَقُ فِي الْغَرَامِ الأَرْوَعِ

الْكَوْكَبُ الزُّهْرِيُّ أَنْتِ عَبِيرُهُ
وَالْمُشْتَرَى مَهْرُ الْمُحِبِّ الْمُبْدِعِ

وَالْفَرْقَدُ الدُّرِّيُّ فِي عَلْيَائِهِ
كَقُلامَةٍ فِي ظُفْرِهَا الْمُتَرَصِّعِ

وَالْجَدْيُ يَطْمَحُ وَالثُّرَيَّا يَشْتَهِي
وَعُطَارِدٌ فِي الْعِشْقِ بَاكٍ لَمْ يَعِي

وَالثَّوْرُ وَالْجَوْزَاءُ حِينَ تَعَانَقَا
خَلْخَالُهَا فِي سَاقِهَا الْمُتَشَبِّعِ

وَالنُّورُ وَاللأْلاءُ بَسْمَةُ ثَغْرِهَا
وَالسِّنُّ أَضْوَاءُ الْهِلالِ الأَلْمَعِ


سَمْرَاءُ هَذَا اللَّيْلُ مِلْكُ نُجُومِنَا
إِنْ لاحَ نَجْمٌ سَاطِعٌ لَمْ يُسْرِعِ

فَلْتَفْتَحِي كُلَّ النَّوَافِذِ فَرْحَةً
وَلْتُغْلِقِي أَبْوَابَ حُزْنِكِ وَادْفَعِي

سَمْرَاءُ يَا حَرْفًا يُعَانِقُ أَحْرُفًا
مَرْسُومَةً مَعْزُوفَةً فِي مَسْمَعِي

غَرَّبْتِ لَكِنْ فِي الْمَدَى شَرْقِيَّةٌ
زَيْتُونَةٌ لَكِنَّ زَيْتَكِ مَدْمَعِي

وَأَنَا الْقَتِيلُ وَأَنْتِ كُنْتِ قَتِيلَتِي
وَرَأَيْتُ فِي أَحْزَانِ بُعْدِكِ مَصْرَعِي

فَارَقْتِنِي زَمَنًا وَأَنْتِ قَرِيبَةٌ
مِنِّي وَحَبْلُ الْوَصْلِ لَمْ يَتَقَطَّعِ

وَلأَنْتِ عِطْرُ الرُّوحِ حِينَ تَضَوَّعَتْ
فِي مِسْكِهَا الْمُتَعَبِّقِ الْمُتَجَمِّعِ

وَرْقَاءُ تَبْدُو فِي الضُّلُوعِ وَتَخْتَفِي
تَشْدُو بِلَحْنٍ بِالْخُشُوعِ مُسَجَّعِ

كِالسِّحْرِ يَسْرِي فِي الْعُرُوقِ جُنُونُهُ
كَمَدًا كَسَيْلٍ فِي الْمَفَازَةِ مُسْرِعِ

كَدَمِ الْوَرِيدِ يَضُخُّهُ مُسْتَرْسِلاً
قَلْبٌ يَدُقُّ مَحَبَّةً فِي الأَضْلُعِ

أَوْ كَالْمُشَعْوِذِ نَافِخًا فِي نَارِهِ
وَيَفُوهُ بِالْقَوْلِ الْغَرِيبِ وَيَدَّعِي

شَيْطَانَةٌ أَنْتِ ابْتَدَأْتِ بِظُلْمَةٍ
وَمَلاكُ نُورٍ يَنْتَهِي فِي مَرْتَعِي

فَامْضِي سَحَابَكِ فِي الضُّلُوعِ عَزِيزَةً
بَيْنَ الْجَوَانِحِ سَاعَةً أَوْ فَامْنَعِي

سَمْرَاءُ مَا زَالَ ارْتِعَاشُ حَنِينِنَا
وَبَهَاءُ وَجْدٍ فِي الْمَقَامِ الأَرْفَعِ

مَا زَالَتِ الأَيَّامُ تَحْبُلُ بِالْمُنَى
فَتَحَمَّلِي أَوْجَاعَهَا وَتَشَجَّعِي

فَإِذَا رَأَيْتِ غُبَارَ حُلْمٍ ضَائِعٍ
تَحْتَ الْخُيُولِ السُّودِ لا تَتَوَجَّعِي

فَغَدًا أَعُودُ مُحَمَّلاً بِنَسَائِمٍ
مُشْتَاقَةٍ تَسْرِي بِعِطْرٍ أَضْوَعِ

وَأُضِيءُ بِالْقِنْدِيلِ نَارَ لِقَائِنَا
وَأَصُبُّ زَيْتَ حَنِينِنَا الْمُسْتَرْجِعِ

فَتَرَقَّبِي الأَقْمَارَ خَلْفَ قَصِيدَةٍ
وَامْضِي إِلَى أَنْوَارِهَا عِشْقًا مَعِي





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ

شعر الدكتور /عزت سراج

أستاذ الأدب والنقد المساعد

كلية التربية ـ جامعة الملك خالد