المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشعر المعاصر الفارسي



د. فدوى
15/04/2007, 02:06 AM
انبثقت بوادر التجديد في الشعر الفارسي في مستهل القرن الفائت بعد جملة من التغييرات الجذرية التي طرأت على الحركة الثقافية الايرانية في مجالي المسرح والرواية تحديدا، ففي المسرح تم اخراج العديد من المسرحيات العالمية الشهيرة ذات المضامين الاجتماعية والفكرية، فيما ساهمت ترجمة روائع الروايات الفرنسية والانكليزية والروسية بضخ روح جديدة في النثر الفارسي مما جعلت ينفتح على قاموس الحياة اليومية، كما لعبت الصحافة دورا بالغ الاثر في تشذيب اللغة الفارسية من عبء الكليشيهات التي طغت على الأدب الفارسي منذ أفول المدرسة الاصفهانية في نهايات القرن السابع عشر ميلادي. فكانت النقلة النوعية الأولى في مضامين الشعر الفارسي على يد مجموعة من الشعراء الصحفيين؛ شعراء انتموا الى اتجاهات سياسية وتيارات فكرية مختلفة وكان العديد منهم يترأس تحرير الصحف اليومية والاسبوعية كمحمد تقي بهار(1886-1951) صاحب صحيفة "نوبهار" وأبو القاسم لاهوتي محرر صحيفة "بيستون" وكان شاعرا ثوريا أغتيل في شبابه وأديب بيشاوري (1842-1931)وأيرج ميرزا جلال الممالك (1874-1925) وعارف قزويني (1838-1929)وميرزادة عشقي (1893-1924) وهم شعراء إتسمت قصائدهم بالنفس الثوري الرومانسي، أما على صعيد التقنية فلم يساهم هؤلاء الشعراء المنخرطون في النضال السياسي بتقديم رؤية جديدة أو شكل جديد، غير أننا لانستطيع انكار دورهم في وضع حد ونهاية للقصيدة التقليدية وإبداع قصيدة ناضلت معهم من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية، وان لم تخل من مسحة الحزن الرومانسي الذي يبلغ أحيانا حد النرجسية، لقد مهّد هؤلاء الشعراء (وشعراء آخرون بادروا بكسر الأوزان الشعرية والتمرد على ثوابت القصيدة الكلاسيكية كتقي رفعت وجعفر خامنئي وشمس كسمائي وأبوالقاسم الهامي) الطريق للثورة التي سيطلقها علي اسفندياري الملّقب بنيما يوشيج (1897-1960) رائد الشعر الفارسي المعاصر بلا منازع. فبعد قراءات معمّقة للشعر الفارسي الكلاسيكي وشعراء المدرسة الخراسانية بشكل خاص، وهي المدرسة المهتمة بتوظيف الأسطورة والنفس الملحمي وأعتماد لغة فخمة، زاوج نيما يوشيج تجربته الشعرية (وبحكم تضلعه باللغة الفرنسية التي درسها في مدرسة سان لوئيس بطهران ) بما نهله من الشعر الفرنسي الرومانسي.
ويرى بعض النقاد أن تجربة هذا الشاعر لم يكن ليحالفها النجاح لولا مزاوجته بين الرومانسية الكلاسيكية الفارسية المتمثلة بنتاج "المدرسة العراقية" وعلى رأسها حافظ الشيرازي والرومانسية الكلاسيكية الفرنسية وقد بدأ الشاعر هذه التجربة الثرية مع قصيدته الشهيرة "القصة الشاحبة" إذ قدّم مضامين انسانية لاتخلو من عبق الرومانسية الكلاسيكية الفارسية مطعمة بفضاء الحرية المستمد من التجربة الفرنسية، وقد أشار نيما يوشيج شخصيا في تنظيراته وكتاباته النقدية ان الدخول الى عالم الحداثة لايمكن أن يتم دون المرور بالمرحلة الرومانسية وبالرغم من الرفض التام الذي واجهته قصائده الاولى من قبل أنصار الشعر الكلاسيكي، الا أن الوسط الأدبي سرعان ما احتفى بملحته " الأسطورة" والتي أشار بعض النقاد الى تأثرها الكبير بالموشحات الأندلسية كذلك بقصيدته "أيها الليل" وقصائد اخرى هجر فيها الرومانسية والتأرجح بين النفس الكلاسيكي والمعاصر، وأرتكز على واقعية حادة لم يألفها الشعر الفارسي من قبل ويُستشف منها وعي عميق بالزمان والمكان واللغة والمجتمع، قصائد بوأته مكانة مرموقة كشاعر معاصر تعتمد رؤيته الشعرية على الموضوعات الاجتماعية والطابع القصصي وخلخلة التتابع السائد لنظام التفعيلة بالاعتماد على الايقاع الداخلي. وبسبب الاختناق السياسي الذي شهدته البلاد بعد انتهاء الفسحة الديمقراطية1942-1947 انتهج نيما يوشيج الرمزية في قصائده وتوظيف حكايات ذات مداليل رمزية ككليلة ودمنة وقصص مستوحاة من الأدب الفارسي الكلاسيكي. كما كتب قصائد عديدة اتسمت بالذهنية المفرطة.
من نيما يوشيج الى الجيل الشعري الذي تلاه وواصل مسيرته ممثلا بأحمد شاملو ومهدي أخوان ثالث وفريدون مشيري ومنوجهر آتشي ونصرت رحماني ونادر نادربور ورضا براهني ومحمد حقوقي وسهراب سبهري ومحمد علي سبانلو وفروغ فرخزاد وآخرين نادرا ما نلحظ غياب صدى الواقع الاجتماعي في الشعرية الفارسية (باستثناء الشاعر سهراب سبهري) وقد أفرط بعض شعراء هذا الجيل في محاكاة الواقع الاجتماعي الى أن أنهك القصيدة بتقريرية مملة. وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها الشاعر أحمد شاملو من أجل مسار شعري مغاير للنموذج النيمائي، إلا أن عوامل عديدة حالت دون نجاح هذا المشروع لعل في مقدمتها إرتكاز قصيدة شاملو على المضامين السياسية تارة وعلى موضوعة الحب التقليدية تارة أخرى. كما شهدت فترة الخمسينات جدلا حادا وردود فعل عنيفة تجاه القصائد النثرية التي نشرها هوشنك ايراني في مجلة "الديك الحربي" تحت تأثير السريالية بعد عودته من فرنسا، أما المحاولات الأكثر أهمية في ترسيخ مكانة لقصيدة النثر فقد جاءت مع جماعة "الموجة الجديدة " التي ثارت في ستينات القرن الماضي وأرست مناخات جديدة في الشعرية الفارسية، ومن أبرز رموزها الشاعر أحمد رضا أحمدي الذي تتسم قصائده بمهارة عالية في المزج بين الفكرة والصورة الحسية واعتماد الذائقة البصرية عبر تداعيات ذهنية تمنح المخيلة فضاء شاسعا لتفصح عن رغبة عميقة في الهروب من الواقع أو التعالي عليه رغم توظيف مفرداته. والشاعر يد الله رؤيائي الذي اهتم في منجزه الشعري بتفجير اللغة وإثراء المفردة بمداليل جديدة.
في الستينات ايضا فاجأت الشاعرة فروغ فرخزاد الوسط الأدبي بقصائدها ذات النبرة الاحتجاجية المتحدية لكل القيم الاجتماعية السائدة. وتشكل مجموعتها الشعرية "ولادة اخرى" علامة مشرقة في الشعر الفارسي المعاصر. وقد شهد عقد السبعينات إعادة قراءة للموروث الشعري الفارسي الذي يمتد قرابة الألف عام كما كان للجهد النقدي المنفتح على المناهج الفكرية والنقدية الغربية دور بالغ الأهمية في رفد حركة التحديث التي أستطاعت ان تقطع شوطا مهما في التحرر من هيمنة التيارات الثقافية الايديولوجية. ومع الثمانينات تم إعادة الاعتبار للشاعر سهراب سبهري الذي ركّزت تجربته الشعرية على البعد التأملي وتوظيف المناخ العرفاني في القصيدة الحديثة بعد أن همّشه الوسط النقدي ولسنوات طويله بسبب إهماله لواقع الاجتماعي، كما شهدت هذه الفترة لجوء العديد من الشعراء الى القوالب الشعرية الكلاسيكية وعودة قصيرة الأمد للشعر الملحمي فرضتها أجواء حرب الخليج الفارسي الأولى، كما ساهم الشعراء الافغان المقيمون في ايران بتجديد الغزل كشكل شعري قادر على استيعاب المضامين الجديدة.
منذ التسعينات والي يومنا هذا يشهد المشهد الشعري الفارسي سواء في ايران انفتاحا على اتجاهات متنوعة بتنوع المصادر الثقافية وتجارب مهمة مسكونة بهاجس التجريب وتقويض النمطيات السائدة، أصوات شعرية همّها ابتداع جماليات جديدة وقصائد تحمل في طياتها مستويات عديدة من التواصل مع الذات والعالم.

د. فدوى
18/08/2007, 11:18 PM
نظرة للشعر الايراني الحديث

ان آفاق الشعر الفارسي في القرن العشرين قضية اكبر بكثير من ان تختصر في مقال كهذا، الا اننا في هذه العجالة نشير الى انه رغم ان بدايات القرن الشعرين لم تكن تشهد تحولاً وتطوراً حقيقياً في دائرة الشعر الفارسي، الا انه كان ثمة رياح جديدة تهب على الفكر والثقافة الايرانية وتنبئ بتحولات جديدة، وعلة تلك التحولات حضور اشخاص من امثال طالب اوف، مراغه اى، ميرزا ملكم خان و.. وعلى رأس هؤلاء اخوند زادة، حيث عمل هؤلاء على جلب افكار التجديد الى ايران. ورغم ان هؤلاء لم يكونوا شعراء باستثناء ميرزا آقا كرماني لكنهم كانوا ينشدون احداث تغييرات اجتماعية وسياسية في قلب المجتمع الايراني وقد سخّر ميرزا آقاكرماني كل امكاناته الشعرية في هذا المجال، لذا ففي هذه المرحلة نال النثر حظاً اوفر، وفي آثار تلك المرحلة بتنا نشهد حركة ضد الشعر الفارسي الكلاسيكي. من ذلك تلك الحملات التي راح يشنها هؤلاء الافراد في كتاباتهم على الحكيم سعدي الشيرازي الذي يمثل رمزاً للشعر الكلاسيكي الفارسي. والواقع ان تلك الانتقادات لم تكن تقصد النيل من شخص سعدي بالذات وانما كان هدفها تلك الثقافة التقليدية وذلك المنهج الفكري الذي كان ينعكس في اشعار سعدي.
۱- على كل حال فهذه الجهود قد تكرست في ثورة سكان المدن الايرانية اي في حركة الدستور او « المشروطة» سنة ۱۹۰۶/۱۳۲۴ه۲- لكن قبل عدة اشهر من حدوث هذه الحركة سعى بعض الشخصيات من امثال نسيم شمال، واديب الممالك فراهاني، وعارف قزويني الى تخطي الاسلوب الشعري التقليدي؛ فقد حاول هؤلاء على الباس الشعر الفارسي حلة اخرى، وراحوا يعترضون على القيم والسنن التي تحول دون تجاوز الشعراء لاساليب الشعر الفارسي واغراضه التقليدية.
وهذه الاطر قد تبلورت على الاخص خلال مرحلة الحكومة القاجارية البالغة ۱۵ عاماً والتي واكبها حالة من الارتداد الادبي نحو سبك القرن الثامن الهجري.
ان حركة الدستور قد اوجدت تحولاً كبيراً في الشعر وانعكس ذلك جلياً في آثار اهم اعلام تلك الحركة وهم نسيم شمال وملك الشعراء بهار وبعد مدة وجيزة من هذه الحركة في اثار لاهوتي وميرزادة عشقي الامر الذي اوجد تغيرات كثيرة غير مسبوقة في مفاهيم الشعر الفارسي. ويمكن تلخيص التغييرات التي طرأت على الشعر الفارسي في محورين من المواضيع.
الاول هو الفهم الجديد للوطن الذي ورد ايران نتيجة التحول السياسي والاجتماعي الذي حدث في الغرب في القرن التاسع عشر.
والثاني: الحرية
فهاتين المقولتين اكثر مما اثارتا شعراء مرحلة الدستور منذ سنة ۱۹۰۶ وحتى ۱۹۲۵ يعني منذ ان استبدل رضاخان ميربنج برضاشاهي بهلوي. اذاً فهذه المرحلة من الشعر الفارسي كانت قائمة على نوع من التحول في المضامين.
اما من الناحية اللغوية او الاسلوبية فان شعراء هذه المرحلة قد خاضوا تجارب جديدة فمثلاً سعى نسيم شمال وميرزادة عشقي اللذان كانا يتمتعان بلغة اكثر بساطة من شعراء المراحل السابقة الى تجاوز تقاليد اللغة القديمة وان يخطوا خطوة تجاه الامام، لكن الواقع ان قضية اللغة لم تكن شغلهما الشاغل، والسبب ان شعراء مرحلة الدستور كانوا يحيون مرحلة تموج بالحوادث والقضايا المهمة، لذا فلم يكن لديهم الفرصة للانشغال بالشكل والتلاعب باللغة.
۳- ان مرحلة حكومة رضاشاهي كانت مرحلة نظم في ايران اي انها كانت تلبي بعض آمال التنويريين في حركة الدستور، لكن رضاشاهي لم يكن قادراً على ان يكون ممثلاً للديمقراطية في المجتمع، وضاق ذرعاً بتطلعات المفكرين والشعراء الايرانيين الى الحرية الامر الذي ادى لغياب شعراء سبق ذكرهم وانقطع ذكر شعراء حركة الدستور خلال مدة ۱۶ عاماً من مرحلة حكم رضاشاهي وذلك بسبب الغاء احدى اعمدة تطلعاتهم اي الحرية وهي قضية لم تكن مقبولة لديهم.
ولكن شعراء مرحلة رضاشاهي لم يكن لديهم التصور الصحيح عن التغيرات في المضامين وكانوا يسعون من خلال ذلك القالب المعرفي الى التجديد في نظراتهم، وعلى خلاف الآراء الشائعة فقد كانوا شعراء موفقين. وان لم يكونوا جميعاً فعلى الاقل بروين اعتصامي وشهريار. من جهة اخرى كان هناك عدد من الشعراء المهمين مثل رهي معيري وحميدي شيرازي الذين بدأوا مرحلتهم الشعرية منذ ۱۹۳۵ وطبعوا اشعارهم في سنة ۱۹۴۶ الموافقة لزمان رضاشاهي.
لكن رغم ذلك، وكماسبق الذكر، فان تعاملهم مع الشعر كان محدوداً، فمثلاً اذا كان شهريار في بعض القضايا يأخذ نيما بعين الاعتبار او ان حميدي شيرازي كان يتعرض لمقولة الوطن في بعض اشعاره الا ان هذا وحده لا يمكن ان يثبت شيئاً.
لكن في سنة ۱۹۱۱ حدث تحول آخر ينبئ عن ميلاد مرحلة جديدة، مرحلة تختلف تماماً عن مرحلة الدستور رغم مساعي التقليديين الدائمة بربط انفسهم مع مرحلة الدستور، لكن الواقع ان شخصيات كعارف قزويني وميرزادة عشقي وفرخي يزدي وملك الشعراء بهار لم يكن لديها روابط حقيقية مع هؤلاء التقليديين.
وقد انصب تراث هؤلاء الشعراء وتكامل فيما بعد في قالب الشعر «النيمائي»* الامر الذي يدفعنا للقول ان «نيما» كان استمراراً لمرحلة الدستور. لكن بسبب الفجوة التي حدثت في مرحلة رضاشاهي فان شعر نيما يعتبر نتاجاً لتلك المرحلة اي مرحلة الدستور.
على كل حال فبعد عام ۱۹۱۱ يكون الشعر الفارسي قد اجتاز مرحلتين: التغير الظاهري في المحتوى، والتصادم المباشر مع الشعر الكلاسيكي والتحولات اللغوية في شعر نيما وتلامذته.
اجل، فهكذا يكون قد بدأ فصل جديد في الشعر الفارسي، واما الذين كانوا يرفضون حركة نيما الشعرية. رغم قلتهم - فقد باتوا يعترفون اليوم ان نيما قد اوجد تحولاً عميقاً في الشعر الفارسي.
لكن هناك حادث آخر خلال المرحل -1931 » وهو ان تناول الموضوعات السياسية والاجتماعية في الشعر الفارسي قد شاع واتسع حتى احتل قسماً اساسياً من الشعر الفارسي وهذا قد ترك آثاراً كبيرة على الشعراء وجعل الشعر الفارسي خلال خمسة او ستة عقود يتواءم والمعاني السياسية الاجتماعية، ولعل آثار هذا الشكل من التلقي مازال قائماً وسط الشعراء ومحبي الشعر الفارسي في ايران. وعلة ظهور هذه الرؤية هو ذلك التيار العظيم المسمى بالرؤية المثالية الذي اجتاح العقد السابع الماضي وسخّر الشعر الفارسي تحت لوائه وادى الى ظهور اعظم اشعار التاريخ المعاصر، ولعل هذه السمة هي التي ميّزت اشعار هذه العقود الخمسة عن شعر القرون السابقة.
على كل حال فما فعله نيما وتلاميذه في الميدان الشعري ادى الى دفع الشعر التقليدي او الكلاسيكي الى الهامش، وبعد شهريار وبروين اعتصامي لم يتمكن شعراء من امثال رهي معيري وحميدي شيرازي من ان يكونوا بدلاء وممثلين اقوياء لسبك الشعر الكلاسيكي او التقليدي. والواضع ان الشعر التقليدي في عصر نيما لم يكن يتمتع بالقدرات والامكانات الكافية للوقوف في وجه هذه الحركة الجديدة، ولعل هذا التيار الذي اجتاح الشعر التقليدي قد امتد الى الجيل الثاني والثالث من الشعراء النيمائيين «الحداثيين» بعد عصر نيما فالاشخاص الذين ساروا على نهج نيما قد حاول كل منهم تناول زاوية من شعر نيما ومن ثم سعوا للخروج عن السنن التي خطها واعتماد تقاليد جيدة. حتى اولئك الذين كانوا قريبين فكرياً من نيما من امثال نادربور ومشيري، سعوا لخلق مفاهيم جديدة وتجاوز التقاليد السابقة.
۶- على كل حال فقد تعرض افكار نيما خلال الاجيال الشعرية اللاحقة للتحليل، بسبب شيوع الفكر الانطباعي والتنويري التجريدي فهاجموه، وبتنا نشهد ظهور نوع آخر من الشعر لدى الكثيرين هو اقرب ما يكون الى النثر وسمي بالشعر «الابيض»، الامر الذي اضعف خط نيما الشعري حتى كان آخر ممثلين له في العقد الثامن من القرن الماضي لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الشعر الفارسي المعاصر.

نص منسوب للشاعر الايراني المعاصر نيما يوشيج
مترجم للغة العربية

سليم أحمد
30/09/2007, 12:27 PM
انبثقت بوادر التجديد في الشعر الفارسي في مستهل القرن الفائت بعد جملة من التغييرات الجذرية التي طرأت على الحركة الثقافية الايرانية في مجالي المسرح والرواية تحديدا، ففي المسرح تم اخراج العديد من المسرحيات العالمية الشهيرة ذات المضامين الاجتماعية والفكرية، فيما ساهمت ترجمة روائع الروايات الفرنسية والانكليزية والروسية بضخ روح جديدة في النثر الفارسي مما جعلت ينفتح على قاموس الحياة اليومية، كما لعبت الصحافة دورا بالغ الاثر في تشذيب اللغة الفارسية من عبء الكليشيهات التي طغت على الأدب الفارسي منذ أفول المدرسة الاصفهانية في نهايات القرن السابع عشر ميلادي. فكانت النقلة النوعية الأولى في مضامين الشعر الفارسي على يد مجموعة من الشعراء الصحفيين؛ شعراء انتموا الى اتجاهات سياسية وتيارات فكرية مختلفة وكان العديد منهم يترأس تحرير الصحف اليومية والاسبوعية كمحمد تقي بهار(1886-1951) صاحب صحيفة "نوبهار" وأبو القاسم لاهوتي محرر صحيفة "بيستون" وكان شاعرا ثوريا أغتيل في شبابه وأديب بيشاوري (1842-1931)وأيرج ميرزا جلال الممالك (1874-1925) وعارف قزويني (1838-1929)وميرزادة عشقي (1893-1924) وهم شعراء إتسمت قصائدهم بالنفس الثوري الرومانسي، أما على صعيد التقنية فلم يساهم هؤلاء الشعراء المنخرطون في النضال السياسي بتقديم رؤية جديدة أو شكل جديد، غير أننا لانستطيع انكار دورهم في وضع حد ونهاية للقصيدة التقليدية وإبداع قصيدة ناضلت معهم من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية، وان لم تخل من مسحة الحزن الرومانسي الذي يبلغ أحيانا حد النرجسية، لقد مهّد هؤلاء الشعراء (وشعراء آخرون بادروا بكسر الأوزان الشعرية والتمرد على ثوابت القصيدة الكلاسيكية كتقي رفعت وجعفر خامنئي وشمس كسمائي وأبوالقاسم الهامي) الطريق للثورة التي سيطلقها علي اسفندياري الملّقب بنيما يوشيج (1897-1960) رائد الشعر الفارسي المعاصر بلا منازع. فبعد قراءات معمّقة للشعر الفارسي الكلاسيكي وشعراء المدرسة الخراسانية بشكل خاص، وهي المدرسة المهتمة بتوظيف الأسطورة والنفس الملحمي وأعتماد لغة فخمة، زاوج نيما يوشيج تجربته الشعرية (وبحكم تضلعه باللغة الفرنسية التي درسها في مدرسة سان لوئيس بطهران ) بما نهله من الشعر الفرنسي الرومانسي.
ويرى بعض النقاد أن تجربة هذا الشاعر لم يكن ليحالفها النجاح لولا مزاوجته بين الرومانسية الكلاسيكية الفارسية المتمثلة بنتاج "المدرسة العراقية" وعلى رأسها حافظ الشيرازي والرومانسية الكلاسيكية الفرنسية وقد بدأ الشاعر هذه التجربة الثرية مع قصيدته الشهيرة "القصة الشاحبة" إذ قدّم مضامين انسانية لاتخلو من عبق الرومانسية الكلاسيكية الفارسية مطعمة بفضاء الحرية المستمد من التجربة الفرنسية، وقد أشار نيما يوشيج شخصيا في تنظيراته وكتاباته النقدية ان الدخول الى عالم الحداثة لايمكن أن يتم دون المرور بالمرحلة الرومانسية وبالرغم من الرفض التام الذي واجهته قصائده الاولى من قبل أنصار الشعر الكلاسيكي، الا أن الوسط الأدبي سرعان ما احتفى بملحته " الأسطورة" والتي أشار بعض النقاد الى تأثرها الكبير بالموشحات الأندلسية كذلك بقصيدته "أيها الليل" وقصائد اخرى هجر فيها الرومانسية والتأرجح بين النفس الكلاسيكي والمعاصر، وأرتكز على واقعية حادة لم يألفها الشعر الفارسي من قبل ويُستشف منها وعي عميق بالزمان والمكان واللغة والمجتمع، قصائد بوأته مكانة مرموقة كشاعر معاصر تعتمد رؤيته الشعرية على الموضوعات الاجتماعية والطابع القصصي وخلخلة التتابع السائد لنظام التفعيلة بالاعتماد على الايقاع الداخلي. وبسبب الاختناق السياسي الذي شهدته البلاد بعد انتهاء الفسحة الديمقراطية1942-1947 انتهج نيما يوشيج الرمزية في قصائده وتوظيف حكايات ذات مداليل رمزية ككليلة ودمنة وقصص مستوحاة من الأدب الفارسي الكلاسيكي. كما كتب قصائد عديدة اتسمت بالذهنية المفرطة.
من نيما يوشيج الى الجيل الشعري الذي تلاه وواصل مسيرته ممثلا بأحمد شاملو ومهدي أخوان ثالث وفريدون مشيري ومنوجهر آتشي ونصرت رحماني ونادر نادربور ورضا براهني ومحمد حقوقي وسهراب سبهري ومحمد علي سبانلو وفروغ فرخزاد وآخرين نادرا ما نلحظ غياب صدى الواقع الاجتماعي في الشعرية الفارسية (باستثناء الشاعر سهراب سبهري) وقد أفرط بعض شعراء هذا الجيل في محاكاة الواقع الاجتماعي الى أن أنهك القصيدة بتقريرية مملة. وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها الشاعر أحمد شاملو من أجل مسار شعري مغاير للنموذج النيمائي، إلا أن عوامل عديدة حالت دون نجاح هذا المشروع لعل في مقدمتها إرتكاز قصيدة شاملو على المضامين السياسية تارة وعلى موضوعة الحب التقليدية تارة أخرى. كما شهدت فترة الخمسينات جدلا حادا وردود فعل عنيفة تجاه القصائد النثرية التي نشرها هوشنك ايراني في مجلة "الديك الحربي" تحت تأثير السريالية بعد عودته من فرنسا، أما المحاولات الأكثر أهمية في ترسيخ مكانة لقصيدة النثر فقد جاءت مع جماعة "الموجة الجديدة " التي ثارت في ستينات القرن الماضي وأرست مناخات جديدة في الشعرية الفارسية، ومن أبرز رموزها الشاعر أحمد رضا أحمدي الذي تتسم قصائده بمهارة عالية في المزج بين الفكرة والصورة الحسية واعتماد الذائقة البصرية عبر تداعيات ذهنية تمنح المخيلة فضاء شاسعا لتفصح عن رغبة عميقة في الهروب من الواقع أو التعالي عليه رغم توظيف مفرداته. والشاعر يد الله رؤيائي الذي اهتم في منجزه الشعري بتفجير اللغة وإثراء المفردة بمداليل جديدة.
في الستينات ايضا فاجأت الشاعرة فروغ فرخزاد الوسط الأدبي بقصائدها ذات النبرة الاحتجاجية المتحدية لكل القيم الاجتماعية السائدة. وتشكل مجموعتها الشعرية "ولادة اخرى" علامة مشرقة في الشعر الفارسي المعاصر. وقد شهد عقد السبعينات إعادة قراءة للموروث الشعري الفارسي الذي يمتد قرابة الألف عام كما كان للجهد النقدي المنفتح على المناهج الفكرية والنقدية الغربية دور بالغ الأهمية في رفد حركة التحديث التي أستطاعت ان تقطع شوطا مهما في التحرر من هيمنة التيارات الثقافية الايديولوجية. ومع الثمانينات تم إعادة الاعتبار للشاعر سهراب سبهري الذي ركّزت تجربته الشعرية على البعد التأملي وتوظيف المناخ العرفاني في القصيدة الحديثة بعد أن همّشه الوسط النقدي ولسنوات طويله بسبب إهماله لواقع الاجتماعي، كما شهدت هذه الفترة لجوء العديد من الشعراء الى القوالب الشعرية الكلاسيكية وعودة قصيرة الأمد للشعر الملحمي فرضتها أجواء حرب الخليج الفارسي الأولى، كما ساهم الشعراء الافغان المقيمون في ايران بتجديد الغزل كشكل شعري قادر على استيعاب المضامين الجديدة.
منذ التسعينات والي يومنا هذا يشهد المشهد الشعري الفارسي سواء في ايران انفتاحا على اتجاهات متنوعة بتنوع المصادر الثقافية وتجارب مهمة مسكونة بهاجس التجريب وتقويض النمطيات السائدة، أصوات شعرية همّها ابتداع جماليات جديدة وقصائد تحمل في طياتها مستويات عديدة من التواصل مع الذات والعالم.

تقتضي الامانة العلمية هنا التنبية على ان الموضوع هو في الاصل للاستاذ محمد الامين وهو أمر لم تنكره د.فدوى في موضوع آخر
مع الشكر

د. فدوى
30/09/2007, 02:37 PM
أرجو أن لا يتحول منتدانا الجميل ، للخوض في مسائل لا طائل منها مثل الاثبات و الانكار و غيره... ، انني هنا في الواقع
لخدمة القارئ و كل ما أقدمه من نصوص سواء كانت لي أو لغيري ، هي نصوص تحاول أن تتوخى الافادة، و أن يستنير بها كل من كان متعطشا لكي ينهل من درر الأدب الفارسي عبر تقديم ترجمات و مقالات متنوعة .

و شكراااااااااااااا

د. فدوى
12/12/2007, 02:02 AM
خسرو علي أكبر من باريس:

رحل قي العاصمة الايرانية طهران في 30أكتوبر من 2007 ا لشاعر والدكتور الايراني قيصر أمين بور عن سن يناهز 48 عاما إثر جلطة قلبية أودت بحياته و يعد من بين شعراء الجيل الأول للثورة الاسلامية الايرانية، اذ يحتل أمين بور مركز الصدارة، وقد تميزت قصائده السياسية بتشذيب صارم من الشعاراتية واستبدالها برومانسية نهلت من الشعر الكلاسيكي الفارسي والمدارس الشعرية الحديثة على حد سواء.ذ ويضم منجزه الشعري قصائد كلاسيكية واخرى نيمائية معادلة لقصيدة التفعيلة العربية.
وقد شهدت قصيدة قيصر امين بور تغيرا مهما في السنوات الأخيرة، اذ صار للهم الذاتي فسحة أكبر مما كانت له في المجاميع الشعرية الاولى، ولم تعد القضايا الاجتماعية المحور الأساس لمادة القصيدة بقدر ما تحولت الى عنصر من عناصر القصيدة، الا أن البساطة في التعبير عن مضامين واهتمامات جوهرية وعميقة بقيت ميزة اساسية وعلامة بارزة في المنجز الشعري لأمين بور، يضاف الى ذلك اهتمامه الكبير بتكوين صور شعرية ذات ارتباط بالمتخيل الجمعي وهو العنصر الذي حقق للشاعر شهرة واسعة واعترافا بموهبة شعرية كبيرة ليس من قبل المؤسسة الثقافية الرسمية وانما من قبل كبار الشعراء والنقاد المحسوبين على التيار المعارض للسلطة في ايران.

ولد قيصر أمين بور عام 1959 في مدينة دزفول باقليم خوزستان الايراني، انتقل الى طهران لمواصلة تحصيله الدراسي في مجال الطب، وانتقل الى فرع الآداب لاحقا ليحصل على شهادة الدكتوراة على بحثه في الأدب الفارسي، عمل استاذا في جامعة طهران، صدرت له ثمانية كتب، نذكر منها: في زقاق الشمس / تنفس الصبح / مرايا الدهشة / الزهور كلها عباد الشمس / مثل ينبوع، مثل نهر (للأحداث والناشئة) / بتعبير السنونو (للأحداث والناشئة): الطيران بلا أجنحة (نثر)/ التحليق داخل أقواس(نثر).‏

الشاعر قيصر امين بور ، شاعر معاصر يتميز برهافة الحس وعمق الفكرة وجزالة اللفظ ، ويعد ممن يشار اليهم بالبنان من بين شعراء الفارسية في هذا اليوم ، اذ يطغى على شعره في معظم الاحيان طابع الرمز واللجوء الى لغة الاستعارة بدلا من لغة التصريح ، ربما ان اسلوب المجاز يمنح المرء قابلية اكبر للتحدث بحرية ودون ان يشعر بالحرج ، او لان اللغة الرمزية تقدح القريحة وتشحذ الشاعرية وتفتح امام الشاعر ابوابا تعجز اللغة الواقعية عن فتحها.
والطابع الاخر الذي يمكن ان نقول بانه يطبع معظم قصائد الشاعر قيصر امين بور ، هو طابع الالم ، حيث نجد شعره يزخر بالألم ويقطر حزنا ويفوح لوعة وليس المه - كما يبدو - من نوع الالم الذي يعاني منه الناس، او يتحدث عنه الاخرون، انه الم من نوع آخر ، قد لايستطيع حتى الشاعر نفسه ان يعبر عنه في بعض الاحيان، بل ويعتبره جزءا منه وممثلا له في احيان اخرى.

نراه يقدم لنا صورة غير واضحة عن آلامة لكنها مثيرة في ذات الوقت:

آلامي ليست ثوبا

كي أخلعها

ليست قصيدة

كي أصبها في قالب الكلام

ليست صرخة

كي اطلقها من ناي الروح

آلامي ليست مما يقال

آلامي كامنة

آلامي وان كانت ليس مثل آلام اهل الزمان

الا أنها آلام اهل الزمان

انه يعتبر آلامه، آلام الاخرين الذين يعيشون في عصره رغم انها ليست مثل آلامهم! اي انه يريد ان يقول لنا ان الاخرين لا يعرفون حتى آلامهم ولا يشعرون بها او انهم يشعرون بالام غير آلالام التي كان لابد لهم ان يشعروا بها ، يريد الافصاح عن حقيقة كونه يدرك الآلام الحقيقية للناس ويعاني من هذه الآلام حتى وان لم يحس بها الناس انفسهم. ان الالم ليس امرا عابرا في حياته، انه جاثم على صدره، وملتصق بعينيه، ومنغمر في اعماق قلبه، لذلك يقول:

تقلب يد الألم

دفتري

وينطق الألم

شعري الجديد

اذن فعن اي شيء أتحدث؟!

فحينما يقلب الألم دفتره الذي ربما يريد به دفتر حياته، وحينما ينطلق شعره من الالم نفسه، اليس من حقه ان يتساءل بحيرة:

اذن فعن اي شيء اتحدث؟

من حقه ان يقف مبهوتا وعاجزا عن الحديث ، فالكلام الصادر من الألم لايقوى على وصف الالم، وظلام الغرفة المنبعث من الليل هل بامكانه ان يصف الليل؟!

الألم في حقيقة الامر شعور ووجدان وضمير.. لذلك ليس بامكان المتألم من هذا النوع ان يعبر عنه بالكلمات نثرا او شعرا ، سيما اذا كان هذا المتألم شاعرا مثل قيصر امين بور ذا روح مرهفة وطبيعة حساسة ومعايشة صادقة للواقع ، لذلك نراه يعتبر الالم اسما ثانيا له بل نفسه:

الالم ليس كلاما

الالم، اسمي الاخر

فكيف ينادي نفسه؟

اذن فهو ألم متحرك على مسرح الحياة، وحينما يصبح هو الالم، ويصبح الالم هو، فهل بامكانه ان يصف هذا الالم او يشير اليه او يحدد ملامحه؟ ونراه في بعض الاحيان يحاول بطريقة واخرى تجسيد بعض هذا الالم الكبير في بعض الصور والمشاهد، وبامكاننا ان نقف من خلالها على جزء من بواعث ذلك الالم:

منذ مدة وانا أشعر

وكاني اكثر رمادية من السنتين المنصرمتين

اشعر بان الوقت متاخر الى حد ما

لم يعد بامكاني ان اولد وانا ابن العشرين متى شئت

يبدو ان فرصة دموع الحادثة قد انتهت

لم يعد بامكاننا ان نفعل مالم يستطع الاخرون فعله

الوقت طويل للحديث اشعر وكان اسمي اعوج قليلا

وكذلك اسم اسرتي ، امضائي الجديد

لم يعد مثل امضاء ايام الصيف ليتني

اجد ذلك الزقاق ثانية

ليتني

اجد ذلك الزقاق ثانية

ذلك الزقاق الذي فقدت فيه يوما اسمي فجأة

وضاعت فيه خاطراتي .....

نستشف من هذه الابيات الرمزية انه يبحث عن ذاته في خضم الالم، ولربما لا يريد بها ذاته بالذات ، بل يريد بها ذات الانسان الذي يعيش في عالم يفرض عليه كل شيء ويحاول ان يصبغه بصبغته منتزعا منه ارادته ومحطما اختياره.
ومن الطبيعي ان تختفي البسمة من بين الشفاه في ظل هذا الجو الذي ينبعث فيه الالم من كل شيء:

منذ زمن طويل

وانا ادخر ابتسامتي النحيفة في القلب ليوم الحاجة

ولكن لايوجد في صفحات التقويم

يوم باسم يوم الحاجة

ذلك اليوم مهما كان

هو شبيه بالامس

شبيه بالغد

يوم مثل هذه الايام

لكن من يعلم؟

ربما يكون هذا اليوم، يوم الحاجة ايضا!

وحينما تختفي الابتسامة او تخزن ليوم الحاجة ـ على حد تعبير الشاعر - لابد وأن تمتزج بالجرح المنبعث منه الالم، بل وتتحول نفسها الى جرح ايضا، وهذا ما عبر عنه الشاعر بالصورة التالية:

ابتسامتنا تحولت الى جرح

وجروحنا بلغت العظام

وقبلاتنا تآكلت

اخفينا قبلاتنا العظامية

بين طيات الجرح

منذ مئات السنين

ونحن نرقد الجروح الجافة المتصدعة

في باطن طيات الملح

والكسبة الرسميون الدوارون

ابتسامتهم المثلجة

على موائدهم للفرجة

اذن فالجروح التي يحملها الشاعر في قلبه ليست جروح اليوم او الامس انها جروح مئات السنين، اي انها جروح البشرية التي ادمت قلوبها الوان الاضطهاد والتفرقة والعنصرية وشتى اشكال الاجحاف واضاعة الحق ، ونظرا لمعايشة الشاعر للالم والذي هو في الواقع تعبير عن معايشة العالم للالم في ظل الاوضاع غير المطلوبة، فقد تحول هذا الالم لديه الى حالة عادية، بل تآلف معه حتى لم يعد يراه غريبا عليه، ولم ير في سلوكه المتالم ما يدعو لتعجب الاخرين ودهشتهم:

سلوكي طبيعي

ولكن لا ادري لماذا

كل من يراني من اصدقائي ومعارفي

في هذه الايام، يهتف من بعيد:

يبدو ان لك حالا اخرى لكنني

مثل باقي ايامي

ساكت وهادىء

بعناويني البسيطة

وبنفس السلوك المعتاد

اشعر في هذه الايام

اني ابكم قليلا احيانا

ورأسي يدور بي قليلا احيانا

اشعر اني احب هذه الايام اكثر

قليلا من الايام السابقة

لا اخفي عليك

اني اغني مع الاحجار احيانا

واعرف قدر هذه اللحظات جيدا

منذ الليلة الماضية ارى لاول مرة

ان اسمي الصغير ليس كبيرا ولا مهيبا كثيرا

في هذه الايام

لم اعد اعرف شعيرات رأسي البيضاء

قد احتفل على مدى يوم كامل احيانا

تكريما للحظات صغيرة

اموت في اليوم الواحد مائة مرة...


وفي غمرة هذا الالم الذي لم تخبو في نفسه جذوة الامل، ولم ينطفىء مصباح التطلع الى ذلك اليوم الذي يخرج فيه من يجتث جذور هذه الالام من صدره، ويزرع بدلا منها البسمة الرائعة التي انتزعت من الشفاه منذ مئات السنين:

هذه الايام حينما تمر، اشعر

كل يوم ان شخصا في الهواء يصرخ

اشعر ان احدا يناديني

من عمق الطرق الضبابية

نغمة صوته المعروفة

مثل عبور النور

مثل صوت مجيء النهار

ذلك اليوم الذي لابد منه، حينما يأتي

سيمتلك العابرون المحدودون

لحظة يرفعوا رؤوسهم

ويشاهدوا الشمس في السماء

ذلك اليوم سيتوقف هذا القطار القديم

لحظة واحدة في السرير الموازي للتكرار

كي تشاهد العيون المتعبة الناعسة

خلف النافذة

صورة السحب في الاطار

وصورة الغابة المقلوبة في الماء

في ذلك اليوم

يبدأ تحليق الايدي الحميمة

بحثا عن الحبيب

سيكون يوم تحليق جديد

يوم فتح جميع الرسائل

اليوم الذي نوقع فيه على اجنحة الحمام

بدلا عن الرسائل والختم والطابع

صناديق البريد في ذلك اليوم:

اوكار للحمام ........

عصري فياض
27/10/2008, 04:32 PM
سلمت وسلمت يمناك
وبارك الله بإيران واهلها

د. فدوى
28/10/2008, 12:34 PM
شكرا للأخ الكريم عصري فياض ،بارك الله فيك .
مع احترامي و تقديري

نصر بدوان
28/10/2008, 03:43 PM
شكرا لك د. فدوى, فقد طوفت بنا تطوافا ذا فائدة , وكان مسك الختام نبذة عن الشاعر الدكتور قيصر أمين بور,

الذي أحسسنا ولمسنا من خلال ما طرح من نماذج شعره, أن له هذا التميز والخصوصية, التي تليق بالشعراء

الجميلين الذين يرحلون عنا مبكرين. لأننا نجد في شعرهم مسحة الحزن الملفوفة في طيات وجدانهم لا تسطع ولكنها

لكنا نحسها بوضوح. إنه الألم الذي يتلبس من ينتظر فرحا ما لمدة طويلة ولكن هذا الفرح لا يجيء,

هو الحزن المعتق إذن.

لك التحية مرة أخرى

ابراهيم خليل ابراهيم
28/10/2008, 08:56 PM
أختى الدكتورة فدوى
لقد أستفدت كثيرا من مشاركتك هذه
لك تحياتى وتقديرى

د. فدوى
29/10/2008, 01:52 PM
الأساتذة الكرام
نصر بدوان
إبراهيم خليل إبراهيم

شكرا لكم على مروركم البهي و قرائتكم المتأملة ، أتمنى ان نستفيد دوما مما تطرحونه من آراء قيمة و أرجو من الله دائما أن نكون عند حسن ظن الجميع . في الحقيقة لولا ضيق الوقت و كثرة المشاغل لكان هذا المنتدى يشهد حركية كبيرة عبر نشرالعديد من المواضيع المتميزة و المواكبة للمستجدات في مجال الأدب المعاصر الفارسي.
أتمنى ان يقوم الإخوة الكرام ممن هم متخصصين في الأدب الفارسي و من لهم اطلاع لا بأس به بنشر
مواضيع بين الفينة و الاخرى لإفادة القارئ المختص و غير المختص.

احترامي ، تقديري و مودتي

د. فدوى
29/10/2008, 02:03 PM
الكاتبة والشاعرة الإيرانية د. طاهره صفار زاده في ذمة الله


توفيت الشاعرة الايرانية ومترجمة القرآن طاهرة صفار زادة في احد مستشفيات طهران عن عمر يناهز 72 عاما. وكانت الشاعرة والمترجمة صفار زادة قد اجريت لها عملية جراحية في الدماغ قبل نحو شهر، وكانت في حالة اغماء منذ عشرة ايام.ولدت الشاعرة والكاتبة والباحثة والمترجمة صفار زاده في مدينة سيرجان بمحافظة كرمان، جنوب شرق ايران، وحصلت على شهادة الليسانس في اللغة والادب الانجليزي، وتابعت دراستها العليا خارج البلاد. وفي عام 1992 اختارتها وزارة العلوم استاذة نموذجية، وفي عام 2001 نالت لقب خادم القرآن بعد ان نشرت ترجمة القرآن الكريم الى اللغة الانجليزية.كما انتخب منظمة اتحاد كتاب آسيا وافريقيا في مارس/آذار 2006 في اليوم العالمي للمرأة طاهرة صفار زادة كشاعرة مناضلة ومفكرة مسلمة من النخب.

عصري فياض
29/10/2008, 10:40 PM
تغمدها الله برحمته واسكنها فسيح جناتة
انا لله وانا اليه راجعون

عصري فياض
29/10/2008, 10:46 PM
الاخت الكريمة الدكتورة فدوى هل من رابط نستطيع ان نحصل على معلومات اضافية عن المرحومة طاهرة الصفار

د. فدوى
29/10/2008, 11:31 PM
الأخ الكريم عصري فياض

يمكن البحث عن معلومات إضافية عن طريق محرك البحث غوغل عبر كتابة اسم الشاعرة باللغة العربية.

احترامي، تقديري

د.رأفت رشوان
31/10/2008, 12:22 AM
السلام عليكم ورحمة الله.. الدكتورة الفاضلة / فدوى الشكرى
أشكر لكم تلك الاطلالة الطيبة على الشعرالحديث والمعاصر وبداياته ورواده وخصائصه , وأتمنى منكم المزيد حول هؤلاء الشعراء ودورهم الكبير فى تغيير حركة الشعر فى ايران , وهل حقا , كان لشعرهم دورا فى التعبير عن واقع المجتمع الذى يعيشونه, وكان لهم أثرا فى تغيير ذلك الواقع؟ ولا أريد بمداخلتى هذه الأثقال عليكم بالأجابة على أسئلتى بسرد المقالات ولكن يكفينى من علمكم الواسع ذكر المواقع على الشبكة الدولية أومصادر أخرى للتعرف على هؤلاء الشعراء ودورهم التاريخى فى ايران, خاصة وأنى أحتاج لهذا الأمر كثيرا فى تلك الفترة .
مع شكرى وتقديرى لمجهوداتكم الطيبة فى الرقى بالمنتدى من خلال الدراسات الجادة.

د. فدوى
31/10/2008, 02:42 AM
الأخ الكريم : د. رأفت رشوان

شكرا لك على مرورك الطيب ، بالفعل لقد أثرت قضايا مهمة في مجال الشعر الفارسي الحديث و أتمنى أن
أجد لك منابع أو مصادر مفيدة ، و من المؤسف أن أكثر المصادر هي كتب مؤلفة باللغة الفارسية غير رقمية و لا وجود لها على الانترنيت ، من الممكن أن تستعمل محرك البحث غوغل للاطلاع على مقالات تخص هذا الموضوع و إن كنتم تريدون مراجع باللغة الفارسية سأمدكم بها لاحقا إن شاء الله.

تقديري و احترامي الخالصين

شيماء نبيل احمد
26/02/2009, 03:57 PM
انها حقا معلومات جد مفيدة خاصة لدارسى الادب الفارسى الحديث والمعاصر وانتهز الفرصة لاطلب منكى استاذتى بعض المعلومات والكتب ان امكن عن اثر ابو القاسم لاهوتى فى حركة التجديد وايضا ظاهرة الشكوى من الزمان عند عشقى
مع احترامى وتقديرى

فرح عامر
20/03/2009, 11:48 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الله یعطيكي العافية د فدوي
خيلي شيرين است

عسل فاضل
31/05/2009, 03:56 AM
سلام علیکم اقدم الیکم شعر من المرحومة صفارزاده وهی اشتهرت بهذا الشعر
(طفل هذا القرن او العصر) کودک این قرن !

کودک این قرن هرشب در حصار خانه‌یی تنهاست

پرنیاز از خواب اما! وحشتش از بستر آینده و فرداست

بانگ مادرخواهیش، آویزه‌یی در گوش این دنیاست

گفته‌اند افسانه ها از مهربانیهای مادر، غمگساریهای مادر

در برگهواره‌ها، شب زنده داریهای مادر

لیک آن کودک ندارد هیچ باور

شب چو خواب آید درون دیده‌ی او

پرسد از خود"باز امشب مادرم کو"

بانگ آرامی برآید:

"چشم بر هم نه که امشب مادرت اینجاست"

پشت یک میز،

زیر پای دودهای تلخ سربی رنگ

درمیان شعله‌های خدعه و نیرنگ

در تلاش و جستجوی بخت!

چهره‌اش لبریز از زنگار فکر برد

فکر باخت، فکر پوچ، فکر هیچ!

کودک تنها دهد آواز:

مادر!

خالهای بخت من در دستهای تست

آری آن دستی که محکم می‌فشارد برگ بازی را

زود برخیز از میان شعله‌های خدعه و نیرنگ

سخت می‌ترسم که دست تو و بخت من

بسوزد بر سر این آتش خون رنگ

های و هوی این صداها:

آخرین دست، آخرین برگ، آخرین شانس

راه می‌بندد بروی ناله‌های کودکانه

می‌پرد ازخواب

دیده در بیداری آن چیزی که او در خواب دیده

شام دیگر چونکه خواب آید درون دیده‌ی او

پرسد از خود "باز امشب مادرم کو "

بانگ آرامی درون گوش او آهسته لغزد:

مادرت اینجاست !...

در سرای رنگی شب زنده داران

در هوای گرم و عطرآمیز یک زندان

قامت آن مادر زیبا بگرد قامت بیگانه‌یی

پیچان و دستش گردن آویز است

پای آنها در زمین نرم آهنگی قدم ریز است

آن اطاق از بانگ نوش‌وخنده‌ی مستانه لبریز است

می‌زند فریاد :

مادر !

جای من آنجاست

آغوشی که مرد ناشناسی سرنهاده

ناله‌های پرشگفتش گم شود در نعره‌های :

آخرین دور

آخرین رقص

آخرین جام

تا سپیده دم که خواب از دیده‌ی شبها در آید

مادر آن کودک تنها

درون لانه‌ی آغوش ها پر می‌گشاید

دیده در بیداری آن چیزی که او در خواب دیده

شام دیگر مادرش در خانــه‌است ، آنجاست

در اطاق او جدالی با پــدر برپاست

گفتگویی تلخ و ناهنجار ، دعوایی پر از تکرار

باز دعوا بر سر پـول است و دعوا بر سر ننـگ‌خیانتهاست

کودک بیچاره ترسان ، لرز لرزان

سرکند در زیر بالاپوش پنهان

پیش خود گوید:

" خوش آنشب‌ها که در این خانه مادر نیست! "

از هیاهوی شباهنگام :

آخرین دست، آخرین رقص، آخرین جام

آخرین دعوای ننگ و نام

کی رود در خواب راحت

کودک این قرن بی‌فرجام؟


طاهره صفارزاده ـ تابستان

عسل فاضل
31/05/2009, 04:12 AM
سلام علیکم ایها الکرام اقدم لکم قسما من شعر" ای وای مادرم "من المرحوم محمد حسین بهجت تبریزی ،معروف باسم(شهریار) ...ویتحدث عن والدته

آهسته باز از بغل پله ها گذشت
در فکر آش و سبزی بیمار خویش بود
اما گرفته دور و برش هاله یی سیاه
او مرده است و باز پرستار حال ماست
در زندگی ما همه جا وول می خورد
هرکنج خانه صحنه ای از داستان اوست
در ختم خویش هم به سر کار خویش بود
بیچاره مادرم

انصاف می دهم که پدر رادمرد بود
با آن همه درآمد سرشارش از حلال ،
روزی که مرد روزی یکسال خود نداشت.
اما قطار های پر از زاد آخرت
وز پی هنوز قافله های دعای خیر ،
این مادر از چنان پدری یادگار بود
تنها نه مادر من و درماندگان خیل،
او یک چراغ روشن ایل و قبیله بود
خاموش شد دریغ.

او مُرد و در کنار پدر زیر خاک رفت
اقوامش آمدند پی سرسلامتی،
یک ختم هم گرفته شد و پُر بدک نبود
بسیار تسلیت که به ما عرضه داشتند
لطف شما زیاد!!
اما ندای قلب به گوشم همیشه گفت :
این حرفها برای تو مادر نمی شود

پس این که بود ؟
دیشب لحاف رد شده بر روی من کشید !!
لیوان اب از بغل من کنار زد
در نصفه های شب ،
یک خواب سهمناک و پریدم به حال تب
نزدیکی های صبح
او باز زیر پای من اینجا نشسته بود.
آهسته با خدا
راز و نیاز داشت
نه ، او نمرده است.

آینده بود و قصه بی مادری من
ناگاه ضجه ای که به هم زد سکوت مرگ
من می دویدم از وسط قبرها برون
او بود و سر به ناله برآورده از مغاک
خود را به ضعف از پی من باز می کشید
دیوانه و رمیده ، دویدم به ایستگاه
خود را به هم فشرده خزیدم میان جمع،
ترسان ز پشت شیشه در آخرین نگاه
باز آن سفیدپوش و همان کوشش و تلاش
چشمان نیمه باز:
از من جدا مشو!!

می آمدیم و کله من گیج و منگ بود
انگار جیوه در دل من آب می کنند
پیچیده صحنه های زمین و زمان به هم
خاموش و خوفناک همه می گریختند
می گشت آسمان که بکوبد به مغز من
دنیا به پیش چشم گنهکار من سیاه،
وز هر شکاف و رخنه ماشین غریو باد
یک ناله ضعیف هم از پی دوان دوان
می آمد و به مغز من آهسته می خلید:
تنها شدی پسر !!!

باز آمدم به خانه چه حالی ! نگفتنی
دیدم نشسته مثل همیشه کنار حوض
پیراهن پلید مرا باز شسته بود.
انگار خنده کرد ولی دل شکسته بود:
بُردی مرا به خاک سپردی و آمدی ؟
تنها نمی گذارمت ای بی نوا پسر
می خواستم به خنده در آیم به اشتباه
اما خیال بود.
ای وای مادرم.

عسل فاضل
03/06/2009, 01:24 AM
سلام علیکم
اقدم لکم مقال من استاذی الکریم الدکتور محمد علی آذرشب عن سعدی عسی ان یفیدکم.
سعدي الشيرازي شاعر الإنسانية
دور الأدب في حياة الشعوب ذو أهمية بالغة… فهو يحافظ على الذوق البشري من الانتکاس، وعلى المعنويات الإنسانية من الارتکاس. الجماعة الإنسانية حيّة بما تمتلکه من مقوّمات الحياة. وأهمّ هذه المقومات الذوق الإنساني والمشاعر الإنسانية… وإذا ضعفت هذه المقومات دبّ الموت في حياة الجماعة، وفقدت دورها على ساحة التاريخ.
ويعظُم دور الأديب ويتصاعد حين يعيش بين ظهراني أمة تکالبت عليها عوامل الموت والإبادة، لتحولّها من أمة متحرکة على طريق المستقبل الأفضل إلى مجموعة من الأفراد الذين يعيش کل منهم همومه الخاصة الصغيرة، وليتحرک على طريق أطماعه وأهوائه وأحقاده وحسده وضغينته، عندئذ تتحول هذه الأمة إلى شبح أمة وتفقد هويتها ومقومات حياتها ولا سبيل أمامها عندئذ إلا الفناء.
لاشک أن الأمة الإسلامية حيّة بقرآنها، لأنه الکتاب الذي يستطيع أن يضخّ في جسدها دائماً مقوّمات الحياة، ويحافظ على مستوى رفيع من ذوقها ومشاعرها الإنسانية، بما يحمله من إعجاز أدبي ومحتوى تغييري. لکنّ الظروف السيئة إذا تکالبت على الفرد أو على الأمة تخلق على القلوب حجاباً وتضرب على الآذان أسدالاً ووقراً، وتجعل بين الإنسان والخطاب القرآني حجاباً، وهنا يأتي دور المصلحين ليزيلوا هذه العوامل العازلة من وقر وحجاب، وليفتحوا قلوب الناس وآذانهم لتتلقي نداء الروح ولتصغي إلى کلام السماء. وأفضل وسيلة يستطيع أن يمارسها المصلح لتحقيق الهدف هو «الأدب» لأنه الخطاب الذي يحمل من نور الجمال ما يستطيع أن يشقّ به ظلمات کل قبح تسقط البشرية في أوحاله.
وشاعرنا «سعدي» الشيرازي من أولئک المصلحين الذين عاشوا في أحلک الظروف الاجتماعية حيث ادلهمّت خطوب الجهل الداخلي والغزو الخارجي لتمزّق وجود الأمة، فحمل قيثارة أدبه وظل يعزف عليها في أرجاء العالم الإسلامي، ليکون له الدور الخالد في مخاطبة جيله وکل الأجيال بلغة تنفذ إلى القلب والروح فتوقظ المشاعر الإنسانية من سباتها، وترفع الإنسانية إلى حيثُ أراد لها بارؤها من عزّة وکرامة.
من هو سعدي
رجل ظهر في القرن السابع الهجري بمدينة شيراز من بلاد فارس يتحدث بلغة تستولي على العقول والقلوب بنثرها وشعرها، وجدَ الناسُ فيه ضالتهم التي تنشدها فطرتهم الإنسانية، في وقت تکالبت فيه الظروف السيئة على العالم الإسلامي لتؤدي إلى هجوم المغول وسقوط الخلافة العباسية. وما کان هجوم المغول إلاّ بعد أن توفّرت في المسلمين قابليّة الغزو، فقد تفشّت أمراض النزاعات الداخلية والجهل، وأدى کل ذلک إلى غياب الأهداف الکبرى والمثل العليا في المجتمع، وما ينجم عن ذلک عادة من حرص وطمع وذلّ واختلال في القيم.
والفرق بين الأديب وغيره أن الأديب وهبه الله قدرة رؤية الأشياء بأعمق مما يراه الإنسان الاعتيادي، ومن هذه النظرة العميقة ينطلق لاتخاذ مواقف لا يتخذها الآخرون. وسعدي الأديب رأى ما رآه الآخرون من أمراض عصره، ولکنه لم يقف أمامها موقف الخاضع العاجز المستسلم الذي يبرّرها بأسباب غيبيّة ويعزوها إلى القضاء والقدر، بل نظر إليها نظر طبيب قادر على أن يشخّص أسباب هذه الأمراض ويهبّ لعلاجها.
بدأ شرف الدين مصلح بن عبد الله سعدي الشيرازي أول حرکته في انتقاله من الطريقة التقليدية السائدة في عصره لتعلّم الدين إلى طريقة العاشقين في فهم الدين والحياة والمجتمع، والعاشق له معناه الکبير لدى العارفين، فهو المتحرّک الذي لا يقرّ له قرار، يشدّه الجمال نحو هدف سام کبير، ويجعله مستعداً لتقديم ألوان التضحيات في سبيل هذا الهدف. يشير إلى هذا الانتقال بقوله:
همه قبيله ي من معلمان ديـن بودنـد
مـرا معلّم عشق ترا شاعري آموخت
أي: «کل أفراد قبيلتي کانوا معلمين في الدين / ومعلّـم العشـق علّمـک أن تنشـد الشعـر».
هذا التحوّل أثـّر على خطاب الشاعر، فقد اصبح إنسانياً جمالياً عميقاً، کما دفعه هذا التحوّل إلى الخروج من دائرة بيئته الضيقة ليسوح في العالم الإسلامي، ويتعرّف على مختلف الثقافات، في العالم العربي وآسيا الوسطى وشرق آسيا، وليعود وهو محمّل بتجارب إنسانية واسعة، خلّدها في نثره وشعره.
جُمعت آثاره في مجموعة سمّيت «کليّات»، والکليّات لأي أديب تعني مجموعة ما ترکه من أدب منثور ومنظوم.
وتضمّ کليات سعدي: «گلستان» أو روضة الورد، ويضمّ مجموعة من ذکريات الشاعر وقصصه ومواعظه هي مزيجة من النثر والشعر. وکتاب «بوستان» أو روضة العطر، ويتضمن حکايات منظومة وقصائد في المديح، وکتاب «غزليات» ويتضمّن الطيبات، والبدائع، والخواتيم، والغزليات القديمة، والترجيعات، والملحقات، والرباعيات. وکتاب «المواعظ» وفيه القصائد الفارسية والعربية، والغزل العرفاني، ونصحية الملوک، والمجالس.
منزلة الشاعر ومکانته
أطلق کثير من الشعراء القدماء ورجال التاريخ والأدب أحکاماً عامة على الشاعر، لا بأس أن نشير إلى بعضها. فمن المعاصرين له، الشاعر «همام التبريزي» وقد کان من مشاهير الغزليين في عصره، يصف نفسه بالإجادة في الشعر، لکنه يستدرک بأنه لم يبلغ في إجادته ما بلغه سعدي يقول:
همام را سخن دلفريب وشيرين هست
ولي چه سود بيچاره نيسـت شيرازي [١]
أي: «لهمام أسلـوب حلـو يخلـب الألباب / ولکن ما فائدة ذلک، فالمسکين ليس (سعدي) الشيرازي».
ومن معاصريه أيضاً شاعر آخر مجيد يسمي» مجد همگر «يقول عن شعر «سعدي» إنه کالکعبة يؤمه کل الناس، کما يشبّه فيض قلبه بزمزم.
از سعدي مشهور سخن شعـر روان جوي
کو کعبه فضلست و دلش چشمه زمزم [٢].
أي: «اطلب من سعدي المتکلّم شعراً سلسلاً / فهو کعبة الفضل وقلبه عين زمزم».
وقد ظل الذين جاؤوا بعده يفيضون کثيراً من ألوان التقدير له. وحتى «حافظ الشيرازي» شاعر العرفان الکبير - يجعل «سعدي» أستاذاً في جميع فنون الشعر، ليس في نظره - فحسب - بل في نظر جميع الناس.
أستاد سخن سعديست نزد همه کس أما
دارد سخن حافظ طرز سخن خواجوا [٣].
أي: «أستاذ الأدب سعدي باتفاق الجميع / أما لحافظ أدب يحذو فيه حذو خواجو».
ويرى «دولتشاه» أن أنبياء الشعر ثلاثة، کل واحد أستاذ في ناحية، لا يجاريه فيها غيره. هم «الفردوسي» في القصص، «الأنوري» في القصائد، «السعدي» في الغزل.
در شعـر سـه تن پـيمبراننـد
هـرچند که لا نبـي بعـدي
أوصاف وقصيـده وغـزل را
فردوسي و أنـوري وسعـدي
أي: «في الشعر ثلاثة هـم أنبيـاء / وإن کـان (لا نبي بعـدي) / في الوصف والقصيدة والغزل / فـردوسـي وأنوري وسعدي».
يؤيد هذا ما يذکره صاحب «حبيب السير» فيقول إن أحداً لم يبلغ ما بلغه «سعدي» في فن الغزل [٤].
ويورد الأستاذ «الگرگاني» في مقدمته على «الگلستان» أن سعدي بلغ مکانة في الغزل لم يدرکها أحد قبله، فقد ألبسه ثوباً جديداً، وکأنما کانت غزلياته دواء للولهى، ولهذا يعدّون ديوانه في الغزل «ملاحة الشعراء» [٥].
ويذکر «براون» في مقارنة طويلة بين «حافظ وسعدي» کيف أن «حافظاً» استعار کثيراً من المعاني التي تضمنتها أشعار «سعدي» في الگلستان، والطيبات، والغزليات، والبدائع. وينتهي من ذلک بأن «حافظاً» يعد مديناً إلى حد کبير للشاعر «سعدي».
ويرى الأستاذ «آربري» أن الشاعر الحق، والکاتب المبدع هو الذي يجمع بين سمو الفکرة وطرافتها، مع رقة العبارة وسلاستها، ومن هنا کان السبب في إعجاب الکثيرين من الفرنسيين «بسعدي» فقد أعجب به «ديدرو» وأطراه «فولتير» وأشادت به «مدام رولان» وقال عنه «رينان» إن سعدي في الواقع واحد منا، کما قال عنه «بارييه دي منار» إننا نجد فيه ما يذکرنا ببلاغة «هوارس» ورقة «اوفيد» وفصاحة «دي ريبالييه» وإنسانية «لا فونتين».
ولهذا أصبح الرجل - ذو الأسلوب البديع - أنموذجاً يحتذيه کل من يتعلم الفارسية [٦].
رسالة سعدي إلى عالمنا المعاصر
الخالدون في التاريخ هم الذين يخاطبون فطرة الإنسان. وفطرة الإنسان ثابتة (لا تبديل لخلق الله)، وهي دائماً تنشد الجمال والکمال. وشاعرنا سعدي کان جميلال عذباً في أسلوبه ومعلّم الکمال في مضمونه.
موسيقاه في نثره وشعره لا تزال تحتلّ مرکز الصدارة في الأدب الفارسي، بل في الأدب العالمي، حتى عند أصحاب الحداثة وما بعد الحداثة. لقد جاء بعده من نال شهرة واسعة في زمانه، لکنه مالبث أن اختفى من الساحة بعد زوال الظروف الخاصة التي أدّت إلى اشتهاره، أما سعدي فلا يزال من الخالدين، وهذا درسٌ لکل الأدباء والفنانين الذين يريدون أن يقدّموا العطاء الخالد لأمتهم.
في کتابه «گلستان» يشير إلى أن رسالته الأدبية تجاوزت - حتى في عصره - حدود المکان، وأصبحت أحاديثه متداولة على کل لسان، فذکره الجميل تناقلته الأفواه، وکلامه سرى في بسيط الأرض، وحديثه قصب الجيب الذي يرتشفه الناس کقصب السکر، ورقعة منشآته تتداولها الأيدي کورقة ذهبية [٧].
ألا يذکرنا هذا بالمتنبي الذي تجاوز حدود زمانه ومکانه، فکان ينشد قصائده في الشام ومصر والعراق، فتتناقلها الأفواه في إيران، ويتصدى لها وزير إيراني کبير مثل الصاحب بن عباد فينقدها في زمن حياة الشاعر؟ !
ألا يذکرنا سعدي والمتنبي وأمثالهما من العظام بما کان يسود في الأمة الإسلامية من وحدة حضارية وحرکة حضارية مع کل الظروف الصعبة التي ألمّت بالعالم الإسلامي آنئذ؟ !
سعدي من رموز وحدتنا الحضارية
بداية أذکر أن العالم الإسلامي ينتظره مستقبل عظيم على الساحة العالمية إن أحسنَ استعمال ما يمتلکه من مقوّمات حضارية. إن بريق التطوّر التقني في السلاح والارتباطات وفي سائر المجالات قد بهر وغطّى على عظمة وجود أمتنا الحضاري. لکنّ النور الذي سيبقى هو نور الحضارة، والحضارة الإسلامية لا ينافسها منافس على الساحة العالمية.
لا نذهب إلى ماذهب إليه هنتنغتون في صراع الحضارات، ولا نؤمن بما يقوله، ولا نعتقد أن مايجري في الساحة العالمية هو صراع بين حضارات، لأن المصارع القوي اليوم على الساحة العالمية لا يمتلک حضارة… بل إنه ينطلق من عقدة نقصه الحضاري ليشيع في العالم الدمار، وليقضي باسم عولمة خاصة به على حضارات العالم، وإذا کان توجّهه الأول اليوم نحو العالم الإسلامي، فلأنه مهدُ الحضارات الإنسانية، ولأن المنظّرين الاستراتيجيين أوحوا له بأن الحضارة الإسلامية مؤهّلة لأن يکون لها الدور الريادي على الساحة العالمية.
والعودة إلى وحدتنا الحضارية ما عادت ضرباً من المستحيل کما کان بعضهم يوحي بذلک، لأن الوحدة الأوروبية أثبتت إمکان توحيد شعوب نشبت بينها في القرن الماضي على الأقل حربان عالميتان، کما أن وحدتنا الحضارية ضرورة حتمية لبقائنا في عالم التکتلات. وکل مقومات الوحدة الأساسية قائمة بين ظهرانينا ونحتاج إلى تفعيلها.
أعود إلى سعدي الشيرازي لأقول إنه من رموز وحدتنا الحضارية. فهو إضافة إلى خطابه الذي يتجاوز حدود الزمان والمکان استطاع أن يقدم النموذج الرائع للامتزاج الحضاري بين الإيرانيين والعرب.
هذا الامتزاج نشاهده فيما خلّفه لنا من تراث. مؤلفاته مزجت بين العربية والفارسية بحيث لا يمکن أن يطالعها أحد إلا أن يکون ملمّاً باللغتين معاً. ولم يکن ذلک مصادفة، بل تعمّد إلى ذلک - فيما أعتقد - ليثبت أن الامتزاج هذا يبلغ باللغة إلى ذروة الکمال.
کثرة التضمينات القرآنية وکثرة العبارات والأبيات العربية التي تتخلل نثره وتـُلمّع شعره، والقصائد العربية التي تحتويها کلياته تثبت أنه أراد التوفيق بين اللغتين العربية والفارسية ليخرج بنصوص تجمع بين الاثنين في إطار جميل خلاّب بعيد عن أي تکلّف.
في کتابه «گلستان» على سبيل المثال ترى في الصفحة الأولى نثراً مليئاً بالمفردات العربية: مِنّة… عزّ وجلّ… طاعة… موجب… قرب… شکر… مزيد… نعمة… نـَفَس… ممدّ… حياة… مفرّح… ذات… واجب… تقصير… عذر… رحمة… حساب… ناموس… فاحش… وظيفة… خطأ… کريم… خزانة… غيب…وظيفة… محروم… نَظَر… فرّاش… فرش… داية… بنات… نبات… خلعة… قباء… ورق… أطفال… قدوم… موسم… ربيع…و…
وترى آية هي قوله تعالى: (اعملوا آل داود شکراً وقليل من عبادي الشکور) … وهکذا تستمر الصفحات على هذا المنوال تتخللها أبيات بالعربية مشفوعة بأبيات في الفارسية.
والعربية في کليات سعدي نراها:
ـ في المفردات العربية الکثيرة في نثره.
ـ وفي أبياته العربية المتناثرة خلال نثره.
ـ وفي قصائده العربية التي أفرد لها المحققون قسماً خاصاً.
تبدأ أولها بقوله:
الحمد لله رب العالمين على
ما درّ من نعمة عزّ اسمه وعلا [٨]
وهي في ذکر الله ونِعَمه.
والثانية في رثاء بغداد والمعتصم بالله بعد هجوم المغول ومطلعها:
حبستُ بجنفنيّ المدامع لا تجـري
فلما طغى الماء استطال على السکر [٩]
وتزيد على تسعين بيتاً.
والثالثة في مدح نور الدين بن صياد ومطلعها:
مادام ينسرح الغزلان في الوادي
احذر يفوتک صيد يا ابن صيّاد [١٠]
عدد هذه القصائد العربية يربو على العشرين، وأکثرها في الغزل کما ذکرنا، ومن غزله العربي قوله:
يا نديمي قم تنبّه واسقني واسقِ الندامى
اسقياني وهدير الرعد قد أبکى الغماما
وشفا الأزهار تفترّ من الضحک ابتساما
قل لمن عيّر أهل الحبّ بالجهل ولاما
لا عرفت الحبّ هيهات ولا ذقـت الغرامـا [١١]
ونرى العربية في ملمّعاته نظير قوله:
وقتها يکدم برآسودي تنم [١٢]
قال مولائي لطرفي لا تـَنَمْ
اسقياني ودعاني أفتضحْ
عشق ومستوري نياميزد بهم [١٣]
ما بمسکيني سلاح انداختيم [١٤]
لا تحلّوا قتلَ من ألقى السّلَم
قد ملکت القلب ملکاً دائماً
خواهي اکنون عـدل کـن خـواهي ستم [١٥]
وليست مظاهر الوحدة الحضارية عند سعدي متجلية في الامتزاج اللغوي بين العربية والفارسية فحسب، بل أيضاً فيما يعرضه من قصص حقيقية أو رمزية دارت في بلاد عربية أو غير عربية أحياناً من العالم الإسلامي.
فتجواله في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية أمدّه بخصب حضاري في شعره ونثره. في أحاديثه عن الشام مثلاً يتکرر ذکر دمشق والقدس وحلب وطرابلس، ويذکر عنها قصصاً فيها عبرة وتذکير.
من ذلک قصة أسْرِهِ في الشام يرويها على طريقته في السرد. يذکر القصة منثورة ثم يقطـّع فقراتها بقطعة شعرية أو بيت، وفيها من العبر الکبيرة المرتبطة بواقعنا الراهن، يقول [١٦]:
«ذات يومٍ بدت لي ملالة من صحبة إخواني الدمشقيين، فهمت على وجهي في صحراء القدس واستأنست بالحيوانات، إلى أن صرت مرة أسير قيد الفرنج، وسخـّروني في عمل الطين مع اليهود في خندق طرابلس، حتى مرّ بي واحد من رؤساء حلب کان لي به سابق معرفة، وعرفني فقال: أي فلان! ماهذه الحال؟
(قطعة شعرية)
«کنت أفر من الناس إلى الجبل والصحراء / لأنه لم يکن لي عن الله انشغال بالغير / فقس أية حالة تکون في تلک الساعة / إذ يتحتّم عليّ أن أعمل في حظيرة اللئام».
(بيت شعر)
«لإن يکون الرجل مقيّداً عند الأصدقاء / خير من أن يکون المرء في البستان مع الغرباء».
* * *
«فأشفق على حالي التّعسة، وخلّصني من القيد بعشرة دنانير، وأخذني إلى حلب، وزوجني ابنته، بصداق قدره مائة دينار، بعد أيامٍ، أخَذَت ابنته في المشاکسة والعصيان وطول اللسان، وکانت تنغـًص عيشي».
(ابيات مثنوي)
«المرأة الخبيثة في بيت الرجل الطيب / جحيمه في هذا العالم أيضاً / فحذار من قرين السوء حذار، (وقنا ربنا عذاب النار» ).
* * *
«فأطالت مرّة لسان التعنت وکانت تقول: ألست أنت الذي خلّصک أبي من قيد الفرنج بعشرة دنانير؟ فقلت بلى! أنا ذاک الذي خلصني أبوک من قيد الفرنج بعشرة دنانير وجعلني أسيراً في يدک بمائة دينار».
(أبيات مثنوي)
«سمعت أن رجلاً کبيراً خلّص خروفاً من فم ذئب / وفي وقت الليل أمرّ السکين على حلقه / فأتته روح الخروف قائلة: لقد اختطفتني من براثن الذئب / فلما نظرتُ، کنت أنت ذئبي في النهاية».
* * *
وفي القصة إضافة إلى السرد الأدبي الممتع:
ـ أن الإنسان إذا ملّ المقام في مکان فعليه أن ينتقل منه، وهي دعوة إلى عدم الخضوع للعادة، وعدم الخضوع للعادة من أهم محاور دعوة العرفاء.
ـ مقارنة بين العيش مع البشر الطبيعيين (مردم)، وهم الدمشقيون، والعيش مع البشر اللئام (نامردم)، وهم الفرنج الغزاة. وتأکيده على أن الإنسان إذا ملّ المقام مع أهله فلابدّ أن يتنقّل بين أهل آخرين من أبناء أمته لا أن يوقع نفسه في ورطة اللئام من أعداء أمته. فقَيدُ الأصدقاء أفضل من بستان الغرباء.
ـ إشارة إلى إمکان أن يلقى الإنسان العنت من الأصدقاء الجهال المشاکسين، بما في ذلک الزوجة.
- إشارة إلى أن المتظاهرين بالإنقاذ والتحرير قد يکونون هم أنفسهم الجزّارين.
* * *
وفي قصة أخرى له مع قاضٍ حلبي رواها من أثق بروايته في أحد مجالسه الأدبية، ولم أعثر عليها في کلياته الموجوة بحوزتي، يذکر جهل القاضي في إشارة إلى الجهل المتفشي، يقول ما معناه:
«کنت في حلب جالساً عند قاضٍ فجاءه شخصان يترافعان. أحدهما يتهم الثاني بأنه سارق. فالتفت القاضي إلى المتهم وقال له: هل سرقت شيئاً، فقال: لا. قال القاضي: أقسمْ على ذلک، فأقسم. فقال القاضي: أخرجا لم تثبت التهمة. حين خرجا التفتُّ إلى القاضي وقلتُ له: يا شيخ أما سمعت قول القائل:
ولا تقبـل لسارقة يمينـاً
ولـو حلفت بـربّ العالمينـا؟
فارتبک القاضي، وعاد إلى نفسه متأملاً وقال: أعيدوا الرجلين، وقبل أن يأتي الرجلان سألني: في أية سورة من القرآن هذه الآية!!
قلت: يا شيخ!! هذه ليست آية بل بيت من معلقة عمرو بن کلثوم:
ألا هبّـي بصحنک فاصبحينـا
ولا تبقي خمـور الأنـدرينا!!
«فهزّ القاضي رأسه وقال: عجيب! کنت أظنّ أنها في سورة: (إنا فتحنا لک فتحاً مبينا) !!»
* * *
وخارج العالم العربي يذکر قصة من إقليم ترکستان، ومن مدينة کاشغر حين عُقد الصلح بين خوارزم والخطا، بأسلوب ممزوج بين الدعابة والاعتبار. دعابته يذکرها في وصف فتى جميل رآه في جامع کاشغر يدرُس النحو ويردد الجملة المعروفة في النحو القديم:
ضرب زيدٌ عمراً. فيخاطبه سعدي بالقول:
«مذ صار طبعُک ولعاً بالنحو / امّحت من قلوبنا صورةُ العقل / فيا مَنْ قلوب العشاق صيد في شرکک / نحن مشغولون بک وأنت بزيد وعمرو» [١٧].
ويذکر ما دار بينه وبين ذلک الصبي على النحو التالي:
«کانت في يد الصبي مقدمة النحو للزمخشري، ويقرأ: «ضرب زيدٌ عمرواً» فقلت أي بُني: حصل الصلح بين «خوارزم والخطا» [١٨] ولا تزال خصومة زيد وعمرو باقية؟ فضحک وسأل عن موطني فقلت: من أرض شيراز الطاهرة. فقال: أتعرف شيئاً من کلام سعدي؟ قلت نعم، وأنشدت:
بُليتُ بنحويّ يصول مغاضباً
عليّ کزيدٍ في مقابلة العمرو
على جرّ ذيلٍ ليس يرفع رأسَهُ
وهـل يستقيم الـرفع مـن عامـلِ الجرّ [١٩]
فغاص في الفکر لحظة وقال: غالبُ أشعاره بالفارسية مشهورة في هذه البلاد، حبذا لو قلت شيئاً هو أقرب إلى الفهم: «کلّم الناس على قدر عقولهم».
* * *
وفي هذه القصة إضافة إلى الدعابة وموسيقى العبارات الجميلة نرى إشارات إلى:
ـ الطريقة الجافة في تدريس اللغة العربية آنئذ، وقد تکون قائمة حتى اليوم بدرجة وأخرى، فالشواهد لا تتجاوز زيد وعمرو، والعلاقة بينهما علاقة خصام، وهي علاقة ليست ببعيدة عن الذهنية السائدة في عصور الانحطاط.
ـ وإلى انتشار شعر سعدي واللغة الفارسية في آسيا الوسطى، وهي ملاحظة هامة عن الوحدة الحضارية، وعن دور اللغة الفارسية في حمل الثقافة الإسلامية إلى تلک الأصقاع من وسط آسيا.
ـ وإلى ضررة الابتعاد عن التعقيد في الخطاب الأدبي.
ـ وإلى ضرورة ابتعاد العلماء عن التبختر والتحجّر.
الخطاب الإنساني المعتدل
حضارتنا تقوم على أساس الخطاب الإنساني العام، ومخاطبة الإنسان وتکريمه بما هو إنسان. کثير من الآيات القرآنية تبدأ بعبارة: (يا أيها الناس) ومنها آية الدعوة إلى التعارف بين الشعوب: (يا أيها الناس إنا خلقناکم من ذکر وأنثى وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم).
والنصوص الدينية الأخرى تؤکد أن الإنسان أخو الإنسان، شاء أم أبى. وتؤکد أن کل أبناء البشر من بني آدم، وآدم من تراب، فلا تفاضل ولا تفاخر في الأنساب والأعراق، والتفاضل عند الله - لا عند البشر - بما يقطعه الإنسان على طريق کماله، وهو الذي عبّرت عنه الآية بالتقوى.
وعلى الصعيد العملي انفتحت الحضارة الإسلامية على لغات الشعوب وثقافاتهم، ولم تـُفرض اللغة العربية - مع قداستها - على غير العرب، ولا أدلّ على ذلک من بقاء اللغة الفارسية إلى جوار اللغة العربية في إيران، بل من إقبال القبائل العربية المهاجرة إلى إيران على تعلم اللغة الفارسية، حتى أصبح الجيل الثالث منهم لا يعرف اللغة العربية إلا عن طريق التعلّم. وهکذا الموقف من الديانات الأخرى، کان موقف احترام واعتراف، والدليل على ذلک تعايش المسلمين مع المسيحيين واليهود والزرادشتيين حتى يومنا هذا، رغم استفزازات الحروب الصليبية وممارسات الحرکة اليهودية العالمية التي أنجبت الصهيونية.
واشتهر سعدي برفع هذا الصوت الإنساني في أدبه حتى عُدَّ من شعراء الانسانوية، واشتهر خاصة بقوله:
بني آدم اعضاي يکديگـرند
که در آفرينش زيک گوهـرنـد
چـو عضوي بدرد آورد روزگار
دگـر عضـوها را نماند قرار
تـو گر محنت ديگران بي غمي
نشايد که نامت نهند آدمـي [٢٠]
أي: «بنو آدمٍ جسدٌ واحدُ
إلى عنصر واحدٍ عائدُ
إذا مسّ عضواً أليم السقام
فسائر أعضائه لا تنام
إذا أنت للناس لم تألم
فکيـف تسميـت بالآدمـي «
وبهذه الروح الإنسانية نظر إلى العرفان، فذهب إلى أن العارف أو الصوفي هوالذي يخدم الناس لا الذي يختار العزلة والاعتکاف، ويطلب من کلّ الناس حتى الحکام أن يتخلـّقوا بأخلاق الدراويش:
«ليس العبادة سوى خدمة الناس / ليست بالتسبيح والسجادة وارتداء الدلق / ابقَ أنت على عرش سلطنتک / بأخـلاق طـاهـرة وکـن درويشاً».
ويرى أن المعتکفين في الخانقاه لا نفع فيهم، وأن العارف لابدّ أن يتزوّد بالعلم الذي يخدم فيه الناس يقول:
صـاحب دلي بمدرسه آمد زخانقاه
بشکست عهد صحبت أهـل طريق را
گفتم ميان عالم و عابد چه فرق بود
تا اختيار کـردي از آن اين فريق را
گفت آن گليم خويش بدر ميبرد زموج
وين سعي مي کند که بگيرد غريـق را [٢١]
أي: «عارف جاء من الخانقاه إلى المدرسة / وقطع عهد الصحبة مع أهل الطريقة / قلت: مالفرق بين العالم والعابد / حتى جعلک تختار هذا الطريق؟ / قال: ذاک ينقذ سجادته من الموج وهـذا يسعـى للأخـذ بيد الغريـق».
کما أن حضارتنا دعت دائماً إلى الوسطية، وإلى الابتعاد عن الإفراط والتفريط، فأمتنا الوسط مدعوة إلى أن تکون شاهدة، والشاهد لا ينحاز إلى طرف، بل يسير على الجادة الوسطى، والانحياز إلى طرف هو التطرّف، وهو مرفوض… وهي مدعوة إلى الاعتدال وإلى الطريق المستقيم.
وسعدي عاش في عصر الإفراط بين المدرسة والخانقاه، أي بين العلم والدروشة، فدعا إلى عرفان مقرون بالعلم والفکر والحکمة يقول:
سخنـدان پـرورده پير کهـن
بينديشد، آنگه بگويـد سخـن
نـزن تاتوانـي بگفتـار دم
نکو گوي، گرديرگوئي چـه غم
بينديـش وآنگـه بر آور نفس
وزان پيش بس کن که گويند بـس
بنطق آدمي بهترسـت از دواب
دواب از تو به گر نگوئي صواب [٢٢]
أي: «إن الشيخ المعمّر، البليغ المربّي / يفکر ثم يتکلّم / لا تنطق بغير تروّ وتأمّل / أحسن القول، وماذا يضيرک إن أبطأتَ في الکلام؟ / فکر ثم افتح فمک / واسکت من قبل أن يقال: کفى! / إنّ الآدمي بالنطق أفضل من الدواب / والدواب خير منک إن لم تقل الصواب».
ويقول بشأن السلوک المقرون بالحکمة:
» لقمان را گفتند: حکمت از که آموختي؟ گفت: از نابينايان که تا جاي نبينند پاي ننهند. قدّم الخروج قبل الولوج، مرديت بيازماي وآنگه زن کن « [٢٣].
أي: «قيل للقمان الحکيم ممن تعلّمت الحکمة؟ قال: من العُميان، فإنهم لا يضعون القدم حتى يعرفوا المکان. (قَدّم الخروجَ قبل الولوج) جرّب رجولتک ثم تزوّج».
والدعوة إلى الخطاب المعتدل نراها في شعر سعدي حين يتحدث عن الصمت والکلام، فلا الصمت المطبق مطلوب ولا الهذر الکلامي، فالصمتُ له وقته، والکلام له وقته. يقول:
اگر چه پيش خردمند خامشي ادب است
به وقت مصلحت آن به که در سخن کوشي
دو چيز طير عقل است: دم فروبستن
به وقت گفتن، وگفتن به وقت خاموشي [٢٤]
أي «ولو أن الصمت في رأي اللبيب من الأدب / لکنک اجتهد في أن تتکلم حين تقتضي المصلحة / شيئان من خفّة العقل: السکوت / في وقت الکلام، والکلام في وقت السکوت».
وما أحوجنا اليوم إلى أن نخطط لحياتنا الفردية والاجتماعية في الکلام والسکوت، کي لا نقع في إفراط الهذر أو تفريط الإعراض عن قولة الحق.
والاعتدال نراه أيضا في موقفه المذهبي، ولعل هذا الموقف استلهمه من أستاذه الغزالي. فالغزالي لم يتعصّب لمذهب معين. يقول في رسائله الفارسية ما ترجمته:
«أسير في المعقولات على مذهب البرهان وما يقتضيه الدليل العقلي. وفي الشرعيات على مذهب القرآن، ولا أقلّد أحداً من الأئمة، فليس للشافعي عليّ عهد ووصية، ولا لأبي حنيفة حجة وسند» [٢٥].
وليس من شک أنّ دراسة سعدي کانت على يد أساتذة من أهل السنّة، وفي کليّاته ما يشير إلى أنه سنّي المذهب، ولکنک ترى في هذه الکليات حديثاً عن علي بن أبي طالب وعن أهل البيت ما يوحي أنه شيعي، والمحصلة من کل ذلک أنه أراد أن يتجاوز المذهبية في نهجه، ويقف الموقف الذي يمليه عليه فکره وشخصيته المستقلة، لا التقليد الأعمى.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى هذا الاعتدال في الموقف المذهبي. بحاجة إلى تفهم السنّة بأنها التزام بسنّة رسول الله (ص)، وهو التزام واجب على کلّ المسلمين، عندئذ يکون کلّ المسلمين سنّة، وأن نفهم التشيع بأنه ولاء لآل بيت رسول الله (ص)، وهو ولاء أوجبه القرآن الکريم (قل لا أسألکم عليه أجراً إلا المودة في القربى) عندئذ يکون کلّ المسلمين شيعة، وما عدا ذلک فهو إما خلافات تاريخية لا علاقة لنا بها، وإما اختلافات اجتهادية طبيعية بين البشر، أجازها الإسلام وشجّع عليها.
الدعوة إلى العزّة
المجتمع البشري حيّ بعزّته فإذا ذلّ مات… هذه حقيقة تؤکدها کل الدراسات التاريخية والاجتماعية، وتثبتها حقائق الواقع الراهن، من هنا فإن کلّ الأنبياء المصلحين دعوا إلى صيانة عزّة الإنسان وکرامته على ظهر الأرض. کي يستشعر الحياة، ويسير على طريق استخلاف الله في الأرض وما يتطلبه هذا الاستخلاف من إبداع وابتکار واستثمار لمواهب الطبيعة وکنوزها.
وسعدي بأسلوبه الأدبي الرائع جَهَد لأن يحافظ على روح العزّة في مجتمعه بعد أن تکالبت عليه أنواع الظروف لإذلاله.
وأهم وَتـَر ضرب عليه لصيانة روح العزّة في المجتمع هو إنقاذ الناس من التهافت على الدنيا کتهافت الذباب على قطعة الحلوى. وإيقاظ العقول والقلوب على حقيقة هذه الحياة التي لا تبقى لأحد. وهذا لا يعني أنه دعا إلى ترک الدنيا، بل دعا إلى ممارسة الحياة ممارسة مترفعة عن الدنايا وعن الذاتية والأنانية، وعن الحرص والطمع، وعن کل العوامل التي تخلق السلبيات في العلاقات الاجتماعية، وتحول دون تفتح مواهب الانسان وکفاءاته ودون العطاء الاجتماعي العام. دعا إلى أن لا يتحول الإنسان إلى دودة تعيش في الظلام، لا تعرف إلا ماحولها، ولا تعمل إلا لإشباع نهمها الغريزي.
نراه في حکاياته بکتاب گلستان يخاطب النفس الإنسانية بأساليب مختلفة لينتشلها من وهدة الهبوط ويرفعها إلى الارتباط بالکون الفسيح وخالقه.
يقول في الباب السابع: «سمعت أحداً من الشيوخ المربين کان يقول لمريد: أي بني! لو کان ارتباط ابن آدم بالرازق بقدر ارتباطه بالرزق لارتقى على الملائکة في المقام».
وفي هذا المضمار ينشد أحياناً بيتاً بالعربية فيقول:
بئس المطاعم حين الذل يکسبها
القِدر منتصب والقَدرُ مخفوضُ
وأحياناً ينشد بيتاً بالفارسية يقول:
هرکه نان از عرق خويش خورد
منـّـت از حاتـم طائي نبـرد
أي: «کل من يأکل الخبز من عمله / لا يتحمل المنّة من حاتم الطائي».
وأحياناً ينشد قطعة شعرية يقول:
«إذا أردت الغنى، لا تطلب غير القناعة / فإنها دولة هنية / إذا نثر الغني الذهب بحجره / فحذار أن تنظر إلى نواله / فقد سمعت کثيراً من الأکابر (يقولون) / إن صبر الفقير خير من بذل الغني».
وفي کتابه بوستان خصص باباً للقناعة يدعو إليه بقوله مثلاً:
ـ «اقنعي أيتها النفس بالقليل / حتى تري السلطان والفقير متساويين».
ـ «وابغ جوفاً طاهراً أينما تذهب / فإن البطن لن يمـلأه إلا التـراب».
ـ «والنفس الأمارة تـُحيل المرء ذليلاً / فلا تطعها إن کنـت عاقـلاً».
وفي قطعاته الشعرية الشعرية يکثر من التأکيد على عزّة النفس، وفي إحداها يصوّر أصدقاءه يقولون له:
«لماذا أنت يا سعدي لا تتحرک للحصول على المال والمتاع؟ / فأنت تتربع على عرش الشعر، فلماذا تعيش کما يعيش المرتاضون؟ / لو مدحت قليلاً فستنال الحظوة / وصاحب الفن إن کان معدماً فهو مغبون، ولا يقدر أن يکسب ودّ الاخوان».
ثم يجيبهم: «لا أستطيع أن أرفع حاجتي إلى هذا المالک وذاک الثري / فهذا من فعل المتکدين / لو طُلب مني أن آخذ إبرة من اللئام / لتحولت هذه الإبرة إلى إبر على جلدي مثل القنفذ / لقد قلتَ: إن رضا الصديق لا يتيسّر إلا بالمال / وهذا أيضاً خلاف المعرفة والرأي الصحيح / فألف کنز ثمين يعادل حبّة من الفن / والمنّة بعد ذلک على المعطي، والحيف عَلَيَّ.
وهذه القطعة الشعرية تذکرنا بأديب إيراني أخر هو علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت ٣٦٦هـ)، فقد دعا جميع ذوي القلم والفن أن يحافظوا على شرف علمهم إذ قال:
يقولون لي: فيک انقباضٌ وإنما
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مَنْهَلٌ قلتُ: قد أرى
ولکـنّ نفسَ الحرّ تحتمل الظّمَا
ولم أقضِ حقّ العلم إن کان کلّما
بـدا طمـعٌ صَيّرتـُه لي سُلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مُهجتي
لأخْـدُمَ مَنْ لاقيتُ لکنْ لأخدَما
أأشقى به غَرْساً وأجنيـه ذِلّةً
إذن فاتـپاع الجهل قد کان أحزَما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولـو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولکن أهانوه فهانَ ودنّسـوا
محيـّاه بالأطماعِ حتى تجهّما
تربية الذوق الجمالي
ذکرنا أن سعدي الشيرازي عاشق بالمعنى العرفاني، والعاشق بهذا المعنى هو الذي يغلي صدره بالمشاعر النبيلة التي تدفعه إلى حبّ الجمال والکمال، من هنا فالعاشق لا يستقرّ ولا يخنع ولا يستسلم للظروف، بل يتحرک رغم کل الصعاب على طريق الجمال.
وعلى العکس من العاشق الإنسان المتبلّد الاحساس، الضعيف الهمّة، الذي لا يهتزّ أمام السحر ولا يطرب أمام الجمال.
وتربية الذوق الجمالي هدف کل الأنبياء والمصلحين، لأنه يدفع الإنسان للحرکة نحو الجمال المطلق ويجعل الکائن البشري مُعرضاً عن القبائح والسيئات.
نحن اليوم بأمس الحاجة لتربية الذوق الجمالي لشبابنا لکي يطلبوا الجمال في کل مجالات حياتهم، ويعرضوا عن القبيح في المظهر والسلوک. والذوق الجمالي يبعد الشباب عن الوقوع في مستنقع الرذيلة، لأن الشاب - إن تحلّى بالذوق الجمالي - يستطيع أن يفهم قبح الرذائل، ويفهم الفرق بين الجمال الحقيقي والجمال السرابي الخدّاع.
وهي مسألة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، لکنّا نکتفي بهذه الإشارة ونعود إلى سعدي الشيرازي الذي سعى فيما سعى إلى أن يستثير الذوق الجمالي الفطري في مجتمعه، الذي تکالبت فيه ظروف سحق هذا الذوق وإماتته، بفعل الظروف الاجتماعية السيئة.
هو أولا يکرر الدعوة إلى التأمل في مظاهر الطبيعة ومافيها من جلال وجمال وأسرار، والى التعمّق بما وراء الظواهر من علاقات تربط کل الکون بهدف تکاملي واحد. يقول:
بذکرش هرچه بيني در خروش است
ولي داند درين معنى که گوش است
نه بلبل بر گلش تسبيح خوانيست
که هر خاري بتسبيحش زبانيسـت
أي: «کل ماتراه يموج بذکره / لا يفهم ذلک إلا القلب السميع / ليس البلبل فحسب يسبّح على وردته / بل کل شوکةٍ لسانٌ ينطق بتسبيحه».
والقلب الذي يستطيع أن يتفهّم حقائق الأشياء هو القلب الذي يخفق بالعشق لا القلب المتبلّد الجامد. کلّ مظاهر الطبيعة تدعو الإنسان إلى أن ينفتح قلبه وينصقل ذوقه، بل لقد عُرِف عند العرب عن الجمل بأنه يطرب للصوت الجميل، فما بال الإنسان لا يهزّه الجمال؟
يقول سعدي:
داني چه گفت مرا آن بلبل سحري؟
تو خود چه آدمي کز عشق بي خبري
اشتر بشعر عرب در حالتست وطرب
گر ذوق نيست ترا کژ طبع جانوري
أي: «أتدري ماذا قال لي البلبل في السحر؟ / أي إنسان أنت يامن لا معرفة لک بالعشق؟ / الجمل في الشعر العربي له ذوق وطرب / وإذا لم يکن لک ذوق فأنت حيوان معوجّ الطبع [٢٦] «.
ثم يردف سعدي هذين البيتين بيت عربي فيقول:
وعند هبوب الناشرات على الحمى
تميل غصـون البـان لا الحجـر الصلـد
يضع سعدي مواصفات للعاشقين منها أنهم لا يملّون الطلب والبحث للوصول إلى الجمال، يقول:
چو يعقوبم ارديده گردد سپيد
نبردم ز ديدار يوسف اميد
طلبکار بايد صبور وحمول
که نشنيده ام کيمياگر ملول
چه زرها بخاک سيه در کند
که باشد که روزي مسي زر کند [٢٧]
أي: « - فلئن ابيضّت عيناي، کما ابيضّت عينا يعقوب / فلن أقطع الأمل، من رؤية يوسف / ولابدّ للطالب أن يکون صبوراً قادراً على التحمّل / إذ لم يُسمع أن کيماوياً (ساعياً للحصول على الذهب من معادن أخرى) أصبح ملولاً / فما أکثر ما ينفقه من مال وذهب / لعلّه يوماً يستطيع أن يحوّل النحاس إلى ذهب».
ومن صفات العاشقين أنهم يشعرون - رغم ثقل أعباء العشق - بالبهجة والسرور والحبور.
وسعدي مبتهج دائماً، لأنه يعيش في عالم مبتهج بخالقه، وسعدي عاشق لکل العالم، لأن کل العالم من فيض المحبوب. يقول:
بجهان خرّم از آنم که جهان خرّم از اوست
عـاشقم بر همه عالم که همه عالم از اوست
أي: «أنا مبتهج بالکون لأن الکون مبتهج به / أنا عاشق لکل العالم لأن جميع العالم منه»
وما أجمل هذا الارتباط بالکون، ارتباط يشرح الصدر، ويبارک العمر ويزکيه ويرفعه، ويجعل العلاقة بين الإنسان والکون علاقة العاشق بالمعشوق.
ويفصل سعدي بين حديث العشق وحديث العقل، فالعشق حديث تضحية وفداء وتحمّل ومعاناة وإيثار، وحديث العقل حديث مصلحة ومنفعة واستئثار وطلب السلامة. يقول سعدي:
درديست درد عشق که هيچيش طبيب نيست
گر دردمنـد عشق بنالـد غريب نيست
دانند عاقـلان کـه مجانين عشـق را
پـرواي قول ناصـح و پند اديب نيست
أي: «ما أشدّ ألم العشق الذي ليس له طبيب / وإذا ناح المصاب بالعشق فليس ذلک بغريب / يعلـم العقـّال أن مجانين العشـق / لا يرعوون لقول ناصح وموعظة أديب».
وهذا لا يعني أن سعدي يدعو إلى ترک العقل، بل يرى أن عالم العشق غير عالم العقل، عالم العشق يتجاوز الذات، وعالم العقل يکرّس الذات. ولا نبالغ إذا قلنا أن کل الذين بذلوا جهودهم من أجل خدمة البشرية في أي مجال من المجالات هم عاشقون. والعرفاء يرون أن العشق هي النار التي تحرّک البشرية، وهو طاقتها المحرکة، ويعبّرون عن العقل بأنه الدخان المصاحب للنار. يقول العطار في منطق الطير:
عشـق جانان آتش است وعقل دود
عشق چون آمد گريزد عقـل زود
أي: «عشق الحبيب نار والعقل دخان / وحين يحل العشق سرعان ما يهرب العقل».
ويقول سعدي:
حديث عقـل در ايام پادشاهي عشق
چنان شده است که فرمان حاکم معزول
أي: » حديث العقل في أيام سلطنة العقل / أصبح وکأنه فرمان الحاکم المعزول»
منطق العاشقين غير منطق الأنانيين. والعرفاء يرون أن العاشقين هم أصحاب الرأي الصائب والنظر الثاقب. يقول سعدي:
هر کسي را نتوان گفت که صاحب نظر است
عشق بازي دگر و نفس پرستي دگر اسـت
أي: «لا يمکن أن يقال عن أي شخص بأنه صاحب نظر / فالسير على طريق العشق شيء وعبادة النفس شيء آخر».
سعدي يضع العاشق مقابل الأناني وعابد الذات، وبذلک يدعو إلى أن يکون الإنسان عاشقاً ينشد الجمال بعيداً عن الذاتية والأنانية، مندفعاً دائماً ليقدم الخير والعطاء للبشرية جمعاء.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
[١] - . الدکتور رضا زاده في تاريخ الأدب الفارسي ص ١٦٦، من النسخة المطولة.
[٢] - المصدر نفسه ص ٢٥٥.
[٣] - ويقصد به الشاعر الکبير خواجو الکرماني. المصدر نفسه ص ٢٢٦.
[٤] - حبيب السير، ص ١٣٠.
[٥] - الگرگاني - مقدمة الگلستان ص - يب.
[٦] - Ross: sadi’ Gulistan p. ٢٣.
[٧] - النص الفارسي: ذکر جميل سعدي که در افواه عوام افتاده است، وصيت سخنش که در بسيط زمين رفته، وقصب الجيب حديثش که همچون شکر مي خورند، ورقعه ي منشآتش که چون کاغذ زر مي برند… کليات سعدي ص ٤.
[٨] - کليات إقبال، ص ٧٣.
[٩] - نفس المصدر، ص ٧٣ - ٧٧.
[١٠] - نفس المصدر، ص ٧٧ - ٧٨.
[١١] - کليات إقبال، ص ٨٧.
[١٢] - بين آونة وأخرى دع جسمي يسترحْ.
[١٣] - العشق والستر لا يجتمعان.
[١٤] - نحن لمسکنتنا ألقينا السلاح.
[١٥] - إن شئت أن تعدل الآن أو تجور. کليات إقبال، ص ٣٧٧.
[١٦] - ص ١٤٢ - ١٤٣ من کتاب جنة الورد» گلستان».
[١٧] - النصّ الفارسي: طبع ترا تا هوس نحو کرد
صورت صبر از دل ما محو کرد
أي دل عشّاق بدام تو صيد
ما بتو مشغول و تو با عمرو وزيد
(گلستان - کليات اقبال، ص ١٣٩ - ١٤٠).
[١٨] - کانت الحرب سجالاً بينهما في ماوراء النهر، ثم عقد الصلح في أيام الشاعر سعدي…
[١٩] - جرّ الذيل، وعدم رفع الرأس کنايتان عن التبختر والغرور، والنکتة فيهما استعمال الجرّ والرفع.
[٢٠] - گلستان - کليات اقبال، ص ٢٥.
[٢١] - کليات سعدي، فروغي وآشتياني، گلستان، ص ٨٠ - ٨١.
[٢٢] - گلستان، کليات اقبال، ص ١٠.
[٢٣] - گلستان، کليات اقبال ص ١١.
[٢٤] - گلستان، ط ١ يوسفي، ص ٥٣.
[٢٥] - النص الفارسي: در معقولات مذهب برهان، وانچه دليل عقلي اقتضاء کند. وأما در شرعيات مذهب قرآن. وهيچ کس را از ائمه تقليد نمي کنم، نه شافعي بر من خطى دارد، ونه ابو حنيفه بر من براتي (مکاتيب فارسي غزالي به تصحيح عباس اقبال، ص ١٢).
[٢٦] - گلستان، کليات اقبال، ص ٦٩.
[٢٧] - سعدي الشيرازي، هنداوي، ص ٤٠٠.

عسل فاضل
03/06/2009, 01:24 AM
سلام علیکم
اقدم لکم مقال من استاذی الکریم الدکتور محمد علی آذرشب عن سعدی عسی ان یفیدکم.
سعدي الشيرازي شاعر الإنسانية
دور الأدب في حياة الشعوب ذو أهمية بالغة… فهو يحافظ على الذوق البشري من الانتکاس، وعلى المعنويات الإنسانية من الارتکاس. الجماعة الإنسانية حيّة بما تمتلکه من مقوّمات الحياة. وأهمّ هذه المقومات الذوق الإنساني والمشاعر الإنسانية… وإذا ضعفت هذه المقومات دبّ الموت في حياة الجماعة، وفقدت دورها على ساحة التاريخ.
ويعظُم دور الأديب ويتصاعد حين يعيش بين ظهراني أمة تکالبت عليها عوامل الموت والإبادة، لتحولّها من أمة متحرکة على طريق المستقبل الأفضل إلى مجموعة من الأفراد الذين يعيش کل منهم همومه الخاصة الصغيرة، وليتحرک على طريق أطماعه وأهوائه وأحقاده وحسده وضغينته، عندئذ تتحول هذه الأمة إلى شبح أمة وتفقد هويتها ومقومات حياتها ولا سبيل أمامها عندئذ إلا الفناء.
لاشک أن الأمة الإسلامية حيّة بقرآنها، لأنه الکتاب الذي يستطيع أن يضخّ في جسدها دائماً مقوّمات الحياة، ويحافظ على مستوى رفيع من ذوقها ومشاعرها الإنسانية، بما يحمله من إعجاز أدبي ومحتوى تغييري. لکنّ الظروف السيئة إذا تکالبت على الفرد أو على الأمة تخلق على القلوب حجاباً وتضرب على الآذان أسدالاً ووقراً، وتجعل بين الإنسان والخطاب القرآني حجاباً، وهنا يأتي دور المصلحين ليزيلوا هذه العوامل العازلة من وقر وحجاب، وليفتحوا قلوب الناس وآذانهم لتتلقي نداء الروح ولتصغي إلى کلام السماء. وأفضل وسيلة يستطيع أن يمارسها المصلح لتحقيق الهدف هو «الأدب» لأنه الخطاب الذي يحمل من نور الجمال ما يستطيع أن يشقّ به ظلمات کل قبح تسقط البشرية في أوحاله.
وشاعرنا «سعدي» الشيرازي من أولئک المصلحين الذين عاشوا في أحلک الظروف الاجتماعية حيث ادلهمّت خطوب الجهل الداخلي والغزو الخارجي لتمزّق وجود الأمة، فحمل قيثارة أدبه وظل يعزف عليها في أرجاء العالم الإسلامي، ليکون له الدور الخالد في مخاطبة جيله وکل الأجيال بلغة تنفذ إلى القلب والروح فتوقظ المشاعر الإنسانية من سباتها، وترفع الإنسانية إلى حيثُ أراد لها بارؤها من عزّة وکرامة.
من هو سعدي
رجل ظهر في القرن السابع الهجري بمدينة شيراز من بلاد فارس يتحدث بلغة تستولي على العقول والقلوب بنثرها وشعرها، وجدَ الناسُ فيه ضالتهم التي تنشدها فطرتهم الإنسانية، في وقت تکالبت فيه الظروف السيئة على العالم الإسلامي لتؤدي إلى هجوم المغول وسقوط الخلافة العباسية. وما کان هجوم المغول إلاّ بعد أن توفّرت في المسلمين قابليّة الغزو، فقد تفشّت أمراض النزاعات الداخلية والجهل، وأدى کل ذلک إلى غياب الأهداف الکبرى والمثل العليا في المجتمع، وما ينجم عن ذلک عادة من حرص وطمع وذلّ واختلال في القيم.
والفرق بين الأديب وغيره أن الأديب وهبه الله قدرة رؤية الأشياء بأعمق مما يراه الإنسان الاعتيادي، ومن هذه النظرة العميقة ينطلق لاتخاذ مواقف لا يتخذها الآخرون. وسعدي الأديب رأى ما رآه الآخرون من أمراض عصره، ولکنه لم يقف أمامها موقف الخاضع العاجز المستسلم الذي يبرّرها بأسباب غيبيّة ويعزوها إلى القضاء والقدر، بل نظر إليها نظر طبيب قادر على أن يشخّص أسباب هذه الأمراض ويهبّ لعلاجها.
بدأ شرف الدين مصلح بن عبد الله سعدي الشيرازي أول حرکته في انتقاله من الطريقة التقليدية السائدة في عصره لتعلّم الدين إلى طريقة العاشقين في فهم الدين والحياة والمجتمع، والعاشق له معناه الکبير لدى العارفين، فهو المتحرّک الذي لا يقرّ له قرار، يشدّه الجمال نحو هدف سام کبير، ويجعله مستعداً لتقديم ألوان التضحيات في سبيل هذا الهدف. يشير إلى هذا الانتقال بقوله:
همه قبيله ي من معلمان ديـن بودنـد
مـرا معلّم عشق ترا شاعري آموخت
أي: «کل أفراد قبيلتي کانوا معلمين في الدين / ومعلّـم العشـق علّمـک أن تنشـد الشعـر».
هذا التحوّل أثـّر على خطاب الشاعر، فقد اصبح إنسانياً جمالياً عميقاً، کما دفعه هذا التحوّل إلى الخروج من دائرة بيئته الضيقة ليسوح في العالم الإسلامي، ويتعرّف على مختلف الثقافات، في العالم العربي وآسيا الوسطى وشرق آسيا، وليعود وهو محمّل بتجارب إنسانية واسعة، خلّدها في نثره وشعره.
جُمعت آثاره في مجموعة سمّيت «کليّات»، والکليّات لأي أديب تعني مجموعة ما ترکه من أدب منثور ومنظوم.
وتضمّ کليات سعدي: «گلستان» أو روضة الورد، ويضمّ مجموعة من ذکريات الشاعر وقصصه ومواعظه هي مزيجة من النثر والشعر. وکتاب «بوستان» أو روضة العطر، ويتضمن حکايات منظومة وقصائد في المديح، وکتاب «غزليات» ويتضمّن الطيبات، والبدائع، والخواتيم، والغزليات القديمة، والترجيعات، والملحقات، والرباعيات. وکتاب «المواعظ» وفيه القصائد الفارسية والعربية، والغزل العرفاني، ونصحية الملوک، والمجالس.
منزلة الشاعر ومکانته
أطلق کثير من الشعراء القدماء ورجال التاريخ والأدب أحکاماً عامة على الشاعر، لا بأس أن نشير إلى بعضها. فمن المعاصرين له، الشاعر «همام التبريزي» وقد کان من مشاهير الغزليين في عصره، يصف نفسه بالإجادة في الشعر، لکنه يستدرک بأنه لم يبلغ في إجادته ما بلغه سعدي يقول:
همام را سخن دلفريب وشيرين هست
ولي چه سود بيچاره نيسـت شيرازي [١]
أي: «لهمام أسلـوب حلـو يخلـب الألباب / ولکن ما فائدة ذلک، فالمسکين ليس (سعدي) الشيرازي».
ومن معاصريه أيضاً شاعر آخر مجيد يسمي» مجد همگر «يقول عن شعر «سعدي» إنه کالکعبة يؤمه کل الناس، کما يشبّه فيض قلبه بزمزم.
از سعدي مشهور سخن شعـر روان جوي
کو کعبه فضلست و دلش چشمه زمزم [٢].
أي: «اطلب من سعدي المتکلّم شعراً سلسلاً / فهو کعبة الفضل وقلبه عين زمزم».
وقد ظل الذين جاؤوا بعده يفيضون کثيراً من ألوان التقدير له. وحتى «حافظ الشيرازي» شاعر العرفان الکبير - يجعل «سعدي» أستاذاً في جميع فنون الشعر، ليس في نظره - فحسب - بل في نظر جميع الناس.
أستاد سخن سعديست نزد همه کس أما
دارد سخن حافظ طرز سخن خواجوا [٣].
أي: «أستاذ الأدب سعدي باتفاق الجميع / أما لحافظ أدب يحذو فيه حذو خواجو».
ويرى «دولتشاه» أن أنبياء الشعر ثلاثة، کل واحد أستاذ في ناحية، لا يجاريه فيها غيره. هم «الفردوسي» في القصص، «الأنوري» في القصائد، «السعدي» في الغزل.
در شعـر سـه تن پـيمبراننـد
هـرچند که لا نبـي بعـدي
أوصاف وقصيـده وغـزل را
فردوسي و أنـوري وسعـدي
أي: «في الشعر ثلاثة هـم أنبيـاء / وإن کـان (لا نبي بعـدي) / في الوصف والقصيدة والغزل / فـردوسـي وأنوري وسعدي».
يؤيد هذا ما يذکره صاحب «حبيب السير» فيقول إن أحداً لم يبلغ ما بلغه «سعدي» في فن الغزل [٤].
ويورد الأستاذ «الگرگاني» في مقدمته على «الگلستان» أن سعدي بلغ مکانة في الغزل لم يدرکها أحد قبله، فقد ألبسه ثوباً جديداً، وکأنما کانت غزلياته دواء للولهى، ولهذا يعدّون ديوانه في الغزل «ملاحة الشعراء» [٥].
ويذکر «براون» في مقارنة طويلة بين «حافظ وسعدي» کيف أن «حافظاً» استعار کثيراً من المعاني التي تضمنتها أشعار «سعدي» في الگلستان، والطيبات، والغزليات، والبدائع. وينتهي من ذلک بأن «حافظاً» يعد مديناً إلى حد کبير للشاعر «سعدي».
ويرى الأستاذ «آربري» أن الشاعر الحق، والکاتب المبدع هو الذي يجمع بين سمو الفکرة وطرافتها، مع رقة العبارة وسلاستها، ومن هنا کان السبب في إعجاب الکثيرين من الفرنسيين «بسعدي» فقد أعجب به «ديدرو» وأطراه «فولتير» وأشادت به «مدام رولان» وقال عنه «رينان» إن سعدي في الواقع واحد منا، کما قال عنه «بارييه دي منار» إننا نجد فيه ما يذکرنا ببلاغة «هوارس» ورقة «اوفيد» وفصاحة «دي ريبالييه» وإنسانية «لا فونتين».
ولهذا أصبح الرجل - ذو الأسلوب البديع - أنموذجاً يحتذيه کل من يتعلم الفارسية [٦].
رسالة سعدي إلى عالمنا المعاصر
الخالدون في التاريخ هم الذين يخاطبون فطرة الإنسان. وفطرة الإنسان ثابتة (لا تبديل لخلق الله)، وهي دائماً تنشد الجمال والکمال. وشاعرنا سعدي کان جميلال عذباً في أسلوبه ومعلّم الکمال في مضمونه.
موسيقاه في نثره وشعره لا تزال تحتلّ مرکز الصدارة في الأدب الفارسي، بل في الأدب العالمي، حتى عند أصحاب الحداثة وما بعد الحداثة. لقد جاء بعده من نال شهرة واسعة في زمانه، لکنه مالبث أن اختفى من الساحة بعد زوال الظروف الخاصة التي أدّت إلى اشتهاره، أما سعدي فلا يزال من الخالدين، وهذا درسٌ لکل الأدباء والفنانين الذين يريدون أن يقدّموا العطاء الخالد لأمتهم.
في کتابه «گلستان» يشير إلى أن رسالته الأدبية تجاوزت - حتى في عصره - حدود المکان، وأصبحت أحاديثه متداولة على کل لسان، فذکره الجميل تناقلته الأفواه، وکلامه سرى في بسيط الأرض، وحديثه قصب الجيب الذي يرتشفه الناس کقصب السکر، ورقعة منشآته تتداولها الأيدي کورقة ذهبية [٧].
ألا يذکرنا هذا بالمتنبي الذي تجاوز حدود زمانه ومکانه، فکان ينشد قصائده في الشام ومصر والعراق، فتتناقلها الأفواه في إيران، ويتصدى لها وزير إيراني کبير مثل الصاحب بن عباد فينقدها في زمن حياة الشاعر؟ !
ألا يذکرنا سعدي والمتنبي وأمثالهما من العظام بما کان يسود في الأمة الإسلامية من وحدة حضارية وحرکة حضارية مع کل الظروف الصعبة التي ألمّت بالعالم الإسلامي آنئذ؟ !
سعدي من رموز وحدتنا الحضارية
بداية أذکر أن العالم الإسلامي ينتظره مستقبل عظيم على الساحة العالمية إن أحسنَ استعمال ما يمتلکه من مقوّمات حضارية. إن بريق التطوّر التقني في السلاح والارتباطات وفي سائر المجالات قد بهر وغطّى على عظمة وجود أمتنا الحضاري. لکنّ النور الذي سيبقى هو نور الحضارة، والحضارة الإسلامية لا ينافسها منافس على الساحة العالمية.
لا نذهب إلى ماذهب إليه هنتنغتون في صراع الحضارات، ولا نؤمن بما يقوله، ولا نعتقد أن مايجري في الساحة العالمية هو صراع بين حضارات، لأن المصارع القوي اليوم على الساحة العالمية لا يمتلک حضارة… بل إنه ينطلق من عقدة نقصه الحضاري ليشيع في العالم الدمار، وليقضي باسم عولمة خاصة به على حضارات العالم، وإذا کان توجّهه الأول اليوم نحو العالم الإسلامي، فلأنه مهدُ الحضارات الإنسانية، ولأن المنظّرين الاستراتيجيين أوحوا له بأن الحضارة الإسلامية مؤهّلة لأن يکون لها الدور الريادي على الساحة العالمية.
والعودة إلى وحدتنا الحضارية ما عادت ضرباً من المستحيل کما کان بعضهم يوحي بذلک، لأن الوحدة الأوروبية أثبتت إمکان توحيد شعوب نشبت بينها في القرن الماضي على الأقل حربان عالميتان، کما أن وحدتنا الحضارية ضرورة حتمية لبقائنا في عالم التکتلات. وکل مقومات الوحدة الأساسية قائمة بين ظهرانينا ونحتاج إلى تفعيلها.
أعود إلى سعدي الشيرازي لأقول إنه من رموز وحدتنا الحضارية. فهو إضافة إلى خطابه الذي يتجاوز حدود الزمان والمکان استطاع أن يقدم النموذج الرائع للامتزاج الحضاري بين الإيرانيين والعرب.
هذا الامتزاج نشاهده فيما خلّفه لنا من تراث. مؤلفاته مزجت بين العربية والفارسية بحيث لا يمکن أن يطالعها أحد إلا أن يکون ملمّاً باللغتين معاً. ولم يکن ذلک مصادفة، بل تعمّد إلى ذلک - فيما أعتقد - ليثبت أن الامتزاج هذا يبلغ باللغة إلى ذروة الکمال.
کثرة التضمينات القرآنية وکثرة العبارات والأبيات العربية التي تتخلل نثره وتـُلمّع شعره، والقصائد العربية التي تحتويها کلياته تثبت أنه أراد التوفيق بين اللغتين العربية والفارسية ليخرج بنصوص تجمع بين الاثنين في إطار جميل خلاّب بعيد عن أي تکلّف.
في کتابه «گلستان» على سبيل المثال ترى في الصفحة الأولى نثراً مليئاً بالمفردات العربية: مِنّة… عزّ وجلّ… طاعة… موجب… قرب… شکر… مزيد… نعمة… نـَفَس… ممدّ… حياة… مفرّح… ذات… واجب… تقصير… عذر… رحمة… حساب… ناموس… فاحش… وظيفة… خطأ… کريم… خزانة… غيب…وظيفة… محروم… نَظَر… فرّاش… فرش… داية… بنات… نبات… خلعة… قباء… ورق… أطفال… قدوم… موسم… ربيع…و…
وترى آية هي قوله تعالى: (اعملوا آل داود شکراً وقليل من عبادي الشکور) … وهکذا تستمر الصفحات على هذا المنوال تتخللها أبيات بالعربية مشفوعة بأبيات في الفارسية.
والعربية في کليات سعدي نراها:
ـ في المفردات العربية الکثيرة في نثره.
ـ وفي أبياته العربية المتناثرة خلال نثره.
ـ وفي قصائده العربية التي أفرد لها المحققون قسماً خاصاً.
تبدأ أولها بقوله:
الحمد لله رب العالمين على
ما درّ من نعمة عزّ اسمه وعلا [٨]
وهي في ذکر الله ونِعَمه.
والثانية في رثاء بغداد والمعتصم بالله بعد هجوم المغول ومطلعها:
حبستُ بجنفنيّ المدامع لا تجـري
فلما طغى الماء استطال على السکر [٩]
وتزيد على تسعين بيتاً.
والثالثة في مدح نور الدين بن صياد ومطلعها:
مادام ينسرح الغزلان في الوادي
احذر يفوتک صيد يا ابن صيّاد [١٠]
عدد هذه القصائد العربية يربو على العشرين، وأکثرها في الغزل کما ذکرنا، ومن غزله العربي قوله:
يا نديمي قم تنبّه واسقني واسقِ الندامى
اسقياني وهدير الرعد قد أبکى الغماما
وشفا الأزهار تفترّ من الضحک ابتساما
قل لمن عيّر أهل الحبّ بالجهل ولاما
لا عرفت الحبّ هيهات ولا ذقـت الغرامـا [١١]
ونرى العربية في ملمّعاته نظير قوله:
وقتها يکدم برآسودي تنم [١٢]
قال مولائي لطرفي لا تـَنَمْ
اسقياني ودعاني أفتضحْ
عشق ومستوري نياميزد بهم [١٣]
ما بمسکيني سلاح انداختيم [١٤]
لا تحلّوا قتلَ من ألقى السّلَم
قد ملکت القلب ملکاً دائماً
خواهي اکنون عـدل کـن خـواهي ستم [١٥]
وليست مظاهر الوحدة الحضارية عند سعدي متجلية في الامتزاج اللغوي بين العربية والفارسية فحسب، بل أيضاً فيما يعرضه من قصص حقيقية أو رمزية دارت في بلاد عربية أو غير عربية أحياناً من العالم الإسلامي.
فتجواله في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية أمدّه بخصب حضاري في شعره ونثره. في أحاديثه عن الشام مثلاً يتکرر ذکر دمشق والقدس وحلب وطرابلس، ويذکر عنها قصصاً فيها عبرة وتذکير.
من ذلک قصة أسْرِهِ في الشام يرويها على طريقته في السرد. يذکر القصة منثورة ثم يقطـّع فقراتها بقطعة شعرية أو بيت، وفيها من العبر الکبيرة المرتبطة بواقعنا الراهن، يقول [١٦]:
«ذات يومٍ بدت لي ملالة من صحبة إخواني الدمشقيين، فهمت على وجهي في صحراء القدس واستأنست بالحيوانات، إلى أن صرت مرة أسير قيد الفرنج، وسخـّروني في عمل الطين مع اليهود في خندق طرابلس، حتى مرّ بي واحد من رؤساء حلب کان لي به سابق معرفة، وعرفني فقال: أي فلان! ماهذه الحال؟
(قطعة شعرية)
«کنت أفر من الناس إلى الجبل والصحراء / لأنه لم يکن لي عن الله انشغال بالغير / فقس أية حالة تکون في تلک الساعة / إذ يتحتّم عليّ أن أعمل في حظيرة اللئام».
(بيت شعر)
«لإن يکون الرجل مقيّداً عند الأصدقاء / خير من أن يکون المرء في البستان مع الغرباء».
* * *
«فأشفق على حالي التّعسة، وخلّصني من القيد بعشرة دنانير، وأخذني إلى حلب، وزوجني ابنته، بصداق قدره مائة دينار، بعد أيامٍ، أخَذَت ابنته في المشاکسة والعصيان وطول اللسان، وکانت تنغـًص عيشي».
(ابيات مثنوي)
«المرأة الخبيثة في بيت الرجل الطيب / جحيمه في هذا العالم أيضاً / فحذار من قرين السوء حذار، (وقنا ربنا عذاب النار» ).
* * *
«فأطالت مرّة لسان التعنت وکانت تقول: ألست أنت الذي خلّصک أبي من قيد الفرنج بعشرة دنانير؟ فقلت بلى! أنا ذاک الذي خلصني أبوک من قيد الفرنج بعشرة دنانير وجعلني أسيراً في يدک بمائة دينار».
(أبيات مثنوي)
«سمعت أن رجلاً کبيراً خلّص خروفاً من فم ذئب / وفي وقت الليل أمرّ السکين على حلقه / فأتته روح الخروف قائلة: لقد اختطفتني من براثن الذئب / فلما نظرتُ، کنت أنت ذئبي في النهاية».
* * *
وفي القصة إضافة إلى السرد الأدبي الممتع:
ـ أن الإنسان إذا ملّ المقام في مکان فعليه أن ينتقل منه، وهي دعوة إلى عدم الخضوع للعادة، وعدم الخضوع للعادة من أهم محاور دعوة العرفاء.
ـ مقارنة بين العيش مع البشر الطبيعيين (مردم)، وهم الدمشقيون، والعيش مع البشر اللئام (نامردم)، وهم الفرنج الغزاة. وتأکيده على أن الإنسان إذا ملّ المقام مع أهله فلابدّ أن يتنقّل بين أهل آخرين من أبناء أمته لا أن يوقع نفسه في ورطة اللئام من أعداء أمته. فقَيدُ الأصدقاء أفضل من بستان الغرباء.
ـ إشارة إلى إمکان أن يلقى الإنسان العنت من الأصدقاء الجهال المشاکسين، بما في ذلک الزوجة.
- إشارة إلى أن المتظاهرين بالإنقاذ والتحرير قد يکونون هم أنفسهم الجزّارين.
* * *
وفي قصة أخرى له مع قاضٍ حلبي رواها من أثق بروايته في أحد مجالسه الأدبية، ولم أعثر عليها في کلياته الموجوة بحوزتي، يذکر جهل القاضي في إشارة إلى الجهل المتفشي، يقول ما معناه:
«کنت في حلب جالساً عند قاضٍ فجاءه شخصان يترافعان. أحدهما يتهم الثاني بأنه سارق. فالتفت القاضي إلى المتهم وقال له: هل سرقت شيئاً، فقال: لا. قال القاضي: أقسمْ على ذلک، فأقسم. فقال القاضي: أخرجا لم تثبت التهمة. حين خرجا التفتُّ إلى القاضي وقلتُ له: يا شيخ أما سمعت قول القائل:
ولا تقبـل لسارقة يمينـاً
ولـو حلفت بـربّ العالمينـا؟
فارتبک القاضي، وعاد إلى نفسه متأملاً وقال: أعيدوا الرجلين، وقبل أن يأتي الرجلان سألني: في أية سورة من القرآن هذه الآية!!
قلت: يا شيخ!! هذه ليست آية بل بيت من معلقة عمرو بن کلثوم:
ألا هبّـي بصحنک فاصبحينـا
ولا تبقي خمـور الأنـدرينا!!
«فهزّ القاضي رأسه وقال: عجيب! کنت أظنّ أنها في سورة: (إنا فتحنا لک فتحاً مبينا) !!»
* * *
وخارج العالم العربي يذکر قصة من إقليم ترکستان، ومن مدينة کاشغر حين عُقد الصلح بين خوارزم والخطا، بأسلوب ممزوج بين الدعابة والاعتبار. دعابته يذکرها في وصف فتى جميل رآه في جامع کاشغر يدرُس النحو ويردد الجملة المعروفة في النحو القديم:
ضرب زيدٌ عمراً. فيخاطبه سعدي بالقول:
«مذ صار طبعُک ولعاً بالنحو / امّحت من قلوبنا صورةُ العقل / فيا مَنْ قلوب العشاق صيد في شرکک / نحن مشغولون بک وأنت بزيد وعمرو» [١٧].
ويذکر ما دار بينه وبين ذلک الصبي على النحو التالي:
«کانت في يد الصبي مقدمة النحو للزمخشري، ويقرأ: «ضرب زيدٌ عمرواً» فقلت أي بُني: حصل الصلح بين «خوارزم والخطا» [١٨] ولا تزال خصومة زيد وعمرو باقية؟ فضحک وسأل عن موطني فقلت: من أرض شيراز الطاهرة. فقال: أتعرف شيئاً من کلام سعدي؟ قلت نعم، وأنشدت:
بُليتُ بنحويّ يصول مغاضباً
عليّ کزيدٍ في مقابلة العمرو
على جرّ ذيلٍ ليس يرفع رأسَهُ
وهـل يستقيم الـرفع مـن عامـلِ الجرّ [١٩]
فغاص في الفکر لحظة وقال: غالبُ أشعاره بالفارسية مشهورة في هذه البلاد، حبذا لو قلت شيئاً هو أقرب إلى الفهم: «کلّم الناس على قدر عقولهم».
* * *
وفي هذه القصة إضافة إلى الدعابة وموسيقى العبارات الجميلة نرى إشارات إلى:
ـ الطريقة الجافة في تدريس اللغة العربية آنئذ، وقد تکون قائمة حتى اليوم بدرجة وأخرى، فالشواهد لا تتجاوز زيد وعمرو، والعلاقة بينهما علاقة خصام، وهي علاقة ليست ببعيدة عن الذهنية السائدة في عصور الانحطاط.
ـ وإلى انتشار شعر سعدي واللغة الفارسية في آسيا الوسطى، وهي ملاحظة هامة عن الوحدة الحضارية، وعن دور اللغة الفارسية في حمل الثقافة الإسلامية إلى تلک الأصقاع من وسط آسيا.
ـ وإلى ضررة الابتعاد عن التعقيد في الخطاب الأدبي.
ـ وإلى ضرورة ابتعاد العلماء عن التبختر والتحجّر.
الخطاب الإنساني المعتدل
حضارتنا تقوم على أساس الخطاب الإنساني العام، ومخاطبة الإنسان وتکريمه بما هو إنسان. کثير من الآيات القرآنية تبدأ بعبارة: (يا أيها الناس) ومنها آية الدعوة إلى التعارف بين الشعوب: (يا أيها الناس إنا خلقناکم من ذکر وأنثى وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم).
والنصوص الدينية الأخرى تؤکد أن الإنسان أخو الإنسان، شاء أم أبى. وتؤکد أن کل أبناء البشر من بني آدم، وآدم من تراب، فلا تفاضل ولا تفاخر في الأنساب والأعراق، والتفاضل عند الله - لا عند البشر - بما يقطعه الإنسان على طريق کماله، وهو الذي عبّرت عنه الآية بالتقوى.
وعلى الصعيد العملي انفتحت الحضارة الإسلامية على لغات الشعوب وثقافاتهم، ولم تـُفرض اللغة العربية - مع قداستها - على غير العرب، ولا أدلّ على ذلک من بقاء اللغة الفارسية إلى جوار اللغة العربية في إيران، بل من إقبال القبائل العربية المهاجرة إلى إيران على تعلم اللغة الفارسية، حتى أصبح الجيل الثالث منهم لا يعرف اللغة العربية إلا عن طريق التعلّم. وهکذا الموقف من الديانات الأخرى، کان موقف احترام واعتراف، والدليل على ذلک تعايش المسلمين مع المسيحيين واليهود والزرادشتيين حتى يومنا هذا، رغم استفزازات الحروب الصليبية وممارسات الحرکة اليهودية العالمية التي أنجبت الصهيونية.
واشتهر سعدي برفع هذا الصوت الإنساني في أدبه حتى عُدَّ من شعراء الانسانوية، واشتهر خاصة بقوله:
بني آدم اعضاي يکديگـرند
که در آفرينش زيک گوهـرنـد
چـو عضوي بدرد آورد روزگار
دگـر عضـوها را نماند قرار
تـو گر محنت ديگران بي غمي
نشايد که نامت نهند آدمـي [٢٠]
أي: «بنو آدمٍ جسدٌ واحدُ
إلى عنصر واحدٍ عائدُ
إذا مسّ عضواً أليم السقام
فسائر أعضائه لا تنام
إذا أنت للناس لم تألم
فکيـف تسميـت بالآدمـي «
وبهذه الروح الإنسانية نظر إلى العرفان، فذهب إلى أن العارف أو الصوفي هوالذي يخدم الناس لا الذي يختار العزلة والاعتکاف، ويطلب من کلّ الناس حتى الحکام أن يتخلـّقوا بأخلاق الدراويش:
«ليس العبادة سوى خدمة الناس / ليست بالتسبيح والسجادة وارتداء الدلق / ابقَ أنت على عرش سلطنتک / بأخـلاق طـاهـرة وکـن درويشاً».
ويرى أن المعتکفين في الخانقاه لا نفع فيهم، وأن العارف لابدّ أن يتزوّد بالعلم الذي يخدم فيه الناس يقول:
صـاحب دلي بمدرسه آمد زخانقاه
بشکست عهد صحبت أهـل طريق را
گفتم ميان عالم و عابد چه فرق بود
تا اختيار کـردي از آن اين فريق را
گفت آن گليم خويش بدر ميبرد زموج
وين سعي مي کند که بگيرد غريـق را [٢١]
أي: «عارف جاء من الخانقاه إلى المدرسة / وقطع عهد الصحبة مع أهل الطريقة / قلت: مالفرق بين العالم والعابد / حتى جعلک تختار هذا الطريق؟ / قال: ذاک ينقذ سجادته من الموج وهـذا يسعـى للأخـذ بيد الغريـق».
کما أن حضارتنا دعت دائماً إلى الوسطية، وإلى الابتعاد عن الإفراط والتفريط، فأمتنا الوسط مدعوة إلى أن تکون شاهدة، والشاهد لا ينحاز إلى طرف، بل يسير على الجادة الوسطى، والانحياز إلى طرف هو التطرّف، وهو مرفوض… وهي مدعوة إلى الاعتدال وإلى الطريق المستقيم.
وسعدي عاش في عصر الإفراط بين المدرسة والخانقاه، أي بين العلم والدروشة، فدعا إلى عرفان مقرون بالعلم والفکر والحکمة يقول:
سخنـدان پـرورده پير کهـن
بينديشد، آنگه بگويـد سخـن
نـزن تاتوانـي بگفتـار دم
نکو گوي، گرديرگوئي چـه غم
بينديـش وآنگـه بر آور نفس
وزان پيش بس کن که گويند بـس
بنطق آدمي بهترسـت از دواب
دواب از تو به گر نگوئي صواب [٢٢]
أي: «إن الشيخ المعمّر، البليغ المربّي / يفکر ثم يتکلّم / لا تنطق بغير تروّ وتأمّل / أحسن القول، وماذا يضيرک إن أبطأتَ في الکلام؟ / فکر ثم افتح فمک / واسکت من قبل أن يقال: کفى! / إنّ الآدمي بالنطق أفضل من الدواب / والدواب خير منک إن لم تقل الصواب».
ويقول بشأن السلوک المقرون بالحکمة:
» لقمان را گفتند: حکمت از که آموختي؟ گفت: از نابينايان که تا جاي نبينند پاي ننهند. قدّم الخروج قبل الولوج، مرديت بيازماي وآنگه زن کن « [٢٣].
أي: «قيل للقمان الحکيم ممن تعلّمت الحکمة؟ قال: من العُميان، فإنهم لا يضعون القدم حتى يعرفوا المکان. (قَدّم الخروجَ قبل الولوج) جرّب رجولتک ثم تزوّج».
والدعوة إلى الخطاب المعتدل نراها في شعر سعدي حين يتحدث عن الصمت والکلام، فلا الصمت المطبق مطلوب ولا الهذر الکلامي، فالصمتُ له وقته، والکلام له وقته. يقول:
اگر چه پيش خردمند خامشي ادب است
به وقت مصلحت آن به که در سخن کوشي
دو چيز طير عقل است: دم فروبستن
به وقت گفتن، وگفتن به وقت خاموشي [٢٤]
أي «ولو أن الصمت في رأي اللبيب من الأدب / لکنک اجتهد في أن تتکلم حين تقتضي المصلحة / شيئان من خفّة العقل: السکوت / في وقت الکلام، والکلام في وقت السکوت».
وما أحوجنا اليوم إلى أن نخطط لحياتنا الفردية والاجتماعية في الکلام والسکوت، کي لا نقع في إفراط الهذر أو تفريط الإعراض عن قولة الحق.
والاعتدال نراه أيضا في موقفه المذهبي، ولعل هذا الموقف استلهمه من أستاذه الغزالي. فالغزالي لم يتعصّب لمذهب معين. يقول في رسائله الفارسية ما ترجمته:
«أسير في المعقولات على مذهب البرهان وما يقتضيه الدليل العقلي. وفي الشرعيات على مذهب القرآن، ولا أقلّد أحداً من الأئمة، فليس للشافعي عليّ عهد ووصية، ولا لأبي حنيفة حجة وسند» [٢٥].
وليس من شک أنّ دراسة سعدي کانت على يد أساتذة من أهل السنّة، وفي کليّاته ما يشير إلى أنه سنّي المذهب، ولکنک ترى في هذه الکليات حديثاً عن علي بن أبي طالب وعن أهل البيت ما يوحي أنه شيعي، والمحصلة من کل ذلک أنه أراد أن يتجاوز المذهبية في نهجه، ويقف الموقف الذي يمليه عليه فکره وشخصيته المستقلة، لا التقليد الأعمى.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى هذا الاعتدال في الموقف المذهبي. بحاجة إلى تفهم السنّة بأنها التزام بسنّة رسول الله (ص)، وهو التزام واجب على کلّ المسلمين، عندئذ يکون کلّ المسلمين سنّة، وأن نفهم التشيع بأنه ولاء لآل بيت رسول الله (ص)، وهو ولاء أوجبه القرآن الکريم (قل لا أسألکم عليه أجراً إلا المودة في القربى) عندئذ يکون کلّ المسلمين شيعة، وما عدا ذلک فهو إما خلافات تاريخية لا علاقة لنا بها، وإما اختلافات اجتهادية طبيعية بين البشر، أجازها الإسلام وشجّع عليها.
الدعوة إلى العزّة
المجتمع البشري حيّ بعزّته فإذا ذلّ مات… هذه حقيقة تؤکدها کل الدراسات التاريخية والاجتماعية، وتثبتها حقائق الواقع الراهن، من هنا فإن کلّ الأنبياء المصلحين دعوا إلى صيانة عزّة الإنسان وکرامته على ظهر الأرض. کي يستشعر الحياة، ويسير على طريق استخلاف الله في الأرض وما يتطلبه هذا الاستخلاف من إبداع وابتکار واستثمار لمواهب الطبيعة وکنوزها.
وسعدي بأسلوبه الأدبي الرائع جَهَد لأن يحافظ على روح العزّة في مجتمعه بعد أن تکالبت عليه أنواع الظروف لإذلاله.
وأهم وَتـَر ضرب عليه لصيانة روح العزّة في المجتمع هو إنقاذ الناس من التهافت على الدنيا کتهافت الذباب على قطعة الحلوى. وإيقاظ العقول والقلوب على حقيقة هذه الحياة التي لا تبقى لأحد. وهذا لا يعني أنه دعا إلى ترک الدنيا، بل دعا إلى ممارسة الحياة ممارسة مترفعة عن الدنايا وعن الذاتية والأنانية، وعن الحرص والطمع، وعن کل العوامل التي تخلق السلبيات في العلاقات الاجتماعية، وتحول دون تفتح مواهب الانسان وکفاءاته ودون العطاء الاجتماعي العام. دعا إلى أن لا يتحول الإنسان إلى دودة تعيش في الظلام، لا تعرف إلا ماحولها، ولا تعمل إلا لإشباع نهمها الغريزي.
نراه في حکاياته بکتاب گلستان يخاطب النفس الإنسانية بأساليب مختلفة لينتشلها من وهدة الهبوط ويرفعها إلى الارتباط بالکون الفسيح وخالقه.
يقول في الباب السابع: «سمعت أحداً من الشيوخ المربين کان يقول لمريد: أي بني! لو کان ارتباط ابن آدم بالرازق بقدر ارتباطه بالرزق لارتقى على الملائکة في المقام».
وفي هذا المضمار ينشد أحياناً بيتاً بالعربية فيقول:
بئس المطاعم حين الذل يکسبها
القِدر منتصب والقَدرُ مخفوضُ
وأحياناً ينشد بيتاً بالفارسية يقول:
هرکه نان از عرق خويش خورد
منـّـت از حاتـم طائي نبـرد
أي: «کل من يأکل الخبز من عمله / لا يتحمل المنّة من حاتم الطائي».
وأحياناً ينشد قطعة شعرية يقول:
«إذا أردت الغنى، لا تطلب غير القناعة / فإنها دولة هنية / إذا نثر الغني الذهب بحجره / فحذار أن تنظر إلى نواله / فقد سمعت کثيراً من الأکابر (يقولون) / إن صبر الفقير خير من بذل الغني».
وفي کتابه بوستان خصص باباً للقناعة يدعو إليه بقوله مثلاً:
ـ «اقنعي أيتها النفس بالقليل / حتى تري السلطان والفقير متساويين».
ـ «وابغ جوفاً طاهراً أينما تذهب / فإن البطن لن يمـلأه إلا التـراب».
ـ «والنفس الأمارة تـُحيل المرء ذليلاً / فلا تطعها إن کنـت عاقـلاً».
وفي قطعاته الشعرية الشعرية يکثر من التأکيد على عزّة النفس، وفي إحداها يصوّر أصدقاءه يقولون له:
«لماذا أنت يا سعدي لا تتحرک للحصول على المال والمتاع؟ / فأنت تتربع على عرش الشعر، فلماذا تعيش کما يعيش المرتاضون؟ / لو مدحت قليلاً فستنال الحظوة / وصاحب الفن إن کان معدماً فهو مغبون، ولا يقدر أن يکسب ودّ الاخوان».
ثم يجيبهم: «لا أستطيع أن أرفع حاجتي إلى هذا المالک وذاک الثري / فهذا من فعل المتکدين / لو طُلب مني أن آخذ إبرة من اللئام / لتحولت هذه الإبرة إلى إبر على جلدي مثل القنفذ / لقد قلتَ: إن رضا الصديق لا يتيسّر إلا بالمال / وهذا أيضاً خلاف المعرفة والرأي الصحيح / فألف کنز ثمين يعادل حبّة من الفن / والمنّة بعد ذلک على المعطي، والحيف عَلَيَّ.
وهذه القطعة الشعرية تذکرنا بأديب إيراني أخر هو علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت ٣٦٦هـ)، فقد دعا جميع ذوي القلم والفن أن يحافظوا على شرف علمهم إذ قال:
يقولون لي: فيک انقباضٌ وإنما
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مَنْهَلٌ قلتُ: قد أرى
ولکـنّ نفسَ الحرّ تحتمل الظّمَا
ولم أقضِ حقّ العلم إن کان کلّما
بـدا طمـعٌ صَيّرتـُه لي سُلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مُهجتي
لأخْـدُمَ مَنْ لاقيتُ لکنْ لأخدَما
أأشقى به غَرْساً وأجنيـه ذِلّةً
إذن فاتـپاع الجهل قد کان أحزَما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولـو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولکن أهانوه فهانَ ودنّسـوا
محيـّاه بالأطماعِ حتى تجهّما
تربية الذوق الجمالي
ذکرنا أن سعدي الشيرازي عاشق بالمعنى العرفاني، والعاشق بهذا المعنى هو الذي يغلي صدره بالمشاعر النبيلة التي تدفعه إلى حبّ الجمال والکمال، من هنا فالعاشق لا يستقرّ ولا يخنع ولا يستسلم للظروف، بل يتحرک رغم کل الصعاب على طريق الجمال.
وعلى العکس من العاشق الإنسان المتبلّد الاحساس، الضعيف الهمّة، الذي لا يهتزّ أمام السحر ولا يطرب أمام الجمال.
وتربية الذوق الجمالي هدف کل الأنبياء والمصلحين، لأنه يدفع الإنسان للحرکة نحو الجمال المطلق ويجعل الکائن البشري مُعرضاً عن القبائح والسيئات.
نحن اليوم بأمس الحاجة لتربية الذوق الجمالي لشبابنا لکي يطلبوا الجمال في کل مجالات حياتهم، ويعرضوا عن القبيح في المظهر والسلوک. والذوق الجمالي يبعد الشباب عن الوقوع في مستنقع الرذيلة، لأن الشاب - إن تحلّى بالذوق الجمالي - يستطيع أن يفهم قبح الرذائل، ويفهم الفرق بين الجمال الحقيقي والجمال السرابي الخدّاع.
وهي مسألة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، لکنّا نکتفي بهذه الإشارة ونعود إلى سعدي الشيرازي الذي سعى فيما سعى إلى أن يستثير الذوق الجمالي الفطري في مجتمعه، الذي تکالبت فيه ظروف سحق هذا الذوق وإماتته، بفعل الظروف الاجتماعية السيئة.
هو أولا يکرر الدعوة إلى التأمل في مظاهر الطبيعة ومافيها من جلال وجمال وأسرار، والى التعمّق بما وراء الظواهر من علاقات تربط کل الکون بهدف تکاملي واحد. يقول:
بذکرش هرچه بيني در خروش است
ولي داند درين معنى که گوش است
نه بلبل بر گلش تسبيح خوانيست
که هر خاري بتسبيحش زبانيسـت
أي: «کل ماتراه يموج بذکره / لا يفهم ذلک إلا القلب السميع / ليس البلبل فحسب يسبّح على وردته / بل کل شوکةٍ لسانٌ ينطق بتسبيحه».
والقلب الذي يستطيع أن يتفهّم حقائق الأشياء هو القلب الذي يخفق بالعشق لا القلب المتبلّد الجامد. کلّ مظاهر الطبيعة تدعو الإنسان إلى أن ينفتح قلبه وينصقل ذوقه، بل لقد عُرِف عند العرب عن الجمل بأنه يطرب للصوت الجميل، فما بال الإنسان لا يهزّه الجمال؟
يقول سعدي:
داني چه گفت مرا آن بلبل سحري؟
تو خود چه آدمي کز عشق بي خبري
اشتر بشعر عرب در حالتست وطرب
گر ذوق نيست ترا کژ طبع جانوري
أي: «أتدري ماذا قال لي البلبل في السحر؟ / أي إنسان أنت يامن لا معرفة لک بالعشق؟ / الجمل في الشعر العربي له ذوق وطرب / وإذا لم يکن لک ذوق فأنت حيوان معوجّ الطبع [٢٦] «.
ثم يردف سعدي هذين البيتين بيت عربي فيقول:
وعند هبوب الناشرات على الحمى
تميل غصـون البـان لا الحجـر الصلـد
يضع سعدي مواصفات للعاشقين منها أنهم لا يملّون الطلب والبحث للوصول إلى الجمال، يقول:
چو يعقوبم ارديده گردد سپيد
نبردم ز ديدار يوسف اميد
طلبکار بايد صبور وحمول
که نشنيده ام کيمياگر ملول
چه زرها بخاک سيه در کند
که باشد که روزي مسي زر کند [٢٧]
أي: « - فلئن ابيضّت عيناي، کما ابيضّت عينا يعقوب / فلن أقطع الأمل، من رؤية يوسف / ولابدّ للطالب أن يکون صبوراً قادراً على التحمّل / إذ لم يُسمع أن کيماوياً (ساعياً للحصول على الذهب من معادن أخرى) أصبح ملولاً / فما أکثر ما ينفقه من مال وذهب / لعلّه يوماً يستطيع أن يحوّل النحاس إلى ذهب».
ومن صفات العاشقين أنهم يشعرون - رغم ثقل أعباء العشق - بالبهجة والسرور والحبور.
وسعدي مبتهج دائماً، لأنه يعيش في عالم مبتهج بخالقه، وسعدي عاشق لکل العالم، لأن کل العالم من فيض المحبوب. يقول:
بجهان خرّم از آنم که جهان خرّم از اوست
عـاشقم بر همه عالم که همه عالم از اوست
أي: «أنا مبتهج بالکون لأن الکون مبتهج به / أنا عاشق لکل العالم لأن جميع العالم منه»
وما أجمل هذا الارتباط بالکون، ارتباط يشرح الصدر، ويبارک العمر ويزکيه ويرفعه، ويجعل العلاقة بين الإنسان والکون علاقة العاشق بالمعشوق.
ويفصل سعدي بين حديث العشق وحديث العقل، فالعشق حديث تضحية وفداء وتحمّل ومعاناة وإيثار، وحديث العقل حديث مصلحة ومنفعة واستئثار وطلب السلامة. يقول سعدي:
درديست درد عشق که هيچيش طبيب نيست
گر دردمنـد عشق بنالـد غريب نيست
دانند عاقـلان کـه مجانين عشـق را
پـرواي قول ناصـح و پند اديب نيست
أي: «ما أشدّ ألم العشق الذي ليس له طبيب / وإذا ناح المصاب بالعشق فليس ذلک بغريب / يعلـم العقـّال أن مجانين العشـق / لا يرعوون لقول ناصح وموعظة أديب».
وهذا لا يعني أن سعدي يدعو إلى ترک العقل، بل يرى أن عالم العشق غير عالم العقل، عالم العشق يتجاوز الذات، وعالم العقل يکرّس الذات. ولا نبالغ إذا قلنا أن کل الذين بذلوا جهودهم من أجل خدمة البشرية في أي مجال من المجالات هم عاشقون. والعرفاء يرون أن العشق هي النار التي تحرّک البشرية، وهو طاقتها المحرکة، ويعبّرون عن العقل بأنه الدخان المصاحب للنار. يقول العطار في منطق الطير:
عشـق جانان آتش است وعقل دود
عشق چون آمد گريزد عقـل زود
أي: «عشق الحبيب نار والعقل دخان / وحين يحل العشق سرعان ما يهرب العقل».
ويقول سعدي:
حديث عقـل در ايام پادشاهي عشق
چنان شده است که فرمان حاکم معزول
أي: » حديث العقل في أيام سلطنة العقل / أصبح وکأنه فرمان الحاکم المعزول»
منطق العاشقين غير منطق الأنانيين. والعرفاء يرون أن العاشقين هم أصحاب الرأي الصائب والنظر الثاقب. يقول سعدي:
هر کسي را نتوان گفت که صاحب نظر است
عشق بازي دگر و نفس پرستي دگر اسـت
أي: «لا يمکن أن يقال عن أي شخص بأنه صاحب نظر / فالسير على طريق العشق شيء وعبادة النفس شيء آخر».
سعدي يضع العاشق مقابل الأناني وعابد الذات، وبذلک يدعو إلى أن يکون الإنسان عاشقاً ينشد الجمال بعيداً عن الذاتية والأنانية، مندفعاً دائماً ليقدم الخير والعطاء للبشرية جمعاء.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
[١] - . الدکتور رضا زاده في تاريخ الأدب الفارسي ص ١٦٦، من النسخة المطولة.
[٢] - المصدر نفسه ص ٢٥٥.
[٣] - ويقصد به الشاعر الکبير خواجو الکرماني. المصدر نفسه ص ٢٢٦.
[٤] - حبيب السير، ص ١٣٠.
[٥] - الگرگاني - مقدمة الگلستان ص - يب.
[٦] - Ross: sadi’ Gulistan p. ٢٣.
[٧] - النص الفارسي: ذکر جميل سعدي که در افواه عوام افتاده است، وصيت سخنش که در بسيط زمين رفته، وقصب الجيب حديثش که همچون شکر مي خورند، ورقعه ي منشآتش که چون کاغذ زر مي برند… کليات سعدي ص ٤.
[٨] - کليات إقبال، ص ٧٣.
[٩] - نفس المصدر، ص ٧٣ - ٧٧.
[١٠] - نفس المصدر، ص ٧٧ - ٧٨.
[١١] - کليات إقبال، ص ٨٧.
[١٢] - بين آونة وأخرى دع جسمي يسترحْ.
[١٣] - العشق والستر لا يجتمعان.
[١٤] - نحن لمسکنتنا ألقينا السلاح.
[١٥] - إن شئت أن تعدل الآن أو تجور. کليات إقبال، ص ٣٧٧.
[١٦] - ص ١٤٢ - ١٤٣ من کتاب جنة الورد» گلستان».
[١٧] - النصّ الفارسي: طبع ترا تا هوس نحو کرد
صورت صبر از دل ما محو کرد
أي دل عشّاق بدام تو صيد
ما بتو مشغول و تو با عمرو وزيد
(گلستان - کليات اقبال، ص ١٣٩ - ١٤٠).
[١٨] - کانت الحرب سجالاً بينهما في ماوراء النهر، ثم عقد الصلح في أيام الشاعر سعدي…
[١٩] - جرّ الذيل، وعدم رفع الرأس کنايتان عن التبختر والغرور، والنکتة فيهما استعمال الجرّ والرفع.
[٢٠] - گلستان - کليات اقبال، ص ٢٥.
[٢١] - کليات سعدي، فروغي وآشتياني، گلستان، ص ٨٠ - ٨١.
[٢٢] - گلستان، کليات اقبال، ص ١٠.
[٢٣] - گلستان، کليات اقبال ص ١١.
[٢٤] - گلستان، ط ١ يوسفي، ص ٥٣.
[٢٥] - النص الفارسي: در معقولات مذهب برهان، وانچه دليل عقلي اقتضاء کند. وأما در شرعيات مذهب قرآن. وهيچ کس را از ائمه تقليد نمي کنم، نه شافعي بر من خطى دارد، ونه ابو حنيفه بر من براتي (مکاتيب فارسي غزالي به تصحيح عباس اقبال، ص ١٢).
[٢٦] - گلستان، کليات اقبال، ص ٦٩.
[٢٧] - سعدي الشيرازي، هنداوي، ص ٤٠٠.